المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ايام شارع الرشيد .....بانوراما الحياة البغدادية في شارع واحد



زهير
11-08-2005, 10:28 AM
الحلقة ... 20

رواية مدينة في شارع واحد

يكتبها في حلقات: زهير الدجيلي


مرت أحداث كثيرة منذ أن رأى العراقيون قطعة الكاشي الصغيرة التي كتب عليها بالتركية عام 1916 «خليل باشا جادة سي» ومعناها بالعربي «شارع خليل باشا» على جدار قاعدة منارة جامع السيد سلطان علي في بغداد، مرورا بلوحة حلت مكانها فيما بعد حملت اسم الشارع الجديد الذي أطلقه الانكليز على الشارع أيام الاحتلال البريطاني عام 1917 ، ثم تغيرت اللوحة مرة أخرى لتحمل اسم شارع الرشيد عام 1922 بقرار من مجلس العاصمة في حكومة الاستقلال فيما بعد، وظلت هذه اللوحة حتى الآن، لكن الشارع شهد طوال تسعين عاما أحداثا كثيرة، ومرت عليه أيام تداولها الناس على اختلاف أنواعهم واشكالهم واجناسهم وطوائفهم، مثلما تداولها الحكام المتعاقبون على هذه المدينة التي لم تهدأ يوما ما.

واذا كان صخب الزمن يعلو ويتلاشى فان ذلك نسمعه دائما في المدن الكبيرة.. في الشوارع الحية النابضة بالحياة، تلك التي تصنع تاريخها بأحداثها.

وشارع الرشيد قد يكون تاريخ بغداد الحديثة منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، لكنه تاريخ حافل بالحكايات، يكاد يكتمل به قرن من الزمن منذ أن شقه والي بغداد خليل باشا في صدر بغداد الرصافة المكتظ بالحارات والأزقة الضيقة والمعفرة دائما بالأتربة والمياه الآسنة في مطلع ذلك القرن، حينها لم يكن الناس في بغداد يجدون متنفسا غير شواطئ دجلة والضواحي التي تستغرق الرحلة اليها وقتا طويلا، لذلك حين شق شارع الرشيد أصبح بمثابة ممر لحياة جديدة.

وما أروع شارع يروي حكايات قرن من الزمن دون كلل أو ملل؟



في مكان الأعظمية الحالي قامت الرصافة وإلى جانبها قصور البرامكة

هنا قال علي بن الـجهم: عيون المها بين الرصافة والـجسر

أختصاصيو كسور العظام ابن الصفار والحاج صادق والحمّال أحمد الكردي

الجميع في البيت تجمع حول «ام ستوري» التي تمددت على فرشة في الليوان وهي تشكو الحمى والصداع منذ يومين، والكل قلق حولها يقترح شتى الأدوية االشعبية لمداواتها، تقول ام جلال التي جاءت وجارات لها لزيارة ام ستوري مخاطبة ابنتها زكية وكل واحدة تقترح علاجا:

> ام جلال: زكية بنتي شربتوها بزر الكمون وبابونج وحبة حلوة؟

ـ زكية: خالة ام جلال كل شي شربناها.. ابوي راح للعطار حافظ الجدة بسوق حمادة وجاب من عنده كل شي. كل ساعة انشربها دوا.

ـ ام جلال: انا لو في مكانكم كان وديتّها لهذا الطبيب اللي يسمونه «بلال بك» بالجادة العمومية يقولون عنه خوش طبيب..

ـ زكية: امي ماتقبل انوديها للطبيب، اتقول حرام يكشف عليها طبيب. حتى الملا ابو اسماعيل إمام الجامع يقول حرام يشوفها طبيب، قال لنا خلوها على الله، واقروا على راسها قرآن.

ـ ام جلال: فدواته لالله.. هو ارحم الراحمين.. بس انا اقول ليش مايروح وياها ايو ستوري وياخذها لخستخانة المجيدية اهنا يمكم في باب المعظم.

ـ زكية: ابوي يقول خستخانة المجيدية بس للعسكر والانكشارية، وبعدين هو يتضايق يروح اهناك بين الجنود والجندرمة.

