لمياء
11-06-2005, 08:25 AM
د. كامل النجار
كل فرد في الجنس البشري معرّض للخطاً، ومنهم من يعتذر عن خطئه ومنهم من تأخذه العزة بالإثم فيصّعر خده للناس. وكذلك الحكومات تخطئ كما يخطئ الأفراد، ومن الحكومات من يعتذر ومنها من يتظاهر بأن الخطأ ليس خطأها.
ففي شهر مايو المنصرم قدم رئيس الوزراء الدنماركي انديرس فوغ راسموسن اعتذار بلاده لتعاونها مع المحتل النازي خلال الحرب العالمية الثانية. وقال خلال احتفال أمام النصب التذكاري للحرب في كوبنهاغن عشية الذكرى الستين لتحرير الدنمارك على أيدي الحلفاء: "إن هذه الاعتذارات موجهة إلى اليهود ولكن أيضا إلى كل الأشخاص الآخرين الذين تركوا لمصير مجهول في ألمانيا الهتلرية بتعاون فاعل من السلطات الدنماركية." (إيلاف 5 مايو 2005). وقبل ذلك اعتذرت ألمانيا من اليهود لما فعلته بهم. وحديثاً اعتذرت اليابان إلى الصين وإلى كوريا الجنوبية عن المجازر التي ارتكبها الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية بحق المواطنين في البلدين.
وفي عام 1998 اعتذرت الحكومة الإيطالية إلى الشعب الليبي عن الفترة التي استعمرت فيها ليبيا وكانت قد نفت خمسة آلاف ليبي إلى جزر مهجورة عام 1911 في محاولة لقمع الجهاد الليبي ضد الاحتلال، وأعربت عن استعدادها لدفع تعويضات إلى الشعب الليبي عن فترة الاحتلال (إيلاف 26 أكتوبر 2005). وعندما قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في عام 2001 إنه سوف يشن حرباً صليبية ضد الإرهاب، قامت قيامة المسلمين ولم تهدأ حتى قدم الرئيس بوش اعتذاره عن استعمال كلمة " صليبية " التي لم يقصد بها الحروب الصليبية التي عفا عليها الزمن، وإنما قصد المعنى الحديث الذي اكتسبته كلمة Crusade التي أصبحت تعني "حملة لا هوادة فيها". فنحن مثلاً نقول الآن Intellectual Crusade عندما نعني حملة لا هوادة فيها من أجل الفكر. ومع ذلك اعتذر الرئيس بوش إرضاءً للمسلمين.
وإذا ما قارنا سلوك هذه الحكومات الغربية مع سلوك المسؤولين المسلمين نلاحظ الفرق بينهما. فرغم طول التاريخ الدموي الإسلامي لم نسمع عن رئيس مسلم أو شيخ ديني مسؤول قدم اعتذاراً عن المجازر والمظالم التي تعرضت لها الشعوب في البلاد العربية والأفريقية والأوربية. وبما أن المسيحية قد سبقت الإسلام بما يقارب الستمائة عام، وبما أن الإمبراطورية الرومانية التي استعمرت أوربا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط كانت قد اعتنقت المسيحية عام 325 ميلادية، فقد كانت كل البلاد التي تحت سيطرتها قد اعتنقت المسيحية قبل أن يظهر الإسلام. فكانت مصر كلها مسيحية (نصرانية) قبل أن يغزوها عمرو بن العاص. والآن يمثل المسيحيون فيها أقل من خُمس مواطنيها، ويعاملون معاملة الذميين. ولكن مع ذلك يدفن شيخ الأزهر رأسه في الرمل، ويحذو حذوه البابا شنودة، عندما يزعمان أن المجتمع المصري مجتمع متجانس لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي. وقال شيخ الأزهر في افتتاح فعاليات الدورة الأولى لمنتدى الحوار الإسلامي المسيحي بين مجلس كنائس الشرق الأوسط والمنتدى الإسلامي العالمي للحوار في مارس 2005:
" إننا هنا ننبذ التفرق والتعصب والعنصرية وسوء الظن " وجاراه البابا شنودة بقوله: " إن تلاميذ السيد المسيح كانوا يسمون (الحواريون) لأن لغة الحوار والتخاطب كانت هي السائدة بينهم وبين الآخرين." وقال: " إن مجال الحوار بيننا حول الإيجابيات وليس السلبيات كثير جدا، فنحن نتحاور من أجل أن نعمل من أجل نشر الخير وتوحيد الصفوف." ولكن عندما سُئل البابا شنودة حول ما إذا كان الحوار الإسلامي المسيحي في هذا التوقيت يأتي ردا على توتر العلاقة بين مسلمي وأقباط مصر عقب واقعتي رغبة زوجة كاهن وطبيبتين في التحول من المسيحية إلى الإسلام، رفض البابا التعليق، وقال:
" نحن نركز على الإيجابيات فقط. " (الشرق الأوسط 16 مارس 2005). وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن البابا شنودة وشيخ الأزهر لا يملكان الشجاعة الكافية لمواجهة الحقيقة الأليمة التي تؤكد أن المجتمع المصري مجتمع لا تجانس فيه بين الغالبية المسلمة والأقلية القبطية. وظهر انقسام المجتمع جلياً في أحداث كنيسة محرم بك بالإسكندرية في 21 أكتوبر 2005 التي لقي فيها شخص مصرعه وأصيب العشرات في مواجهات بين الشرطة والمحتجين الذين حاولوا اقتحام الكنيسة وأحرقوا ممتلكات الأقباط احتجاجا على عرض مسرحية قالوا إنها تسيء إلى الإسلام.
وكان المتظاهرون المسلمون الذي لم يشاهدوا المسرحية كما لم يشاهدها أئمة المساجد الذين أشعلوا حماس المصلين في خطبة الجمعة، كالثيران الهائجة يحطمون كل شئ للدفاع عن الإسلام الذي من المفترض أن يكون له ربٌ يحميه. و في أول رد فعل له على أحداث كنيسة محرم بك بالإسكندرية، دعا شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي إلى ترك الأمور للجهات القضائية التي تحقق فيها حتى تقول كلمتها، مؤكدا نزاهة القضاء المصري. وطالب شيخ الأزهر بالالتزام بالتهدئة والبعد عن أي تصرفات تسيء إلى سمعة مصر، مؤكدا أن الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين قوية وتقوم على أسس راسخة ولا يكدر صفوها أي حدث عارض. (الشرق الأوسط 23 أكتوبر 2005).
