على
11-05-2005, 09:23 AM
البحث عن الحقيقة من وراء المايكروفون
مهند الجندي
دوامة أميركية سياسية بدأت في الخمسينات ولم تنته حتى وقتنا الحالي، تتكلم عن الديمقراطية والحرية الفعلية المزعومة في الولايات المتحدة الأميركية، عن الشعب الأميركي وسهولة التفرقة بينهم. من المؤكد أنك تتساءل لماذا يهتم نجم محبب ورمز وسامة شهير مثل جورج كلوني بإخراج وكتابة فيلم تجري أحداثه في الخمسينات، مصور بالأبيض والأسود، ويركز على العلاقة القديمة بين مذيع الأخبار إدوارد مورو وصائد الشيوعيين السيناتور جوزيف مكارثي. لا تتعجب، كلوني يعرف تماماً ماذا يفعل: ينفض الغبار عن تاريخ التلفزيون القديم، أهميته وجرأت، أحقيته وصراحته، ومقارنته بالتلفزيون المعاصر الذي يبدو كأنه راع للبيت الأميركي، وسمين بكل ما هو تقليدي وغير مؤثر في حياة الشعب. وكما قال إدوارد مورو في خطابه عام 1958 الذي يصف فيه فيلم جورج كلوني الملتهب دور التلفزيون كآلة، فإنه: «يصرف الانتباه، يضلل، يسلي ويعزل». التحدي فيه هي لعبة الفاشلين.
مع إخراجه لفيلمه الثاني بعد (اعترافات عقل خطير)، يوفر جورج كلوني أكثر أفلام هذا العام أهمية وأكثرها جاذبية، ويضع نفسه في قائمة أبرع المخرجين الجدد. (ليلة سعيدة وحظا وفيرا) لا يعتبر درساً في التاريخ الاعلامي السياسي أو تمثيلاً لأمراض التلفزة وأنظمتها المحبطة فحسب، إنما أيضاً هو درس في كيفية صناعة فيلم اقتصادي جيد (كلف 8 ملايين دولار فقط)، يتطرق إلى مواضيعه بأبسط السبل وأسرعها وصولاً إلى ضمير المشاهد. المجتمع الأميركي الحالي يحزن على عدم وجود أثر لنمطية العمل وإخلاصه كما توفر في إدوارد مورو، قبل نصف قرن مورو كان أكثر من الصحافي الأكثر شهرة واحترماً ويعمل في الاختراع الإعلامي الجديد ألا وهو التلفاز. مواده التي أذيعت في الراديو من على الخطوط الحربية خلال الحرب العالمية الثانية جعلت منه أسطورة، وسعيه الدائم والحثيث وراء الحقيقة أكسبه احتراماً عاماً مستمراً، وأضفى عليه صورة البطل الوطني الأميركي، حتى وإن اضطر أن يوازن بين الأخبار الجدية في أشهر برامجه «شاهده الآن» وبين بعض المقاطع العادية في البرنامج الثاني «شخص إلى شخص».
الفيلم يستعرض معظم أحداثه خلال السنتين 1953 و1954. ويضعنا كاتبا الفيلم جورج كلوني وغرانت هسلوف مباشرة في خضم الصراع، حيث نشاهد مذيع الأخبار إدوارد آر. مورو (ديفيد سراثرن) وطاقم الموظفين يخاطرون بمستقبل مهنتهم من أجل عرض خبر لاذع النقد على قائمة جوزيف مكارثي السوداء التي فرضها على المواطنين الأميركيين الموالين المتوسطي الحال. إنها حركة مغامرة، لكن مورو له نظرة صائبة في هذا الاستهداف الاستبدادي من مكارثي ـ ألا وهو بث الخوف والفزع الكبيرين في قلوب المشاهدين عن أهداف هذه الطبقة التي تلمح إلى تهديد شيوعي خطير. تختلف الآراء وتتناقض الأفكار ويطرح السؤال إن كان من حق مورو كتابة مثل هذا الهجوم بالأساس: «عملك أن تقرأ الأخبار، وليس أن تصنعها،» يقول له رئيس محطة سي بي إس وليام بالي (فرانك لانغيلا)، بينما فريق مورو يواصل البحث ويستطيع فتح تحقيق حول أعمال مكارثي القذرة. مورو مراسل بارع، كان يعرف أن هناك خطاً يجب أن لا يتعداه، يبقي نفسه خارج القصة ولا يتحيز مع أي طرف في القضية. لكن عندما علم عن موضوع ميلو رادولوفيتش وهو طيار بحري من الغرب تم إبعاده عن الخدمة لأنه