المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صعود السلفية الشيعية " الاحتواء الديني لإيران "



باباك خورمدين
11-08-2005, 06:22 AM
لم يكن من المستغرب أن تشهد منطقة الشرق الأوسط العديد من المتغيرات مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي والذي حفل بالكثير من الأحداث الدولية لعل أهمها سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1991 م وسعي الولايات المتحدة الأمريكية لترتيب الأوضاع في العالم بما يناسب مصالحها وسيطرتها كقوة عظمى وحيدة ما أطلق عليه في ذلك الوقت " النظام العالمي الجديد " .
كانت منطقة الشرق الأوسط تمثل الأولوية في السياسة الأمريكية التي سعت إلى تثبيت وضع الكيان الصهيوني ودمجه بين دول المنطقة في محاولة للقضاء على حالة المقاطعة الاقتصادية والشعبية المفروضة عليه عربياً، عن طريق بعض المعاهدات الاقتصادية بما يقضي على حالة العداء الجماهيري التي تمثل تهديداً لبقاء هذا الكيان([1])، وبالتالي كان على الأمريكيين إحداث بعض التغيرات في منطقة الشرق الأوسط تتناسب مع مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه رئيس الوزراء الصهيوني بيريز في التسعينات والتي سعت الولايات المتحدة لتطبيقه(2).
وعلى الرغم من أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تبدو دائماً ملحوظة وواضحة بالنسبة للمحللين، فإن أحداً منهم لم يلتفت إلى إسقاطاتها على الوضع الديني في الشرق الأوسط، وما يمكن أن تحمله التغيرات الدينية من دلالات ونتائج على التطورات السياسية بالمنطقة والتي تتميز بنفوذ ضخم ومتصاعد للولاء الديني والمذهبي .
لقد تزامن مع هذه الأحداث ظهور تيار جديد داخل الحوزات الدينية الشيعية يتبنى أطروحة تاريخية وعقائدية تحظى بالكثير من الرواج في أوساط الفئات الاجتماعية المهمشة سياسياً وتعد في حقيقتها إفرازاً سلبياً لحالة الاضطهاد والظلم التي عانى منها الشيعة طوال العهود السالفة.
لم يكن هذا النوع من الأفكار جديداً أو مستحدثاً على الأوساط الشيعية وقد سبق لها أن شهدت رواجاً ضخماً في عهود الانحطاط الصفوية والقاجارية، إلا أنها ظلت دائماً ومنذ انتصار المنهج الأصولي في الحوزات الدينية قاصرة على القاعدة الشعبية البسيطة وأنصاف المتعلمين الدينيين، ولم تحظ في الغالب بأي نفوذ في الأوساط العلمائية الكبيرة التي اصطدمت بها أحياناً، لعل أكثر هذه الصدامات شهرة الموقف من ممارسات عاشوراء الذي أثاره المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في هذه الفترة السيد محسن الأمين العاملي(3) .
على أن مرحلة التسعينات شهدت صعوداً مدوياً وصاخباً لهذا التيار إلى حد إعلان مرجعين دينيين تأييدهم وتبنيهم الكامل لأفكاره، واعتبارها تمثل الحقيقة المطلقة لمذهب آل البيت(ع)، بما يجعلها مقياس لمدى التزام الطروحات الشيعية الأخرى بالمذهب بناء على اقترابها أو ابتعادها عن هذه الأفكار .
إن الملاحظ على المؤلفات والكتابات التي يصدرها المؤلفين المنتمين للتيار الجديد هو استخدامهم لنفس الوسائل والأساليب السلفية سواء في طرح أفكارهم أو في تناولهم للآخر، بما يمكن بناء عليه إطلاق إسم (السلفية الشيعية) كتسمية غير متجاوزة سواء لطروحات هذا التيار أو لأساليبه في الترويج لها والتي تقوم في الأساس على إسقاط المخالف أكثر مما تقوم على إثبات مصداقيتها .
إن هذه الدراسة تعتمد في تحليلها لنشأة تيار (السلفية الشيعية) ونقدها لما يطرحه من أفكار وعقائد على مناقشة عدة نقاط أساسية
الأولى : دراسة الظروف السياسية التي ساهمت في نشأة وصعود بعض التيارات والفرق الدينية المماثلة بالعالم الإسلامي في العصر الحديث، وعلاقة السياسات والطموحات الاستعمارية بهذه النشأة.
الثانية : صعود التيار السلفي الشيعي ومدى ارتباطه بالظروف السياسية المعاصرة والتطورات التي ساعدته على الوصول إلى أوج ازدهاره في سنة 1997 م .
الثالثة : المقارنة بين السلفية الشيعية ونظيرتها السنية من حيث المنهج والأسلوب والهدف .
لقد لجأت في هذه الدراسة إلى النماذج الأكثر تعبيراً عن أفكار هذا التيار، ككتابات ومحاضرات المرجعين الشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ ميرزا جواد التبريزي، بالإضافة إلى مؤلفات بعض الباحثين كالسيد جعفر مرتضى العاملي، الذي برز اسمه مؤخراً عقب صدور أكثر مؤلفاته شهرة (مأساة الزهراء .. شبهات وردود) في جزئين، و(خلفيات مأساة الزهراء) في ستة أجزاء، تناول فيهما بعض الأفكار والرؤى العقائدية للتيار الحركي الشيعي مشككاً في مصداقية إلتزامه بمذهب آل البيت(ع).
وأيضاً كتابات الشيخ جلال الدين علي الصغير، والتي ارتبطت بنقض بعض الآراء العقائدية والتفسيرية للتيار الحركي، بالإضافة إلى العديد من الكتب والوثائق المنشورة في موقعي ضلال نت، والميزان على شبكة الانترنت .
بالنسبة للتيار الحركي في التشيع وهو الخصم الأساسي للسلفية الشيعية، فقد استعنت بالعديد من المؤلفات المعبرة عنه، وخاصة مؤلفات المرجع السيد محمد حسين فضل الله، والسيد حسين الشامي والسيد محمد الحسيني، والشيخ جعفر الشاخوري البحراني، وكذلك بعض الوثائق المنشورة في موقع بينات على الإنترنت.
إن تحليل صعود السلفية الشيعية، ونقد ما تطرحه من آراء ومواقف، هو محاولة لقراءة التطورات الاجتماعية والسياسية الأخيرة التي تشهدها المنطقة، والتي من الواضح أنها ستعتمد في المرحلة القادمة على استغلال الدين لاحتواء الحركات الثورية والجماهيرية المعادية للمخططات الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط .

باباك خورمـدين


1 - هذه المواقف للنظام المصري لا تعدو أن تكون مواقف إعلامية لإرضاء الشعور العدائي المتزايد للشعب والنخب المصرية تجاه الدولة العبرية، فالواقع أن هذه العلاقات كانت موجودة بالفعل – وإن كانت على استحياء - خاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991 م، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين مصر والدولة العبرية إلى 48.6 مليون دولار (وهو نصف حجم التبادل التجاري بينهما قبل الانتفاضة)، كما أعلن وزير التجارة الخارجية المصري أثناء المناقشات التي تمت في البرلمان بعد توقيع الاتفاقية أن حجم التجارة بين مصر وإسرائيل قد وصل إلى 50 مليون دولار.
د / إبراهيم العيسوي – الاقتحام الإسرائيلي الرابع للسوق المصري – مقال بجريدة الأهالي – نسخة إلكترونية - العدد 1205 بتاريخ (15 / 12 / 2004) – القاهرة - موقع www.al-ahaly.com ، الكويز بين التأييد والمعارضة – تقرير بموقع الجسر – بتاريخ 23 / 1 / 2005 – موقع www.aljesr.nl، د / إلياس عاقلة – اتفاقية الكويز ... اختراق اقتصادي – مقال بجريدة الحقائق – نسخة إلكترونية – بتاريخ (1 / 2 / 2005) – لندن – موقع www.alhaqaeq.net .
2– يضم الشرق الأوسط الكبير إلى جانب الدول العربية والكيان الصهيوني إيران وتركيا .
الكويز بين التأييد والمعارضة – م . س.
3– هذا لا يعني رفض مراجع الشيعة لكل هذه المنظومة الفكرية والعقائدية، لكن كان اجتماع هذه المنظومة لدى أحد العلماء يعد حالة نادرة .

باباك خورمدين
11-08-2005, 06:24 AM
سياسة الاحتواء الديني للشرق (خلفية تاريخية)