والكل يعلم أن ما قاله شيخ الأزهر لا يمت إلى الحقيقة بأي صلة، وقد أثبت معهد ابن خلدون بالإحصاءات أن الأقباط تعرضوا وما زالوا يتعرضون إلى القتل والحرق دون رادعٍ من أي سلطة أو ضمير. وقد أثبت التحقيق في أحداث الإسكندرية، حسبما أعلن المستشــار ماهــر عبد الواحــد النائب العام، أن المسرحية التي قيل إنها عرضت داخل كنيسة مارجرجس في منطقة محرم بك, وتضمنت إساءة للإسلام, لم يحدث أن عرضت أصلا, كما ثبت أنه لم يشهدها أحد, ولا استمع مواطن لإسطوانة الـC.D المدعاة. (شفاف الشرق الأوسط 4 نوفمبر 2005).
والذي يقرأ ما يتفوه به شيخ الأزهر والبابا شنودة، يعتقد أن مصر تختلف عن بقية بلاد العالم التي يعيش فيها المسيحيون مع المسلمين، إذ ليس هناك تجانس بين المسلمين والمسيحيين في أي قطر في العالم. بل أن جميع الأديان ترفض التعايش مع غيرها.فمنذ أن جاءت اليهودية، التي لم تكن ديانة تبشيرية إنما محصورة في بني إسرائيل، أصر إله موسى على إذلال القبائل الأخرى في المنطقة ودعا موسى إلى تحطيم آلهتهم ومعابدهم وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم وحتى حيواناتهم: " 3 فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً, طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً " (سفر صموئيل الأول، الإصحاح 15).
وعندما جاءت المسيحية كان اليهود أول من حاربها وشجعوا الرومان على ذلك، وبسبب تلك المواقف استمرت العداوة بين اليهودية والمسيحية حتى اليوم. وما زال البابا في روما يرفض الاعتذار لليهود باتهامهم بصلب المسيح وللتخاذل عن نصرتهم في ألمانيا النازية، ولطردهم من إسبانيا الذي قام به الملك فيردناند والملكة إيزابيلا بعد أن استرداها من المسلمين. وإسبانيا هي خير مثال لعدم إمكانية الأديان التعايش السلمي مع بعضها البعض. ففي بداية الاحتلال الإسلامي لإسبانيا لم يجبر المسلمون المسيحيين أو اليهود على اعتناق الإسلام ولكن جعلوا حياتهم لا تطاق بأن عزلوهم عن تيارات الحياة في المدن والقرى وجعلوهم مواطنين من الدرجة الثانية يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون. فدخلت أعداد كبيرة منهم الإسلام تفادياً للجزية والإذلال وطلباً لحياةٍ مادية أفضل. وعندما حاول بعض القساوسة في منتصف القرن التاسع التمسك بمعتقداتهم ومقاومة أسلمة أتباعهم، صلبهم المسلمون وعلقوا أجسادهم في أسواق قرطبة، ومن وقتها ولدت حركة الشهداء المسيحيين التي عمت الأندلس وزادت العداوة بين المسيحية والإسلام. وعلى مدى تسعة سنوات صلبوا ثمانية وأربعين قسيساً (أندرو ويتكروفت، تاريخ العداوة بين الإسلام والمسيحية Infidels، ص 78-81).
وزاد اضطهاد المسيحيين الذين فُصلوا من وظائفهم الحكومية وأجبروا على ارتداء أزياء مميزة لهم ومُنعوا من بناء أو ترميم كنائسهم إلا بإذن من السلطات (نفس المصدر، ص 85). وبقيام دولة المرابطين بقيادة يوسف بن تشفين في عام 1086م، ازداد حال المسيحيين واليهود سوءاً وازداد عزلهم وفقرهم، وتحولت أغلب كنائسهم إلى مساجد. ثم جاءت دولة الموحدين وزادت من اضطهادهم. وبسقوط قرطبة في يد الملك فردناند انعكست الآية وأصبح اليهود والمسلمون مواطنين من الدرجة الثانية وفرض عليهم الملك فردناند قيوداً في غاية الإذلال، وجعلوا من المساجد كنائساً (مسجد قرطبة الكبير أصبح كنيسة القديسة مريم) وفرضوا الجزية على المسلمين وعزلوهم مع اليهود، كما تعزل البغايا، حسب قول القسيس فينسنت فيرير (نفس المصدر ص 104). وفرض فردناد على اليهود لبس ملابس خاصة وعلى المسلمين قص شعرهم بطريقة خاصة وفرض عليهم الجزية.
وأخيراً أخرج فردناند اليهود من إسبانيا في عام 1492م وسمح للمسلمين بالخروج منها إن أرادوا أو اعتناق المسيحية. وحتى المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية عاملهم الإسبان معاملة المواطنين من الدرجة الثانية ولم يثقوا فيهم. واليوم لم يبق في إسبانيا التي احتلها المسلمون ثمانمائة عام، مسلمون من أصل إسباني إلا القليل. فالإسلام والمسيحية واليهودية لم ينجحوا في العيش في وئام مع بعضهم البعض في قطر واحد.
ومنذ منتصف القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن السادس عشر صال الأتراك العثمانيون في أوربا من بودابست إلى البلقان وذبحوا وقتلوا المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس واليهود في صربيا والجبل الأسود والبوسنة وبلغاريا والمجر، وحولوا الكنائس إلى مساجد وفرضوا الجزية على الجميع. وبإدخالهم الإسلام إلى منطقة تعاني أصلاً من الشقاق بين المسيحيين الأرثودكس والمسيحيين الكاثوليك أدخل العثمانيون الفتيلة في برميل البارود الذي انفجر بعد سقوط الشيوعية وتفتيت جمهورية يوغسلافيا. فارتكبت كل طائفة جرائم لا تغتفر بحق الفئتين الأخريين، فذبحوا وحرقوا وسجنوا وجوعوا المخالفين لهم في العقيدة. وربما أبادوا بعضهم بعضاً لولا تدخل أمريكا وبريطانيا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي ثم الأمم المتحدة.