حرام تروح للطبيب

> بعد فترة اسبوع تعافت (ام ستوري) من الحمى، ولاندري ان كان شفاؤها بفعل الاعشاب والاشربة التي تناولتها من العطار (حافظ الجدة) ام من تعويذة الملا اسماعيل، ام ان جسمها قاوم المرض.؟

- الا انه من المعلوم انذاك ان الكثير من الاهالي يتجنبون الذهاب الى الطبيب، اما النساء فمن رابع المستحيلات ان تذهب امراة ليكشف عليها طبيب. الاّ اللواتي هن من «الخواتين» بنات الذوات الاجانب الذين يعرفون الحاجة الى طبيب معالج.

لذلك كانت عامة الناس تلجأ الى نساء ورجال امتهنوا مهنة الطب الشعبي وحازوا على ثقة الاهلين. ومن هؤلاء ـ كما يذكر العلوجي والعلاف وبغدادي ـ رباب محمد علي في محلة الشيخ بشار كانت تعالج العيون وامراض الاطفال، وعطية السمينة وريمة رجوبي في محلة الجعيفر يعالجن امراض الحنجرة والقرع الذي يصيب الراس، وامونة الطبّو في محلة سوق حمادة ونشعة بنت حسين الذيبو في محلة التكارتة لعلاج امراض العيون، وطبعا كان نصف العلاج يقود للعمى بسبب استخدام بودرة ـ الزرقيون ـ

والى جانب هؤلاء المتطببات كان هناك رجال متطببين للامراض الباطنية منهم محمد ابو فينة وحافظ الجدة في سوق حمادة والسيد احمد في محلة الدهانة.

تجبير الكسور

وهناك من اشتهر في تجبير الكسور مثل ابن الصفار والحاج صادق في محلة امام طه، واحمد الكردي الذي كان حمال باشي في كمرك بغداد، والحاج خليل الحويشاوي في باب المعظم.

وكان هناك معالجون نفسانيون باستخدام الادعية والتعاويذ والاحجبة، وكان هذا النمط من العلاج هو الغالب في محلات بغداد انذاك، ويتم اللجوء اليه قبل العلاج الطبي بالاعشاب عادة، فاذا لم ينفع (الملا) يضطر المريض للذهاب الى العطار، وقليل من هؤلاء يتأخر عن الهلاك.

وكانت النسوة اكثر الجميع اعتقادا بعادات خرافية تشفي الامراض، فان حملت الام سعفة مشتعلة من البيت الى الشط سيشفى ابنها من الحمى، واذا اصاب الطفل صداع وصرع فالام تدور بالسعفة المشتعلة في ثلاثة ازقة متجاورة، واذا كانت المرأة عاقرا فما عليها الا الذهاب للمقبرة لتطفر قبر احد الغرباء، واذا كان الولد اخرس فيجب ربطه عند باب احد المساجد ليفك عقدة لسانه، ومثل هذه المعتقدات الكثير، حتى ان الجادة العمومية انذاك كانت تزخر بالمشعوذين والافاقين وفتاحي الفال والمتبرعين بالوصفات العشبية والعطارين الجيدين والسيئين. وكان في كل مقهى من يعرف وصفات العلاج ومن يحلف باغلظ الايمان ان جلسة واحدة من الملا خضر في باب الاغا جعلت المفلوج يمشي على رجليه ويركض مثل الغزال.

الاعظمية هناك على اسم النعمان بن ثابت

خارج البوابة الحديدية لباب المعظم نرى موقف العربات الخشبية التي تجرها البغال والتي تنقل الاهالي مابين بغداد والأعظمية وكان يؤخذ من كل مسافر 10 بارات (اي مايعادل عشرة فلوس) والرحلة تستغرق نهارا.

كانت الأعظمية متصلة ببغداد القديمة وببساتينها الممتدة على ضفاف نهر دجلة، اما اسمها فهو نسبة الى نعت الامام ابي حنيفة النعمان بن ثابت (رض)، وقد سماه الاتراك الامام المعظم ثم الامام الاعظم. ومن هذا الاسم اخذت الاعظمية هذه التسمية الحديثة.

فهي لم تكن تسمى الاعظمية ايام الدولة العباسية، انما كانت جزءا من القسم الشرقي من بغداد القديمة التي بناها المنصور، وتضم محلات الطاق ودار الروم والشماسية والرصافة.وكان الاسم الاخير (الرصافة) يغلب عليها.

ومكان الأعظمية ايام زمان قبل تاريخ بناء بغداد على يد ابي جعفرالمنصور، كان مقبرة من المقابر غير الاسلامية، كان يدفن فيها المجوس، كما يقول المؤرخون. ولما توفي ابو حنيفة النعمان سنة 150 هـ دفن فيها. ثم دفنت فيها السيدة الخيزران زوجة الخليفة المهدي ام الرشيد والهادي. فسماها الناس انذاك «مقبرة الخيزران».

