سمير
10-19-2005, 12:58 AM
داود الشريان - الحياة
قبل بضعة أسابيع كنت في دمشق لإجراء حوار مع شخصية فلسطينية، وبعد وصولي بوقت قصير طلبت مقابلة وزير الداخلية اللواء غازي كنعان للتعارف. بعد اقل من ساعة جاءت الموافقة، وقال المتحدث أن اللواء يرحب بك في مكتبه. استغربت سرعة تحديد الموعد، فمسؤوليات رجل مثل غازي كنعان لا تسمح بتحديد موعد مفاجئ على هذا النحو، ومع صحافي جاء للتعارف، ثم انه لا يعرفني ولم التقه من قبل، لكنني بعد قليل من بدء الحديث معه وجدت انه يعرفني تماماً. الغرابة لم تتوقف عند سرعة تحديد الموعد فحتى طريقة وصولي إلى مكتبه تمت بطريقة بسيطة وسلسلة جداً. دخلنا مبنى وزارة الداخلية بسيارة الزميلة انتصار يونس، مراسلة تلفزيون دبي. لم يتم تفتيشنا عند الدخول، ولم تؤخذ منا أجهزة الهاتف المحمول، كما العادة في مكاتب كبار السياسيين والعسكريين وزعماء الأحزاب.
في حوالي الساعة السابعة مساء استقبلنا اللواء غازي كنعان على باب المكتب. كان يلبس قميصاً بلا أكمام وبلا ربطة عنق. شعرت أن الرجل استقبلنا في بيته ونحن في مكتبه، كان يبدو عليه الارتياح التام وصفاء الذهن، أجلسنا ثم حرك كرسياً وجلس أمامنا، كان مرحاً طوال الوقت. سألنا ماذا نشرب قلنا له نشرب شاي، ولفت نظري انه لم يمد يده إلى الكوب الخاص به رغم انه قال أنا أيضاً اشرب معكم شاي. الحركة في مكتبه لا توحي بأن الرجل يدير جهازاً مهماً مثل وزارة الداخلية، ولا حتى وزارة شؤون المغتربين. كان المكتب في هدوء تام. شعرت وانا اتحدث مع الرجل الاسطورة ان غازي كنعان، الذي حكم لبنان وتدخل في أدق تفاصيله، وصنع معظم زعاماته الجديدة، وشكل وزارته ومجالسه النيابية على مدى عقدين من الزمن، كان يعيش في تقاعد غير معلن.
وبدأ الحوار. سألته سؤالاً عاماً عن لبنان فتحدث بحسرة عن الإفساد الذي تم على مشروعه في لبنان، ودخل في سرد تاريخي لبدايات عمله في لبنان وكيف استطاع أن يصلح بين الطوائف والأحزاب ويعيد الحياة إلى البلد الذي خرج للتو من حرب أهلية، وكان لافتاً أن الرجل يتحدث كزعيم لا كمسؤول ينفذ سياسة حكومته، لم يذكر عبارات من نوع «هكذا كانت توجيهات سيادة الرئيس»، او «كانت سياسة سورية تقضي أن افعل كذا»، كما يقول الوزراء والمسؤولون العسكريون. كان طوال الوقت يقول أنا فعلت وأنا أصلحت. ولتأكيد زعامته في لبنان في ذلك الوقت روى لنا قصة ممارسته لرياضة الجري من دون حراسة في عز سيطرة الميليشيات على بيروت الغربية. تحدث بسلبية عن بعض الزعامات وذكر سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» السابق بالاسم، واخبرنا انه لم يصلح بين الطوائف المختلفة فحسب، بل أصلح بين أعضاء الطائفة الواحدة، وتحدث باسهاب عن دوره في مصالحة الزعامات المارونية وحل مشاكلها الداخلية، وتذويب خلافات الزعامات الشيعية مع بعضها بعضاً، وتحدث بفخر واضح عن دوره في دعم وترتيب أوضاع المقاومة اللبنانية.
وكان مستاء من الحملة على سورية، والزج بالشعبين اللبناني والسوري في القضية، ومن بعض الصحافيين اللبنانيين، لكنه لم يسم أحداً منهم. وحين تحدث عن الإعلام العربي توقف كثيراً عند الصحافة الكويتية، وسأل «شو سر حماسة الصحافة الكويتية ضد سورية، شو هو ميليس يحقق بقضية كويتية». استغربت انه كان يتجنب الحديث عن رفيق الحريري في شكل متعمد، وكلما سألته عنه، قال «خليني أكمل لك هي القصة وبعدين أجاوب على سؤالك»، وهكذا طوال الوقت. أما الرئيس لحود فكان لا يأتي على ذكره لا بخير ولا بشر، كأن لبنان في نظره دولة بلا رئيس. أما قضية تحقيق ميليس فتناولها كمراقب لا كمسؤول، وكان كلامه يشير بوضوح إلى أن هذا التحقيق لا يعنيه كشخص، ولم ينس تذكيرنا بأنه صار بعيداً عن الشأن اللبناني منذ وقت طويل، لكنه أكد خشيته من تسييس التحقيق، ربما ليثبت انه لا يزال مسؤولا سورياً، وملزم بترديد الرأي الرسمي.
