على
11-07-2005, 08:12 AM
محمد عبدالقادر الجاسم
قبل نحو سنتين او اكثر بقليل تلقيت دعوة من البروفسور المعروف فؤاد عجمي لالقاء محاضرة على طلبته في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن وقد منحني حرية اختيار الموضوع. ولأنني لا افضل القراءة من ورقة مكتوبة معدة سلفا, تركت موضوع المحاضرة حتى اللحظة الأخيرة. وفي طريقي الى الجامعة قررت ان اتحدث عن الفجوة الحضارية التي تفصل بين العرب والغرب عموما, وقررت اتخاذ الكويت كنموذج للمقارنة, اما الأسلوب فقد كان عقد مقارنة بين بعض الاحداث التي وقعت في الكويت قبل تدفق النفط واحداث معروفة في التاريخ الأمريكي في الفترة الزمنية ذاتها. وقلت للطلبة انه كي يمكنكم فهم بعض تصرفات العرب عليكم معرفة "العمر الحضاري" لهم وتحديد العصر الذي تنتمي اليه افكارهم!
حين صدر دستور دولة الكويت لم يكن "كل" افراد المجتمع يعرفون معنى كلمة دستور, كذلك لم يكن "كل" الشيوخ يتقبلون احكامه فقد كان بعضهم يراها انتقاصا للسلطة والشيخة فيما رآها بعضهم الآخر اهدارا لحكم الأسرة ونهاية له, كما ان بعض اعضاء المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور لم يكن قد سمع من قبل بمدأ الفصل بين السلطات او استقلالية القضاء مثلا.
وقد كان من الصعب اقناع بعض الشيوخ تحديدا بفكرة شعبية الوزارة وتوجه الدستور نحو تخفيض مشاركة الشيوخ في مجلس الوزراء, كما كان من الصعب عليهم هضم فكرة استقلالية النيابة العامة واختصاصها بالتحقيق والتصرف في الجنايات... ويمكن لكل من يقرأ محاضر المجلس التأسيسي ومحاضر لجنة اعداد الدستور ان يدرك الفجوة الحضارية بين توجهات ومبادىء الدستور وبين فكر بعض الشيوخ وبعض اعضاء المجلس التأسيسي. واذا كان تاريخنا قد انصف شيخ الشيوخ المغفور له عبدالله السالم, فإن الخبير الدستوري المرحوم عثمان خليل عثمان بذل جهدا كبيرا في صياغة الدستور بمواده الحالية بعد ان كان يشرح للشيوخ ولأعضاء المجلس التأسيسي مواده الواحدة تلو الأخرى, بل انه كان في الواقع يردم الهوة الثقافية والفكرية بين الدستور وبين غالبية من وضعه حيث كان عثمان خليل عثمان بمثابة "الوسيط الحضاري"!
ويصادف يوم الأحد القادم11/11/2005 الذكرى 43 لصدور الدستور, واظن انه وبهذه المناسبة يحق لنا ان نتسائل: هل اختفت الفجوة الحضارية التي "كانت" ظاهرة إبان فترة الاعداد للدستور! هل تقبل "بعض" شيوخنا الدستور بجميع مبادئه واحكامه واصبحت ممارستهم السياسية تلقائية متفقة مع الدستور... وهل ينظرون الى الدستور باعتباره وثيقة مفيدة نظمت الحياة السياسية في البلاد... هل تراهم يحرصون على التمسك به ام انهم مازالوا يعتبرونه "غلطة تاريخية" ارتكبها الشيخ عبدالله السالم!!
الاجابة ربما تكون سهلة... ومع ذلك سوف اتركها لكل من يقرأ المقال!!
