المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صباحات لندن من خلال حديقة



على
11-05-2005, 09:32 AM
مشاهدات عابر .. زاده الخيال


لندن: طلحة جبريل


تبدو لندن الآن أحير من ضب، لا هي بدأت خريفها الماطر الذي يبلغ ذروته حين تغطي ندف الثلج شوارعها وبناياتها، ولا هي اختارت الطقس الصحو أي الشمس والنهار الطويل عندما يهز الانجليز أكتافهم حبوراً وهم يقولون «إنه يوم للحافلة». يقصدون يوم يمكن التمتع فيه بالفرجة على شوارع المدينة وناسها من سطيحة تلك «الباصات الحمراء» ذات الطابقين التي تسير مهلاً .

لندن الآن يوم مشمس وآخر ماطر. في التلفزيون، وبرامجه مملة تقتل من الضجر، يقولون إن لندن ستعرف واحداً من أسوأ شتاءاتها هذه السنة. قبل أن يأتي هذا الشتاء الذي يجعل «الحيتان تموت برداً» يخرج الانجليز الى الحدائق. شاءت الصدف أن أكون على مرمى حجر من واحدة من هذه الحدائق. وهي حديقة «بلومسبري سكوير». الناس هنا يحتفون بتاريخ البشر والشجر والحجر.

تاريخ «بلومسبري سكوير» مكتوب في لوحة منصوبة في أحد الزوايا. تاريخ مثير فعلاً . لعل في جانب منه يلخص تاريخ لندن نفسها. شيد حديقة بلومسبري اللورد «سوث هامبتون» عام 1669، وسميت باسمه حتى عام 1730 حيث حملت اسمها الحالي بعد ان تزوجت إبنة هامبتون من أحد النبلاء. اللوحة لا تقول لنا لماذا تغير الاسم.

كانت هذه الحديقة ممنوعة على عامة الناس حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية ، يحيط بها سياج حديدي، يدخلها فقط السكان الذين يقطنون في الجوار. لكن ظروف الحرب اضطرت الحكومة البريطانية الى صهر أي قطعة حديد موجودة في البلاد بما في ذلك الحديد الذي سيجت به الحدائق، واستعمالها في الصناعات الحربية. لذلك صهر سياج «بلومسبري» مما أدى الى ان يصبح المتنزه مفتوحاً لعامة الناس كأمر واقع. ثم تحول الأمر الواقع الى قرار يقضي فتح الحديقة للجمهور عام 1950.

في مدخل الحديقة تمثال نصفي. تقول لوحته إنها لرجل الدولة البريطاني تشارلز جيمس فوكس. وضع في المدخل ليكون في مواجهة الدوق الخامس لبدفورد الذي يوجد نصب تمثاله في حديقة «راسل سكوير» في الجهة الاخرى من الشارع. يتواجه الرجلان منذ قرون ؟ ترى ما السبب ؟

متنزه «بلومسبري» ليس حديقة للركض او لنزهة المشي كما هي الحدائق والمساحات الخضراء في عالمنا العربي. بل هي حديقة للتأمل. الناس يأتون الى هنا للتحدق في الفضاءات أو في أشجار «الزيزفون» الباسقة . هذه الأيام تتساقط أوراق هذه الأشجار، وبعضها صامد هنا منذ القرن السابع عشر، أوراقها تسقط عريضة صفراء. يمكنك ان تلاحظ ان الأوراق تهوي من أعلى وهي تتأرجح يميناً ويساراً أو بلا اتجاه محدد وتارة ترتفع قليلاً ثم تسقط على الأرض. لكن نادراً ما تبقى الأوراق على الأرض حتى اليوم التالي. المؤكد أن الكناسين، الذين اصبحنا نطلق عليهم تلطفاً «عمال نظافة» يأتون في وقت ما يجمعون هذه الأوراق. متى يحدث ذلك ؟ الله أعلم. الحديقة تفتح لعامة الناس، أمثالنا، في السابعة والنصف صباحاً وتغلق في الساعة السادسة والنصف مساء. ثمة أماكن خضراء بيضاوية بقيت على أشكالها لقرون. خصص القائمون على أمر الحديقة «دائرة بها ألعاب خشبية للأطفال وبعضها من عجلات السيارات. الاطفال يأتون في نهاية الاسبوع. عددهم قليل لكن على وجوههم فرح وحبور.

