المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مصرع نظام



تيمور
07-25-2024, 02:44 PM
جعفر البكلي (https://www.al-akhbar.com/Author/282)


الثلاثاء 23 تموز 2024

https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/2024722221223727638572831437272433.png

جاء صوت وزير الداخلية المصري قَلِقاً وَجِلاً منفعِلاً، وهو يخاطب زوجة رئيسه، عبر جهاز التلفون.

قال فؤاد باشا بنبرته الحادّة:

«أرجوك، يا زينب هانم، تبلّغي رفعة الباشا إنّ الوضع في البلد خطير جداً، والأمور عَمّال تخرج عن السيطرة».

أجابت السيدة زينب الوكيل: «رفعة الباشا مشغول دلوقتي، لكن أنا هبَلّغه بالموضوع». قاطعها فؤاد باشا سراج الدين، وقد علا صوته في انزعاج: «يا زينب هانم، الأمور ما تحتملش أيّ تأخير.. هو رفعة الباشا مشغول في إيه بالضبط؟!».

تردّدت زينب هانم في الإجابة، ثم قالت: «الباشا دلوقتي عنده موعد مع مدام جورجينا».

سكتت هنيهة، ثم أضافت موضِحةً: «مدام جورجينا اللي بتعتني بأظافره». قاطعها وزير الداخلية قائلاً: «السِتّ الأرمينية إيّاها، بتاعت المانيكور والبديكور». ردّت زوجة رئيس الوزراء المصري:

«آه. هو دلوقتي معاها».

علا صوت فؤاد سراج الدين، وهو يقول: «قولي للنحاس باشا إنو البلد احترق.. وسط القاهرة كله دلوقتي بيحترق.. قولي له يتصل بي فوراً». وضع فؤاد سراج الدين سمّاعة هاتف مكتبه بحنق، منهياً المكالمة.

والتفت إلى وكيل وزارة الداخلية ليسأله عن مستجدات الوضع.

فأجابه بصوت واجِف أنّ الأمور تتردّى بسرعة شديدة، والتظاهرات العارمة اكتسحت ميدان إبراهيم باشا، وجموع المتظاهرين يتوافدون بعشرات الآلاف من شارع الملك فؤاد، وشارع إبراهيم باشا، وشارع عدلي، وشارع عبد الخالق ثروت، وشارع قصر النيل، ومن ميدان العتبة، وميدان رمسيس.

وهم يحرقون كل ما يجدونه في طريقهم.ساد الصمت ثقيلاً في مكتب وزير الداخلية المصري، بعد هذا العرض المخيف. وسأل فؤاد سراج الدين اللواء أحمد طلعت، رئيس القلم السياسي: «صحيح اللي بيتقال:

إنّو بين المتظاهرين أفراد من الشرطة لابسين ميري؟!».

ردّ طلعت قائلاً: «فيه عناصر من بلوك النظام في التظاهرات.

ودول في معظمهم زعلانين من اللي حصل امبارح في الإسماعيلية. لكن أغلب المتظاهرين طلبة جامعة».

ثم أضاف مسؤول القلم السياسي قائلاً: «الموضوع دلوقتي مش مين اللي في التظاهرات.. الخطر أن يمتد العنف والحرق إلى قصر عابدين. جلالة الملك هناك، وهو عامل حفلة كبيرة بمناسبة ولادة ابنه. احنا عاملين طوق من العساكر في شارع الكيخيا عشان ما حدش يفوت من ميدان إبراهيم على ميدان عابدين. لكن لو صارت الأعداد أكبر، وبعشرات الآلاف، ما حدش يقدر يعرف إيه اللي يمكن يحصل في البلد».

قال وزير الداخلية: «ما حدش يضرب نار على المتظاهرين إلّا بأمر شخصي مني. والساتر العازل من العساكر في طريق عابدين يتعزز».

ثم أضاف: «عاوز تجيني كمان تقارير فورية عن الخساير».

قال مدير الأمن العام: «المؤكد حالياً أن كازينو بديعة احترق، وكمان الأوبرا، ومحلات شيكوريل، وعمر أفندي، وصالون فيردي، وجروبي، وسينما ريفولي، وراديو، ومترو، وديانا، وميامي كلها احترقت... وكمان فيه قتلى مصريين، ومن الأجانب.

الأمور يا باشا خرجت عن سيطرة البوليس وبلوكات النظام. وأنا أقترح الاستعانة بالجيش، وإعلان الأحكام العرفية». قال فؤاد سراج الدين بنفور: «إعلان الأحكام العرفية؟!

أهو ده اللي مستنيه الملك عشان يمَشِّي حكومة الوفد.. على كل حال، أنا هكَلِّم حيدر باشا إذا احتاجت الأمور لتدخّل الجيش».

ونظر الوزير إلى مساعده الشخصي، وقال له: «أنا عايزك يا عبد الفتاح باشا تنسّق مع محمود عثمان الغزالي باشا مدير القاهرة، وتبلغني بالتطورات».

ثمّ جذب فؤاد سراج الدين من درج مكتبه سيجاراً، وطلب من معاونيه أن ينصرفوا لأعمالهم، فهو لديه الآن شؤون خاصة عاجلة لا يستطيع أن يؤجلها.


