دشتى
10-22-2005, 01:26 AM
جهاد الخازن - الحياة
يحكي القاضي المحافظ ناتان هيكت من المحكمة العليا في تكساس ان المحامية هارييت ميرز دخلت مكتبه في 1979 وصلّت معلنة انها «مستعدة لإعلان التزامها بالمسيح والولادة ثانية».
الرئيس جورج بوش رشح ميرز، وهي محاميته الشخصية، لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا الاميركية مما شق قاعدته من المسيحيين المتجددين اذ ليس للمرشحة، التي كانت كاثوليكية قبل ان تتحول الى البروتستانتية وتتجدد، سجل في معارضة الإجهاض وهو قضيتهم الكبرى.
من دون تواضع، انا خبير في الذين يولدون ثانية في المسيح، او المتجددين، وهو الاسم الذي يطلقونه على انفسهم، فقد كانت دراستي الثانوية في بيروت في «مدرسة الانكليز» وهي مدرسة للمبشرين البريطانيين. وكانت مدرسة الصبيان قرب بيت الرئيس صائب سلام في المصيطبة فجاءت حرب صيف 1958، ونقل الصفان الاخيران الى مدرسة البنات الكبيرة والقريبة من القصر الجمهوري في حينه، ايام كميل شمعون.
ووجد نحو 40 ولداً، كنت احدهم، انهم بين اكثر من 500 بنت، فكانت السنتان الاخيرتان من دراستي الثانوية، اجمل ايام المراهقة.
المهم من كل هذا ان كثيرين من المعلمين والمعلمات كانوا من المتجددين، وبينهم انكليز وعرب، وكان هناك اساتذة آخرون، من كل نوع، فنائب المدير كان الاستاذ قيصر حداد، شقيق وديع حداد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رحمهما الله، وكانت الصلاة والصوم آخر همومه في تلك الايام كأخيه الثائر.
المتجددون الذين عرفت من تلك الايام كانوا مؤمنين طيبين نذروا انفسهم للتعليم وخدمة الآخرين، ولا أستطيع ان امدحهم كفاية، وهم كانوا من البساطة والصدق ان يقعوا في أشراك النصابين بسهولة. وعندي مثال لا أنساه.
عندما دُمجنا بمدرسة البنات اصبح هناك فائض صغير من بعض الاساتذة والمساعدين، وتردد حديث عن عزم الادارة على صرف موظفين معينين. وسمع واحد من هؤلاء بأنه على القائمة فاختار صلاة الصباح بين الاساتذة، وقفز وأخذ يصرخ انه يرى المسيح، وان المسيح يخاطبه ويدعوه، وبعد نوبة تشنج عصبية اعلن انه ولد ثانية في المسيح، أي اصبح متجدداً، والمتجددون الحقيقيون حوله يقولون هاليلويا.
وهو حفظ وظيفته عندما صرف غيره من العمل، وكنا احياناً نغامزه على تجدده فيضحك، ويذكرني بمقامات الحريري وكيف كان ابو الفتح الاسكندري يحتال ليعيش.
هناك متجددون مؤمنون فعلاً، ومنهم جورج بوش وهارييت ميرز، ثم هناك نصابون افاكون دجالون. وخارج الايمان الحقيقي والتدليس اؤيد ترشيح ميرز لعضوية المحكمة العليا الاميركية، اذ يكفيني ان يهاجم المحافظون الجدد المتطرفون الرئيس والترشيح لأقتنع به. وقد قرأت حملات وليام كريستول وجورج ويل وديفيد قروم وأمثالهم، مما وضعني تلقائياً في صف هارييت ميرز.
يفترض ان يكون التدين سبباً للطمأنينة، ونحن نقول بالعامية ان فلان «اللاوي»، بمعنى انه يخاف الله، وبالتالي يمكن الوثوق به. الا ان تدين القاعدة الانتخابية العريضة للرئيس بوش يثير القلق، فهناك من قلب الدين المسيحي رأساً على عقب. (وهناك في المقابل متطرفون راديكاليون اسلاميون خرجوا على رسالة الاسلام السمحة، وتحولوا الى الارهاب الذي يستحقون معه ان ينبذوا ويدانوا بالكامل، فالارهابيون من الجانبين يبررون احدهم الآخر).
الدين المسيحي ليس عدداً او عددين من إصحاح او اثنين في سفر الرؤيا. التبشيريون المتطرفون يقدمون السيناريو الآتي:
- يعاد تأسيس اسرائيل كدولة، ويتدخل الله تكراراً لانقاذها.
- تدمر اسرائيل في معركة هرمجدون امام تحالف الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي.
- يقتل معظم اليهود ما عدا 144 ألفاً يعتنقون المسيحية (يقتل جميع البشر غير المتجددين المؤمنين).