وقد نشأت حول مقبرة الامام النعمان محلة كبيرة، اتصلت بمحلة «الطاق» التي هي جنوب تربة الامام النعمان، ثم اتصلت بمحلة الرصافة من الجنوب، وكانت الشماسية والرصافة ومحلة دار الروم مترابطة تسقى من فرع نهر الخالص العتيق.

الرصافة

اما تسمية الناس للجانب الشرقي من بغداد الحالية حيث تمتد الجادة العمومية (من باب المعظم الى شارع الرشيد) بالرصافة فهذه التسمية هي خطأ شائع. فالرصافة ليست هذه التي يقع فيها شارع الرشيد الحالي، انما هي في مكان محلة «هيبة خاتون» الحالية، وقد سورت بالآجر في زمن المستنصر بالله حيث تقع فيها مقابر العباسيين والعباسيات.

ولقد انشأها الخليفة المنصور لابنه المهدي ليقيم فيها مع جيشه بعد انشاء مدينته (مدينة السلام) ولذلك سميت احيانا «العسكر» وقد دخلت الرصافة القديمة في محلة هيبة خاتون الحالية فاندرست واندرس اسمها القديم واطلق اسم الرصافة على جانب بغداد الحالي فاصبح شائعا معروفا. اما محلة الشماسية المجاورة لها فهي في مكان محلة «الصليخ» الحالية ببغداد، اما قصر المأمون فقد كان في مكان محلة «راغبة خاتون» الآن.

عيون المها بين الرصافة والجسر


يقول الباحث والاديب الآستاذ وليد الاعظمي ان مقبرة الخيزران حيث مركز الاعظمية الحالي، انتشرت حولها العديد من دور العلم ومدارس المعرفة، وكان تتصل بمحلة «باب الطاق» التي هي الآن في موقع ساحة عنتر وكلية العلوم الحالية، اما الرصافة فهي كانت تقع بالضبط في الاعظمية الحالية بين شارع المغرب والمقبرة الملكية حاليا من جهة النهر ' حيث كان فيها جسر يرتبط بالجهة المقابلة من جانب الكرخ.

وكانت هذه المنطقة ملتقى الشعراء واهل الادب وفيها قال الشاعر علي بن الجهم قصيدته الشهيرة:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث ادري ولا تدري

اعدن لي الشوق القديم ولم اكن

سلوت ولكن زدت جمرا الى جمر

وعلي بن الجهم (803 ـ 863 م) عاش في الرصافة التي نحن الآن نقف على اطلالها في الاعظمية، بدا اسمه يلمع شاعرا بغداديا في عهد المأمون والمعتصم والواثق، لكن الخليفة المتوكل قربّه اليه بعدهم، واتخذه جليسا ونديما، وجعله ضمن خاصته التي كانت تضم شعراء بلاطه وفيهم البحتري والحسين بن الضحاك وغيرهما الذين راحوا يغارون منه، فكادوا له وسعوا به عند المتوكل فانقلب عليه وامر بحبسه وصادر امواله، ثم نفاه الى خراسان، وكتب المتوكل الى اميرها بان يصلبه عاريا، وفي السجن كتب علي بن الجهم اروع قصائدة تلك التي قال فيها:

قالت حبست فقلت ليس بضائري

حبسي واي مهند لايغمد

اوما رأيت الليث يألف غيله

كبرا واوباش السباع تردد

والشمس لولا انها محجوبة

عن ناظريك لما اضاء الفرقد

والبدر يدركه السرار فتنجليّ

ايامه وكانه متجدّد.

باب الشماسية ودير سمالو

اما محلة الصليخ الحالية المجاورة للاعظمية فقد كانت تعرف بـ «الشماسية» في العهد العباسي. وباب الشماسية هو احد ابواب بغداد بالنسبة للقادمين لها من جهة الشمال. كانت خارج باب الشماسية منطقة «رقة» يكثر فيها القصب وتنشر فيها الادغال، وكان هواة الصيد من العباسيين يخرجون الى هذه الرقة ليصطادوا الطيور. وعلى باب الشماسية من جهة دجلة ابتنى السلطان البويهي معز الدولة قصره، وفي شرق الشماسية كانت هناك محلة دار الروم. سكن فيها الروم فنسبت اليهم، وكان فيها قبل ذلك ديارات للنصارى النسطوريين وللارمن الذين اسرهم الخليفة المهدي من بلادهم واسكنهم المنطقة التي تسمى الآن «الصليخ». وكانت قبل ذلك فيها كنيسة واديرة للنصارى منها «دير سمالو».