شؤون «مَعاليهِ» الخاصة والمستعجَلة

بعد خروج «باشاوات» وزارة الداخلية من مكتب معالي الوزير، جاءه سكرتيره الخاص ليعلمه أن الخواجة جورج عويضة ينتظره مع مأمور توثيق الشهر العقاري بالقاهرة، ومحاميَيْن اثنين.

طلب فؤاد سراج الدين منه أن يدخلهم على الفور.

وأمره بأن لا يُدَخِّل عليه أحداً غيرهم، وأن لا يحوّل إليه أيّة اتصالات تلفونية أثناء خلوته بالخواجة ومن معه. وطوال ساعةٍ كاملةٍ، ما بين الواحدة والثانية من بعد ظهر يوم السبت 26 كانون الثاني/ يناير 1952 - ذلك النهار العصيب الذي صار يعرف بـ«يوم حريق القاهرة» - ظلّ المسؤول الأولُ في مصر عن حفظ الأمن، وسلامة الأفراد والممتلكات، وضبط النظام العام، مشغولاً في صياغة عقد شرائه للعمارة رقم 23 التي يملكها جورج عويضة، في شارع عبد الخالق ثروت، في وسط البلد¹، بمبلغ جملي قدره ثمانون ألف جنيه مصري.

وحينما انتهت تلك «الخلوة»، وعادت التقارير الأمنية لتتوافد، من جديد، على مكتب وزير الداخلية المصري، أدرك الأخير قيمة الوقت الذي أضاعه في تصريف شؤونه الخاصة على حساب شؤون البلاد والعباد.


https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/2024722222641722638572840017229035.jpeg



لقد التهمت النيران في تلك الساعة «المختَلَسَة» قلبَ عاصمة مصر بأكملها. واحترق في شوارع وسط القاهرة وميادينها، أكثر من ألف محل تجاري، ومئات المكاتب والشقق السكنية، ومئات المقاهي والمطاعم والحانات والكازينوات والنوادي ودور السينما والمسارح، وعشرات الفروع البنكية والمنشآت الخاصة والمؤسسات العامة والشركات والمعارض الكبرى للسيارات والأثاث، وفنادق عريقة وفخمة مثل «شبرد»، و«متروبوليتان»، و«فيكتوريا»...

وقدّرت الخسائر المادية بأكثر من مئة مليون جنيه (وكان الجنيه المصري يساوي أكثر من أربعة دولارات أميركية، بقيمة النقود وقتها). وأمّا الخسائر البشرية، في أحداث ذلك اليوم، فقد بلغت 46 ضحية، بينهم تسعة من البريطانيين ضُربوا حتى الموت في نادي Turf club، وفاق عدد الجرحى خمسمئة.

أدرك فؤاد سراج الدين أخيراً فداحة الموقف.

فأعاد الاتصال برئيس الوزراء مصطفى النحاس ليعلمه بما يحصل في القاهرة.

ولم يكن لدى النحاس باشا من الهواجس، في تلك الظروف العصيبة، سوى أنّ هذه الاضطرابات قد تكون حافزاً يستغله فاروق للإطاحة به من الحكم. وعلى مضض، قبل رئيس الوزراء بأن يطلب وزير الداخلية عوناً من وزير الحربية لأجل السيطرة على هذه «الهوجة».

وبين الساعة الثانية والنصف والثالثة والربع، من ذلك النهار المنكود، ظلّ فؤاد سراج الدين باشا يحاول التواصل، مرات ومرات، مع القائد العام للجيش الفريق محمد حيدر باشا، أو مع رئيس الأركان الفريق عثمان المهدي باشا، فلا يفلح في الوصول إليهما، أو إلى أحد من أعوانهما. وكان الجواب أنّ وزير الحربية، وكل ضباط الجيش الكبار، هم الآن في ضيافة «مولانا»، بمناسبة الاحتفالات باليوم العاشر لولادة وليّ العهد أحمد فؤاد.

وأخذ سراج الدين يتصل بقصر عابدين، أين يقام الاحتفال، فلا يردّ عليه رئيس الديوان الملكي حافظ عفيفي باشا، ولا وكيل الديوان حسن يوسف باشا. وكانت كل دقيقة ضائعة تعني أن النار تلتهم جزءاً آخر في القاهرة! وفي نهاية المطاف، لم يجد وزير الداخلية من بُدّ سوى أن يركب سيارته بنفسه، ويخوض في جموع المتظاهرين حتى وصل إلى القصر الملكي المنيف.

احتفالات «مولانا» البهيجة والمستبشِرة

كانت السرادق ذات الألوان الزاهية قد نُصِبت منذ الساعات الباكرة من ذلك اليوم، في الساحات الداخلية الشاسعة لقصر عابدين.

وأخذت الموسيقى تصدح بالأغاني والأناشيد التي تمتدح جلالة الفاروق، ووريثه السعيد «أمير الصعيد»².