- يعود المسيح ليواجه المسيح الكذاب، ويعاد بناء هيكل سيدنا سليمان، ويؤسس المسيح حكومة دينية تحكم العالم ألف سنة.
مع احترامي لكل الأديان اجد ان ما سبق خروج على النص، وفهم سيئ له، مع مبالغة هائلة. غير انني لا اريد ان اغضب احداً فأحكي للقراء عن اثنين من النصابين الدجالين المحتالين ضاقت بهما سبل العيش بعد ان نبذهما اهل قريتهما لانكشاف امرهما. وجلسا يفكران في خطة جديدة محكمة لجمع المال.
وتفتق فكرهما في النهاية عن الخطة المطلوبة، فانتقلا الى منطقة بعيدة لا يعرفهما اهلها، وهما وجدا في الطريق ثعلباً ميتاً فدفناه وبنيا فوقه مزاراً اختارا له اسم «ضريح المغفور له العلامة الشيخ زنكي» ليقصده السذج والبسطاء من الناس.
وأضاء النصابان الشموع حول الضريح، وحرقا البخور، وأخذا يغمغمان بكلام غير مفهوم. وكان المارة يسألونهما عما يوجد في ذلك القبر فيقولان:
هذا مزار العلامة الشيخ زنكي، وليّ الله، شفيع المرضى وقاهر الامراض المستعصية، ميسر حال المحتاجين، يحرس الاطفال، ويرزق العاقر، ويزوج العانس، ويشفع للخاطئين والخاطئات...
وتهافت الناس على المزار للتبرك بالشيخ زنكي، وتدفقت النذورات من فلوس وزيت وشمع وبخور، وأعطته النساء من حليهن. وكبّر النصابان قبة المزار لتتسع للزوار، وأصبحا من كبار الاغنياء، وانتقلا الى بيت كبير على شاطئ البحر.
وحدث يوماً ان مرض احد النصابيْن ولم يستطع الاطباء شفاءه. وأخيراً اقترح النصاب الآخر على شريكه ان يزور مقام الشيخ زنكي. ونظر النصاب المريض الى شريكه باستغراب، وقال: نعم؟ لا تنس اننا قبرناه سوا (معاً).
القضية اليوم ان نفرَّق بين الدين الصحيح والمؤمنين، وبين التطرف والارهاب والدجل المتعمد من متاجرين بالدين.
يحكي القاضي المحافظ ناتان هيكت من المحكمة العليا في تكساس ان المحامية هارييت ميرز دخلت مكتبه في 1979 وصلّت معلنة انها «مستعدة لإعلان التزامها بالمسيح والولادة ثانية».
الرئيس جورج بوش رشح ميرز، وهي محاميته الشخصية، لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا الاميركية مما شق قاعدته من المسيحيين المتجددين اذ ليس للمرشحة، التي كانت كاثوليكية قبل ان تتحول الى البروتستانتية وتتجدد، سجل في معارضة الإجهاض وهو قضيتهم الكبرى.
من دون تواضع، انا خبير في الذين يولدون ثانية في المسيح، او المتجددين، وهو الاسم الذي يطلقونه على انفسهم، فقد كانت دراستي الثانوية في بيروت في «مدرسة الانكليز» وهي مدرسة للمبشرين البريطانيين. وكانت مدرسة الصبيان قرب بيت الرئيس صائب سلام في المصيطبة فجاءت حرب صيف 1958، ونقل الصفان الاخيران الى مدرسة البنات الكبيرة والقريبة من القصر الجمهوري في حينه، ايام كميل شمعون.
ووجد نحو 40 ولداً، كنت احدهم، انهم بين اكثر من 500 بنت، فكانت السنتان الاخيرتان من دراستي الثانوية، اجمل ايام المراهقة.
المهم من كل هذا ان كثيرين من المعلمين والمعلمات كانوا من المتجددين، وبينهم انكليز وعرب، وكان هناك اساتذة آخرون، من كل نوع، فنائب المدير كان الاستاذ قيصر حداد، شقيق وديع حداد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رحمهما الله، وكانت الصلاة والصوم آخر همومه في تلك الايام كأخيه الثائر.
المتجددون الذين عرفت من تلك الايام كانوا مؤمنين طيبين نذروا انفسهم للتعليم وخدمة الآخرين، ولا أستطيع ان امدحهم كفاية، وهم كانوا من البساطة والصدق ان يقعوا في أشراك النصابين بسهولة. وعندي مثال لا أنساه.