ويتحدث ابو فرج الاصفهاني في كتاب الديارات عن «دير سمالو» في رقة الشماسية ببغداد حيث يقول:

ـ حدثني ابو بكر محمد بن عمر قال: خرجت يوما وقد عرض علي ضيق صدر الى الموضع المعروف بالمالكية وهي قرية قريبة من الشماسية ومررت بدير سمالو على نهر الفضل وجلست في موضع تحت شجرة في فناء الدير اترنم بابيات شعر واذا بغلام امرد كالقمر مر بي فقلت له: يا فتى وحدك في مثل هذا لموضع؟

ـ فقال لي: مابقلبي من هم هو الذي جعلني هائما كما تراني، بالله عليك هل مر بك قوم من الاتراك ومعهم مغنية على حمار عليها كساء نارنجي؟

قلت له:

ـ نعم.. هم في ذلك البستان، ولكن قل لي هل تريد الدخول عليهم؟

فارتعد الفتى وانا اسليّه واشجعه فعلمت انه يهوى المغنية وانها تركته وراحت مع الاتراك. ثم سألني مساعدته والمشي معه الى ان يصل البلد (الرصافة). فقمت معه واخذت به طريق البساتين. فلما قربنا من البلد اخذ خرقة فكتب على حائط بستان اجتزنا به:

اين تلك العهود ياغدارة

والكلام الرقيق تحت المنارة؟

قد علمنا بانه كان زورا

واختلاقا ونغشة وعبارة

فاجهدي الجهد كله قد سلونا

عن هواكم ولو بشق المرارة

فقلت له: كانك في الجامع عرفتها؟

فقال: اي والله، وظننتها الكلبة تفي بوعدها، فاستحلفتها تحت منارة جامع الرصافة بايمان لاتحملها الجبال فحلفت انها لاتواصل غيري ولاتريد سواي، فلما عرفت خروجي الى زيارة المشهد بالطفوف، اغتنمت غيبتي ففعلت مافعلت وتركتني وراحت مع الاتراك.

ام رابعة والبستان الزاهر

وفي شرق الاعظمية الحالية يقع مدفن مشهور عند العامة هو مدفن (ام رابعة)، كان البغداديون يقصدونه في كسلاتهم ونزهاتهم ويخصصون يوما له في مناسباتهم الربيعية. يجتازون الجادة حتى باب المعظم ومن هناك يركبون العربات الى ام رابعة شرق الاعظمية.

وام رابعة هي السيدة عصمة الدين الايوبية حفيدة صلاح الدين الايوبي. تزوجها احمد بن المستعصم بالله ولي العهد حين غزا هولاكو بغداد فقتله هولاكو هو واخاه ووالده الخليفة المستعصم اخر خلفاء بني العباس سنة 1258م.

وكان احمد بن المستعصم له بنت منها اسمها (رابعة). وبعد احتلال المغول لبغداد وتنصيبهم لعلاء الدين الجويني حاكما على العراق، ارغم الجويني ام رابعة على الزواج منه بالعقد الشرعي لكي يقال انه تزوج من زوجة اخر ولي عهد عباسي سقطت بمقتله ومقتل ابيه الدولة العباسية.

كانت ام رابعة امراة صالحة انشات هنا مدرسة لمذاهب السنة الاربعة قرب مشهد عبد الله العلوي في الموضع الذي دفنت فيه، ثم اشتهر الموضع فيما بعد مكانا للنذور يقصده عامة بغداد في موسم الربيع ويخصصون له يوما للزيارة.

اما منطقة «الكسرة» الحالية جنوب الاعظمية فقد كانت هي البستان الزاهر الذي ورد اسمه في اوراق الدولة العباسية وكان منتزها لاكثر خلفاء بني العباس بعد بناء بغداد. والى جنوب البستان الزاهر (الكسرة حاليا) تمتد محلة المخرم احدى محلات بغداد العباسيين وهي كانت في منطقة (الصرافية وجسر الصرافية الآن). وكانت في هذه المنطقة تجري الاحتفالات في العهد العباسي الثاني ايام البويهيين.

كان في محلة المخرم هنا (الصرافية) قصرا للخليفة المعتصم وكان فيها دار الوزارة ومسجد كبير.وانشا البويهيون فيها افخم البنايات.