اما عن نفسي فكلما قرأت في النظم السياسية وفي نظريات نشوء الدولة وتحديدا نظرية التطور الطبيعي وفكرة الدولة القانونية وظهور مبدأ الفصل بين السلطات وبداية النظام النيابي, كلما ايقنت اننا في الكويت وكل الدول العربية لم نزل نحتفظ ببعض مظاهر كل مرحلة من مراحل التطور السياسي, بمعنى اننا في الكويت مثلا نمر هذه الأيام في واحدة من مظاهر المجتمع البدائي حيث تختلط السلطة بشخص صاحب السلطة, فصاحب السلطة او رئيس الوزراء مثلا في اي نظام حكم "عصري" يمارس سلطاته دون ان تختلط صفته الرسمية بشخصيته, بمعنى ان هناك فصل بين السلطة وشخص صاحبها, فحين تقدم الحكومة مشروع قانون ويرفضه البرلمان أو حين يمرر البرلمان قانون غير مقبول من الحكومة, فإن هذا الرفض او ذلك التمرير لا يعتبر اهانة لرئيس الوزراء او كسر لهيبته او اخلال بالاحترام الواجب لشخصيته بما يتطلب التهديد بحل البرلمان او ضخ اموال لشراء الاصوات او تهديد اعضاء البرلمان ممن لديهم نقاط ضعف في ملفاتهم!! بل قد يعتبر صاحب السلطة موقف البرلمان المعارض له اشارة الى عدم تمتعه بالثقة مما يدفعه الى الاستقالة تحت تأثير احساسه المرهف كسياسى لا كصاحب سلطة, اما في الانظمة البدائية فإن شخصية صاحب السلطة تتداخل مع منصبه وتؤخذ الأمور على نحو شخصي بحت. ولأن انظمة الحكم الوراثية تعتمد اعتمادا كبيرا على السلطة الأبوية فإن "عدم الطاعة" يجلب المتاعب حيث بإمكان صاحب السلطة ان يأمر اتباعه بتعطيل مصالح "الولد غير المطيع" أو يأمر بمضايقته أو يسعى لشراء ذمته.
من جهة أخرى فإن من بين مظاهر المجتمعات البدائية "تقديس" صاحب السلطة وتنزيهه عن الخطأ والاستجابة لأوامره دون مناقشة, وفي هذه الصورة اقتراب من فكرة المصدر الآلهي للسلطة حيث يتم اعتبار ان صاحب السلطة يتصرف بوحى ممن منحه تلك السلطة وهو بالتالي غير خاضع للمحاسبة من قبل الشعب, بل يصل الغرور ببعض اصحاب السلطة الى درجة الاقتناع بأن قدراتهم في الحكم "تخب" على مستوى شعوبهم وان " محد يفهم مثلهم" ولسان حال صاحب السلطة يردد " المنة عليهم اني مسؤول عنهم" وغالبا ما تجد هذا النمط من اصحاب السلطة محاط "بكوكبة من ذباب النفاق والفساد" يتدافعون امام "صاحبهم" الذي يتظاهر بالبساطة والتواضع وحب الناس.
اما بالنسبة لنظام الانتخابات, ففي الكويت على سبيل المثال لم نزل نتباحث في كيفية التخلص من الرشوة الانتخابية والانتخابات الفرعية ونناقش توزيع الدوائر الانتخابية وكيفية توفير ضمانات اكبر لسلامة العملية الانتخابية في حين ان الكل يعلم ان هذا النقاش ليس الا من باب ذر الرماد في العيون فالحكومة تجني ثمار تلاعبها القديم في توزيع الدوائر الانتخابية وهي غير جادة في اعادة النظر في التوزيع القديم الا اذا كان التوزيع الجديد يعزز النتائج لصالحها!
ان قضايا مثل التصويت العلني وتفتيت الدوائر الانتخابية ظهرت مع بداية نظام الانتخابات ونحن لم نزل نبحث لها عن حلول, فقد ظهرت فكرة تشتيت وتفتيت الدوائر الانتخابية اول مرة عام 1812 في الولايات المتحدة الامريكية, اما التصويت العلني فقد كان محل نقاش بين مؤيد ومعارض قبل مرحلة روبسبير وبسمارك بكثير) !!
ان مظاهر التخلف السياسي الجديد الذي "ننعم" به حاليا كثيرة لا ينقصها سوى "شعور طويلة مجدلة وسيوف وفداوية" حتى تكتمل الصورة... وعلى من يحلم بدولة القانون والمؤسسات ان يواصل نومه, فالنوم افضل من عصر "الفداوية الجدد"!!