عندما دُمجنا بمدرسة البنات اصبح هناك فائض صغير من بعض الاساتذة والمساعدين، وتردد حديث عن عزم الادارة على صرف موظفين معينين. وسمع واحد من هؤلاء بأنه على القائمة فاختار صلاة الصباح بين الاساتذة، وقفز وأخذ يصرخ انه يرى المسيح، وان المسيح يخاطبه ويدعوه، وبعد نوبة تشنج عصبية اعلن انه ولد ثانية في المسيح، أي اصبح متجدداً، والمتجددون الحقيقيون حوله يقولون هاليلويا.
وهو حفظ وظيفته عندما صرف غيره من العمل، وكنا احياناً نغامزه على تجدده فيضحك، ويذكرني بمقامات الحريري وكيف كان ابو الفتح الاسكندري يحتال ليعيش.
هناك متجددون مؤمنون فعلاً، ومنهم جورج بوش وهارييت ميرز، ثم هناك نصابون افاكون دجالون. وخارج الايمان الحقيقي والتدليس اؤيد ترشيح ميرز لعضوية المحكمة العليا الاميركية، اذ يكفيني ان يهاجم المحافظون الجدد المتطرفون الرئيس والترشيح لأقتنع به. وقد قرأت حملات وليام كريستول وجورج ويل وديفيد قروم وأمثالهم، مما وضعني تلقائياً في صف هارييت ميرز.
يفترض ان يكون التدين سبباً للطمأنينة، ونحن نقول بالعامية ان فلان «اللاوي»، بمعنى انه يخاف الله، وبالتالي يمكن الوثوق به. الا ان تدين القاعدة الانتخابية العريضة للرئيس بوش يثير القلق، فهناك من قلب الدين المسيحي رأساً على عقب. (وهناك في المقابل متطرفون راديكاليون اسلاميون خرجوا على رسالة الاسلام السمحة، وتحولوا الى الارهاب الذي يستحقون معه ان ينبذوا ويدانوا بالكامل، فالارهابيون من الجانبين يبررون احدهم الآخر).
الدين المسيحي ليس عدداً او عددين من إصحاح او اثنين في سفر الرؤيا. التبشيريون المتطرفون يقدمون السيناريو الآتي:
- يعاد تأسيس اسرائيل كدولة، ويتدخل الله تكراراً لانقاذها.
- تدمر اسرائيل في معركة هرمجدون امام تحالف الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي.
- يقتل معظم اليهود ما عدا 144 ألفاً يعتنقون المسيحية (يقتل جميع البشر غير المتجددين المؤمنين).
- يعود المسيح ليواجه المسيح الكذاب، ويعاد بناء هيكل سيدنا سليمان، ويؤسس المسيح حكومة دينية تحكم العالم ألف سنة.
مع احترامي لكل الأديان اجد ان ما سبق خروج على النص، وفهم سيئ له، مع مبالغة هائلة. غير انني لا اريد ان اغضب احداً فأحكي للقراء عن اثنين من النصابين الدجالين المحتالين ضاقت بهما سبل العيش بعد ان نبذهما اهل قريتهما لانكشاف امرهما. وجلسا يفكران في خطة جديدة محكمة لجمع المال.
وتفتق فكرهما في النهاية عن الخطة المطلوبة، فانتقلا الى منطقة بعيدة لا يعرفهما اهلها، وهما وجدا في الطريق ثعلباً ميتاً فدفناه وبنيا فوقه مزاراً اختارا له اسم «ضريح المغفور له العلامة الشيخ زنكي» ليقصده السذج والبسطاء من الناس.
وأضاء النصابان الشموع حول الضريح، وحرقا البخور، وأخذا يغمغمان بكلام غير مفهوم. وكان المارة يسألونهما عما يوجد في ذلك القبر فيقولان:
هذا مزار العلامة الشيخ زنكي، وليّ الله، شفيع المرضى وقاهر الامراض المستعصية، ميسر حال المحتاجين، يحرس الاطفال، ويرزق العاقر، ويزوج العانس، ويشفع للخاطئين والخاطئات...
وتهافت الناس على المزار للتبرك بالشيخ زنكي، وتدفقت النذورات من فلوس وزيت وشمع وبخور، وأعطته النساء من حليهن. وكبّر النصابان قبة المزار لتتسع للزوار، وأصبحا من كبار الاغنياء، وانتقلا الى بيت كبير على شاطئ البحر.
وحدث يوماً ان مرض احد النصابيْن ولم يستطع الاطباء شفاءه. وأخيراً اقترح النصاب الآخر على شريكه ان يزور مقام الشيخ زنكي. ونظر النصاب المريض الى شريكه باستغراب، وقال: نعم؟ لا تنس اننا قبرناه سوا (معاً).
القضية اليوم ان نفرَّق بين الدين الصحيح والمؤمنين، وبين التطرف والارهاب والدجل المتعمد من متاجرين بالدين.