مثلت سياسة الاحتواء الديني للشرق إحدى الوسائل التي اعتمدت القوى الاستعمارية الغربية في السعي لايجاد وسيلة للتغلغل وتثبيت نفوذه داخل المستعمرات الشرقية، وخاصة الأراضي التابعة للدولة العثمانية بالإضافة للقوتين الإسلاميتين المقابلتين لها في ذلك الوقت إيران والهند .
كان لبريطانيا فضل السبق في اللجوء إلى هذه السياسة في القرن الثامن عشر في محاولة لاحتواء قاعدة الولاء الديني التي كانت تعتمد عليها الدول الشرقية في ذلك الوقت .
في منتصف القرن الثامن عشر كان قد بدا واضحاً للعالم الغربي أن الدولة العثمانية تعاني من حالة اهتزاز بعد أن أصبح الإقطاع العثماني الذي يعاني من الرجعية الدينية والتخلف العلمي غير قادر على مجاراة ما أنجزته الثورة البورجوازية الغربية من الناحية العلمية والاجتماعية، وبالتالي فقد أصبحت الدولة العثمانية غير قادرة على حماية مستعمراتها، خاصة عقب تحول ميزان الصراع بينها وبين روسيا لصالح الأخيرة والتي تمكنت من الاستيلاء على بعض الممتلكات العثمانية على البحر الأسود كشبه جزيرة القرم في سنوات 1774 ، 1778 ، كما تنازلت الدولة العثمانية عن قابارتاي شمال القوقاز بموجب معاهدة (كوجك قينارجه)([1]).
في ذات الوقت كانت بريطانيا ومنذ عام 1600 م تسعى للدخول إلى حلبة السباق الاستعماري في الشرق بحثاً عن مواد خام رخيصة وأسواق ضخمة لما تنتجه مصانعها من بضائع، وكانت الهند تمثل مجالاً مثالياً بالنسبة للساسة البريطانيين، وقد استطاعوا بالفعل الحصول على العديد من الامتيازات التجارية من السلاطين المغول، واتسع نفوذهم في الهند حتى تمكنوا من السيطرة على بمباي وكلكتا ومد نفوذهم إلى مدراس وما يليها جنوباً(2)، وقد سعت بريطانيا إلى محاولة تأمين طرق تجارتها مع الهند والتي تمر برأس الرجاء الصالح واليمن والخليج العربي وجزيرة سيلان .
كانت مستعمرتا رأس الرجاء الصالح وجزيرة سيلان خاضعتين للسيطرة الهولندية القوية ولم يستطع الإنجليز الاستيلاء عليها إلا في أواخر القرن الـ 18 وأوائل القرن الـ 19 فاستولوا على جزيرة سيلان في سنة 1797 م ، وتمكنوا من السيطرة على رأس الرجاء الصالح عقب إجلاء الحملة الفرنسية عن مصر في سنة 1801 م(3).
أما الخليج العربي فقد كان خاضعاً في تلك الفترة لسيطرة بعض الأسر الحاكمة وخضع جزء كبير من الساحل الغربي للسيطرة العثمانية، في حين شهدت اليمن صراعاً بين العثمانيين وأئمة الزيدية على الحكم لم ينتهي إلا عام 1911 م(4)، كما كان الشاطئ الشرقي من الخليج تحت سيطرة شاهات إيران .
لقد كان على بريطانيا تجاوز حالة الولاء الديني السائدة في هذه المناطق الإسلامية التي تمر بها تجارتها إلى الهند والسعي للسيطرة عليها، وبالتالي فقد استخدمت وسيلة احتواء الولاء الديني – خاصة للدولة العثمانية – وتحويله لخدمة مصالحها في المنطقة .
وقد بدأت وزارة المستعمرات البريطانية سياستها الجديدة بمنطقة الخليج العربي نظراً لضعف السيطرة العثمانية عليه نسبياً مقارنة بولايات أخرى كالعراق والشام ومصر .
في سنة 1740 م ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد بالجزيرة العربية، وتشير وثيقة مستر همفر إلى أن هذه الدعوة تم التخطيط لها على يد عملاء وزارة المستعمرات البريطانية(5)، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الدعوى فإن بريطانيا قامت برعاية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورتبت اللقاء الشهير بينه وبين محمد بن سعود حاكم الدرعية سنة 1743م، وقد اشترط البريطانيين على محمد بن سعود مراعاة المصالح البريطانية في سياسته الخارجية، كما قيدوا سياسته الداخلية لحد ما، وقد قدموا في المقابل للدويلة الجهادية الجديدة دعماً مالياً بلغ خمسة آلاف جنيه استرليني سنوياً بالإضافة إلى الخبرات العسكرية والسياسية(6).
كان اللقاء ما بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب بداية لانتشار الدعوة الوهابية والتي رأت في العديد من عادات وتقاليد المسلمين نوعاً من الشركية، كما اتهمت الدولة العثمانية ذاتها بالكفر(7)(·).
لقد كان الغرض الأساسي من نشر هذه التعاليم هو تفتيت العالم الإسلامي الخاضع للسيطرة العثمانية عن طريق بعث دعوة دينية لها تاريخها وتراثها القديم في التاريخ الإسلامي، كالدعوة السلفية، وقيامها بكسر حاجز الولاء الديني للمسلمين تجاه السلطان العثماني بصفته خليفة المسلمين، وفتح المجال أما حالة من التمرد على هذه السلطة الدينية بما يسمح بتغلغل النفوذ البريطاني في المنطقة .
لقد استمرت الدولة الوهابية الأولى من سنة 1743 م وحتى سنة 1818 م، وفي خلال تلك الفترة استطاعت بريطانيا فرض عديد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية على الإمارات الخليجية، لعل أهمها المعاهدتين اللتين وقعتهما مع سلطان عمان في 1798 و 1800 م ونصتا على إنشاء وكالة تجارية في بندر عباس (كانت تابعة لحاكم مسقط) وتخلي حاكم مسقط عن اتصال مع الفرنسيين .
كما تمكنت بريطانيا من إجبار أسرة القواسم في رأس الخيمة من توقيع معاهدة مجحفة في سنة 1806 والتي تضمنت عدم مهاجمتهم للسفن الإنجليزية في الخليج .
أما الكويت فقد كانت على علاقة قوية ببريطانيا منذ عام 1775 مما دفع بريطانيا لنقل مقر وكالة شركة الهند الشرقية من البصرة إلى الكويت، كما أبدى أمير الكويت استعداده لمساعدة بريطانيا في حملتها ضد القواسم سنة 1806 م(8).
على أن المكسب الأساسي الذي حصلت عليه بريطانيا من دعمها للحركة الوهابية، هو ما أدت إليه من تحجيم لنفوذ الباب العالي الديني في استانبول وإضعاف قدراته في السيطرة على الولايات الكبرى، مما سمح لبعض الولاة العثمانيين كمحمد علي باشا والي مصر بالتطلع للاستقلال عن الدولة العثمانية، وقد أتاح ذلك لبريطانيا اتخاذ عدة خطوات استعمارية في الجزيرة العربية لعل أهمها احتلالها لعدن في سنة 1839 م(9).
وقد كررت بريطانيا هذه التجربة في الهند التي شهدت مقاومة إسلامية عنيفة لنفوذها كان أبرزها مقاومة سلطان ميسور في سنة 1792 م، والثورة الوطنية سنة 1857 م التي كادت أن تعصف بالنفوذ البريطاني في الهند (10)، وقد فشلت هذه الثورة في تحقيق أغراضها وقام البرطانيون بعقد محاكمة صورية للسلطان المغولي بهادر شاه ونفوه مع أسرته إلى رانجون، وأعلنوا ضم الهند إلى الامبراطورية البريطانية(11) .
لقد حاولت بريطانيا في البداية السعي لنشر المسيحية في الهند، واستطاع المبشرون الانجليز تحقيق بعض النجاحات إلى درجة تنصير بعض علماء المسلمين هناك(·)، إلا أن هذه النشاطات أدت ببعض علماء الدين المسلمين لمواجهة انتشار المسيحية وذاع في هذه الفترة صيت غلام أحمد قادياني في مواجهة المبشرين الإنجليز(12)، والتي تشير بعض مقولات مشاهير المسلمين الهنود المعاصرين كمولانا أبو الكلام آزاد أنه حقق نجاحات قوية في هذا المجال(13)، وبغض النظر عن الاعتراضات الموجهة للعقائد القاديانية وهي كثيرة، فقد سعى الانجليز للسماح لهذه الحركة بالبروز في المجتمع المسلم بالهند كبديل أو مرافق لفكرة نشر المسيحية بسبب رؤيتها المختلفة والغريبة للجهاد والتي تنص حسب قول غلام أحمد قادياني : " إن الجهاد في هذه الأيام قد اتخذ صبغة روحانية . فالجهاد في زمننا هذا إنما هو بذل المساعي لإعلاء كلمة الإسلام "(14)، بالإضافة إلى موقف غلام أحمد الإيجابي من الحكومة الإنجليزية : " إسمعوا أيها الأغبياء . إنني لا أداهن هذه الحكومة أبداً، وإنما الأمر الواقع بأن أية حكومة لا تعتدي على دين الإسلام، ولا تمنعنا من أداء الشعائر الإسلامية، ولا تشهر السيف في وجوهنا لنشر دينها .. فإن القرآن الشريف يحرم علينا أن نحاربها حرباً دينية، لأنها أيضاً لا تحاربنا حرباً دينية "(15).
من ناحية أخرى ساهمت الحكومة البريطانية في بالهند في إنشاء جماعات دينية أخرى معادية للأحمديين كجماعة البريوليين الذين بدأوا كمجموعة من العلماء المسلمين ممن أفتوا بأن الإنجليز هو أولوا الأمر بالهند، وأن الهند دار إسلام، وقد تحولت هذه المجموعة من العلماء فيما بعد إلى حركة دينية بهذا الاسم، كما قامت الحكومة البريطانية بالهند بدعم الحركة الوهابية ورعايتها عن طريق تأسيس ندوة العلماء التي وضع حجر الأساس لها رسمياً السير جان سكوت هيوس حاكم الهند في سنة 1908 (16) كعامل معارض للأحمديين، وقد تبادلت الفرق الثلاث الادعاءات بالعمالة للإنجليز.
في إيران بدا الوضع مختلفاً بعض الشيء، حيث كان هناك صراعاً بين روسيا القيصرية وبريطانيا للاستحواذ على أكبر قدر من النفوذ داخل البلاد، والواقع أن روسيا قامت بتكرار نفس محاولة الاحتواء الديني مع إداركها لبعض الخلافات في التفاصيل العقائدية بين السنة والشيعة، وبالتالي فقد تمكن أحد عملائها واسمه (كنيازي دلكورجي) من التخفي في زي أحب طلاب العلم في كربلاء تحت اسم (حسين البشروئي) وتمكن من إقناع الشاب الإيراني علي محمد رضا الشيرازي بأنه الباب إلى الإمام المهدي وقد أعلن عن هذه الدعوى في سنة 1844 م، وقد سعى الباب وتلامذته يحيى علي النوري (صبح الأزل)، وحسين علي النوري (البهاء) إلى محاولة الحصول على بعض الشرعية لدى السلطة القاجارية في إيران فادعوا تتلمذهم على يد المرجع السيد كاظم الرشتي والذي خلف الشيخ أحمد الإحسائي في قيادة الشيخية من الشيعة والتي كانت مؤيدة من السلطة القاجارية في إيران، بل أن أحد تلامذة الشيخ الإحسائي والسيد كاظم الرشتي، محمد كريم خان الكرماني، كان ينتمي للأسرة القاجارية(17)، إلا أن الباب لم يحظى بأي نسبة تأييد أو تعاطف من علماء الشيخية ذاتهم الذين حكموا باعدامه في تبريز(18)(*).
لم تكن دعوة الباب في الواقع سوى تعبيراً عن نمو نفوذ الطبقة التجارية الإيرانية وسعيها للتطور واكتساب المزيد من السلطات في مواجهة الإقطاع القاجاري، ولا تعدو المبادئ التي بشر بها الباب سوى خليط غير متجانس بين ما كان سائداً في أوروبا وبعض المبادئ الإسلامية، وقد كانت هذه الطبقة هي المتلقي الأساسي للدعم الغربي وخاصة من بريطانيا وفرنسا، وعلى الرغم من إسباغ البريطانيين والروس حمايتهم على الباب إلا أن الحكومة الإيرانية وجدت نفسها مضطرة في النهاية إلى إعدامه خشية تفاقم حالة الغضب الشعبي في إيران(19).
كان مقتل الباب بداية لانفراد بريطانيا برعاية حركات مدعي النبوة في إيران، إلا أن الحكومة الإيرانية كانت مضطرة للتعامل بقوة مع هذا التيار الجديد، فقامت سنة 1852 بنفي البهاء إلى العراق الخاضعة للسيطرة العثمانية، وقد قام بدعم من بريطانيا بإعلان نبوته في سنة 1853 م، ثم نقل إلى الأستانة بأمر من السلطان العثماني سنة 1863 م، حيث أعلن دعوته مرة ثانية والتي سميت بـ (بيعة الرضوان)(20) .
ومن الغريب أن البهاء إستمر في دعوته بالأستانة حتى سنة 1868 م تحت سمع وبصر السلطان العثماني دون أي مشاكل، حتى اضطر العثمانيين بسبب الصراع بينه وبين أتباع شقيقه صبح الأزل إلى نقله لعكا ونقل شقيقه إلى قبرص، حيث قام بمواصلة نشاطه تحت حماية السفراء الإنجليز حتة توفي سنة 1892 م(21) .
لقد تمكنت كل من بريطانيا وروسيا من إثارة جو من البلبلة في أوساط علماء الدين الشيعة والذين كانوا المعارضين الأساسيين لتغلغل الغربي في إيران، وقد سمحت لهما حالة الاضطراب الفكري والديني الذي قامت بها الحركتان البابية والبهائية بين الشيعة إلى تمكن كل منهما من الحصول على قدر كبير من النفوذ في إيران، حيث كانت روسيا تسعى لفرض نفوذها على منطقة آذربيجان، في حين كانت بريطانيا تطمع في السيطرة على الجنوب الإيراني لتأمين مواصلاتها إلى الهند، واستولت كذلك على مقاطعة بلوشستان المجاورة للهند(22) .
لقد مثل دعم أو اختلاق الفرق الدينية إحدى أهم السياسات الاستعمارية التي لجأت إليها الدول الغربية في العالم الإسلامي في محاولة لاحتواء المشاعر الدينية لدى المسلمين، بالإضافة إلى سياستها التقليدية في دعم الطوائف المسيحية التي تنتمي لها، فقد كانت روسيا تدعم المسيحيين الأرثوزكس، كما كانت فرنسا تدعم المسيحيين الكاثوليك والمارون(23)، وقد نجحت هذه السياسة لحد ما في امتصاص العاطفة الدينية للجماهير وحرفها إلى مواجهات بعيدة عن السياسات الاستعمارية .