في الوسط مساحة صغيرة، يجلس فيها رجال ونساء متقدمون في السن. بعض الأحيان يأتي كذلك أناس مع كلابهم. كلاب صغيرة الحجم تنبح نباحاً خافتاً. بعضها يرتدي ألبسة. نعم ألبسة. الكلاب هنا في هذه المدينة تحظى بعناية خاصة، تفوق كثيراً العناية بالبشر. كلاب من مختلف الأحجام والأشكال. لا يمكن ان تسير في شارع او زقاق في لندن دون ان تجد احداً يجر كلبه أو يجره كلبه. شباب يتقافزون مع كلابهم. وكل فتاة بكلبها معجبة. هنا أجنحة كبيرة جداً في جميع المتاجر مخصصة لأكل الكلاب والقطط . لم أر كلباً ضالاً في لندن. هناك في عالمنا الممتد من الماء الى الماء نعرف جيداً الكلاب، إما في اقسام الشرطة أو تلك التي تبحث عن أكلها في المزابل. لهم كلابهم ولنا كلابنا.

في المتنزه مقاعد حديدية موزعة هنا وهناك. حمام جبلي ينقب في الأرض عن شيء. الحمام في لندن من «المقدسات». يطير ويهبط غير عابئ بأحد.

ذلك الصباح كانت هناك طالبة وطالب يبدو انهما تركا دروساً مملة وجاءا الى هنا. يدخنان بشراهة ويتحدثان همساً. خلال فترات صمت تطول أو تقصر يتأملان الشجر والمارة خلف سياج المتنزه. في ركن آخر شاب بملامح آسيوية أمامه حقائب. مدد أرجله فوق الحقائب. كان يتأمل أوراق شجرة «الزيزفون» وهي تتساقط . ثم بدأ رأسه يميل تارة الى الأمام وتارة الى الخلف، وما لبث ان غط في نوم. لا أدري إذا كان خفيفاً أو عميقاً. المؤكد أنني لم أسمع له شخيراً.

سيدة تبدو في عقدها الرابع، الزمن عامل وجهها وجسدها بحنو، ما تزال نضرة. وهي كما قال ذلك الكاتب «ريانة ممتلئة كعود قصب السكر» كانت تأكل ساندويشاً وتشرب عصيراً من علبة كرتونية. تتلذذ ما تشرب وما تأكل... وتتأمل.

ثلاثة رجال يرتدون ملابس عمال البناء، يحتسون ويدخنون. بين الفينة والاخرى يقول أحدهم جملة قصيرة فيوافق الآخران. يتأملون.

حديقة «بلومسبري»... مكان للتأمل.

الناس في لندن تركض طول الوقت. ربما لانهم يقطنون في مدن اندمجت في مدينة. يقول أحد العارفين ان حي «هولبورن» الذي توجد به «لومسبري» كان في الأصل قرية في أطراف لندن القديمة، ثم أصبحت هذه القرية الآن في وسط المدينة. كانت المدينة تتكون من «ويستمنستر» و«لندن سيتي»، الآن وحين تمددت القرى والبلدات حول لندن وأصبحت أحياء متداخلة، صار «هولبورن» في قلب العاصمة البريطانية. الناس حول المتنزه غادية رايحة مرتدية أزياء الخريف والشتاء. الالوان الغامقة. بعضهم وبعضهن يرتدين آخر صيحات الموضة. أنت أيها الفتى ما لك وأزياء الخريف أو الشتاء، أليس عسيراً عليك ان تتوغل في هذا المجتمع الجذاب. هؤلاء ناس يسرفون في الحياة ويغوصون في مباهجها.

أتعمد ان امرا يومياً عبر حديقة بلومسبري. في الطريق الى حيث مقر الصحيفة التفت يميناً والعبارة على الارض تقول التفت يساراً، التفت يساراً والعبارة تقول التفت يميناً، ما أنا إلا عابر زاده الخيال. هنا تلاحظ الكثير من التناقضات. تناقضات تستهويني وتنعش روحي. في متنزه «بلومسبري» يأتون للتأمل... نمط حياتهم يخلو من التناقض... يحبذون التأمل ربما بسبب وتيرة الحياة الصعبة... الحياة هنا تركض ركضاً.