غازي كنعان الذي رأيته يشبه رجلاً ترك منصبه مجبراً. يتحسر على ما يجري من تخريب لانجازاته في لبنان. لديه مخاوف كبيرة من تقسيم لبنان، ويعتقد أن إخراج جعجع من السجن وتصويره كبطل خطأ فادح. لا يتحدث باسم احد فهو يتعامل مع نفسه كزعيم. يتجنب الحديث عن رفيق الحريري على نحو لافت.
استغرق حواري معه 90 دقيقة، وكنت مستعداً للاستمرار في الجلسة، فرجل بمسؤوليات كنعان قادر على إشعارنا بانتهاء وقت المقابلة بألف طريقة مهذبة لكنه لم يفعل ولم يحاول. كان مستمتعاً بالحديث وغير مهتم بالوقت.
هل كان متقاعداً بالفعل، ربما. استأذنت بالانصراف، فقال «لسه بدري»، وعند الباب قال لي: «يسعدني أن أراك كلما قدمت إلى دمشق، اليوم اعتبر نفسي كسبت صديقاً، ويسرني أن أعطيك حواراً لكن بعد أن تنجلي الأزمة «ويصير الكلام ممكن»، وأضاف ضاحكاً: «لا تنس أني وزير الداخلية وسوف اعرف اذا وصلت إلى الشام وسأكون سعيداً لرؤيتك مرة أخرى».
لكن للأسف لن أرى غازي كنعان مرة أخرى. غاب الرجل ودفن معه كنوزاً من أسرار السياسة اللبنانية والسورية على مدى عشرين عاماً، والغريب أن نشرات الاخبار ذكرت أن غازي كنعان انتحر، لم اشغل نفسي بصحة الخبر، لكنني وجدت ان غموض خبر غياب اللواء غازي كنعان يليق به.
قبل بضعة أسابيع كنت في دمشق لإجراء حوار مع شخصية فلسطينية، وبعد وصولي بوقت قصير طلبت مقابلة وزير الداخلية اللواء غازي كنعان للتعارف. بعد اقل من ساعة جاءت الموافقة، وقال المتحدث أن اللواء يرحب بك في مكتبه. استغربت سرعة تحديد الموعد، فمسؤوليات رجل مثل غازي كنعان لا تسمح بتحديد موعد مفاجئ على هذا النحو، ومع صحافي جاء للتعارف، ثم انه لا يعرفني ولم التقه من قبل، لكنني بعد قليل من بدء الحديث معه وجدت انه يعرفني تماماً. الغرابة لم تتوقف عند سرعة تحديد الموعد فحتى طريقة وصولي إلى مكتبه تمت بطريقة بسيطة وسلسلة جداً. دخلنا مبنى وزارة الداخلية بسيارة الزميلة انتصار يونس، مراسلة تلفزيون دبي. لم يتم تفتيشنا عند الدخول، ولم تؤخذ منا أجهزة الهاتف المحمول، كما العادة في مكاتب كبار السياسيين والعسكريين وزعماء الأحزاب.
في حوالي الساعة السابعة مساء استقبلنا اللواء غازي كنعان على باب المكتب. كان يلبس قميصاً بلا أكمام وبلا ربطة عنق. شعرت أن الرجل استقبلنا في بيته ونحن في مكتبه، كان يبدو عليه الارتياح التام وصفاء الذهن، أجلسنا ثم حرك كرسياً وجلس أمامنا، كان مرحاً طوال الوقت. سألنا ماذا نشرب قلنا له نشرب شاي، ولفت نظري انه لم يمد يده إلى الكوب الخاص به رغم انه قال أنا أيضاً اشرب معكم شاي. الحركة في مكتبه لا توحي بأن الرجل يدير جهازاً مهماً مثل وزارة الداخلية، ولا حتى وزارة شؤون المغتربين. كان المكتب في هدوء تام. شعرت وانا اتحدث مع الرجل الاسطورة ان غازي كنعان، الذي حكم لبنان وتدخل في أدق تفاصيله، وصنع معظم زعاماته الجديدة، وشكل وزارته ومجالسه النيابية على مدى عقدين من الزمن، كان يعيش في تقاعد غير معلن.