رفض ترك أبيه، وشوهد وهو يقرأ صحيفة صربية، يقرر مورو أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف ما. مع دعم منتجه فريد فريندلي، يرسل فريق من المحطة سي بي إس لمقابلة رادولوفيتش وعائلته. أعلن رادولوفيتش أنه مذنب بدون محاكمة، وكل التهم بقيت سرية. شعور فظيع أن يحكم عليك وأن لا تستطيع حتى أن تسمع ما هي التهم الموجهة لك، هذه القضية أشعرت مورو وفريقه بالقشعريرة، وبالرغم من التحفظات على مقابلة رادولوفيتش التي قد تدخلهم في بعض المشاكل مع الحكومة والشركات المعلنة، سمحت له إدارة المحطة بعرض قصة الطيار، وهو الذي سيدفع السيناتور مكارثي الذي كان في منتصف حملته المعادية للشيوعية على الرد. الفيلم يقول إنه لا يشترط أن تكون مشهوراً كي تدخل إلى قائمة مكارثي السوداء، لقد حدثت للكثير من الناس الذين انتهكت حرياتهم المدنية بدون دليل واحد. معظم الأفلام المبنية على وقائع تاريخية تبتعد عن الحقائق لكي تبتدع مستوى أكثر إثارة من الدراما، لكن الصراع بين مورو ومكارثي حاد جداً لدرجة أن المخرج جورج كلوني لا يحتاج أن ينحرف أو يختلف بشيء عن التاريخ. نكتشف أن الأحداث تظهر في الفيلم كما كانت في الحياة الحقيقية. وهذا يصل إلى حد أنهم لم يختاروا أي ممثل للعب دور مكارثي، واعتمد كلوني على أفلام أخبار أعضاء مجلس الشيوخ لتجسيده. هذا يضيف إحساساً من الواقعية الجامحة والمثيرة في آن واحد، والقرار في تصويره بالأبيض والأسود وعدم استعمال آلات موسيقية تعطي الفيلم ملمساً وثائقياً قوياً وصارماً. هذه ليست ميلودراما ترقق القلوب، لكن مجموعة من اللحظات الهادئة المؤثرة الذكية. ونجاحه يكمن في غياب جنس التلاعب في أي مشهد من مشاهده. نشعر أننا نجلس في اجتماع اخباري لطاقم محطة سي بي اس أو في غرفة تحكم من الخمسينات، لا يبدو أن الفيلم بذل مجهوداً لالتقاط معالم تلك الحقبة. التفاصيل موجودة هناك ببساطة. الفيلم يتعامل مع مواضيعه بنباهه وطاقة ملحوظة في السرد، ويفترض نفس هذا المجهود من الجمهور الذي سيشاهده. لا يوجد وقت يستخدمه صانعو الفيلم كي يشرحوا من كان مورو الصحافي الرائد في مجاله، أو عضو مجلس الشيوخ ومتعقب الشيوعيين جوزيف مكارثي، بل يقفز إلى خضم المشكلة في الخمسينات ولا يهدأ طوال الـ 93 دقيقة التي يملكها. جورج كلوني يلعب دور فريد فرينلدي منتج مورو الخاص، وهناك روبيرت داوني جونيور وباتريشا كلاركسون بدور كاتبي ومنتجي البرنامج، جيف دانيلز أيضاً المنتح سيج ميلكسون، وفرانك لانغيلا بدور رئيس محطة سي بي إس. وكلهم يقدمون أداءات مناسبة ومعبرة. إلا أن النجم الأوحد والحقيقي للفيلم هو بلا شك ديفيد سراثرن، القابض دائماً على سيجارته، يحدق في عدسة التصوير، ويبدو أنه يحمل أعباء العالم على كتفيه، سراثرن يستحق الترشيح للأوسكار على أقل تقدير، فقد برع في تجسيد روح وسلوك ذلك المذيع المعروف.
تميز هذا الفيلم أولاً وأخيراً يعود إلى جورج كلوني، الذي يعتبر هذا الفيلم رسالة شخصية، فوالده كان مذيع أخبار، وقد اعتاد في صغره مشاهدة برامج إدوارد مورو، شهد الأهمية التي اكتسبتها تقاريره بشكل عام وفي تلك الفترة بشكل خاص، ويعاني من هشاشة دور التلفاز في الوقت الراهن. بالتأكيد الفيلم لن يكون ذا نجاح بارز على شباك التذاكر، لكن كلوني أنجز ما هو أصعب وأهم: صناعة فيلم مسل متوتر بقدر ما هو مفيد وجريء أكثر من المعتاد.