وإذا نظرنا في العالم العربي، نجد سوريا التي كانت مسيحية عن بكرة أبيها أيام الإمبراطورية الرومانية، أصبح المسيحيون فيها أقلية مضطهدة لا يشاركون في الحكم. بل تعرضوا إلى محاولة الإبادة عدة مرات. فمثلاً في عام 1860 بدأت مناوشات بين الدروز والمسيحيين الموارنة في شمال لبنان ثم امتدت إلى سوريا وأصبحت حرباً أهلية قُتل فيها الآلاف من المسيحيين في دمشق والتجأ 12000 منهم إلى القائد الجزائري عبد القادر الذي كان منفياً في دمشق وقتها، فحماهم حرسه الخاص إلى أن تدخلت السلطات العثمانية وأرسلت فؤاد باشا لتهدئة الموقف، وتدخلت بريطانيا وفرنسا لمنع تكرار الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة. وهذا القتل والاضطهاد حدا بالمسيحيين إلى إدخال فكرة البعث العربي التي أرادوا بها أن يكون تصنيفهم عرقياً حتى يصبحوا جزءاً من الغالبية بدل تصنيفهم عقائدياً مما أدخلهم في عداد الأقليات المضطهدة. أما العراق الذي كانت النصرانية دينه الرسمي قبل مجئ الإسلام، وحاول نصاراه أن يصادقوا النبي محمد و جرت اتصالات بينهم والنبي محمد، و هناك خبر يتناقله شيوخ صابئة عن إتصال رئيس كهنتم بالعراق بالنبي محمد أيضاً.
ومن أخبار تلك المصادر أن الجاثليق ايشوعياب، رئيس الكنيسة الشرقية في بدايات الإسلام، بعث برسالة وهدايا إلى النبي، حملها إليه أسقف ميسان أو فرات ميسان (البصرة) (رشيد الخيون، إيلاف 2 أغسطس 2004) إلا أن المسيحيين أصبحوا فيه كذلك أقلية مضطهدة رغم بروزهم في العلم والترجمة والتجارة والحرف الصناعية. عشرون قرناً ونصارى العراق يخدمون العراق ثقافة وطباً وترجمة وفلاحة، لم نقرأ كتاب فلسفة أو علم إلا من ترجمتهم، تحملوا، مثل باقي الأديان الأخرى، شروط الفقهاء المتشددين العمرية، وصغروا عند دفع الجزية، تحملوا مزاج أمراء وخلفاء فرضوا بلبس الزنانير، والحرمان من ركوب الخيول ودخول الحمامات، وأمتثلوا للوائح إذلاهم، مثل تعليق شارات الإهانة على أبواب منازلهم. ورغم ذلك ظلوا بعراقهم وعلى دينهم، يتجنبون مواقع الإيذاء والضرر بهم، حتى تطبعوا على الصبر والصمت (نفس المصدر).
ولم يكن لمسيحيي العراق أي نصيب في إدارة الدولة مما زاد في عزلتهم وجعل الهجرة إلى ديترويت خياراً مفضلاً منذ بداية القرن العشرين. وبمجرد أن انهار النظام في العراق صوب فقهاء الإرهاب بنادقهم ومتفجراتهم نحو الأقلية المسيحية المتبقية بالعراق فنسفوا كنائسهم وأحرقوا متاجرهم مما اضطرهم إلى النزوح من العراق. وقد هاجر من العراق منذ سقوط النظام ما لا يقل عن أربعين ألفاً من المسيحيين (بسكال إيشو وردة، وزيرة المغتربين، الشرق الأوسط 15 أغسطس 2004). وقبل ذلك أجبر العراقيون يهود العراق على الهجرة إلى إسرائيل عندما بدؤوا " الفرهود " ضدهم في الخمسينات من القرن المنصرم، ثم اعتقلت الحكومة الآلاف من اليهود وسجنتهم لتجبرهم على الهجرة. وبعد أن فرغ العراق من اليهود وهاجر جزء كبير من المسيحيين، تناحر السنة والشيعة فيما بينهم.
أما تركيا التي كانت مهد الدولة البيزنطية النصرانية قبل مجي الإسلام، تعرض النصارى فيها إلى حملات متكررة وحصارٍ دام عدة سنوات شهدت فيها القسطنطينية وما جاورها مذابح وفظائع ارتكبها الصليبيون في حملاتهم المتكررة لمساعدة المسيحيين، والمسلمون في الحملات التي كرروها مراراً لفتح المدينة. ولم تكن فظائع المسلمين في المرات التي انتصروا فيها أقل وحشيةً من فظائع الصليبيين.
وأخيراً سقطت القسطنطينية نهائياً إلى السلطان محمد الفاتح في عام 1453م. وكالعادة أبيحت المدينة ثلاثة أيام سالت فيها الدماء أنهاراً واغتصبت فيها النساء. وتحولت كنائسها إلى مساجد وأصبح اضطهاد النصارى واليهود أمراً معتاداً. فأسلم بعضهم تفادياً للاضطهاد وهاجر بعضهم إلى أرمينيا. وظلت العداوة بين المسيحية والإسلام واليهودية ناراً تحت الرماد إلى أن اشتعلت في عام 1915 وأدت إلى مذبحة الأرمن المعروفة. وحتى في هذا القرن لم تسلم البقية الباقية من كنائس المسيحيين واليهود من التفجيرات وإسالة الدماء.
والقدس مهد المسيحية واليهودية كانت مليئة بالكنائس والمعابد اليهودية حتى بعد أن فتحها المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب. ثم جاء الخليفة الفاطمي الحكيم فسلط غضبه على المسيحيين واليهود بالقدس في عام 1013م وأمر بتدمير كنائسهم ومعابدهم، فحطموا جزءاً من كنيسة القيامة وهدموا الكنائس الصغرى مثل كنيسة القديسة مريم على جبل الزيتون وكنيسة القديسة آن. ثم أمر الخليفة الحكيم أن يرتدي النصارى الأورثودكس والأقباط لباساً أسوداً وأن يدلّوا من أعناقهم صلبان خشبية كبيرة (نصف متر طولاً ونصف متر عرضاً) وأمر اليهود أن يلبسوا أجراساً حول أعناقهم. وأدى هذا إلى بداية الحروب الصليبية التي استمرت عدة سنوات وأدت إلى إراقة دماء المسلمين والنصارى في دورات. وما زالت المدينة نقطة احتكاك بين الديانات الثلاثة.