وبدأ الحوار. سألته سؤالاً عاماً عن لبنان فتحدث بحسرة عن الإفساد الذي تم على مشروعه في لبنان، ودخل في سرد تاريخي لبدايات عمله في لبنان وكيف استطاع أن يصلح بين الطوائف والأحزاب ويعيد الحياة إلى البلد الذي خرج للتو من حرب أهلية، وكان لافتاً أن الرجل يتحدث كزعيم لا كمسؤول ينفذ سياسة حكومته، لم يذكر عبارات من نوع «هكذا كانت توجيهات سيادة الرئيس»، او «كانت سياسة سورية تقضي أن افعل كذا»، كما يقول الوزراء والمسؤولون العسكريون. كان طوال الوقت يقول أنا فعلت وأنا أصلحت. ولتأكيد زعامته في لبنان في ذلك الوقت روى لنا قصة ممارسته لرياضة الجري من دون حراسة في عز سيطرة الميليشيات على بيروت الغربية. تحدث بسلبية عن بعض الزعامات وذكر سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» السابق بالاسم، واخبرنا انه لم يصلح بين الطوائف المختلفة فحسب، بل أصلح بين أعضاء الطائفة الواحدة، وتحدث باسهاب عن دوره في مصالحة الزعامات المارونية وحل مشاكلها الداخلية، وتذويب خلافات الزعامات الشيعية مع بعضها بعضاً، وتحدث بفخر واضح عن دوره في دعم وترتيب أوضاع المقاومة اللبنانية.
وكان مستاء من الحملة على سورية، والزج بالشعبين اللبناني والسوري في القضية، ومن بعض الصحافيين اللبنانيين، لكنه لم يسم أحداً منهم. وحين تحدث عن الإعلام العربي توقف كثيراً عند الصحافة الكويتية، وسأل «شو سر حماسة الصحافة الكويتية ضد سورية، شو هو ميليس يحقق بقضية كويتية». استغربت انه كان يتجنب الحديث عن رفيق الحريري في شكل متعمد، وكلما سألته عنه، قال «خليني أكمل لك هي القصة وبعدين أجاوب على سؤالك»، وهكذا طوال الوقت. أما الرئيس لحود فكان لا يأتي على ذكره لا بخير ولا بشر، كأن لبنان في نظره دولة بلا رئيس. أما قضية تحقيق ميليس فتناولها كمراقب لا كمسؤول، وكان كلامه يشير بوضوح إلى أن هذا التحقيق لا يعنيه كشخص، ولم ينس تذكيرنا بأنه صار بعيداً عن الشأن اللبناني منذ وقت طويل، لكنه أكد خشيته من تسييس التحقيق، ربما ليثبت انه لا يزال مسؤولا سورياً، وملزم بترديد الرأي الرسمي.
غازي كنعان الذي رأيته يشبه رجلاً ترك منصبه مجبراً. يتحسر على ما يجري من تخريب لانجازاته في لبنان. لديه مخاوف كبيرة من تقسيم لبنان، ويعتقد أن إخراج جعجع من السجن وتصويره كبطل خطأ فادح. لا يتحدث باسم احد فهو يتعامل مع نفسه كزعيم. يتجنب الحديث عن رفيق الحريري على نحو لافت.
استغرق حواري معه 90 دقيقة، وكنت مستعداً للاستمرار في الجلسة، فرجل بمسؤوليات كنعان قادر على إشعارنا بانتهاء وقت المقابلة بألف طريقة مهذبة لكنه لم يفعل ولم يحاول. كان مستمتعاً بالحديث وغير مهتم بالوقت.
هل كان متقاعداً بالفعل، ربما. استأذنت بالانصراف، فقال «لسه بدري»، وعند الباب قال لي: «يسعدني أن أراك كلما قدمت إلى دمشق، اليوم اعتبر نفسي كسبت صديقاً، ويسرني أن أعطيك حواراً لكن بعد أن تنجلي الأزمة «ويصير الكلام ممكن»، وأضاف ضاحكاً: «لا تنس أني وزير الداخلية وسوف اعرف اذا وصلت إلى الشام وسأكون سعيداً لرؤيتك مرة أخرى».
لكن للأسف لن أرى غازي كنعان مرة أخرى. غاب الرجل ودفن معه كنوزاً من أسرار السياسة اللبنانية والسورية على مدى عشرين عاماً، والغريب أن نشرات الاخبار ذكرت أن غازي كنعان انتحر، لم اشغل نفسي بصحة الخبر، لكنني وجدت ان غموض خبر غياب اللواء غازي كنعان يليق به.