المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استذكروا علّياً في زمن النفاق



زوربا
11-07-2005, 12:50 AM
النهار اللبنانية

المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان


قال الشعبي: "تكلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً، فقأن عيون البلاغة، وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن، ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب.

فأما اللاتي في المناجاة فقال (ع): "الهي، كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا، انت كما أحب فاجعلني كما تحب".

وأما اللاتي في الأدب فقال (ع): "قيمة كل امرئ ما يحسنه، وما هلك امرؤ عرف قدره والمرء مخبوء تحت لسانه".

واللاتي في الأدب فقال (ع): "امنن على من شئت تكن أميره، واحتج الى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره".

لنا العز ان نكون عبيداً لله، ويكفينا الفخر ان يكون لنا ربا، تماماً كما أمير المؤمنين (ع)، ولكن مع وجود الفارق. فعلي (ع) كان يعيش العبودية المطلقة لله في اعماله وقيمه وسلوكه، فكان ملتصقا بالفقراء والمحتاجين، زاهداً في الدنيا راغبا في الآخرة. لقد سأله رسول الله (ص) يوما كيف أنت اذا زهد الناس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا واكلوا التراث اكلا لما، واحبوا المال حباً جماً "، قال (ع): "اتركهم وما اختاروا واختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأصبر على مصيبات الدنيا وبلواها حتى الحق بك ان شاء الله تعالى".

قال الرسول (ص): "صدقت، اللهم افعل ذلك به".

فأمير المؤمنين (ع) كان صادقاً في أيمانه أدب نفسه، وحملها على الطاعة المطلقة لله بعد ان روضها على الايثار والبذل والانفاق واخرجها من عفن الدنيا الزائلة الى ضفاف الآخرة الخالدة.

لقد جلس (ع) مرة في سوق المدينة المنورة ومعه ابنه الحسن (ع) وهو صغير، فمر سائل مسكين، فرق (ع) له فقال للحسن (ع): "اذهب الى أمك فقل لها: تركت عندك ستة دراهم فهات منها درهماً "، فذهب الحسن (ع) الى أمه فاطمة (ع) ثم رجع الى أبيه فقال: "أمي تقول لك انما تركت ستة دراهم للدقيق" فقال علي (ع): "لا يصدق ايمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده، قل لها ابعثي بالدراهم الستة"، فبعثت بها اليه فدفعها كلها الى السائل.

هذا هو أمير المؤمنين (ع) يعرف قدره وقدر غيره، فيعطي الناس حقوقهم ويحسن اليهم، وهو يشعر بالرضا المطلق كلما أمكنه ان يسد حاجة لمحتاج. ويدرك تماما ان اقل الناس قيمة وقدراً اقلهم علما، اذ لا قيمة لأي امرئ الا ما احسنه من قول واتقنه من فعل، وهذا لا يكون الا بالعلم والحكمة، فالحكمة كلما قويت ضعفت الشهوة. اما هلاك المرء فيكون باقدامه على عمل لم يكن له ان يعمله، او على كلام لم يكن له ان يقوله.

لقد سئل أمير المؤمنين (ع) :أي شيء أحسن؟" فقال (ع): "الكلام". فسئل: "أي شيء أقبح؟" فقال (ع): "الكلام"، ثم قال (ع): "بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام أسودت الوجوه".

والحجاج لما بنى واسط، بعث الى الغضبان الشيباني وكان في سجنه، فقال له الحجاج: "كيف قبتي هذه؟" قال: "نعمت، حسنة مستوية"، قال: "اخبرني بعيبها" قال: "بنيتها في غير بلدك ولا يسكنها ولدك"، قال الحجاج: "صدق، ردوه الى السجن"، فقال الغضبان: "قد أكلني الحديد وأوهن القيود فما اطيق المشي" فقال: "احملوه" فلما حمل على الأيدي، قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين": قال: "انزلوه" فقال "رب انزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين" قال: "جروّه" فقال "بسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم" قال: "اضربوا به الارض" فقال "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى" فضحك الحجاج حتى استلقى، ثم قال: "ويحكم قد غلبني هذا الخبيث اطلقوه الى صفحي عنه" فقال الغضبان "فاصفح عنهم وقل سلام" فنجا من شره بلسانه.

كل هذا يدلّل على أن مقاتل المرء بين فكيه، أي من لسانه ورسول الله (ص) يقول: "اذا اصبح ابن آدم اصبحت الاعضاء كلها تستكفي اللسان، أي تقول اتق الله فينا فانك ان استقمت استقمنا، وان اعوججت اعوججنا". فاللسان ميزان، وهو مفتاح الخير ومفتاح الشر، يهلك وينجي، ولكن شرط ان نعرف كي نستكفيه ونتقي الله لنبلغ بأنفسنا درجة التأدب والتعفف فهي سمات المتقين ويكاد المتعففون ان يكونوا ملائكة. فكم نحن بحاجة ماسة الى صياغة انفسنا من جديد، واعادة ترتيب افكارنا التي بعثرتها شهوات الدنيا واقحمتها في المفاتن والمفاسد فجعلتنا نكثر من القول ونقلل من العمل ويا ليت ما ننطق به كان حقا وما نعمله كان صوابا بل كلاهما ينضح بالمكائد والفتن.

كم نحن بحاجة الى استحضار شخصية أمير المؤمنين (ع) واستذكاره دائما، في مواقفه وافعاله واقواله، خصوصاً ونحن نعيش واقعاً يعج بالنفاق وعدم صدق الكلام، الحقوق فيه مسروقة، والارادات فيه مسلوبة، والامانات فيه منقلب عليها، وكأننا في عالم الجهل والنفاق والتخلف، لا نحسن كلاماً ولا نصدق قولاً ولا نتقن عملاً ولا نؤتمن على مسؤولية، الفقراء منسيون، والمثقفون مهمشون، والعاقلون متهمون، ولا صوت الا للفجّار ولا قول الا للتجار سماسرة السياسة، كل ذلك على حساب وطن اصبح فيه المواطن ضحية في الزمان والمكان.