وفي السودان الذي كان ممالكاً مسيحية حتى القرن الرابع عشر الميلادي، حاولت حكوماته المتعددة إبادة المسيحيين الجنوبيين منذ أن نال السودان استقلاله من المملكة المتحدة في خمسينات القرن الماضي. وخيراً جاءت حكومة الأخوان المسلمين تحت قيادة الجنرال البشير وعرافه حسن الترابي فأعلنوا الجهاد المقدس ضد الجنوب وضد غرب السودان (دارفور) الذي تسكنه قبائل غير عربية وغير مسلمة في أغلبها. ولولا الضغط الأمريكي على السودان لاستمر الجهاد حتى القضاء على المسيحيين. ولم يكن يهود ومسيحيو دول المغرب أحسن حظاً من إخوانهم يهود ومسيحيي البلاد العربية الأخرى، فاضطروا إلى الهجرة إما إلى إسرائيل أو إلى الغرب، وأبحت كنائسهم ومعابدهم مساجداً أو متاحفاً. ونفس الرواية تعاد فصولها في نيجريا التي يسكن شمالها المسلمون وجنوبها المسيحيون. ومنذ استقلال نيجريا عن التاج البريطاني ظلت التوترات والمجازر بين المسيحيين والمسلمين تتكرر برتابةٍ مملة.
وفي باكستان تعاني الأقبية المسيحية من اضطهاد الأكثرية المسلمة وانتشرت حديثاً موضة تفجير الكنائس بمن فيها مع بداية الصحوة الإسلامية. وعندما يعجزون عن تفجير الكنائس بسبب الحراسة المشددة، يفجر السنة مساجد الشيعة في كراتشي وغيرها، ويرد الشيعة بالمثل. وتتكرر القصة في الفلبين بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية المسلمة وتنشط جماعة أبي سياف المسلمة في قتل واختطاف المسيحيين. وفي إندونيسيا تثور الغالبية المسلمة وتفجر وتحرق كنائس ومتاجر الأقلية المسيحية.
وقد ارتكب الجيش الإندونيسي مجازراً في تيمور الشرقية المسيحية قبل أن تتدخل الأمم المتحدة. وحتى في الهند ذات الديانة الهندوسية المسالمة، تفجرت الخلافات والاغتيالات بين السيخ والهندوس عندما حاول الهندوس حرق معبد السيخ في أمرستار. ثم أحرق المسلمون قطاراً يحمل حجاجاً من السيخ فأحرق السيخ مساجد المسلمين. وتتكرر المأساة بشكل يومي في كشمير التي يحكم نصفها الغربي حكومة باكستان المسلمة ونصفها الشرقي حكومة الهند. وتتكرر القصة كذلك في الصين وروسيا وجمهوريات القوقاز. فلم يحدث أن تعايشت الأديان في سلام في أي بلد في العالم إلا حديثاً في البلاد التي فصلت الدين عن الدولة.
ففي مصر سوف تستمر العداوة بين الأقلية القبطية والغالبية المسلمة، رغم تصريحات شيخ الأزهر والبابا شنودة التي تزعم أن الأقباط والمسلمين يعيشون في وئام مع أن الرئيس الراحل أنور السادات كان قد اعترف في خطابه بتاريخ 28 سبتمبر 1977 بوجود أزمة طائفية متفجرة. ويجب التنويه إلى أن مشكلة الأقباط في مصر هي جزء من مشكلة الشعب المصري ككل الذي يعيش حياة التهميش السياسي والمعيشي.
ولتفادي تكرار ما حدث في الإسكندرية يجب على القادة الدينيين والسياسيين أن يتحلوا بالشجاعة لاتخاذ الخطوات اللازمة لتغيير المناهج التعليمية التي تزرع بذور الخلاف والفتنة بين الأديان. فكان حرياً بشيخ الأزهر أن يجابه المتعصبين في أروقة الأزهر ويغير المناهج التي قال عنها د. خالد منتصر: " فلو قرأنا المكتوب فى صفحة 199 مثلاً (من كتاب الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) سنعرف السبب، يقول الكتاب فى باب عقد الذمة وأحكامها " معنى عقد الذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية... ويمتهنون عند أخذ الجزية ويطال وقوفهم وتجر أيديهم وجوباً لقوله تعالى " وهم صاغرون "، وفى ص 2.. يأخذ التمييز الدينى صورة بشعة لو طبقت ستؤدى بالمجتمع إلى التهلكة فيوصى الكتاب بألا يدفنوا فى مقابرنا ولابد من حذف مقدم رؤوسهم وشد الزنار ودخول الحمامات بجلجل أو خاتم رصاص برقابهم ويركبون الحمير لا الأحصنة وبغير سرج، ولايجوز تصديرهم فى المجالس ولا القيام لهم ولا مبادئتهم بالسلام ولاتهنئتهم ولاتعزيتهم أو عيادتهم ويمنعون من إظهار ناقوسهم ويلجئون إلى أضيق الطريق. " (إيلاف 6 فبراير 2004). وينسحب نفس الشئ على البابا شنودة وعلى الحكومة المصرية. والحل النهائي في رأيي هو الإصلاح السياسي أولاً الذي يسمح بحياة ديمقراطية حقاً، ثم فصل الدين عن الدولة حتى يتساوى المواطنون في نظر القانون المدني وليس السماوي.
وتعديل الدستور المصري وحذف الفقرة التي تقول إن الإسلام دين الدولة الرسمي، فالدولة لا دين لها. الدين للأفراد فقط. ويجب إزالة خانة الديانة من البطاقة الشخصية. فهذه المعلومة لا يستفيد منها إلا العاكفون على التمييز الديني. وعلى المسؤولين الحكوميين التشاور مع المفكرين الأقباط بدلاً من التشاور مع البابا شنودة في أمور الأقباط المدنية، كما قال السيد كمال غبريال في إحدى مقالاته في إيلاف.