1 – د . رأفت غنيمي الشيخ وآخرون – تاريخ آسيا الحديث والمعاصر – القاهرة 2004 – ص 212، 213 .
2 – أحمد محمود الساداتي – تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندوباكستانية وحضارتهم – القاهرة 1970 – ص 439.
3 – م . س – ص 442.
4 – رأفت غنيمي الشيخ وآخرون – م . س – ص 318.
5 – مستر همفر – المذكرات – بدون ذكر مكان الطبع أو التاريخ – ص 35 .
6 – ميرزا طاهر أحمد – هل الأحمدية غراس الإنجليز ؟ .. حقائق تاريخية – ترجمة / عبد المؤمن طاهر ، مراجعة / محمد حلمي الشافعي – (بدون ذكر مكان الطباعة) 2001 – ص 16.
7 – م . س – ص 16 ، أحمد زيني دحلان – الدرر السنية في الرد على الوهابية – استانبول 1993 – ص 40 ، أحمد زيني دحلان – فتنة الوهابية – القاهرة (بدون تاريخ الطبع) – ص 71 – 75.
· في فترة الصراع بين العثمانيين والوهابيين في الجزيرة العربية كان عبد الرحمن الجبرتي المتعاطف مع الحركة الوهابية يصف مقاومة الشريف غالب للوهابيين " ... واستمر في الترسيم عند الشريف ليأخذ بذلك وجاهة عند الأتراك الذي هو على ملتهم " عبد الحمن الجبرتي – تاريخ الجبرتي – اختيار / محمد قنديل البقلي – القاهرة 1958 – ج 8 ص 869.
8 – رأفت الشيخ وآخرون – م . س – ص 315 ، 316 ، 317 .
9 – م . س – ص 318.
10 – أحمد الساداتي – م . س – ص 441 ، 442 ، 450 ، 451 .
11 – م . س – ص 451 ، 452 .
·ذكر المؤلف بعض أسماء علماء المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية ، المولوي حميد الدين خان ، والمولوي عبد الله بك ، والمولوي القاضي صفدر علي ، والواقع أنه من غير المعروف إن كانت هذه الشخصيات حقيقية ومعروفة بالفعل في المجتمع الإسلامي بالهند ، أم أنها أسماء لشخصيات اختلقها القساوسة الإنجليز . (ميرزا طاهر أحمد – مصالح الإنجليز بالهند والمؤتمنون عليها – (بدون ذكر مكان الطباعة) 2001 – ص 6 .
12 – م . س – ص 7 ، 8 ، 9 .
13 – م . س – ص 20 .
14 – ميرزا طاهر أحمد – موقف الأحمدية من الجهاد – لندن 2001 – ص 9 .
15 – ميرزا طاهر أحمد – هل الأحمدية غراس الإنجليز ؟ - م . س – ص 8 .
16 – م . س – ص 16 .
17 – صالح عبد الله – أضواء على البهائية – القاهرة 1986 – ج 6 ص 126 ، سيد علي موسوي – أحوال الشيخ أحمد الإحسائي والشيخية – نسخة كومبيوترية – موقع الأبرار www.alabrar.info ، سيد علي موسوي – نبذة عن المدرسة الشيخية – نسخة كومبيوترية – موقع الأبرار www.alabrar.info .
18 – سيد علي موسوي – أحوال الشيخ أحمد الإحسائي والشيخية - م . س .
(*) تشير النصوص الواردة عن الباب إلى نوع من العداء مع الشيخية وقد حرم في كتابه البيان على أتباعه مطالعة كتبهم : " يا اهل الذكر و البيان قد حرم عليكم اليوم بمثل ما حرمنا النظر الي اساطير الاحمد و الكاظم و الفقهاء القعود و الجلوس مع الذين اتبعوهم في الحكم لئلايضلوكم فتكونوا اذا لمن الكافرين و اعلموا يا اهل الفرقان و البيان انكم اليوم اعداء الذين اقتدوا بالاحمد و الكاظم و هم لكم عدو و ليس لكم علي الارض منهم و لا لهم منكم اشد عداوة و لقد القي بينكم البغضاء و الشحناء و هو الله ربكم الرحمن قد كان بكل شئ محيطا و بما يعامل مع عباده عليما حكيما فمن يخطر علي قلبه سبع سبع عشر عشر رأس خردل من حب هؤلاء فليذيقنهم يوم القيامة من يطهره الله بنار اليم " .
19 – صالح عبد الله – م . س – ص 12 .
20 – م . س – ج 6 ص 14.
21 – شوقي أفندي رباني – النظام البديع – الإسكندرية 1934 – ص 10 ، صالح عبد الله – م . س – ج 6 ص 14 .
22 – رأفت الشيخ – م . س – ص 265 .
23 – قسطنطين باسيلي – سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني – موسكو 1989 – ص 6 .

باباك خورمدين
11-08-2005, 06:31 AM
الخلفيات السياسية لصعود التيار السلفي الشيعي :-

مثلت الفترة منذ عام 1988 م وحتى 2001 م، مرحلة شديدة الأهمية بالنسبة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تمكنت خلالها من تحقيق بعض النجاحات المرسخة لوضعها كقوة عظمى وحيدة في العالم .
فقد تمكنت أمريكا من إنهاء الحرب اللبنانية لصالح ترسيخ وضع الطائفية السياسية، بهدف تثقيف المنطقة بالخطوط اللبنانية سواء مذهبياً في صراع سني شيعي، أو طائفياً في الصراع الإسلامي المسيحي، أو سياسياً في الصراعات ما بين الأيدلوجيات السياسية المختلفة(1)، بحيث أصبحت لبنان مجرد مشروع مؤجل لصراعات مذهبية وطائفية تشمل المنطقة العربية بأكملها، وقد حرصت الولايات المتحدة – ومعها بعض الدول العربية والكيان الصهيوني - على تثبيت وضع المارونية السياسية على رأس السلطة في لبنان، في محاولة لمنع امتداد نفوذ الطائفة الشيعية التي مثلت القاعدة الرئيسية للمقاومة اللبنانية ضد الوجود الصهيوني في لبنان، والذي قد يشمل أيضاً تواجد ما للنفوذ الإيراني ولو بطريقة روحية .
كما إستطاعت تحجيم تأثير وامتداد الثورة الإيرانية في العالم الإسلامي عن طريق دفع النظام البعثي في العراق بقيادة صدام حسين لإشعال الحرب العراقية / الإيرانية التي أستمرت من سنة 1981 وحتى عام 1988 بقبول إيران لوقف إطلاق النار، وفي أثنائها قامت الأنظمة العربية التي أصابها قدر من الذعر على أثر انتصار الثورة في إيران بتمويل الحرب البعثية، وشن حملة إعلامية على إيران والمذهب الشيعي للحد من الانتشار المذهبي للتشيع عقب انتصار الثورة (2)(*).
كان نجاح العراق في تحجيم الامتداد الثوري لإيران دافعاً للرئيس العراقي صدام حسين للقيام بغزوه الشهير للكويت عام 1990 م والذي استغلته أمريكا لتحقيق عدة مكاسب(*)، فقد تمكنت عن طريق قيامها بمعارك تحرير الكويت (عاصفة الصحراء) من إدخال قواتها إلى الخليج العربي والحصول على مواقع وقواعد عسكرية دائمة في المنطقة للتواجد بجوار منابع النفط في الخليج، وبالإضافة لتعزيز قدرتها على مراقبة الأوضاع في إيران، كما تمكنت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من القضاء على الانتفاضة الفلسطينية وإجبار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية – والتي كانت قد تورطت بتأييد خطوة صدام تجاه الكويت - على الدخول في مفاوضات أوسلو سنة 1991 م
وهو ما أدى إلى حصول الكيان الصهيوني على اعتراف من 76 دولة جديدة لعل أكثرهم أهمية الصين، وإسقاط المقاطعة الاقتصادية العربية(3).
وعلى الرغم من الصدام الظاهري بين المشاريع الأمريكية في الخليج والنظام البعثي في بغداد، فقد حرص الأمريكيون على دعمه في مواجهة الانتفاضة الشعبية الشيعية في الجنوب، حيث مثل بقاء هذا النظام حاجة حيوية للأمريكيين خشية اهتزاز التوازن في المنطقة لصالح إيران، وكوسيلة لابتزاز دول الخليج(4) .
على أن سنة 1991 م شهدت أيضاً أكبر الانتصارات الأمريكية على الإطلاق بإعلان الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف تفكيك الاتحاد السوفيتي، وقد كان هذا السقوط المتوقع إعلاناً ببدء سقوط الهيئات المرتبطة به كحلف وارسو والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بما يعني إنفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم .
لقد سعت الولايات المتحدة بعد تحقيقها لهذه الانجازات إلى تكريس سيطرتها على الأوضاع في العالم كقوة عظمى وحيدة عن طريق احتواء الدول والحكومات الثورية المعادية لها ومن ضمنها إيران، التي تتميز حكومتها بالاستناد على قاعدة تأييد ضخمة من المسلمين الشيعة تمتد في معظم أنحاء العالم الإسلامي، كما كان لمواقفها الثورية المعادية للإمبريالية الأمريكية والصهيونية ودعمها للمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين مردود طيب في الأوساط السنية مكنها من كسب قدراً كبيراً من التعاطف الإسلامي العام، خاصة مع حرص القيادة الإيرانية على عدم الاستغراق في المذهبية والتواصل مع الآخر سواء المذهبي أو السياسي .
إن سياسة حصار إيران وتحجيم نفوذها من الناحية العسكرية التي تولاها الرئيس العراقي صدام حسين، ومن الناحية الدينية التي تولتها التيارات السلفية والتي لجأت إليها أمريكا في بداية تعاملها مع الثورة الإسلامية، لم تؤد في الواقع إلى ضعف النظام الإيراني، والذي شهد قدر من الانتعاش مع ضعف القوة العسكرية للنظام العراقي عقب حرب الكويت، وأشارت العديد من التقارير السياسية والعسكرية بقلق إلى تنامي القوة العسكرية والتسليحية الإيرانية في التسعينات(5)، بالإضافة إلى قيام إيران بالسيطرة المنفردة على جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى بحيث تستطيع البحرية الإيرانية السيطرة على مداخل الخليج تحسباً لأي مواجهة مقبلة مع الأمريكيين ومحاولة لإجبار العالم على الاعتراف بالدور الإيراني المتميز في المنطقة(6).
ومع التغيرات التي أحدثتها الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط فقد بدأت في تغيير سياستها تجاه إيران والتي شهدت محورين، الأول سياسي تقليدي وتمثل في الحرب الإعلامية ضد إيران، فبعد انتهاء حرب الخليج الثانية، وحتى سنة 1997 م، لم تتوقف الاتهامات الأمريكية لإيران بدعم الإرهاب، ومحاولة محاصرة حركة الدبلوماسية الإيرانية في العالم، وقد أثبتت هذه الوسائل فشلها خاصة عندما تمكنت الدبلوماسية الإيرانية من إجهاض إعلان دمشق الذي تكون من دول الخليج بالإضافة لمصر وسوريا وقد سعت أمريكا لتشكيله لعزل إيران عن دول الخليج العربي(7).
وفي نطاق الاحتواء السياسي سعت أمريكا لاستغلال التنوع الإثني لإيران، في محاولة تفتيتها عن طريق إحياء العصبيات القومية لدى الأقليات كالأكراد والبلوش والآذربيجانيين، والواقع أن الأمريكيين في صراعهم مع إيران لم يسعوا لاستغلال هذه الوسيلة قبل التسعينات على أساس أن وحدة إيران تبقيه كحائل أمام النفوذ السوفيتي، إلا أن سقوط الاتحاد السوفيتي أطلق يد الأمريكيين في هذه الناحية(8)
المحور الثاني كان ظهور سياسة الاحتواء الديني لإيران، والذي اعتمد بالأساس على خلو الساحة الإيرانية من الإمام الخميني (ت / 1989 م) وما كان يتمتع به من كاريزمية لمحاولة تفتيت القاعدة الشيعية الضخمة التي تقوم عليها الثورة الإيرانية، والسعي لتحجيم التأثير الإيراني الثوري في العالم الإسلامي اعتماداً على العناصر الشيعية ذاتها إلى جانب المواجهة السلفية التقليدية .
كانت إحدى الوسائل الأمريكية في تنفيذ سياسة الاحتواء هي اللجوء لكتابات شيعية تسعى لتقويض الأسس الثورية في التشيع والتي قامت الثورة بناء عليها، وخاصة نظرية ولاية الفقيه، وتقديم تشيع جديد مدجن لا يتعارض مع الخطط الأمريكية في المنطقة، وقد ظهرت بعض المؤلفات لكتاب معارضين كـ (الشيعة والتصحيح) و(المؤامرة على المسلمين الشيعة) للسيد موسى الموسوي، و(تطور الفكر السياسي عند الشيعة) لأحمد الكاتب، إلا أن هذه الكتابات لم تجد صدى ضخم داخل الطائفة الشيعية ذاتها وإن تم استغلالها إعلامياً من قبل السلفيين في إطار سعيهم للحد من انتشار المذهب الشيعي في منطاق نفوذهم .
كانت الوسيلة الأخرى أكثر نجاحاً وقد استندت إلى واقع فرض نفسه في الحوزة العلمية بقم المقدسة والنجف الأشرف، فقد أدى القمع الصدامي لثورة الشيعة في الجنوب إلى هروب عدد ضخم من الشيعة العراقيين إلى الخارج وخاصة إلى إيران وسوريا، وواصل طلبة الحوزة العلمية دراستهم في حوزتي قم ودمشق، وقد نقل العديد منهم تناقضات الساحة الشيعية العراقية إلى الخارج، وخاصة الصراع ما بين الاتجاهات الحزبية الإسلامية والتيارات المعادية لها داخل الحوزة وعلى الأخص التيار الشيرازي .
من ناحية أخرى شهد العام الأخير من عقد الثمانينات والأعوام الأولى من عقد التسعينات وفاة الجيل الفديم من مراجع النجف وقم، كالسيد الخميني (ت / 1989)، والسيد الخوئي (ت / 1992)، والسيد الجلبيجاني (ت / 1993)(9)، وبدا واضحاً أن الجيل التالي يتميز بوجود كثافة واضحة للشخصيات الحركية التي تطمح للقيام بدور اجتماعي وسياسي فاعل كالسيد محمد حسين فضل الله في لبنان، والشيخ ناصر مكارم شيرازي في قم، بالإضافة إلى مرشد الثورة الإيرانية السيد علي الخامنئي، في حين وجدت بعض الشخصيات المرشحة للمرجعية تعاني من السلبية في أي دور أو مجال خارج نطاق الفقه والأصول بالإضافة إلى الموقف السلبي لبعضها من الثورة الإيرانية والإمام الخميني، كالسيد الروحاني والميرزا جواد تبريزي والشيخ الوحيد الخراساني في قم(10)، والسيد السيستاني، والسيد السبزواري في النجف الذين لم يكن لهما موقف محدد من موضوع ولاية الفقيه.
لقد أدى تعيين السيد الخامنئي كولي فقيه في إيران عقب وفاة الامام الخميني إلى بروز بعض الانتقادات العنيفة للنظام الإيراني من قبل المعارضين لنظرية ولاية الفقيه، وخاصة التابعين للتيار الشيرازي والمراجع الآخرين سالفي الذكر، بسبب عدم كونه مرجعاً، وربما اعتبر الأمريكيين أن عدم كون السيد الخامنئي مرجعاً يمثل نقطة ضعف لإيران التي قد تتحول بمرور الوقت لدولة تكنوقراطية تقليدية فاقدة لحيويتها المذهبية والدينية، على أن وفاة شخصيات الجيل القديم في فترات متقاربة، أتاح الفرصة لطرح مرجعية السيد الخامنئي بما يعني احتفاظ موقع المرشد بمكانته السياسية والدينية في آن(11)، إلا أن صغر سن السيد الخامنئي مع وجود شخصيات أقدم منه في الدراسة بالحوزة، سواء في قم أو النجف، كان يمثل عنصر ضعف لمرجعيته .
ومن ناحية أخرى فقد كان أحد المرشحين للمرجعية ، وهو السيد محمد حسين فضل الله يمثل خطورة مباشرة على بعض الأطراف الإقليمية، كالكيان الصهيوني، والمارونية السياسية في لبنان(12)، وقد وجدت هذه الأطراف أن وجود مرجعية شيعية ثورية بحجم السيد فضل الله في لبنان قد يخل بالوضع الطائفي الذي قامت أمريكا بإقراره في لبنان من خلال معاهدة الطائف لصالح الطائفة الشيعية التي تمثل الأرضية الأساسية للمقاومة الإسلامية ضد الوجود الصهيوني في الجنوب بما يضر بالمصالح الأمريكية والصهيونية من ناحية، وبسيطرة المارونية السياسية على الوضع اللبناني.
لقد كان على السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط دعم تيار جديد داخل الحوزة الشيعية - في قم على وجه الخصوص - رافض لأطروحة ولاية الفقيه ولقيادة السيد الخامنئي للثورة، ولا يمتلك في المقابل أطروحة أخرى تستطيع فرض نفسها على الساحة، وقد شهدت حوزة قم بالفعل بروز أربع مرجعيات تجمع ما بين الانتماء لحوزات عراقية رغم جنسيتها الإيرانية، وبالتالي فهي تحمل معها سلبيات الساحة العراقية عموماً، ورفض – أو ربما العداء للثورة الإيرانية ونظرية ولاية الفقيه - كالسيد محمد الشيرازي، من حوزة كربلاء، والسيد محمد صادق الروحاني، والشيخ جواد تبريزي، والشيخ الوحيد الخراساني، من حوزة النجف الأشرف، وفي حين كانت للسيد الروحاني، والسيد محمد الشيرازي(13) بعض الرؤى السياسية المتأثرة بالنظريات القومية والليبرالية، فإن الشيخين جواد تبريزي ، والوحيد الخراساني ، لم يكن لهما أي دور سياسي أو اجتماعي خارج نطاق الحوزة في قم .
لقد كان على التيار الجديد القيام بمهمتين(14) الأولى : تحجيم المرجعيات الحركية وعدم السماح لها بالانتشار، والثانية : تقليص عملية التواصل السني / الشيعي وتكريس الانفصال الطائفي بينهما عن طريق تبني مقولات مهينة للآخر وغير مقبولة على مستوى الحقيقة التاريخية، واستخدام الآلة الإعلامية في الترويج لهذه الآراء كما لو كانت متسالم عليها بين العلماء .
لقد صادفت هذه الوسيلة نجاحاً أكبر من الوسائل السابقة ، وقد تمثل في تنامي وتيرة التنازع المذهبي مع السلفيين السُنة، وهو ما أدى لتراجع المسعى الإيراني لتحقيق تواصل مع الشعوب الإسلامية السُنية لحد ما ، كما أدت لعودة الصدامات المذهبية للتصاعد سواء في منطقة الخليج حيث اعتادت إحدى المجلات المروجة لهذا الفكر على إثارة القضايا الطائفية بأساليب غير علمية، أو داخل إيران ذاتها(15)، وأخيراً فقد لجأ هذا التيار إلى إثارة الإشكالات والشكوك الوهمية حول الآراء الفقهية والتاريخية للمراجع المتسمين بالحركية السياسية والاجتماعية في محاولة لإظهار هذه الآراء كما لو كانت مستعارة من المذهب السني .
لقد تناولت هذه الحملات في البداية السيد محمد حسين فضل الله ، ومن الواضح أن وضعه في لبنان كان أحد أسباب البدء به، كما أن وجود مرجعية لبنانية مقيمة في لبنان بحجم وتراث السيد فضل الله أثار خوف بعض القائمين على الحوزة في قم من تحول ميزان الجذب إلى الأخيرة الأمر الذي قد يؤثر على وضع حوزة قم وحجم الأخماس والحقوق الشرعية التي تصل إلى مرجعياتها .
لقد بدأت هذه الحملة في سنة 1991 م، وقد حركها أحد الضباط السابقين في الأمن الكويتي -عباس بن نخي - حيث استغل شريط صوتي للسيد فضل الله أجاب فيه - في محاضرة للنساء - على سؤال وجه إليه عن صحة رواية كسر ضلع الزهراء (ع) وإسقاط جنينها، إثر هجوم عمر بن الخطاب على الدار لأخذ البيعة لأبي بكر، وقد اجاب السيد فضل اله بأن الرواية عنده موضع دراسة ولم يذكر رأياً قاطعاً حولها(16)، وقد وزع هذا الشريط في مدينة قم المقدسة على نطاق واسع، كما أصدر أحد المتعاونين (السيد ياسين الموسوي) معه كتاباً هاجم فيه السيد فضل الله معتبراً أنه عدو للزهراء (ع) وليس شيعياً، إلا أن السلطات في الجمهورية الإسلامية تعاملت بنوع من الحزم مع هذا التصرف مما اضطر الشخصان إلى مغادرة إيران(17).
إن هناك بعض الملاحظات حول هذه البداية، فأولاً تشير بداية الحملة من مدينة قُم رغم أن القائمين عليها ليسوا إيرانيين إلى أن الهدف الأساسي هو استغلال الوضع الديني ووجود الحوزة في مدينة قم لممارسة الضغط على الحكومة الإيرانية لعزلها عن الحالة الإسلامية في لبنان والتي كانت تحت رعاية السيد فضل الله، ثانياً على الرغم من هذه الحملة فمن الواضح أنها لم تكسب حتى هذه الفترة أي تأييد معلن من الشخصيات العلمائية الموجودة كالسيد الجلبيجاني في قم، والسيد الخوئي في النجف الأشرف والذي ظل السيد فضل الله وكيله المُطلق في لبنان حتى وفاته في سنة 1992 م، بل أن بعض الذين أبدوا تحفظات في مرحلة تالية على السيد فضل الله دافعوا عنه في هذه المرحلة، كالسيد محمد باقر الحكيم والسيد جعفر مرتضى العاملي(18)، ثالثاً فإن إنتماء المحرك الأساسي لهذه الحملة لجهاز الأمن الكويتي يثير تساؤلات وشكوك كثيرة عن المحرك الحقيقي لها خاصة مع حقيقة خضوع المنطقة للسيطرة الأمريكية عقب حرب الخليج الثانية، رابعاً يثير توقيت بدء الحملة على السيد فضل الله شكوك أخرى، فقد بدأت عقب نجاح الأمريكيين في السيطرة على الخليج بعد الحرب الثانية، وفي أثناء الصراع الذي خاضته الحركات الإسلامية العراقية – خاصة حزب الدعوة الإسلامية – صراعاً ضخماً ضد نظام صدام حسين بهدف إسقاطه، والذي تدخلت فيه القيادة الأمريكية لصالح الرئيس العراقي تحسباً من وصول حركات شيعية لها علاقات جيدة بإيران إلى السلطة في بغداد مما يؤثر على توازن القوى في منطقة الخليج، كما كان هناك تحسباً من التيار المعادي للأحزاب الإسلامية داخل الحوزة الدينية من وصولها للسلطة وسيطرتها بالتالي على الوضع الديني في الأوساط الشيعية، وبالتالي فليس من قبيل الصدفة أن الشخص المحرك للحملة – الشيخ عباس بن نخي والشيخ فاضل المالكي - من المعادين للأحزاب الإسلامية(19).