اما محلة (راغبة خاتون) الحالية فقد كانت في زمن العباسيين سوقا للسلاح وكانت تتصل بالجزء الجنوبي من محلة المخرم وفي هذا الجزء قامت محلة «العيواضية ـ اللاوازية» الحالية، وفيها كانت المقبرة السهلية نسبة الى وزير الخليفة المامون الحسن بن سهل الذي لعب دورا في اشعال الفتنة بين الامين والمامون. وفي المقبرة يوجد قبر بوران زوجة المامون.

البرامكة كانوا هنا

وانت متجه الى المقبرة الملكية في الاعظمية حتى مستشفى النعمان تكون هذه هي محلة السفينة، وهذا هو اسمها الحالي، اما اسمها القديم فكا ن سوق يحيى نسبة الى وزير هارون الرشيد يحيى البرمكي، فالبرامكة كانوا هنا يحيى وجعفر والفضل، في سوق يحيى قصورهم، كانت تمتد على دجلة منها قصر وضاح وقصر ام حبيب وقصر يحيى وقصر الرصافة قبل ان ينكبهم الرشيد ويصادر هذه القصور والاملاك.

وينقل فخري الزبيدي عما نشر عن هذه المنطقة في صحف بغداد انذاك انها سميت بمحلة السفينة منذ قرن ونصف، حيث كان اغلب اهالي الاعظمية يشتغلون بدباغة الجلود وحياكة الشفوف والعبي (العباءات) وصناعة الاحذية (خفافين) وكانت ترد الى المحلة على شاطئ دجلة كل ثلاثة اشهر سفينة من سفن الخليج تشتري منتوجاتهم وتحملها الى منطقة الخليج الى الكويت والبحرين وساحل عمان وبمرور الوقت اطلق على المحلة اسم السفينة، والاسماء ارزاق.

ذهب الزمان ببغداد

لقد كان لانهيار الدول وتبدل الآزمان والحروب والاهمال و انقطاع الماء عن هذه الضياع اسباب لزوالها حتى ذهب الزمن ببغداد القديمة ولم يبق منها سوى بغداد الحالية، حتى اصبحت الاعظمية عام 1916 م تاريخ افتتاح الجادة العمومية ضاحية من ضواحي بغداد، واصبحت المنطقة المحصورة بينها وبين باب المعظم عبارة عن بساتين كثيفة ومزارع للخضراوات.

واصبح اهل الاعظمية حين يرومون الذهاب الى بغداد يمتطون ظهور حيواناتهم ويسلكون طرقا ملتوية ضيقة عبر البساتين، لكي يصلوا اليها، وفي الايام الممطرة ينقطع الطريق ولايبقى سوى الطريق المحاذي للنهر، او يركبون الوسائط النهرية.

جامع الازبك

مازلنا ندور في جنبات باب المعظم والقلعة حيث تبتدىء الجادة من هنا، وهاهو جامع الازبك الذي يطل على بداية الجادة العمومية الى جانب القلعة (وزارة الدفاع) يطالعنا بمنارته الصغيرة.

يقول المؤرخ عبد الرزاق الحسني ان بغداد قبل الاحتلال البريطاني كانت محصورة بين محلة السنك وباب المعظم المحاذي الى جامع (الازبك) ومبنى مصلحة نقل الركاب حاليا. وكان سور يحيط بالمدينة وله فتحة بجوار (جامع الازبك)، فكان الدخول والخروج من والى بغداد يتم بواسطة هذا الباب.

وحسب مايقول ـ المؤرخ عباس بغدادي ـ انه سمي بجامع الازبك لان جماعة من الازبك (شعب الاوزبكستان) كانوا يتجمعون فيه مع دواليبهم، حيث كان الاوزبك يمتهنون مهنة حدّ السكاكين. ويطلق عليهم البغداديون اسم الجراخين).

والجرّاخ يحمل دولابا ترتبط به عجلة، حين تدور وتدور معها عجلة حديد خشنة تحد السكين فيتطاير منها شرر كثيف يصاحب ازيز حد السكاكين.

لقد جاء الاوزبك الى بغداد مع الجيش العثماني في بداية احتلاله لبغداد منذ اوائل القرن السادس عشر، وبمرور الزمن استوطن احفادهم بغداد وتناسلوا وامتهن اغلبهم مهنة (الجراخة ـ حد السكاكين).

