المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزائر: مدينة نامت أكثر مما يجب



فاتن
10-28-2005, 01:34 PM
نورالهدى غولي

.. لم يختف سحرها رغم حزنها الكبير لا زالت تتشح بردائها الناصع البياض الذي يتسع لكل أجزائها الفاتنة. هي التي تسمى "البيضاء"، وتدرك ذلك جيدا، فلونها الهادئ الذي يفرض نفسه على كل حافة من حوافها يشي بأكثر من تاريخ، بأكثر من فرح خفي.. وبأكثر من بؤس ظل مرابضا عندها، رغم قرون الظلم، الألم... والمقاومة.

هي ذاكرة المجد الجزائري، هي الوطن المختصر في أزقة ضيقة، وطرق عريضة، تشبه الحلم الذي راود الكثير من ناسها. لم تتفطن لذاك الطعن الخفي فيها إلا مع استفحال الألم وبعمق الجرح الذي تأخرت كثيرا في مداواته واصرار البعض على نكئه رغم الدموع والصوت الخافت المتوجع.
الجزائر.. عاصمة بلد المليون ونصف المليون شهيد وان كان هذا الرقم لم يعد الآن يعني الشباب لشباب اليوم ولم يعد الرقم الدقيق يشكل أهمية كبيرة، كما كان عليه سابقا، صارت رهانات اليوم أكثر أهمية من عدّ "فتات" الماضي.

من حي القصبة العتيق، إلى شارع زيغود يوسف فساحة البريد المركزي، صعودا إلى شارع ديدوش مراد، والكثير من الأحياء كبيلكور، باب الواد، وساحة أول ماي.. يصدمك عبق التاريخ وجمال المدينة الهادئ.
الساحل الجميل الواسع، الحاضن لأكثر من شراع مستقبلي خفيّ.. كل ما عليك فعله هو الانتباه إليه فقط وسيمنحك حقك من الإبحار.

أيام رمضان في العاصمة تختلف عن باقي أيام السنة، المدينة التي تعوّدت على لملمة أشيائها والنوم باكرا باتت تمقت هذا التقليد الذي جمد الكثير من اشيائها الجميلة .

هي المدينة التي كانت لا تنام أبدا سابقا ، تسهر مع الجميع وتفتح لهم كل حاراتها وباراتها وأسواقها الليلية المميزة .كانت تتسلل الى سريرها مع همسات العائدين فجرا إلى بيوتهم..تغفوا على وقع أصوات خافتة لعاشقين كانا هنا قبل قليل.. ولا تخلد للنوم أبدا قبل أن تتأكد أن الجميع "بخيمتهم" في أمان.
خرجت العاصمة من جلباب الانزواء المبكر، بعد أن منحتها أيام هذا الشهر الكريم حرية أكثر، ورفعت عنها وصاية ذاك الرجل الشديد القاسي الذي يسمى الخوف والانعزال، فقد صار فجأة، أكثر لطفا.. وتفهما.

قبل أقل من عقد كانت العاصمة الجزائرية، كغيرها من الولايات، مسرحا حقيقيا لعنتريات "الإرهابيين" الذين لم يعتقوا فكرة "جهنمية" واحدة من أجل إخضاع المدينة.. ومعها إخضاع الوطن كاملا، كثفوا جهودهم الرهيبة من أجل خلق الرعب في النفوس المعتادة على اللقاء والسهر وزيارة العائلة.. وحتى اللعب.

عاد بعض من الحياة مجددا وإن لم تعد كاملة، فهامش نوم المدينة ما زال واسع اذ أن الصدمة التي واجهتها كانت قوية وقوية جدا، فسهرات رمضان كانت من الأوقات السعيدة لمن يكره الشمس.. فكانوا هؤلاء تتم ابادتهم دون رحمة أو شفقة، رغم الأيام الكريمة لهذا الشهر الفضيل. فوهج الاطمئنان في هذا الشهر كان ضريبة وجب على الجزائريين دفعها، فقط لأنهم يريدون الحياة..
ولأن ذاكرة الشعوب كذاكرة الفيلة، تختزن بدقة تفاصيل حميمية وصعبة كالتي مرّت بالوطن. فإن طيّ هذه الصفحة القاسيّة لم يكن هيّنا.

اضافة الى ان عقلية الشعوب وطباعها تختلف باختلاف الكثير من المعايير المتحكمة بها ، فحال لبنان مثلا يختلف تماما عن حال الجزائر رغم التقارب النسبي في فترات الحرب التي اندلعت في الجزائر حين شهد البلد الآخر الهدنة.

ومع ذلك فقد تمكن اللبنانيون من القفز فوق حلقة النار التي كانت ملتهبة، فيما تأخر قفز الجزائريين، ربما لأنهم يخشون من عدم انطفاء النار بصورة نهائية، فنحن شعب يسير وفق المثل القائل "لي ما في بطنه القش.. لا يخاف من النار".. ولم نقفز بعد بالكامل.

في دراسة بريطانية حديثة، تم تصنيف الجزائر العاصمة ضمن أسوء المدن في العالم، وهذا وفقا لعدد من المعايير التي احتكمت إليها الدراسة، منطلقة من "التهديد الإرهابي" الأمر الذي يفرض بالطبع انحسار الأمن والسلم في وطن كان يقتات على علاقات الصداقة والاتحاد من أجل تحرير الوطن من الاستعمار.حينها لم يكد يخطر لاحد ان سمفونية القتال ستنتقل إلى أبناء البلد الواحد.

في المقابل أشارت الدراسة إلى مدينة فانكوفر الواقعة على الساحل الغربي لكندا، باعتبارها أفضل مكان للعيش في العالم. وكم يبدو صعبا مقارنة المدينتين النائمتين معا على الساحل،ناهيك عن اختلاف كبير في تفاصيل أخرى كثيرة خلقت هذا الفرق الشاسع بينهما في نمط الحياة.

"قولوا لي يا سامعين.. أولاد العاصمة وين؟" من أشهر ما غنّى المطرب الشعبي عبد الجيد مسكود، وردّدها كل الجزائريين بعده.. لقد كان لهذه الأغنية طابعا تنبؤيا لم يخب أبدا، فحين كان هذا المقطع يتردد بصورة واسعة في أوساط الشباب، فقط لأن لحنه كان جميلا جدا، لم يكن أحدهم يدرك أن هذه الجملة ستغدو حكمة وواقعا أليما فيما بعد.. خاصة من التساؤل المتضمن فيها، فقد هاجر معظم "العاصميون"، والجزائريون بصفة عامة، إلى الخارج بحثا عن مكان هادئ يحميهم من سكاكين ورشاشات من لا تعني لهم الحياة شيئا.

بعد صلاة التراويح يلتقي الشباب في المقاهي والمطاعم ويبقون هناك.. يتسامرون، يلعبون الورق و الدومينو حتى وقت السحور بقليل، فيما تزور النسوة بعضهن البعض، يلتم شملهن بعد طول غياب من أجل سهرة، "ولا أحلى منها"، يعقدن خمارهن على نيّة خفية، والأكبر سنّا بينهن تقرأ "بوقالتها"(والبوقالة هي لعبة التمني حيث تقوم الاكبر سنا بتكهن علاقة ما بين شخصين وما على بقية الفتيات سوى تمني ذلك لانفسهن) بصوت مرتفع، ترى الفتيات صدق ما صرحت به المرأة أم عدمه، كفأل يبقى في الذاكرة.. بعيدا عن واقع قاس متربص خارج حضن البيت الدافئ..