1 – السيد محمد حسين فضل الله – حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع – إعداد وتنسيق / نجيب نور الدين – بيروت بدون ذكر تاريخ الطبع – (حوار مع مجلة نداء الوطن – عدد 824 – الجمعة 28 تموز 1995) – ص 372، 373.
2 – قامت الحكومة المصرية في فترة الثمانينات بتلفيق عدة تنظيمات اتهم فيها بعض الشيعة المصريين، كما قام السلفيين بحملات دعائية بتمويل مصري وعراقي وسعودي ضد الشيعة عن طريق إصدار نشرات ومطبوعات تكفر المنتمين للمذهب (وائل الإبراشي – الشيعة في مصر – تحقيق بمجلة روزاليوسف – عدد 3339 سنة 1992 – ص 24.
(*) لم تحقق الدعايات المضادة للمذهب الشيعي نتائج تذكر في مصر على وجه الخصوص والتي تشهد انتشاراً كبيراً للتشيع بين المثقفين والحرفيين .
(*) تشير بعض التحليلات السياسية إلى دور خفي للولايات المتحدة في تشجيع الرئيس العراقي على اتخاذ هذه الخطوة .
3 – السيد فضل الله – م . س – ( حوار مع جريدة السفير اللبنانية – ع 7109 – بتاريخ 19 حزيران 1995 ) – ص 310، 311 ، د / مصطفى رجب – هل تبدأ الكويز مرحلة تطبيع جديدة ؟ - مقال بموقع المركز الفلسطيني للإعلام – موقع www.palestine-info.net
4 – م . س – (مقابلة مع مجلة السياسة – العدد 9570 – الاثنين 17 تموز 1995) – ص 325.
5 – إسماعيل الأمين – تحقيق بمجلة الوسط اللندنية – عدد 41 بتاريخ 9 / 11 / 1992 – ص 30 ، هدى توفيق – تحقيق بمجلة الدولية اللبنانية – عدد 154 بتاريخ 26 / 5 / 1993 السنة الرابعة – ص 15 .
6 – ميشال بونجم – تحقيق (مجلة الوسط اللندنية – عدد 36 – بتاريخ 5 / 10 / 1992) – ص 23 ، 24 .
7 – جمال بدوي – مقال رئيس التحرير بجريدة الوفد بتاريخ 29 / 5 / 1997 – ص 1 ، وزارة الخارجية الكويتية (الديوان الأميري – إعلان دمشق – على الموقع www. demo.sakhr.com . الرابط :
http://demo.sakhr.com/diwan/main/St...g/damascus.html .
8 – تقرير إيراني – مجلة الوسط اللندنية – عدد 38 – تاريخ 19 / 10 / 1992 – ص 13 .
9 – توجد بعض المرجعيات الدينية في الوسط الشيعي تتميز بكونها مرجعيات وراثية ومتركزة في عائلة واحدة، كالمرجعية الشيرازية ، والمرجعية الإحقاقية ، والعلاقة بين المرجعيتين وثيقة بسبب تشابه أفكارهما .
10 – ذكر فهمي هويدي أن السيد الروحاني علق على انتخاب الشيخ منتظري كخليفة للإمام الخميني أمام طلابه في الحوزة بقوله : " تلك سقيفة أخرى "، ومن المعروف علاقات السيد صادق الروحاني القديمة مع حزب بان إيرانيست (إيران العظمى) قبل الثورة ذو الميول العنصرية الفارسية، كما أن شقيقه ، السيد مهدي الروحاني ، معارض بارز للإمام الخميني ومقيم في باريس . (فهمي هويدي – إيران من الداخل – القاهرة 1991 – ص 151 ، تقرير بمجلة الوسط اللندنية – عدد 81 بتاريخ 16 / 8 / 1993 – ص 17 .
11 – حامد حيدر – تحقيق بمجلة الوسط اللندنية – عدد 99 بتاريخ 20 / 12 / 1993 – ص 13، 14، 15.
12 – أصدر أحد الكتاب المارون كتاب تشهيري ضد نشاطات السيد محمد حسين فضل الله في لبنان وخصوصاً نشاطه في التواصل مع الأطراف المسيحية والتي اعتبرها مقدمة لتمرير فكرة جمهورية إسلامية عفي لبنان مشابهة للصورة الإيرانية، وعلى الرغم من أن هذا التفسير غير مقبول بسبب خصوصية الوضع اللبناني فالواضح أن الكتاب يمثل تعبيراً واضحاً عن مخاوف السياسيين المارون من نشاطات السيد فضل الله والصعود الضخم الذي شهدته الطائفة الشيعية في لبنان عقب نهاية الحرب الأهلية . (عماد شمعون – آية الله السيد محمد حسين فضل الله داعية حوار .. أم ذمية – بيروت 1995) .
13 – تبنى السيد محمد الشيرازي (ره) نظرية شورى الفقهاء المراجع ، والتي ترى ولاية مجلس منتخب من مراجع الدين، وهي نظرية تحمل قدر كبير من المثالية ، وتنتمي لفكر الشورى الدينية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، ويطلق عليها المسلمين السنة ، شورى أهل الحل والعقد ، وهي بالتالي غير قابلة للتطبيق بسبب تعارضها مع طبيعة النظم السياسية القائمة في المرحلة المعاصرة والتي تقوم على التعدد الحزبي ورقابة الشعوب والرأي العام عموماً لأداء الحكومات والرؤساء عن طريق البرلمانات ، وطبيعة المرجعية الدينية الشيعية والتي تتنوع انتماءات مقلديها سياسياً وقومياً وعددياً ، وقد روعيت هذه النقاط في تطبيق نظرية ولاية الفقيه في إيران عقب قيام الجمهورية الإسلامية (محمد غالب أيوب – ملامح النظرية السياسية في فكر الامام الشيرازي) على الرابط (http://www.alshirazi.com/roaa/books/malameh/shora.htm) .
14 – من غير الواضح وجود دور عملي للمرجعين الراحلين السيد محمد الشيرازي ، والسيد الروحاني ، رغم أن أتباعهما - أتباع السيد الشيرازي على وجه الخصوص - كان لهم دور ضخم في الترويج لهذا التيار، وقد ذكرت جريدة " البعثة" الإيرانية أن جهاز الـ (c.i.a) رصد عشرة ملايين دولار كميزانية لإحداث اضطرابات وزعزعة الأمن والنظام داخل الجمهورية الإسلامية (جعفر الشاخوري البحراني – مرجعية المرحلة وغبار التغيير – بيروت 1998 – ملاحق الكتاب – ص 379).
15 – آخر هذه الصدامات كانت عقب الانتخابات الإيرانية الأخيرة وقامت في منطقة كردستان احتجاجاً على كتاب لأحد المراجع المنتمين لذات التيار وهو يعسوب الدين الرستكاري ، تطاول فيها على الخليفتين الأول والثاني ، وعلى الرغم من أن الهجوم على الخلفاء السابقين للإمام علي يمثل حالة طبيعية ومعتادة بالنسبة للشيعة ، فمن الواضح أن يعسوب الدين الرستكاري تجاوز الهجوم إلى السباب الأمر الذي أثار غضب السُنة الأكراد، وبالنسبة لمنطقة الخليج تمثل مجلة المنبر الكويتية التي ينتمي كتابها للتيار الشيرازي المعبر الأساسي عن هذا الاتجاه وتتبنى معظم مقالات المروجين الأصليين له كعباس بن نخي ، والغريب أن هذا الشخص – عباس بن نخي – سبق له وطعن في مرجعية السيد الشيرازي في السبعينيات.
16 – حسين بركة الشامي – المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة – لندن 1419 - ص 466.
17 – م . س – ص 467 ، وقد ذكرت أشارت مجلة المنبر أنه الشيخ الخطيب فاضل المالكي (العدد 15 بتاريخ جمادى الأولى 1422 هـ - رد هيئة التحرير على رسالة القارئ عمار جعفر بعنوان " خامنئي يؤيد فضل الله .. ولا شرعية لمراجع الأخماس".
18 – حامد حيدر – تحقيق بمجلة الوسط اللندنية – عدد 99 بتاريخ 20 / 12 / 1993 – ص 16.
19 – كتب هذا الشخص مقالات بمجلة المنبر الكويتية الموالية لمرجعية السيد الشيرازي (ره) والمعادية لإيران ومرجعية السيد الخامنئي هاجم فيها الحالة الحزبية في الوسط الشيعي (مجلة المنبر – العدد 1 بتاريخ ربيع الأول 1421 هـ بعنوان الحزبية والوعي الديني ، العدد 4 بتاريخ جمادى الآخرة 1421 هـ - بعنوان الحزبيون والتعدد .. ما هي الأولويات في ميادين العمل الإسلامي ، العدد الثالث عشر بتاريخ ربيع الأول 1422 هـ - بعنوان السمات النسوية في الحركة الحزبية) .