كل فرد في الجنس البشري معرّض للخطاً، ومنهم من يعتذر عن خطئه ومنهم من تأخذه العزة بالإثم فيصّعر خده للناس. وكذلك الحكومات تخطئ كما يخطئ الأفراد، ومن الحكومات من يعتذر ومنها من يتظاهر بأن الخطأ ليس خطأها.
ففي شهر مايو المنصرم قدم رئيس الوزراء الدنماركي انديرس فوغ راسموسن اعتذار بلاده لتعاونها مع المحتل النازي خلال الحرب العالمية الثانية. وقال خلال احتفال أمام النصب التذكاري للحرب في كوبنهاغن عشية الذكرى الستين لتحرير الدنمارك على أيدي الحلفاء: "إن هذه الاعتذارات موجهة إلى اليهود ولكن أيضا إلى كل الأشخاص الآخرين الذين تركوا لمصير مجهول في ألمانيا الهتلرية بتعاون فاعل من السلطات الدنماركية." (إيلاف 5 مايو 2005). وقبل ذلك اعتذرت ألمانيا من اليهود لما فعلته بهم. وحديثاً اعتذرت اليابان إلى الصين وإلى كوريا الجنوبية عن المجازر التي ارتكبها الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية بحق المواطنين في البلدين.
وفي عام 1998 اعتذرت الحكومة الإيطالية إلى الشعب الليبي عن الفترة التي استعمرت فيها ليبيا وكانت قد نفت خمسة آلاف ليبي إلى جزر مهجورة عام 1911 في محاولة لقمع الجهاد الليبي ضد الاحتلال، وأعربت عن استعدادها لدفع تعويضات إلى الشعب الليبي عن فترة الاحتلال (إيلاف 26 أكتوبر 2005). وعندما قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في عام 2001 إنه سوف يشن حرباً صليبية ضد الإرهاب، قامت قيامة المسلمين ولم تهدأ حتى قدم الرئيس بوش اعتذاره عن استعمال كلمة " صليبية " التي لم يقصد بها الحروب الصليبية التي عفا عليها الزمن، وإنما قصد المعنى الحديث الذي اكتسبته كلمة Crusade التي أصبحت تعني "حملة لا هوادة فيها". فنحن مثلاً نقول الآن Intellectual Crusade عندما نعني حملة لا هوادة فيها من أجل الفكر. ومع ذلك اعتذر الرئيس بوش إرضاءً للمسلمين.
وإذا ما قارنا سلوك هذه الحكومات الغربية مع سلوك المسؤولين المسلمين نلاحظ الفرق بينهما. فرغم طول التاريخ الدموي الإسلامي لم نسمع عن رئيس مسلم أو شيخ ديني مسؤول قدم اعتذاراً عن المجازر والمظالم التي تعرضت لها الشعوب في البلاد العربية والأفريقية والأوربية. وبما أن المسيحية قد سبقت الإسلام بما يقارب الستمائة عام، وبما أن الإمبراطورية الرومانية التي استعمرت أوربا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط كانت قد اعتنقت المسيحية عام 325 ميلادية، فقد كانت كل البلاد التي تحت سيطرتها قد اعتنقت المسيحية قبل أن يظهر الإسلام. فكانت مصر كلها مسيحية (نصرانية) قبل أن يغزوها عمرو بن العاص. والآن يمثل المسيحيون فيها أقل من خُمس مواطنيها، ويعاملون معاملة الذميين. ولكن مع ذلك يدفن شيخ الأزهر رأسه في الرمل، ويحذو حذوه البابا شنودة، عندما يزعمان أن المجتمع المصري مجتمع متجانس لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي. وقال شيخ الأزهر في افتتاح فعاليات الدورة الأولى لمنتدى الحوار الإسلامي المسيحي بين مجلس كنائس الشرق الأوسط والمنتدى الإسلامي العالمي للحوار في مارس 2005:
" إننا هنا ننبذ التفرق والتعصب والعنصرية وسوء الظن " وجاراه البابا شنودة بقوله: " إن تلاميذ السيد المسيح كانوا يسمون (الحواريون) لأن لغة الحوار والتخاطب كانت هي السائدة بينهم وبين الآخرين." وقال: " إن مجال الحوار بيننا حول الإيجابيات وليس السلبيات كثير جدا، فنحن نتحاور من أجل أن نعمل من أجل نشر الخير وتوحيد الصفوف." ولكن عندما سُئل البابا شنودة حول ما إذا كان الحوار الإسلامي المسيحي في هذا التوقيت يأتي ردا على توتر العلاقة بين مسلمي وأقباط مصر عقب واقعتي رغبة زوجة كاهن وطبيبتين في التحول من المسيحية إلى الإسلام، رفض البابا التعليق، وقال:
" نحن نركز على الإيجابيات فقط. " (الشرق الأوسط 16 مارس 2005). وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن البابا شنودة وشيخ الأزهر لا يملكان الشجاعة الكافية لمواجهة الحقيقة الأليمة التي تؤكد أن المجتمع المصري مجتمع لا تجانس فيه بين الغالبية المسلمة والأقلية القبطية. وظهر انقسام المجتمع جلياً في أحداث كنيسة محرم بك بالإسكندرية في 21 أكتوبر 2005 التي لقي فيها شخص مصرعه وأصيب العشرات في مواجهات بين الشرطة والمحتجين الذين حاولوا اقتحام الكنيسة وأحرقوا ممتلكات الأقباط احتجاجا على عرض مسرحية قالوا إنها تسيء إلى الإسلام.
وكان المتظاهرون المسلمون الذي لم يشاهدوا المسرحية كما لم يشاهدها أئمة المساجد الذين أشعلوا حماس المصلين في خطبة الجمعة، كالثيران الهائجة يحطمون كل شئ للدفاع عن الإسلام الذي من المفترض أن يكون له ربٌ يحميه. و في أول رد فعل له على أحداث كنيسة محرم بك بالإسكندرية، دعا شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي إلى ترك الأمور للجهات القضائية التي تحقق فيها حتى تقول كلمتها، مؤكدا نزاهة القضاء المصري. وطالب شيخ الأزهر بالالتزام بالتهدئة والبعد عن أي تصرفات تسيء إلى سمعة مصر، مؤكدا أن الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين قوية وتقوم على أسس راسخة ولا يكدر صفوها أي حدث عارض. (الشرق الأوسط 23 أكتوبر 2005).
والكل يعلم أن ما قاله شيخ الأزهر لا يمت إلى الحقيقة بأي صلة، وقد أثبت معهد ابن خلدون بالإحصاءات أن الأقباط تعرضوا وما زالوا يتعرضون إلى القتل والحرق دون رادعٍ من أي سلطة أو ضمير. وقد أثبت التحقيق في أحداث الإسكندرية، حسبما أعلن المستشــار ماهــر عبد الواحــد النائب العام، أن المسرحية التي قيل إنها عرضت داخل كنيسة مارجرجس في منطقة محرم بك, وتضمنت إساءة للإسلام, لم يحدث أن عرضت أصلا, كما ثبت أنه لم يشهدها أحد, ولا استمع مواطن لإسطوانة الـC.D المدعاة. (شفاف الشرق الأوسط 4 نوفمبر 2005).
والذي يقرأ ما يتفوه به شيخ الأزهر والبابا شنودة، يعتقد أن مصر تختلف عن بقية بلاد العالم التي يعيش فيها المسيحيون مع المسلمين، إذ ليس هناك تجانس بين المسلمين والمسيحيين في أي قطر في العالم. بل أن جميع الأديان ترفض التعايش مع غيرها.فمنذ أن جاءت اليهودية، التي لم تكن ديانة تبشيرية إنما محصورة في بني إسرائيل، أصر إله موسى على إذلال القبائل الأخرى في المنطقة ودعا موسى إلى تحطيم آلهتهم ومعابدهم وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم وحتى حيواناتهم: " 3 فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً, طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً " (سفر صموئيل الأول، الإصحاح 15).
وعندما جاءت المسيحية كان اليهود أول من حاربها وشجعوا الرومان على ذلك، وبسبب تلك المواقف استمرت العداوة بين اليهودية والمسيحية حتى اليوم. وما زال البابا في روما يرفض الاعتذار لليهود باتهامهم بصلب المسيح وللتخاذل عن نصرتهم في ألمانيا النازية، ولطردهم من إسبانيا الذي قام به الملك فيردناند والملكة إيزابيلا بعد أن استرداها من المسلمين. وإسبانيا هي خير مثال لعدم إمكانية الأديان التعايش السلمي مع بعضها البعض. ففي بداية الاحتلال الإسلامي لإسبانيا لم يجبر المسلمون المسيحيين أو اليهود على اعتناق الإسلام ولكن جعلوا حياتهم لا تطاق بأن عزلوهم عن تيارات الحياة في المدن والقرى وجعلوهم مواطنين من الدرجة الثانية يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون. فدخلت أعداد كبيرة منهم الإسلام تفادياً للجزية والإذلال وطلباً لحياةٍ مادية أفضل. وعندما حاول بعض القساوسة في منتصف القرن التاسع التمسك بمعتقداتهم ومقاومة أسلمة أتباعهم، صلبهم المسلمون وعلقوا أجسادهم في أسواق قرطبة، ومن وقتها ولدت حركة الشهداء المسيحيين التي عمت الأندلس وزادت العداوة بين المسيحية والإسلام. وعلى مدى تسعة سنوات صلبوا ثمانية وأربعين قسيساً (أندرو ويتكروفت، تاريخ العداوة بين الإسلام والمسيحية Infidels، ص 78-81).
وزاد اضطهاد المسيحيين الذين فُصلوا من وظائفهم الحكومية وأجبروا على ارتداء أزياء مميزة لهم ومُنعوا من بناء أو ترميم كنائسهم إلا بإذن من السلطات (نفس المصدر، ص 85). وبقيام دولة المرابطين بقيادة يوسف بن تشفين في عام 1086م، ازداد حال المسيحيين واليهود سوءاً وازداد عزلهم وفقرهم، وتحولت أغلب كنائسهم إلى مساجد. ثم جاءت دولة الموحدين وزادت من اضطهادهم. وبسقوط قرطبة في يد الملك فردناند انعكست الآية وأصبح اليهود والمسلمون مواطنين من الدرجة الثانية وفرض عليهم الملك فردناند قيوداً في غاية الإذلال، وجعلوا من المساجد كنائساً (مسجد قرطبة الكبير أصبح كنيسة القديسة مريم) وفرضوا الجزية على المسلمين وعزلوهم مع اليهود، كما تعزل البغايا، حسب قول القسيس فينسنت فيرير (نفس المصدر ص 104). وفرض فردناد على اليهود لبس ملابس خاصة وعلى المسلمين قص شعرهم بطريقة خاصة وفرض عليهم الجزية.
وأخيراً أخرج فردناند اليهود من إسبانيا في عام 1492م وسمح للمسلمين بالخروج منها إن أرادوا أو اعتناق المسيحية. وحتى المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية عاملهم الإسبان معاملة المواطنين من الدرجة الثانية ولم يثقوا فيهم. واليوم لم يبق في إسبانيا التي احتلها المسلمون ثمانمائة عام، مسلمون من أصل إسباني إلا القليل. فالإسلام والمسيحية واليهودية لم ينجحوا في العيش في وئام مع بعضهم البعض في قطر واحد.
ومنذ منتصف القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن السادس عشر صال الأتراك العثمانيون في أوربا من بودابست إلى البلقان وذبحوا وقتلوا المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس واليهود في صربيا والجبل الأسود والبوسنة وبلغاريا والمجر، وحولوا الكنائس إلى مساجد وفرضوا الجزية على الجميع. وبإدخالهم الإسلام إلى منطقة تعاني أصلاً من الشقاق بين المسيحيين الأرثودكس والمسيحيين الكاثوليك أدخل العثمانيون الفتيلة في برميل البارود الذي انفجر بعد سقوط الشيوعية وتفتيت جمهورية يوغسلافيا. فارتكبت كل طائفة جرائم لا تغتفر بحق الفئتين الأخريين، فذبحوا وحرقوا وسجنوا وجوعوا المخالفين لهم في العقيدة. وربما أبادوا بعضهم بعضاً لولا تدخل أمريكا وبريطانيا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي ثم الأمم المتحدة.