ولعل هنا يجدر القول ان سكان العراق هم خليط من هجرات متناوبة عبر التاريخ لاقوام متعددة جاءت مع الحملات العسكرية التي اجتاحت البلاد عبر التاريخ. وكانت كل حملة وكل دولة تجلب معها مهاجرين ومستوطنين يصبحون بمرور الزمن جزءا من لحمة المجتمع العراقي.

الانكليز عبروا الشط

اصبح جمولي وصالح الخفاف وعصبة المتذمرين في مقهى الشط اكثر جراة في المعارضة من قبل لاسباب كثيرة، اولها انتشار خبر عزومة رئيس البلدية لجمولي البلام وظهور اشاعة انه اي رئيس البلدية اعطى جمولي الف ليرة ورقية وليس ذهبية ارضاء له. والسبب الثاني الاخبار القادمة من جبهة الكوت التي تقول ان الجيش الانكليزي بدا يتقدم وقد سيطر على مناطق الحي وقلعة سكر والشطرة، وان لواء" منه عبر الشط من جهة ديالى:

ـ يصيح صالح الخفاف وقد سمع هذه الاخبار:

ـ صالح الخفاف: يعني اذا على هالأخبار الانكليز وصلوا لهنا، بعد شظل؟ هذي هي ديالى شمرة عصا عن بغداد!!

ـ جمولي: يسال وهو ياخذ نفس من الناركيلة: ياجماعة انتم متاكدين من هذي الاخبار؟

ـ صالح الخفاف: العهدة على الحجي علي (يشير الى صاحب المقهى)

> جمولي (الى حجي علي): اخبارك اكيدة حجي؟، لو مثل اخبار المختار نص تبن ونص امهبّشّ؟

ـ الحاج علي: يابه ما اخفي عليكم، عندي صديق كلما يسمع خبرا من الراديون اللي بالسراي يجي يقولي ابو لندن يقول اليوم كذا وكذا، والبارحة اجه قال لي هذي الاخبار.

> صالح الخفاف: وهذا ابو لندن منو؟

ـ الحاج علي: ابو لندن الراديون اللي بالسراي.

> صالح الخفاف: وام لندن منو؟

ـ الحاج علي (جزعا من الاسئلة): شدراني؟ قابل انا امولدها!

ـ جمولي: يابه ابعرضي، وحق هذي الشوارب، اذا دخلوا الانكليز بغداد، كل اللي بالقهوة عشاهم عندي.

ـ الحاج علي: اذن الاشاعة اكيدة جمولي!

> جمولي: اي اشاعة حجي؟

ـ الحاج علي: رئيس البلدية يقولون عزمك على غدا، انطاك فلوس رشوة.

ـ جمولي (منزعجا): تخسه حجي.. جمولي ما ياخذ رشوة من احد.. قابل

انا واحد من ذولة الصايعين جماعتك ضباط الجندرمة المرتشين..انا جمولي وكل اللي بالجادة العمومية يعرفون منو جمولي.

ـ الحاج علي (يحاول تهدئة الموقف): احنا ماقلنا شي ياجمولي، بالعكس فرحنا لما تصالحتوا انت ورئيس البلدية

ـ جمولي (يصيح معترضا): مؤقتا.. صلح مؤقت.. بعدين تالي الليل راح تسمع حس العياط.

الرياح جنوبية

بدت في تلك الاثناء حركة عسكرية في القلعة ومنطقة باب المعظم. جنود يدخلون في طوابير وآخرون يخرجون في طوابير، فيما تسمع اصوات البوق وهو يعطي ايعازات لتجمع الجنود في ساحة القلعة. كأن امرا ما يجري الاستعداد له.

فقد انقضى شهر ايلول من عام 1916 وها نحن في اكتوبر والاخبار تاتي من جبهة الكوت تفيد ان الجيش العثماني الذي سيطر على الكوت ودحر الانكليز بدا يفقد انتصاره. وان الجيش البريطاني بدا مسيطرا على جميع مناطق جنوب العراق، وان الرياح الجنوبية التي بدات تهب على بغداد تحمل رائحة البارود. وان بعض قطاعات الجيش العثماني تراجعت نحو ديالى، وهذا يعني ان جبهة الجيش العثماني في وضع مرتبك، ويبدو ذلك من الوضع الذي نراه في باب المعظم والحركة العسكرية الدائبة في القلعة وفي الجادة العمومية.


رباب وأمونة ونشعة لطب العيون وعطية السمينة لأمراض الحنجرة والبلعوم