باباك خورمدين
11-08-2005, 06:32 AM
الخلفيات السياسية لصعود التيار السلفي الشيعي (2) :-

وقد تواصلت هذه الحملة مرة أخرى عقب وفاة السيد الخوئي (ره) – المرجعية الأكبر في الوسط الشيعي - سنة 1992 م، واشتدت عقب دخول السيد الجلبيجاني – المرجع الأكبر بعد السيد الخوئي - المستشفى وتوقع الكثيرين لاقتراب وفاته والتي حدثت بالفعل في سنة 1993 م، وقد استطاعت الحملة هذه المرة اجتذاب بعض مؤيدي السيد الخامنئي - مرشد الثورة الإيرانية – في الحوزة الذين اعتقدوا أن مرجعية السيد فضل الله قد تؤثر في امتدادات مرجعية السيد الخامنئي، وقد شارك بعضهم في توزيع نص محاضرته السابقة عن الزهراء (ع)، إلا أن الاحتجاجات كانت قاصرة على موضوع المروية التاريخية الخاصة بالاعتداء على السيدة الزهراء (ع) ولم تمتد إلى دائرة أكبر، كما أن مرشد الثورة لم يتفاعل مع هذه الحملة التي أدرك أنها تستهدفه في جانب منها واضطره إلى التأخر في طرح مرجعيته على الرغم من أنه كان يمارس المرجعية من ناحية فعلية(20)، وقد نقلت العديد من وسائل الإعلام في تلك الفترة دعم السيد الخامنئي للسيد فضل الله، خاصة عقب صدور فتواه في 15 / 10 / 1996 م : " سماحة السيد محمد حسين فضل الله من أعلام المذهب بطهارته وإيمانه ولا يجوز لأحد النيل منه أو التعرض له "(21).
على أن هذه الحملة رغم استمرارها لم تحقق الكثير من النتائج ولم تصبح حالة قائمة بالفعل إلا في سنة 1418 هـ . ق (1997 م) والتي شهدت تحولاً كبيراً في مواقف بعض الشخصيات، حيث تحول السيد جعفر مرتضى العاملي من تأييد السيد فضل الله إلى مهاجمته وأصدر كتاباً من جزئين لهذا الغرض بعنوان (مأساة الزهراء)، كما صدرت كتيبات للشيخ جلال الدين علي الصغير عقب صدور الكتاب السابق تهاجم السيد محمد حسين فضل الله، وقد عبرت الحملة على السيد فضل الله هذه المرة عن أكثر من اتجاه، فهناك الاتجاه التقليدي المعادي للأحزاب في الوسط الشيعي، والجديد هو اتجاه بعض التيارات الحزبية التي انشقت عن حزب الدعوة الإسلامية كتيار الثورة الإسلامية في العراق بقيادة الشهيد محمد باقر الحكيم والذي اتخذ فيما بعد موقفاً سلبياً – من الناحية الظاهرية – من السيد فضل الله، حيث أفتى الشهيد محمد باقر الصدر بعدم أهليته للمرجعية(22)، وقد عبرت كتيبات الشيخ جلال الدين الصغير – الذي أصدرها عقب انفصاله عن حزب الدعوة وانتماؤه للثورة الإسلامية في العراق - عن هذا الاتجاه(23)، كما شهدت الساحة الشيعية حملة استفتاءات لبعض المراجع وعلماء الدين كالشيخ جواد التبريزي، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيد الروحاني، تضمنت أسئلة تحمل إجاباتها مقدماً تعتبر السيد فضل الله ضال ومضل وخارج عن المذهب، ومن الواضح أن الدافع الأساسي لمحركي هذه الحملة في اللجوء إلى فتاوى المراجع هو محاولة تجاوز فشل المواجهات الأولى ومنح حركتهم بعداً جماهيرياً في الأوساط الشيعية، ومن الواضح أنهم لجأوا إلى المرجعيات المعادية لنظرية ولاية الفقيه، وحتى لمرشد الثورة ذاته مما يشير بوضوح إلى الغرض السياسي الذي يتضمنه هذا التحرك، فمن المعروف معارضة السيد الروحاني للنظام في إيران حتى في أيام الإمام الخميني ذاته، أما الشيخ جواد تبريزي فقد عُرف عنه نظرته السلبية كذلك للثورة الإسلامية وظهر موقفه بوضوح عقب تنصيب السيد الخامنئي خلفاً للإمام الخميني عندما ترك مدينة قم تجنباً للقاء كان مقرراً بين مراجع الدين والمرشد الجديد(24).
ومن ناحية أخرى شهدت الساحة بعض المرجعيات التي سعت للدفاع عن السيد فضل الله وتعرضت للعديد من الضغوطات، كالشيخ حسين نوري همداني، والذي أفتى عقب زيارته للسيد فضل الله بـ " آية الله فضل الله عالم عامل، فقيه مجتهد، بصير مجاهد ولا أرى مصلحة في التفريط بمثل هذه الشخصية المهمة "(25)، إلا أنه وعقب عودته إلى قم تراجع عن هذه الفتوى وأصدر فتوى مناقضة لها، ومن الواضح أنه تعرض لضغوط ضخمة من قبل أتباع الشيخين الوحيد الخراساني وجواد تبرزي أجبرته على التراجع عن تأييد السيد فضل الله، وهذه الضغوط كان لها تأثيرها على بعض العلماء الآخرين(26).
وعلى الرغم من أن هناك بعض المراجع قد أيدوا السيد فضل الله، كيوسف الصانعي، وحسين علي منتظري، والصادقي الطهراني، والسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر وغيرهم، فإن الحملة استمرت بطريقة توحي بتكتل كل المرجعيات في مواجهة السيد فضل الله، حيث قام المنتفعون من الحملة بجمع بعض الاستفتاءات غير المباشرة(27) من بعض المراجع والتي تمت الإجابة عليها دون إدراك الغرض الحقيقي من الفتوى، كما تم تزوير استفتاءات أخرى ونشرها على أنها صادرة من بعض المراجع ضد السيد فضل الله، ورغم تكذيب المراجع لهذه الاستفتاءات فإن الإلحاح والصراخ الإعلامي الذي استخدم في نشرها جعلها بالنسبة لذهنية العامة أقرب للحقيقة .
وقد شهدت بعض السنوات اللاحقة حالات انقلاب في مواقف بعض العلماء كالسيد كاظم الحائري والسيد الشهيد محمد باقر الحكيم والذي اتخذا موقفاً سلبياً من السيد فضل الله في سنة 2002 م وإن لم يتجاوز الموقف إلى مرحلة التضليل حيث اكتفى معظم هذا الجانب من العلماء بعدم الاعتراف بأهلية السيد فضل الله لتولي المرجعية، وقد مثلت هذه المواقف تعبيراً عن حالة من العداء التي نشبت بين حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في سنة 2000 م حيث طالب حزب الدعوة بإلغاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وتقدموا بمشروع تشكيل مجلس إسلامي عراقي في المهجر، وقد أدت بعض هذه الخلافات إلى وجود انشقاقات سواء في حزب الدعوة الإسلامية أو في المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق(28) .
لم يكن السيد فضل الله هو المستهدف الوحيد من هذه الحملات، وإن كان هو الأكثر شهرة، فقد استهدفت هذه الحملات معظم العلماء المؤيدين للثورة الإيرانية كمرشد الثورة السيد الخامنئي، والشيخ نصار مكارم شيرازي، والشيخ حسين الراضي .
إن هذا التحول الذي شهدته الحملة ضد السيد فضل الله في سنة 1997 م إرتبط ببعض المتغيرات على الساحة، فقد بدأت الإدارة الأمريكية بترتيب أوضاعها لإقامة الشرق الأوسط الكبير مما كان يستدعي تدجين الحركات المعارضة للنفوذ الأمريكي في المنطقة وخاصة المواجهة للكيان الصهيوني وإقرار الأوضاع في الشرق الأوسط على ما هي عليه، وفي إيران وصل التيار الإصلاحي إلى السلطة في إيران، ورغم إرتباط زعامات هذا التيار بالثورة الإسلامية وأفكارها فإن وصولها إلى رأس السلطة بقيادة الرئيس السيد محمد خاتمي صاحبه حالة من الانفتاح السياسي والاقتصادي والذي أدى لعودة تغلغل نفوذ الرأسمالية الإيرانية – المعادية والمتضررة من الثورة الإسلامية - وسيطرتها على الأوضاع السياسية والاقتصادية في إيران، وقد سعت من خلال هذا التغلغل إلى الحد من سيطرة المرشد، وإفراغ الثورة الإيرانية من مضمونها ومبادئها، ومحاولة التقرب من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بطريقة أدت إلى تمييع المواقف الإيرانية وتراجع حالتها الثورية وبدت هذه الحقيقة بوضوح في إلغاء حكم الإعدام الذي أصدره الإمام الخميني ضد الكاتب البريطاني سلمان رشدي .
إن هذه المرحلة سمحت لبعض المعادين للنظام الإيراني بحرية العمل داخل إيران وفي الوسط الشيعي بسبب حالة الانشقاق داخل القيادة الإيرانية، ومن الواضح أن هذه العناصر كانت تراهن على سيطرتها بصورة حاسمة على الأوضاع في إيران(29) وبالتالي فقد صعدت حملتها على العلماء المؤيدين للثورة الإيرانية كمرشد الثورة، والسيد فضل الله، والشيخ ناصر مكارم شيرازي، والشيخ حسين الراضي .
على أن نتائج الانتخابات الأخيرة والتي أقصت التيار الإصلاحي عن السلطة ونجاح فقراء إيران في إنجاح مرشحهم محمود أحمدي نجاد الذي أُعتبر كثورة جديدة، أدى إلى تعطيل المشروعات الأمريكية الهادفة لإعادة سيطرة الرأسمال الإيراني على ألوضاع الداخلية وتدجين القيادة الإيرانية، وهو ما قد يفسر حالة التشنج التي انتابت رأسماليو إيران والإدارة الأمريكية بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، بالإضافة إلى أن نجاح الإدارة الأمريكية في غزو أفغانستان والعراق وضعها في مواجهة عسكرية مباشرة مع النظام الإيراني، مما أدى إلى حدوث بعض التغيرات في خطط الإدارة الأمريكية التي أصبحت تفضل فكرة توجيه الضربات العسكرية للنظام الإيراني.
ويبدو من الملاحظ أن الحملة ضد السيد فضل الله أو غيره من العلماء المؤيدين للثورة الإسلامية لن تتمكن من الاستمرار بنفس القوة التي اكتسبتها في المرحلة السابقة خاصة مع وجود أنباء عن مشاكل داخلية بين العناصر المشتركة في الحملة ضد السيد فضل الله، وعلى الأخص الخلاف بين الشيخ جواد تبريزي والشيخ فاضل المالكي حول دعوى الأخير حصوله على شهادة بالاجتهاد من الشيخ التبريزي والذي أنكر إصداره لهذه الشهادة، كما أن هذه الحملة لم تؤد في الواقع إلى النتائج المرجوة، فقد اتسعت مرجعية كل من السيد الخامنئي والسيد فضل الله، كما أن التغيرات التي شهدتها المنطقة لم تعد تخدم أوضاع المروجين لهذه الحملة والتي أصبحت هامشية حتى من الناحية الإعلامية، والواقع أن المرحلة الجديدة ربما تدفع بعض العلماء الذين تجنبوا التدخل في الحملة ضد السيد فضل الله إلى إبراز مواقف إيجابية ناحيته، ولعل موقف رئيس المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان عبد الأمير قبلان الأخير يعد بداية لمواقف تالية(30).