7/11/2005
قبل نحو سنتين او اكثر بقليل تلقيت دعوة من البروفسور المعروف فؤاد عجمي لالقاء محاضرة على طلبته في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن وقد منحني حرية اختيار الموضوع. ولأنني لا افضل القراءة من ورقة مكتوبة معدة سلفا, تركت موضوع المحاضرة حتى اللحظة الأخيرة. وفي طريقي الى الجامعة قررت ان اتحدث عن الفجوة الحضارية التي تفصل بين العرب والغرب عموما, وقررت اتخاذ الكويت كنموذج للمقارنة, اما الأسلوب فقد كان عقد مقارنة بين بعض الاحداث التي وقعت في الكويت قبل تدفق النفط واحداث معروفة في التاريخ الأمريكي في الفترة الزمنية ذاتها. وقلت للطلبة انه كي يمكنكم فهم بعض تصرفات العرب عليكم معرفة "العمر الحضاري" لهم وتحديد العصر الذي تنتمي اليه افكارهم!
حين صدر دستور دولة الكويت لم يكن "كل" افراد المجتمع يعرفون معنى كلمة دستور, كذلك لم يكن "كل" الشيوخ يتقبلون احكامه فقد كان بعضهم يراها انتقاصا للسلطة والشيخة فيما رآها بعضهم الآخر اهدارا لحكم الأسرة ونهاية له, كما ان بعض اعضاء المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور لم يكن قد سمع من قبل بمدأ الفصل بين السلطات او استقلالية القضاء مثلا.
وقد كان من الصعب اقناع بعض الشيوخ تحديدا بفكرة شعبية الوزارة وتوجه الدستور نحو تخفيض مشاركة الشيوخ في مجلس الوزراء, كما كان من الصعب عليهم هضم فكرة استقلالية النيابة العامة واختصاصها بالتحقيق والتصرف في الجنايات... ويمكن لكل من يقرأ محاضر المجلس التأسيسي ومحاضر لجنة اعداد الدستور ان يدرك الفجوة الحضارية بين توجهات ومبادىء الدستور وبين فكر بعض الشيوخ وبعض اعضاء المجلس التأسيسي. واذا كان تاريخنا قد انصف شيخ الشيوخ المغفور له عبدالله السالم, فإن الخبير الدستوري المرحوم عثمان خليل عثمان بذل جهدا كبيرا في صياغة الدستور بمواده الحالية بعد ان كان يشرح للشيوخ ولأعضاء المجلس التأسيسي مواده الواحدة تلو الأخرى, بل انه كان في الواقع يردم الهوة الثقافية والفكرية بين الدستور وبين غالبية من وضعه حيث كان عثمان خليل عثمان بمثابة "الوسيط الحضاري"!
ويصادف يوم الأحد القادم11/11/2005 الذكرى 43 لصدور الدستور, واظن انه وبهذه المناسبة يحق لنا ان نتسائل: هل اختفت الفجوة الحضارية التي "كانت" ظاهرة إبان فترة الاعداد للدستور! هل تقبل "بعض" شيوخنا الدستور بجميع مبادئه واحكامه واصبحت ممارستهم السياسية تلقائية متفقة مع الدستور... وهل ينظرون الى الدستور باعتباره وثيقة مفيدة نظمت الحياة السياسية في البلاد... هل تراهم يحرصون على التمسك به ام انهم مازالوا يعتبرونه "غلطة تاريخية" ارتكبها الشيخ عبدالله السالم!!
الاجابة ربما تكون سهلة... ومع ذلك سوف اتركها لكل من يقرأ المقال!!