وإذا نظرنا في العالم العربي، نجد سوريا التي كانت مسيحية عن بكرة أبيها أيام الإمبراطورية الرومانية، أصبح المسيحيون فيها أقلية مضطهدة لا يشاركون في الحكم. بل تعرضوا إلى محاولة الإبادة عدة مرات. فمثلاً في عام 1860 بدأت مناوشات بين الدروز والمسيحيين الموارنة في شمال لبنان ثم امتدت إلى سوريا وأصبحت حرباً أهلية قُتل فيها الآلاف من المسيحيين في دمشق والتجأ 12000 منهم إلى القائد الجزائري عبد القادر الذي كان منفياً في دمشق وقتها، فحماهم حرسه الخاص إلى أن تدخلت السلطات العثمانية وأرسلت فؤاد باشا لتهدئة الموقف، وتدخلت بريطانيا وفرنسا لمنع تكرار الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة. وهذا القتل والاضطهاد حدا بالمسيحيين إلى إدخال فكرة البعث العربي التي أرادوا بها أن يكون تصنيفهم عرقياً حتى يصبحوا جزءاً من الغالبية بدل تصنيفهم عقائدياً مما أدخلهم في عداد الأقليات المضطهدة. أما العراق الذي كانت النصرانية دينه الرسمي قبل مجئ الإسلام، وحاول نصاراه أن يصادقوا النبي محمد و جرت اتصالات بينهم والنبي محمد، و هناك خبر يتناقله شيوخ صابئة عن إتصال رئيس كهنتم بالعراق بالنبي محمد أيضاً.
ومن أخبار تلك المصادر أن الجاثليق ايشوعياب، رئيس الكنيسة الشرقية في بدايات الإسلام، بعث برسالة وهدايا إلى النبي، حملها إليه أسقف ميسان أو فرات ميسان (البصرة) (رشيد الخيون، إيلاف 2 أغسطس 2004) إلا أن المسيحيين أصبحوا فيه كذلك أقلية مضطهدة رغم بروزهم في العلم والترجمة والتجارة والحرف الصناعية. عشرون قرناً ونصارى العراق يخدمون العراق ثقافة وطباً وترجمة وفلاحة، لم نقرأ كتاب فلسفة أو علم إلا من ترجمتهم، تحملوا، مثل باقي الأديان الأخرى، شروط الفقهاء المتشددين العمرية، وصغروا عند دفع الجزية، تحملوا مزاج أمراء وخلفاء فرضوا بلبس الزنانير، والحرمان من ركوب الخيول ودخول الحمامات، وأمتثلوا للوائح إذلاهم، مثل تعليق شارات الإهانة على أبواب منازلهم. ورغم ذلك ظلوا بعراقهم وعلى دينهم، يتجنبون مواقع الإيذاء والضرر بهم، حتى تطبعوا على الصبر والصمت (نفس المصدر).
ولم يكن لمسيحيي العراق أي نصيب في إدارة الدولة مما زاد في عزلتهم وجعل الهجرة إلى ديترويت خياراً مفضلاً منذ بداية القرن العشرين. وبمجرد أن انهار النظام في العراق صوب فقهاء الإرهاب بنادقهم ومتفجراتهم نحو الأقلية المسيحية المتبقية بالعراق فنسفوا كنائسهم وأحرقوا متاجرهم مما اضطرهم إلى النزوح من العراق. وقد هاجر من العراق منذ سقوط النظام ما لا يقل عن أربعين ألفاً من المسيحيين (بسكال إيشو وردة، وزيرة المغتربين، الشرق الأوسط 15 أغسطس 2004). وقبل ذلك أجبر العراقيون يهود العراق على الهجرة إلى إسرائيل عندما بدؤوا " الفرهود " ضدهم في الخمسينات من القرن المنصرم، ثم اعتقلت الحكومة الآلاف من اليهود وسجنتهم لتجبرهم على الهجرة. وبعد أن فرغ العراق من اليهود وهاجر جزء كبير من المسيحيين، تناحر السنة والشيعة فيما بينهم.
أما تركيا التي كانت مهد الدولة البيزنطية النصرانية قبل مجي الإسلام، تعرض النصارى فيها إلى حملات متكررة وحصارٍ دام عدة سنوات شهدت فيها القسطنطينية وما جاورها مذابح وفظائع ارتكبها الصليبيون في حملاتهم المتكررة لمساعدة المسيحيين، والمسلمون في الحملات التي كرروها مراراً لفتح المدينة. ولم تكن فظائع المسلمين في المرات التي انتصروا فيها أقل وحشيةً من فظائع الصليبيين.
وأخيراً سقطت القسطنطينية نهائياً إلى السلطان محمد الفاتح في عام 1453م. وكالعادة أبيحت المدينة ثلاثة أيام سالت فيها الدماء أنهاراً واغتصبت فيها النساء. وتحولت كنائسها إلى مساجد وأصبح اضطهاد النصارى واليهود أمراً معتاداً. فأسلم بعضهم تفادياً للاضطهاد وهاجر بعضهم إلى أرمينيا. وظلت العداوة بين المسيحية والإسلام واليهودية ناراً تحت الرماد إلى أن اشتعلت في عام 1915 وأدت إلى مذبحة الأرمن المعروفة. وحتى في هذا القرن لم تسلم البقية الباقية من كنائس المسيحيين واليهود من التفجيرات وإسالة الدماء.
والقدس مهد المسيحية واليهودية كانت مليئة بالكنائس والمعابد اليهودية حتى بعد أن فتحها المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب. ثم جاء الخليفة الفاطمي الحكيم فسلط غضبه على المسيحيين واليهود بالقدس في عام 1013م وأمر بتدمير كنائسهم ومعابدهم، فحطموا جزءاً من كنيسة القيامة وهدموا الكنائس الصغرى مثل كنيسة القديسة مريم على جبل الزيتون وكنيسة القديسة آن. ثم أمر الخليفة الحكيم أن يرتدي النصارى الأورثودكس والأقباط لباساً أسوداً وأن يدلّوا من أعناقهم صلبان خشبية كبيرة (نصف متر طولاً ونصف متر عرضاً) وأمر اليهود أن يلبسوا أجراساً حول أعناقهم. وأدى هذا إلى بداية الحروب الصليبية التي استمرت عدة سنوات وأدت إلى إراقة دماء المسلمين والنصارى في دورات. وما زالت المدينة نقطة احتكاك بين الديانات الثلاثة.