20 – م . س – ص 16 .
21 – جعفر الشاخوري البحراني – م . س – ملاحق الكتاب نقلا عن جريدة نداء الوطن عدد 4 تموز 1997 – ص 425 ، أما نص الفتوى فقد نقله إلي أحد الأصدقاء اللبنانيين .
22 – نشرت الفتوى في موقع ضلال نت www.Zalaal.net ، وهي منقولة عبر الانترنت بتاريخ 2002 م، ومن المعروف أن السيد الحكيم يمت للسيد فضل الله بصلة قرابة .
23 – ذكر أحد المقربين من السيد فضل الله للكاتب، أن الشيخ جلال الدين الصغير كان من التابعين للسيد فضل الله ، وقد حدث خلاف بينهما بسبب رغبة الشيخ جلال الدين الصغير في الحصول على بعض أموال الحقوق الشرعية لاقتناء وحدة سكنية خاصة به وهو طلب قوبل بالرفض من قبل السيد فضل الله .
24 – نشرت الاستفتاءات بموقع ضلال نت www.Zalaal.net والملاحظ أن معظمها صدر في سنة 1418 هـ ، عمار جعفر – خامنئي يؤيد فضل الله .. ولا شرعية لمراجع الأخماس – عدد 15 بتاريخ جمادى الأولى 1422 .
25 – جعفر الشاخوري البحراني – م . س – ملاحق الكتاب – ص 357 .
26 - نشر المستبصر العراقي صائب عبد الحميد حواراً له مع أحد العلماء الذين وقعوا بياناً ضد السيد فضل الله وهو السيد علي رضا الحائري، وقد تضمن الحوار نقطتان هامتان الأولى عدم إدراك السيد الحائري لغايات البيان، والثانية رفضه التراجع خشية التعرض لنقمة المرجعين حيث أن أحدهما وهو الشيخ الوحيد الخراساني صاحب أكبر درس في الحوزة ويحضره ألف طالب تقريباً، وقد نشر الحوار على الموقع www.wthqa.8m.com .
27 – يلاحظ أن بعض الاستفتاءات الموجودة على موقع ضلال نت المخصص لمواجهة مشروع السيد فضل الله ليست موجهة له، وصيغة التساؤل غالباً تكون عن بعض الأفكار التي طرحها السيد فضل الله والتي ربما يكون للمرجع الآخر رأي مخالف لها دون أن يكون له بالضرورة موقف سلبي من السيد فضل الله أو مشروعه، ويراجع على سبيل المثال الاستفتاءات الموجهة للمرجع الشيخ ناصر مكارم شيرازي، والمرجع الشيخ فاضل اللنكراني .
28 – مجلة الرأي الآخر اللندنية – السنة الخامسة عدد 50 بتاريخ 1 جمادى الثاني 1421 هـ 31 / 8 / 2000 – ص 5 ، 12 ( لابد من الإشارة إلى أن المجلة التي نشرت هذه الأخبار من المجلات الموالية للتيار الشيرازي المعادي عموماً للحالة الحزبية في الوسط الشيعي ).
29 – عباس بن نخي – السمات النسوية في الحركة الحزبية – مقال بمجلة المنبر – العدد الـ 13 بتاريخ ربيع الأول 1422 .
30 – من المعروف أن رئيس المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان السابق الشيخ محمد مهدي شمس الدين كانت له مواقف سلبية في هذه الحملة ضد السيد فضل الله بدأت من سنة 1997 م ، وهي نفس السنة التي شهدت تحول موقف السيد جعفر مرتضى العاملي وانتقاله للإقامة في بيروت وإصدارة لكتابه (مأساة الزهراء)، إلا أن الزيارات المتكررة التي قام بها الشيخ عبد الأمير قبلان مؤخرا للسيد فضل الله وما صاحبها من تصريحات تدل على تحول جوهري في موقف المجلس .

باباك خورمدين
11-08-2005, 06:37 AM
السلفية الشيعية والسلفية السُنية (مقارنة الهدف والأسلوب والمنهج) .