مهند الجندي
دوامة أميركية سياسية بدأت في الخمسينات ولم تنته حتى وقتنا الحالي، تتكلم عن الديمقراطية والحرية الفعلية المزعومة في الولايات المتحدة الأميركية، عن الشعب الأميركي وسهولة التفرقة بينهم. من المؤكد أنك تتساءل لماذا يهتم نجم محبب ورمز وسامة شهير مثل جورج كلوني بإخراج وكتابة فيلم تجري أحداثه في الخمسينات، مصور بالأبيض والأسود، ويركز على العلاقة القديمة بين مذيع الأخبار إدوارد مورو وصائد الشيوعيين السيناتور جوزيف مكارثي. لا تتعجب، كلوني يعرف تماماً ماذا يفعل: ينفض الغبار عن تاريخ التلفزيون القديم، أهميته وجرأت، أحقيته وصراحته، ومقارنته بالتلفزيون المعاصر الذي يبدو كأنه راع للبيت الأميركي، وسمين بكل ما هو تقليدي وغير مؤثر في حياة الشعب. وكما قال إدوارد مورو في خطابه عام 1958 الذي يصف فيه فيلم جورج كلوني الملتهب دور التلفزيون كآلة، فإنه: «يصرف الانتباه، يضلل، يسلي ويعزل». التحدي فيه هي لعبة الفاشلين.
مع إخراجه لفيلمه الثاني بعد (اعترافات عقل خطير)، يوفر جورج كلوني أكثر أفلام هذا العام أهمية وأكثرها جاذبية، ويضع نفسه في قائمة أبرع المخرجين الجدد. (ليلة سعيدة وحظا وفيرا) لا يعتبر درساً في التاريخ الاعلامي السياسي أو تمثيلاً لأمراض التلفزة وأنظمتها المحبطة فحسب، إنما أيضاً هو درس في كيفية صناعة فيلم اقتصادي جيد (كلف 8 ملايين دولار فقط)، يتطرق إلى مواضيعه بأبسط السبل وأسرعها وصولاً إلى ضمير المشاهد. المجتمع الأميركي الحالي يحزن على عدم وجود أثر لنمطية العمل وإخلاصه كما توفر في إدوارد مورو، قبل نصف قرن مورو كان أكثر من الصحافي الأكثر شهرة واحترماً ويعمل في الاختراع الإعلامي الجديد ألا وهو التلفاز. مواده التي أذيعت في الراديو من على الخطوط الحربية خلال الحرب العالمية الثانية جعلت منه أسطورة، وسعيه الدائم والحثيث وراء الحقيقة أكسبه احتراماً عاماً مستمراً، وأضفى عليه صورة البطل الوطني الأميركي، حتى وإن اضطر أن يوازن بين الأخبار الجدية في أشهر برامجه «شاهده الآن» وبين بعض المقاطع العادية في البرنامج الثاني «شخص إلى شخص».
الفيلم يستعرض معظم أحداثه خلال السنتين 1953 و1954. ويضعنا كاتبا الفيلم جورج كلوني وغرانت هسلوف مباشرة في خضم الصراع، حيث نشاهد مذيع الأخبار إدوارد آر. مورو (ديفيد سراثرن) وطاقم الموظفين يخاطرون بمستقبل مهنتهم من أجل عرض خبر لاذع النقد على قائمة جوزيف مكارثي السوداء التي فرضها على المواطنين الأميركيين الموالين المتوسطي الحال. إنها حركة مغامرة، لكن مورو له نظرة صائبة في هذا الاستهداف الاستبدادي من مكارثي ـ ألا وهو بث الخوف والفزع الكبيرين في قلوب المشاهدين عن أهداف هذه الطبقة التي تلمح إلى تهديد شيوعي خطير. تختلف الآراء وتتناقض الأفكار ويطرح السؤال إن كان من حق مورو كتابة مثل هذا الهجوم بالأساس: «عملك أن تقرأ الأخبار، وليس أن تصنعها،» يقول له رئيس محطة سي بي إس وليام بالي (فرانك لانغيلا)، بينما فريق مورو يواصل البحث ويستطيع فتح تحقيق حول أعمال مكارثي القذرة. مورو مراسل بارع، كان يعرف أن هناك خطاً يجب أن لا يتعداه، يبقي نفسه خارج القصة ولا يتحيز مع أي طرف في القضية. لكن عندما علم عن موضوع ميلو رادولوفيتش وهو طيار بحري من الغرب تم إبعاده عن الخدمة لأنه رفض ترك أبيه، وشوهد وهو يقرأ صحيفة صربية، يقرر مورو أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف ما. مع دعم منتجه فريد فريندلي، يرسل فريق من المحطة سي بي إس لمقابلة رادولوفيتش وعائلته. أعلن رادولوفيتش أنه مذنب بدون محاكمة، وكل التهم بقيت سرية. شعور فظيع أن يحكم عليك وأن لا تستطيع حتى أن تسمع ما هي التهم الموجهة لك، هذه القضية أشعرت مورو وفريقه بالقشعريرة، وبالرغم من التحفظات على مقابلة رادولوفيتش التي قد تدخلهم في بعض المشاكل مع الحكومة والشركات المعلنة، سمحت له إدارة المحطة بعرض قصة الطيار، وهو الذي سيدفع السيناتور مكارثي الذي كان في منتصف حملته المعادية للشيوعية على الرد. الفيلم يقول إنه لا يشترط أن تكون مشهوراً كي تدخل إلى قائمة مكارثي السوداء، لقد حدثت للكثير من الناس الذين انتهكت حرياتهم المدنية بدون دليل واحد. معظم الأفلام المبنية على وقائع تاريخية تبتعد عن الحقائق لكي تبتدع مستوى أكثر إثارة من الدراما، لكن الصراع بين مورو ومكارثي حاد جداً لدرجة أن المخرج جورج كلوني لا يحتاج أن ينحرف أو يختلف بشيء عن التاريخ. نكتشف أن الأحداث تظهر في الفيلم كما كانت في الحياة الحقيقية. وهذا يصل إلى حد أنهم لم يختاروا أي ممثل للعب دور مكارثي، واعتمد كلوني على أفلام أخبار أعضاء مجلس الشيوخ لتجسيده. هذا يضيف إحساساً من الواقعية الجامحة والمثيرة في آن واحد، والقرار في تصويره بالأبيض والأسود وعدم استعمال آلات موسيقية تعطي الفيلم ملمساً وثائقياً قوياً وصارماً. هذه ليست ميلودراما ترقق القلوب، لكن مجموعة من اللحظات الهادئة المؤثرة الذكية. ونجاحه يكمن في غياب جنس التلاعب في أي مشهد من مشاهده. نشعر أننا نجلس في اجتماع اخباري لطاقم محطة سي بي اس أو في غرفة تحكم من الخمسينات، لا يبدو أن الفيلم بذل مجهوداً لالتقاط معالم تلك الحقبة. التفاصيل موجودة هناك ببساطة. الفيلم يتعامل مع مواضيعه بنباهه وطاقة ملحوظة في السرد، ويفترض نفس هذا المجهود من الجمهور الذي سيشاهده. لا يوجد وقت يستخدمه صانعو الفيلم كي يشرحوا من كان مورو الصحافي الرائد في مجاله، أو عضو مجلس الشيوخ ومتعقب الشيوعيين جوزيف مكارثي، بل يقفز إلى خضم المشكلة في الخمسينات ولا يهدأ طوال الـ 93 دقيقة التي يملكها. جورج كلوني يلعب دور فريد فرينلدي منتج مورو الخاص، وهناك روبيرت داوني جونيور وباتريشا كلاركسون بدور كاتبي ومنتجي البرنامج، جيف دانيلز أيضاً المنتح سيج ميلكسون، وفرانك لانغيلا بدور رئيس محطة سي بي إس. وكلهم يقدمون أداءات مناسبة ومعبرة. إلا أن النجم الأوحد والحقيقي للفيلم هو بلا شك ديفيد سراثرن، القابض دائماً على سيجارته، يحدق في عدسة التصوير، ويبدو أنه يحمل أعباء العالم على كتفيه، سراثرن يستحق الترشيح للأوسكار على أقل تقدير، فقد برع في تجسيد روح وسلوك ذلك المذيع المعروف.
تميز هذا الفيلم أولاً وأخيراً يعود إلى جورج كلوني، الذي يعتبر هذا الفيلم رسالة شخصية، فوالده كان مذيع أخبار، وقد اعتاد في صغره مشاهدة برامج إدوارد مورو، شهد الأهمية التي اكتسبتها تقاريره بشكل عام وفي تلك الفترة بشكل خاص، ويعاني من هشاشة دور التلفاز في الوقت الراهن. بالتأكيد الفيلم لن يكون ذا نجاح بارز على شباك التذاكر، لكن كلوني أنجز ما هو أصعب وأهم: صناعة فيلم مسل متوتر بقدر ما هو مفيد وجريء أكثر من المعتاد.