وفي السودان الذي كان ممالكاً مسيحية حتى القرن الرابع عشر الميلادي، حاولت حكوماته المتعددة إبادة المسيحيين الجنوبيين منذ أن نال السودان استقلاله من المملكة المتحدة في خمسينات القرن الماضي. وخيراً جاءت حكومة الأخوان المسلمين تحت قيادة الجنرال البشير وعرافه حسن الترابي فأعلنوا الجهاد المقدس ضد الجنوب وضد غرب السودان (دارفور) الذي تسكنه قبائل غير عربية وغير مسلمة في أغلبها. ولولا الضغط الأمريكي على السودان لاستمر الجهاد حتى القضاء على المسيحيين. ولم يكن يهود ومسيحيو دول المغرب أحسن حظاً من إخوانهم يهود ومسيحيي البلاد العربية الأخرى، فاضطروا إلى الهجرة إما إلى إسرائيل أو إلى الغرب، وأبحت كنائسهم ومعابدهم مساجداً أو متاحفاً. ونفس الرواية تعاد فصولها في نيجريا التي يسكن شمالها المسلمون وجنوبها المسيحيون. ومنذ استقلال نيجريا عن التاج البريطاني ظلت التوترات والمجازر بين المسيحيين والمسلمين تتكرر برتابةٍ مملة.
وفي باكستان تعاني الأقبية المسيحية من اضطهاد الأكثرية المسلمة وانتشرت حديثاً موضة تفجير الكنائس بمن فيها مع بداية الصحوة الإسلامية. وعندما يعجزون عن تفجير الكنائس بسبب الحراسة المشددة، يفجر السنة مساجد الشيعة في كراتشي وغيرها، ويرد الشيعة بالمثل. وتتكرر القصة في الفلبين بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية المسلمة وتنشط جماعة أبي سياف المسلمة في قتل واختطاف المسيحيين. وفي إندونيسيا تثور الغالبية المسلمة وتفجر وتحرق كنائس ومتاجر الأقلية المسيحية.
وقد ارتكب الجيش الإندونيسي مجازراً في تيمور الشرقية المسيحية قبل أن تتدخل الأمم المتحدة. وحتى في الهند ذات الديانة الهندوسية المسالمة، تفجرت الخلافات والاغتيالات بين السيخ والهندوس عندما حاول الهندوس حرق معبد السيخ في أمرستار. ثم أحرق المسلمون قطاراً يحمل حجاجاً من السيخ فأحرق السيخ مساجد المسلمين. وتتكرر المأساة بشكل يومي في كشمير التي يحكم نصفها الغربي حكومة باكستان المسلمة ونصفها الشرقي حكومة الهند. وتتكرر القصة كذلك في الصين وروسيا وجمهوريات القوقاز. فلم يحدث أن تعايشت الأديان في سلام في أي بلد في العالم إلا حديثاً في البلاد التي فصلت الدين عن الدولة.
ففي مصر سوف تستمر العداوة بين الأقلية القبطية والغالبية المسلمة، رغم تصريحات شيخ الأزهر والبابا شنودة التي تزعم أن الأقباط والمسلمين يعيشون في وئام مع أن الرئيس الراحل أنور السادات كان قد اعترف في خطابه بتاريخ 28 سبتمبر 1977 بوجود أزمة طائفية متفجرة. ويجب التنويه إلى أن مشكلة الأقباط في مصر هي جزء من مشكلة الشعب المصري ككل الذي يعيش حياة التهميش السياسي والمعيشي.
ولتفادي تكرار ما حدث في الإسكندرية يجب على القادة الدينيين والسياسيين أن يتحلوا بالشجاعة لاتخاذ الخطوات اللازمة لتغيير المناهج التعليمية التي تزرع بذور الخلاف والفتنة بين الأديان. فكان حرياً بشيخ الأزهر أن يجابه المتعصبين في أروقة الأزهر ويغير المناهج التي قال عنها د. خالد منتصر: " فلو قرأنا المكتوب فى صفحة 199 مثلاً (من كتاب الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) سنعرف السبب، يقول الكتاب فى باب عقد الذمة وأحكامها " معنى عقد الذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية... ويمتهنون عند أخذ الجزية ويطال وقوفهم وتجر أيديهم وجوباً لقوله تعالى " وهم صاغرون "، وفى ص 2.. يأخذ التمييز الدينى صورة بشعة لو طبقت ستؤدى بالمجتمع إلى التهلكة فيوصى الكتاب بألا يدفنوا فى مقابرنا ولابد من حذف مقدم رؤوسهم وشد الزنار ودخول الحمامات بجلجل أو خاتم رصاص برقابهم ويركبون الحمير لا الأحصنة وبغير سرج، ولايجوز تصديرهم فى المجالس ولا القيام لهم ولا مبادئتهم بالسلام ولاتهنئتهم ولاتعزيتهم أو عيادتهم ويمنعون من إظهار ناقوسهم ويلجئون إلى أضيق الطريق. " (إيلاف 6 فبراير 2004). وينسحب نفس الشئ على البابا شنودة وعلى الحكومة المصرية. والحل النهائي في رأيي هو الإصلاح السياسي أولاً الذي يسمح بحياة ديمقراطية حقاً، ثم فصل الدين عن الدولة حتى يتساوى المواطنون في نظر القانون المدني وليس السماوي.
وتعديل الدستور المصري وحذف الفقرة التي تقول إن الإسلام دين الدولة الرسمي، فالدولة لا دين لها. الدين للأفراد فقط. ويجب إزالة خانة الديانة من البطاقة الشخصية. فهذه المعلومة لا يستفيد منها إلا العاكفون على التمييز الديني. وعلى المسؤولين الحكوميين التشاور مع المفكرين الأقباط بدلاً من التشاور مع البابا شنودة في أمور الأقباط المدنية، كما قال السيد كمال غبريال في إحدى مقالاته في إيلاف.