إن العداء الظاهري بين الأطروحتين، السلفية السُنية والسلفية الشيعية، يمثل القاعدة أساسية التي استخدمها التياران للبقاء وإضفاء المشروعية والقدسية على ما تروجانه من أفكار تحت عنوان الحفاظ على المعتقد والمذهب، على أن هذا العداء المُعلن – بشكل صاخب - يُخفي تشابهاً وتوحداً واضحاً في الأهداف والغايات التي يسعى إليها كل منهما، كما يوجد تشابهاً كذلك في الأساليب التي يلجأ إليها الطرفين في مواجهة خصومهما سواء بين أبناء المذهب أو في المذاهب الأخرى .
إن الدور الذي يلعبه الطرفين السلفيين في هذه المرحلة كشف بوضوح طبيعة الأهداف التي يسعيان لتحقيقها في المنطقة، ففي مرحلة سابقة لم تحقق المحاولات السلفية لاستفزاز الشيعة ودفعهم لدخول معركة تكفيرية مذهبية أي نجاح، وقد تعامل علماء ومثقفي الشيعة مع هذه المحاولات بقدر كبير من الوعي ساعد على تأسيس جمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية على يد الشيخ محمود شلتوت (ره) شيخ الأزهر والشيخ محمد تقي القمي لامتصاص مثل هذه المحاولات ووضع العلاقات بين ابناء الطائفتين الإسلاميتين في إطارها الصحيح، على أن قيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 م دفع الأمريكيين، بالتعاون مع بعض الحكومات العربية، إلى السعي لإحياء النشاطات السلفية السُنية مرة أخرى في محاولة لاستغلال كون إيران ذات غالبية شيعية لإقامة حواجز مذهبية تحول دون امتداد الثورة إلى الدول الإسلامية والعربية المجاورة، وقد نشرت بالفعل بعض الكتابات السلفية التكفيرية - في مصر والسعودية وشبه القارة الهندية - عندما بدأ الدور الشيعي في لبنان يتخذ مساراً مستقلاً ومُربكاً للمتحكمين التقليديين في اللعبة السياسية اللبنانية بقيادة السيد موسى الصدر والسيد محمد حسين فضل الله(1) وعندما اشتعلت الثورة الإيرانية ونجاحها في تولي السلطة، ومن هذه الكتابات " وجاء دور المجوس / عبد الله الغريب "، " سراب في إيران / أحمد الأفغاني "، " هذه هي الشيعة ماضيها وحاضرها / جابر نعمان الخضري "، " الصراع بين الإسلام والوثنية / عبد الله القصيمي "، " الشيعة وأهل البيت / إحسان إلهي ظهير "، و " الإسلام والمسلمون الأوائل .. صورتان متعارضتان / أبو الحسن الندوي "(2).
إن التغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط عقب نجاح الولايات المتحدة في ترسيخ تواجدها العسكري في المنطقة سنة 1991 م إعتمد بالأساس على إيجاد مناظر سلفي شيعي للسلفية السنية يساهم في تأجيج الاستفزاز المذهبي المتبادل بين أبناء الطائفتين، وذلك في إطار سعيها لإغراق المنطقة في النزعات العنصرية والمذهبية والدينية، وبالتالي فمن غير المستغرب أن نفس قيادات الحملة ضد الجمهورية الإسلامية والسيد فضل الله، هم القائمين على مشروعات الاستفزاز الطائفي ضد السُنة، وخاصة في منطقة الخليج العربي، كعباس بن نخي ومحمد باقر المهري وجلال الدين الصغير، وعلي كوراني(3) .
وربما يكون التشابه بين التيارين أكثر وضوحاً من ناحية الأسلوب والمنهج المستخدمان في مواجهة المخالفين، وهما يعتمدان على عدة عناصر هي إعلامية في معظمها لعل أهمها :
1 - الإستعلاء الفكري وإعتبار أطروحتهم الفكرية كمعيار معصوم لقياس مصداقية الآخر.
2 - تضخيم قضايا الخلاف الصغرى (التاريخية على سبيل المثال) واعتبارها كقضايا دينية وعقائدية وبالتالي فإن عدم الإيمان بها يمثل نوع من الهرطقة أو الردة.
3 - نشر نصوص الآخر بطريقة مبتورة ومشوهة بحيث يتم إظهاره كخارج عن مسلمات المعتقد الديني أو المذهبي.
4 - وأخيراً الصخب والإثارة الإعلامية والذي يعتمد على إعادة صياغة نفس الأفكار بطرق متنوعة غير مختلفة من ناحية المضمون .
إن شواهد التشابه في هذه العناصر بين التيارين متعددة رغم اختلاف كل منهما في التفاصيل العقائدية التي يحكمها الاختلاف المذهبي، إلا أن الذهنية والثقافة الطائفية التي يراد الترويج لها والتي تمثل الأساس الذي تتولد عنه هذه العناصر هي المتشابه الأساسي بينهما، والواقع أن مقارنة النصوص الواردة عن كلا التيارين يمثل الوسيلة الأكثر وضوحاً لاثبات هذا التشابه .
فبالنسبة للعنصر الأول، فمن الملاحظ أن التيارات السلفية في الجانبين تلجأ لاستخدام هذا الأسلوب في مقدمة كتاباتها المناهضة للتيارات الفكرية الأخرى، بحيث تمارس نوع من المصادرة الذهنية على حق القارئ في البحث عن الدوافع الحقيقية لهذه الكتابات، وتصبح القضية الفكرية قاصرة على نطاق ثبوت الاتهام أو نفيه عن الآخر، إن هذا الأسلوب يعالج حالة الضعف الفكري والفقر المنهجي التي يعاني منها الكتاب السلفيين في تعاملهم مع الأفكار المخالفة، أو على الأقل القدرة على إنتاج مشروعات فكرية بديلة، حيث يكتفون بالسعي المتعسف لإظهار تعارضها مع رؤيتهم الخاصة للدين والتي تم اعتبارها – دون دليل يقيني - الرؤية الحقيقية، كما يمكنهم من تحويل خلافهم الفكري مع الآخر إلى خلاف ديني يوجبه التكليف الشرعي.
في نقضه لأفكار الدكتور حسن بن فرحان المالكي يقول الكاتب السلفي ناصر بن حمد الفهد في المقدمة : " فقد ظهر مبتدع زيدي اسمه (حسن بن فرحان المالكي) أخذ ينفث سمومه بين أهل السنة ، وأعانه على ذلك بعض من أضله الله ، فقام بجمع ما تفرق من أقوال أهل البدع في كل باب ، وضم بعضها إلى بعض ، وطرحها بين الناس ثم صاح : هذا هو العلم ، وما درى أنه ينادي بنداء الجاهلين ، وأن فعله هذا رأس مال المفلسين !. "(4)، لقد اتهم الكاتب السلفي أطروحة د / حسن بن فرحان المالكي – قبل نقده لها - بالجهل والإفلاس والابتداع لمجرد أنها تخالف عقائده السلفية، وهذا الاتهام لا يعدو ان يكون مقدمة لتبرير مهمة النفي الفكري والعقائدي التي سيقوم بها خلال نصوص كتابه على أساس ضرورة الحفاظ على حقيقة الدين : " لذلك فاعلم – وفقك الله – أن كلامي هنا ليس حواراً مع المالكي وزمرته ولا موجهاً إليه .. إذا تبين هذا فاعلم أنني إنما كتبت هذه الرسالة لإخواني من أهل السنة ، لتكون عوناً لهم في كشف شبهات هذا الدجال "(5) .
على الجانب الشيعي لا يوجد تغير يذكر في الأسلوب، ففي نقده لأطروحات السيد فضل الله، يقول الشيخ جلال الدين الصغير في مقدمته : " ها نحن نعاود من جديد الحديث عن واحدة أخرى من تلكم المفردات التي استهدفتها الثقافة التحريفية؛ التي ما فتئت منذ برهة من الزمن من الخروج علينا بين آونة وأخرى بشيئ جديد، ليصب في قائمة جرأتها على فكر أهل البيت (ع) وابتعادها عنه، رغم محاولاتها الحثيثة لتقديم هذا الانحراف على أنه فكر مدرسة أهل البيت (ع) "(6).
إن اعتبار آراء السيد فضل الله كـ (ثقافة تحريفية) رغم اعتمادها على نفس القواعد الفقهية والتفسيرية المعروفة داخل المذهب الشيعي، لم يقم على نقد حقيقي بقدر ما قام على اختلاف رؤية السيد فضل الله مع الرؤية التي يتبناها الشيخ جلال الدين الصغير والتي اعتبرها – دون دليل واضح- المعبرة الحقيقي عن مذهب أهل البيت (ع)، وهو ما استلزم – من وجهة نظره – تكليفاً شرعياً بضرورة نفي هذا التصور من الانتماء لمذهب آل البيت (ع) : " وأياً كان الإتجاه فإنني ألمس أثراً تخريبياً كبيراً يمكن لمثل هذه الأفكار أن تتركه على بنيتنا العقائدية والوجدانية، بصورة تضعني أمام واجبي الشرعي للتصدي لتوضيح عقيدة أهل البيت (ع) وإزاحة ما يحاول البعض إلحاق بعض الرين بها، وذلك عملاً بحديث الرسول (ص) [ إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه؛ فمن لم يفعل فعليه لعنة الله] "(7).
إن تحقيق حالة النفي الفكري والديني يعتمد عند المدرستين على العناصر الثلاث التالية والتي تعد بمثابة المنهج المستخدم لإثارة حالة من الغضب والانفعال الديني أو على الأقل الريبة في ذهن المتلقي تجاه أطروحة الآخر، بحيث يقلل من نسب إحتمال إقدامه على اعتناقها .
إن العنصرين الثاني والثالث، تضخيم بعض القضايا الصغرى (التاريخية على سبيل المثال) وتحميلها أبعاداً دينية وعقائدية، نشر نصوص الآخر بطريقة مبتورة ومشوهة، هما محاولة لتجاوز فقر الأدلة الحقيقية المساعدة للطرف السلفي (سُني أو شيعي) على تحقيق أهدافه باختلاق أدلة وهمية ذات بُعد إعلامي أكثر منها عقائدي أو ديني .
في نقد د / حسن بن فهد الهويمل لآراء د / حسن المالكي حول قضية عبد الله بن سبأ والتي توصل فيها إلى عدم وجود أي تأثير حقيقي لهذه الشخصية في التراث الإسلامي، لم يحاول الدكتور الهويمل مناقشة أدلة د / المالكي واكتفى بالتأكيد على ضرورة وجود شخصية عبد الله بن سبأ في التراث الإسلامي : " لأن في نسف هذه الشخصية نسفاً لأشياء كثيرة وتفريغاً لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال شيخ الاسلام ابن تيمية وابن حجر والذهبي وغيرهما، فابن سبأ أو ابن السوداء يشكل مذهباً عقائدياً ويشكل مواقف أخرى لو تداعت لكنا أمام زلزلة تمس بنايات كثيرة "(8) .
لقد استخدم السيد جعفر مرتضى العاملي نفس هذه الحجة في مواجهة رأي السيد محمد حسين فضل الله في موضوع الاعتداء على السيدة الزهراء (ع)، حيث اعتبر أن إنكار أو تشكيك المرجع الديني السيد فضل الله لحدوث اعتداء بدني على الزهراء هو تبرئة للظالمين لها مما يعد مشكلة عقائدية : " ... فإن نفي ضرب الزهراء (ع)، معناه الصريح هو تبرئة الآخرين من الاقدام على الضرب، ونفي إسقاط الجنين، ونفي كسر الضلع ايضاً معناه تبرئتهم من ذلك، وهكذا الحال بالنسبة لإحراق البيت، واقتحامه "(9)، كما اعتبر أن مقولات السيد فضل الله تمثل خطورة على المعتقدات الشيعية : " إننا لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن ما يلزمنا من التراث هو ما ثبت لدينا بالأدلة العلمية الصحيحة، والقاطعة للعذر، على نحو يفرض علينا التمسك به، والدفاع عنه، وعدم السماح لأي كان بالمساس به، من حيث أنه يمثل حقيقة دينية وإسلامية "(10).
على أن عرض النصوص بطريقة مشوهة ومبتورة، يمثل العنصر المنهجي الأكثر شهرة وسهولة لدى السلفيين عموماً، ففي نقده لعقائد المذهب الشيعي، تناول الباحث السلفي ناصر بن عبد الله القفاري رأي الشيعة في عقيدة رؤية الله (عز وجل) ومدى اقترابها من المعتقد الإسلامي – من وجهة نظره – حيث اعتبر أن رأي الشيعة بنفي الرؤية يعد خروجاً عن ما ذهب إليه الأئمة من أهل البيت (ع) في المرويات الشيعية ذاتها والتي تؤكد ثبوت الرؤية، واستدل بهذه المروية : " روى ابن بابويه القمي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم "(11)، لقد تجاهل الباحث السلفي القفاري بقية المروية والتي لا تخدم أغراضه في تشويه المعتقد الشيعي المخالف : " ... عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، قال : " قلت له : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟
قال : نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامه !
فقلت : متى ؟
قال : حين قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى
ثم سكت ساعة، ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ! ألست تراه في وقتك هذا؟
قال أبو بصير : فقلت له : جُعلت فداك ! فأُحدث بهذا عنك ؟
فقال : لا، فإنك إن حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون "(12)، فمن الواضح أن الجزء الذي تجاهله الباحث القفاري مؤثر في اتجاه وغرض المروية عن الامام الصادق (ع).
إن هذه الممارسة التحريفية في عرض النصوص، وجدت صدى لدى الجانب الشيعي في الحملة الشهيرية التي أقامها تيار السلفية الشيعية ضد أطروحات السيد محمد حسين فضل الله، ففي نقد السيد جعفر مرتضى العاملي نقل هذا النص من كتاب فقه الشريعة للسيد فضل الله : " الشريعة هي : كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من أحاديث النبي، أو أهل بيته صلوات الله تعالى عليه وعليهم، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة، ويقابل ذلك مصطلح البدعة "(13)، وبناء على هذه القطعة فقد سجل هذه الملاحظات على السيد فضل الله : "1 ـ إن هذا النص قد أوضح بما لا مجال معه للشك أن هذا البعض مصر على العمل بالقياس، وأضرابه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة.. وغير ذلك..
فإن هذه الأمور هي مما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام..
2 ـ إن الملاحظ هو: أن هذا البعض، قد أثبت هذا النص في الطبعة الأولى، ولكنه حذفه من الطبعة الثانية. ولم ينبه على خطأه فيه، مع تصريحه بالتزامه بكل أفكاره منذ الثمانينات.. أو أنها باقية على ما هي عليه لم تتغير ولم تتبدل.
وأما سبب حذفه لهذه العبارة، فلعله إحساسه بتداعيات هذا التصريح، من خلال ردّات الفعل التي لمسها لدى أهل العلم.. حيث اعتبروا ذلك من جملة الأدلة الدامغة على سعيه لاقتحام المسلمات في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وجرّ الناس إلى ما عليه أهل المذاهب الأخرى.
3 ـ وظهر من ملاحظة جملة من مقولاته الكثيرة جداً، والتي تعدّ بالمئات والألوف: أنه حين قال: أسعى لاقتحام المسلمات، إنما كان يعني بذلك مسلمات مذهب التشيع ـ مذهب أهل البيت (عليهم السلام).. دون سواها..
4 ـ إن هذا البعض مهما حاول أن يعتذر عن مقولته السابقة، وحتى حين حذفها من الطبعة الثانية.. فإنه قد أثبت من خلال تصريحاته الأخرى، كتصريحه الذي أورده في كتاب تأملات في آفاق الأمام الكاظم عليه السلام.. أنه ملتزم بهذا الأمر. لا يبغي له بدلا، ولا عنه حولاً.
فحذفه للعبارة المذكورة من الطبعة الثانية، لا يدل على أن رأيه قد تبدل في هذا الأمر، إذ إنه لم يصرح بذلك ولا أشار إلى خطأ هذه الفكرة. لا من قريب ولا من بعيد مما يشير إلى أن هذا الحذف كان مصلحياً لا عن قناعة بفساد رأي "(14).
إن نقد السيد جعفر مرتضى العاملي إعتمد على إقتطاع جزء من عبارة متكاملة للسيد فضل الله كان ينبغي – للأمانة العلمية – أن تعرض بشكل متكامل كما دونها المؤلف وهي كالتالي : " الشريعة هي : كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من أحاديث النبي، أو أهل بيته صلوات الله تعالى عليه وعليهم، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة، ويقابل ذلك مصطلح البدعة، وهي : ما ينسب إلى الإسلام من تشريعات لم يعتمد فيها على المصادر التي سلف ذكرها "(15) إن استعراض العبارة بطريقة متكاملة توضح أن الجزء المقتطع مؤثر في توضيح المعنى بكل تأكيد، فالواضح أن السيد العاملي قام بنوعين من التحريف، الأول في تقطيع النص، والثاني في تحريف مدلوله .
لا تتضمن عبارة السيد فضل الله أي إشارة للقياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة، ولكن السيد العاملي فسر عبارته : " ، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية. ويصطلح عليه بالسنة " بأنها تتضمن شرعية الأدوات السابقة، قائلاً : " إن هذا النص قد أوضح بما لا مجال معه للشك أن هذا البعض مصر على العمل بالقياس، وأضرابه، كالاستحسان، والمصالح المرسلة.. وغير ذلك..
فإن هذه الأمور هي مما ثبت عند المذاهب الإسلامية جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام.. " على أن السيد العاملي يعرف تماماً أن مثل هذه الوسائل مما لم يثبت عند المذاهب الإسلامية – إذا فسرنا الكلمة بمفهوم السيد العاملي –(16) كمجموع جواز الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، حيث رفضتها المذاهب الشيعية كالإمامية والإسماعيلية، وربما يدل الجزء الذي لم يورده السيد العاملي من عبارة السيد فضل الله على غرضها الحقيقي حيث عرف البدعة بـ : " ما ينسب إلى الإسلام من تشريعات لم يعتمد فيها على المصادر التي سلف ذكرها " فالتشريعات المنسوبة للإسلام سواء كانت في نطاق السنة الصحيحة – من وجهة نظر السيد فضل الله – أو في نطاق البدعة اعتمدت في استنباطها على عدة وسائل لدى المذاهب المختلفة ومن ضمنها الوسائل التي يرفضها الشيعة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، فإذا كان السيد فضل الله يرى أن هناك قدر من الأحكام والتشريعات يدخل في نطاق السنة الصحيحة وآخر يدخل في نطاق البدعة، فقد كان على السيد العاملي أن يتساءل من أين أتت هذه الأحكام والتشريعات البدعية عند السيد فضل الله ؟ إن وضع السيد فضل الله للأحكام القرآنية، وأحاديث النبي والأئمة من أهل البيت (ص) كمصدر أساسي يشير إلى أن ما مقصوده من البدع هو الأحكام التي تم استنباطها عن طريق هذه الوسائل غير المُعترف بها عند أهل البيت (ع)، بالإضافة إلى أن للسيد فضل الله رأي صريح حول موضوع القياس لا يختلف عن الرأي المشهور عند الشيعة الإمامية، حيث أجاب على سؤال وجه إليه في نشرة فكر وثقافة، كيف يكون القياس ممحقة للدين ولا يكون العقل ممحقة للدين، علماً أن العقل حجة عند الشيعة، والقياس معتمد على العقل وليس أمراً مزاجياً ؟ : " أولاً : إنَّ القياس يعتمد على الظنّ { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا }(النجم/28) . أما القياس القطعي فأمره مختلف؛ فإذا علمنا أنَّ هذه هي العلّة، فإنَّ القياس المعلّل صحيح ونأخذ به، لأننا نأخذ بالقطع والقطع حجة. أما العقل عند الشيعة، فالحجّة منه هو العقل القطعي، أما العقل الظني فليس بحجة. أما أننا جميعاً نأخذ بالقياس، فذلك في الواقع وليس في التشريع. وليست هناك مشكلة في إلحاق بعض أمور الواقع بأمثالها، إذا كانت هناك قاعدة في الداخل والخارج تسمح بذلك أو تفرضه، وليس لدينا دليل شرعي على رفض ذلك، كما هو الحال في القياس في الأحكام الشرعية. ولقد قيل : ( إنَّ دين الله لا يُصاب العقول ) . فمن أين يا ترى نعرف هذه الخصوصية الموجودة في الموضوع الذي ثبت الحكم له أنها نفسها العلّة في الحكم إذا لم يحصل عندنا قطع بذلك، ولكن لا مانع من اعتباره مع حصول القطع. ولذا نقول بالقياس المنصوص العلّة، أما القياس في الأمور الخارجية، فممكن من باب أنها قضايا حياتية، مما يمكن التعرّف على الأساس الذي انطلقت منه وارتكزت عليه، ولكن لا يجوز القياس في الأمور الشرعية وفي استنتاج الحكم الشرعي من باب الظنّ بالمصلحة أو المفسدة المشتركة "(17).
ويبقى العنصر الرابع المرتبط بالمسألة الدعائية، حيث يستخدم السلفيون (سنة وشيعة) الألحاح في طرح موضوعات الخلاف كعنصر دعائي لنشر أفكارهم، وهو مع كثافته لا يحوي أي قيمة من حيث المضمون، فالملاحظ أن الكتابات السلفية في مواجهة الشيعة مع كثافتها لا تحوي أي تجديد حقيقي وليس ثمة اختلاف بين المؤلفين في الموضوعات المثارة، أو في الاستدلالات المستخدمة(18)، ويبدو أن السلفيون الشيعة قد استعاروا هذه الوسيلة من السنة في مواجهتهم للتيارات الأخرى، ففي الحملة التي شنها هذا التيار على أفكار السيد فضل الله، تم تأليف العديد من الكتب تلتقي حول موضوعات واحدة وربما أدلة واحدة في أغلب الأحيان رغم تعدد المؤلفين، كجعفر مرتضى العاملي، وجلال الدين الصغير وغيرهم .
إن هذا التوحد في الهدف والأسلوب والمنهج بين السلفيين السنة والسلفيين الشيعة إنما يشير إلى توحد آخر في الذهنية والمنبع، وأخيراً في الغاية النهائية لكلا الطرفين .