اما عن نفسي فكلما قرأت في النظم السياسية وفي نظريات نشوء الدولة وتحديدا نظرية التطور الطبيعي وفكرة الدولة القانونية وظهور مبدأ الفصل بين السلطات وبداية النظام النيابي, كلما ايقنت اننا في الكويت وكل الدول العربية لم نزل نحتفظ ببعض مظاهر كل مرحلة من مراحل التطور السياسي, بمعنى اننا في الكويت مثلا نمر هذه الأيام في واحدة من مظاهر المجتمع البدائي حيث تختلط السلطة بشخص صاحب السلطة, فصاحب السلطة او رئيس الوزراء مثلا في اي نظام حكم "عصري" يمارس سلطاته دون ان تختلط صفته الرسمية بشخصيته, بمعنى ان هناك فصل بين السلطة وشخص صاحبها, فحين تقدم الحكومة مشروع قانون ويرفضه البرلمان أو حين يمرر البرلمان قانون غير مقبول من الحكومة, فإن هذا الرفض او ذلك التمرير لا يعتبر اهانة لرئيس الوزراء او كسر لهيبته او اخلال بالاحترام الواجب لشخصيته بما يتطلب التهديد بحل البرلمان او ضخ اموال لشراء الاصوات او تهديد اعضاء البرلمان ممن لديهم نقاط ضعف في ملفاتهم!! بل قد يعتبر صاحب السلطة موقف البرلمان المعارض له اشارة الى عدم تمتعه بالثقة مما يدفعه الى الاستقالة تحت تأثير احساسه المرهف كسياسى لا كصاحب سلطة, اما في الانظمة البدائية فإن شخصية صاحب السلطة تتداخل مع منصبه وتؤخذ الأمور على نحو شخصي بحت. ولأن انظمة الحكم الوراثية تعتمد اعتمادا كبيرا على السلطة الأبوية فإن "عدم الطاعة" يجلب المتاعب حيث بإمكان صاحب السلطة ان يأمر اتباعه بتعطيل مصالح "الولد غير المطيع" أو يأمر بمضايقته أو يسعى لشراء ذمته.
من جهة أخرى فإن من بين مظاهر المجتمعات البدائية "تقديس" صاحب السلطة وتنزيهه عن الخطأ والاستجابة لأوامره دون مناقشة, وفي هذه الصورة اقتراب من فكرة المصدر الآلهي للسلطة حيث يتم اعتبار ان صاحب السلطة يتصرف بوحى ممن منحه تلك السلطة وهو بالتالي غير خاضع للمحاسبة من قبل الشعب, بل يصل الغرور ببعض اصحاب السلطة الى درجة الاقتناع بأن قدراتهم في الحكم "تخب" على مستوى شعوبهم وان " محد يفهم مثلهم" ولسان حال صاحب السلطة يردد " المنة عليهم اني مسؤول عنهم" وغالبا ما تجد هذا النمط من اصحاب السلطة محاط "بكوكبة من ذباب النفاق والفساد" يتدافعون امام "صاحبهم" الذي يتظاهر بالبساطة والتواضع وحب الناس.
اما بالنسبة لنظام الانتخابات, ففي الكويت على سبيل المثال لم نزل نتباحث في كيفية التخلص من الرشوة الانتخابية والانتخابات الفرعية ونناقش توزيع الدوائر الانتخابية وكيفية توفير ضمانات اكبر لسلامة العملية الانتخابية في حين ان الكل يعلم ان هذا النقاش ليس الا من باب ذر الرماد في العيون فالحكومة تجني ثمار تلاعبها القديم في توزيع الدوائر الانتخابية وهي غير جادة في اعادة النظر في التوزيع القديم الا اذا كان التوزيع الجديد يعزز النتائج لصالحها!
ان قضايا مثل التصويت العلني وتفتيت الدوائر الانتخابية ظهرت مع بداية نظام الانتخابات ونحن لم نزل نبحث لها عن حلول, فقد ظهرت فكرة تشتيت وتفتيت الدوائر الانتخابية اول مرة عام 1812 في الولايات المتحدة الامريكية, اما التصويت العلني فقد كان محل نقاش بين مؤيد ومعارض قبل مرحلة روبسبير وبسمارك بكثير) !!
ان مظاهر التخلف السياسي الجديد الذي "ننعم" به حاليا كثيرة لا ينقصها سوى "شعور طويلة مجدلة وسيوف وفداوية" حتى تكتمل الصورة... وعلى من يحلم بدولة القانون والمؤسسات ان يواصل نومه, فالنوم افضل من عصر "الفداوية الجدد"!!
7/11/2005