خاتمة :-
لقد حققت أجهزة الاستخبارات الراعية للسلفية الشيعية من خلال ترويجها لهذا النموذج عدة نتائج لعل أهمها إسقاط هيبة وقدسية المرجعية الشيعية، حيث أصبح هناك العديد من الأصوات التي تطالب بالعودة إلى المنهج الإخباري والتي تعكس عدم ثقة حقيقية باجتهادات العلماء المعاصرين، كما ظهرت بعض الشخصيات التي تدعي علاقة خاصة بينها وبين الذات الإلهية عن طريق الاجتباء، وهي أيضاً تمثل انعكاساً لحالة الانفصال بين المرجعية الدينية وبين القاعدة الشعبية، والنتيجة الثانية وهي الأكثر خطورة ترسيخ حالة التفتت والانقسام بين أبناء الطائفة الشيعية تمهيداً لضرب الجمهورية الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان .
على الجانب الآخر فقد أفرزت هذه المواجهة بين التيار السلفي والتيارات الأخرى تغيرات في تصور الجامهير الشيعية لدور المرجعية وشخصية المرجع الديني، وهو ما سينتج عنه تغيرات أخرى مستقبلية ربما تمثل إيجابية كبرى بين هذه السلبيات المتعددة .




1 – تعد الطائفة الشيعية هي الأكبر من ناحية العدد بين الطوائف اللبنانية، إلا أنها كانت في تلك الفترة الأقل تأثيراً والأكثر فقراً، وقد تغير هذا الوضع بشكل كبير عقب إقامة السيد فضل الله والسيد موسى الصدر في لبنان – وهما من أصول لبنانية وإن كان كل منهما قد ولد وأقام خارج لبنان لفترة طويلة - وقد قامت بعض المنظمات المتضررة بتحريض النظام الليبي على اختطاف السيد موسى الصدر، وسعت الاستخبارات الأمريكية إلى اغتيال السيد فضل الله في بئر العبد، الأمر الذي يشير إلى حجم الإرباك الذي مثله نهوض الطائفة الشيعية للأوضاع السياسية في لبنان والشرق الأوسط عموماً.
2 – فهمي هويدي – م . س – ص 325 .
3 - من الممكن إضافة مجلة المنبر الكويتية إلى هذه القائمة، وقد أدت طريقة تناولها للقضايا الخلافية إلى العديد من المشاكل في الوسط الكويتي، ومن الملفت للنظر صمت الأجهزة الأمنية الكويتية على هذه المجلة طوال الفترة الماضية .
4 – ناصر بن حمد الفهد – نقض شبهات المالكي – نسخة كومبيوترية – (بدون ذكر مكان النشر) 1422 هـ - ص 3 ، ولابد من توضيح أن الباحث حسن بن فرحان المالكي ليس زيدياً وإنما هو سني المذهب وقد اعترف هذا الكاتب بذلك واتهامه للمالكي بالزيدية ليس له أي دليل سوى أن قبيلته (بني مالك) تعيش في منطقة جيزان وهي منطقة تحوي بعض ابناء المذهب الزيدي(م . س – ص 8 ، 10 ، 11).
5 – م . س – ص 3، 4، 5 .
6 – جلال الدين علي الصغير – من عنده علم الكتاب ؟ .. دراسة نقدية لتيار تنتحر الأصالة فيه – بيروت 1998 – ص 7، 8 .
7 – م . س – ص 17 ، 18 .
8 – د . حسن بن فهد الهويمل – المالكي والتاريخ – صحيفة الرياض 4 ربيع الأول 1418 هـ - من كتاب : آراء وأصداء حول عبد الله بن سبأ وروايات سيف في الصحف السعودية – ص 106 .
9 – جعفر مرتضى العاملي – مأساة الزهراء .. شبهات وردود – بيروت 1997 – ج 1 ص 130 .
10 – م . س – ج 1 ص 30 .
11 – عبد القادر عبد الصمد – الرد على كتاب " أصول مذهب الشيعة الإثنى عشرية، للقفاري " – بيروت 2002 – ص 29 .
12 – م . س – ص 30 .
13 – جعفر مرتضى العاملي – خلفيات كتاب مأساة الزهراء (ع) – نسخة كومبيوترية بموقع الهادي - www.alhadi.org – ج 1.
14 – م . س – ج 1 .
15 – السيد محمد حسين فضل الله – فقه الشريعة – نسخة كومبيوترية – موقع بينات www.bayynat.org.lb – ج 1 ص 3.
16 – لم يحتمل السيد العاملي أن يكون غرض السيد فضل الله من عبارة المذاهب الإسلامية، هو الاتجاهات الفقهية المتبعة بين فقهاء الشيعة الإمامية .
17 – السيد محمد حسين فضل الله – المسائل الفكرية – نشرة فكر وثقافة – عدد 331 السنة السابعة بتاريخ 27 كانون الأول / 2003 (http://arabic.bayynat.org.lb/books/nadwas/fikr331Q3.htm) .
18 - الاختلاف الحقيقي يتمثل في الكم، فبينما يتوسع أحد المؤلفين السلفيين في مناقشة أحد الموضوعات المثارة بين السنة والشيعة، فإن باحث آخر ربما يتناولها باختصار.

الأمازيغي
11-08-2005, 08:14 PM
احسنت اخي موضوع رائع لكن يا حبدا لو تختصره قليلا في المرة القادمة

لا يوجد
11-08-2005, 10:33 PM
الأخ الكريم باباك خورمدين

شكرا على هذا البحث المفصل والمجهود الرائع عن السلفية الشيعية ، ولكن كما علقت فى موضوع اخر عن السلفية الشيعية فأكرر هنا ما قلته فى تلك المشاركة من ان تيار السلفية موغل في القدم فى مدارس الحوزة العلمية فى قم والنجف وليس وليد السنوات القليلة الماضية ، ويمكن التعرف على اشخاص هذا التيار عن طريق قراءة خطاباتهم التى تطفح منها المزايدات على ولاء ودين الآخرين ، وتحبيط المجاهدين .

أما الشيخان التبريزي والخرساني الذين برزا على الساحة الإسلامية ، فأتصور ان وجودهما كان ضروريا لشباب المسلمين للتعرف على ما كان يقصده الإمام الخميني من اشارته الى علماء البلاط الشاهنشاهي الذين كانوا يحاربون العلماء الحقيقين والذين قصموا ظهر رسول الله .


لذا الساحة الإسلامية اصبحت أكثر وعيا تجاه المعممين الذين يدسون السم بالعسل عن طريق استخدام إسم ( الزهراء عليها السلام ) فى حروبهم ضد المجاهدين ، فكان وجود الشيخان أفضل دليل حي على ماذهبنا اليه .

باباك خورمدين
11-09-2005, 01:04 PM
الاخوين العزيزين / الأمازيغي ، ولا يوجد
تحياتي إليكما وأشكركما كثيرا على تعليقاتكما على الموضوع .
بالنسبة لما ذكره الأخ (لا يوجد) أرجو لو كانت لديه مادة حول هذا الموضوع وتاريخه داخل الحوزات أن يطلعني عليها .
تحياتي
باباك خورمدين

لا يوجد
11-12-2005, 11:51 PM
الأخ باباك خورمدين حفظه الله

هناك الكثير من المصادر التى يمكن الإستفادة منها ، مثل كتاب الكوثر وهو من ثلاث اجزاء ويحتوى على خطب الإمام الخميني ( رض ) وتحتوي هذه الخطب على الكثير من الحوادث التى يشير اليها الإمام الى صفة المتحجرين والذين كانوا على زمنه ايام دراسته الأولى في الحوزة وبعد انتصار الثورة .

وهناك كتاب ( قبسات من حياة الإمام الخميني ) من عدة اجزاء به الكثير من الحوادث المشابهة ومنها قصص المجموعة التى كانت تسيطر على مكتب المرجع الكبير آنذاك آية الله بروجردي
، وكانت هذه المجموعة تؤثر على قرارات المرجع الى درجة ان البروجردي كان في وارد اصدار فتوى ضد ( اية الله محمد حسين الطبطبائي ) صاحب تفسير الميزان ، بسبب تدريسه للفلسفة .

واليك هذا الرابط من خطبة للإمام الخميني يتحدث فيها الى علماء الحوزة العلمية ويذكرهم ببعض الحوادث التكفيرية والفتاوي الظالمة التي واجهها .


http://www.manaar.com/vb/showthread.php?t=1246

الأمازيغي
11-27-2006, 03:12 PM
ارى انه من الافضل الكتابة عن المواقف السلبية لمشايخ التكفير من الامام الخميني و السيد خامنئي و من الثورة الاسلامية في ايران خاصة وان مشايخ التكفير معروفين بعداوتهم للثورة الاسلامية ولقادتها.