ووُضعت على الموائد الملكية الممتدة أطنان من المأكولات المتنوعة، والفواكه والمشروبات والحلويات... واجتمع في ساحة القصر أكثر من ألفَيْ ضابط في القوات المسلحة المصرية للمشاركة في الاحتفال الضخم بنعمة المولد المبارك لوليِّ العهدِ الميمون.

وبدا أنّ الملك قد تملّكته، في ذلك الميعاد، مشاعر انشراح وارتياح بعدما رُزِقَ أخيراً بولدٍ ذكرٍ سيستمر به نسله متربعاً على عرش مصر.

وأزمع فاروق على أن تكون هذه المناسبة البهيجة فرصةً جديدةً يعزّز بها «العروة الوثقى المقدسة» بين عرشه وجيشه.

ولعلّ الملك فكّر في أن يتخذ من هذه المناسبة ردّاً عمليّاً على الشائعات التي تزعم بوجود تململ بين العسكر، كشفت عنه انتخابات نادي ضباط القوات المسلحة، قبل حوالي شهر.

ولربما رأى الملك كذلك في الاحتفالات الصاخبة بمولد وريثه المنتظَر متنفساً يزيح عنه بعض الهموم الشخصية والعائلية التي تناهشته من كل جانب، في الأعوام الفائتة.


لم يكن اغتصاب فلسطين واحتلالها، إلّا محرّكاً ومسوّغاً، في وجدان الناس، لوجوب تغيير جذريّ شامل لحماية هذه الأوطان

وعلى كل الأحوال، فإنّ الأدخنة السوداء المتصاعدة في السماء من أرجاء الشوارع المجاورة لقصر عابدين، والجَلَبة المتصاعدة في الأحياء القريبة، لم تلقَ تيقّظاً أو انتباهاً أو فهماً عند نواطير مصر وحرّاسها.

ولربما أنّ الموسيقى والمعازف التي ظلت تصدح بالمدائح في سرايا الملك، ساهمت - بقَدرٍ ما - في صمّ الآذان وحجب ما يدور من الجلجلة في الجوار.

وفي الساعة الرابعة عصراً، حينما وصل وزير الداخلية المصري إلى مكتب التشريفات في قصر عابدين ليطلب من جلالة الملك، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يأذن بالتدخل العاجل للجيش لحماية عاصمة البلاد من التدمير، بعدما عجزت قوات الشرطة عن صدّ الجماهير الثائرة؛ فوجئ الرجل - لسوء الحظ - بأنّ القصر ليس فيه عقول صاغية.

وسواء كان الملك وحاشيته غير مستوعبين بعدُ - إلى حدّ تلك الساعة من أواخر ذلك النهار العصيب - لما يحدث حقاً في البلاد من الثورة.

أو أنّ فاروق فهم بالفعل شيئاً ممّا يدور في الشوارع، وأحبّ أن يستغلّه في مناوراته البائسة ضدّ حكومة الوفد التي يناصبها العداء؛ فإنّ النتيجة كانت تباطؤاً لا مبرّر له، في اتخاذ القرار. وفي حدود الساعة التاسعة مساءً، أصدر الملك - أخيراً - مرسومين اثنين. وكان في الأول إعلانٌ لحالة الطوارئ في عموم مصر، وتكليفٌ للقوات المسلحة بإرساء الأمن والانضباط في البلاد.

وأمّا المرسوم الثاني، فقد اشتمل على إقالة للحكومة ولرئيسها مصطفى النحاس، وتكليف علي ماهر باشا بتشكيل وزارة جديدة.

دروب «الثورة» السالكة والسانحة

عندما نزلتْ، في غسق تلك الليلة الباردة الظلماء، سرايا من الكتيبة السادسة للمشاة في الجيش، إلى ميادين وسط القاهرة، كانت ألسنة النيران في العاصمة المصرية تلعق مباني وسيارات وبضائع وأثاثاً ومقتنيات... وبَدَا المشهد حقاً مفزعاً ومروّعاً!

لقد كان حريق القاهرة - في شكله ومضمونه - نهايةً مأسويةً لعصر بأكمله ساد فيه نظامٌ سياسيٌّ حاكمٌ اهترأت ركائز شرعيته إلى حدّ التداعي والتلاشي. ولكنّ «نيران الحريق» - برمزيّتها - بَدَت كذلك إيذاناً بتهيُّؤ قطاعٍ واسعٍ مهمَّشٍ بائسٍ من الشعب المصري لثورة تقلع جذور ذلك النظام الذي بلغ مصرعه. ولعلّ «اللهب» أومض أيضاً شعلةً تضيء الدرب لظهور نظام جديد.



https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/2024722222654170638572840141708211.jpg

ولم تكن المجزرة التي اقترفتها قوات الاحتلال البريطاني ضدّ الشرطة المصرية في مدينة الإسماعيلية، في اليوم السابق للحريق، سوى الشرارة التي يحتاج إليها كلّ وضعٍ ثوريٍّ متَهَيِّئٌٍ للانفجار الكبير.

ولم تكن آثام المحتلّ الجاثم في منطقة قناة السويس، والمتأهّب لغرس أظافره في جسد مصر بأكملها، سوى مبعثٍ دافعٍ لمواصلة مسار ممتدّ في المقاومة والكفاح. ولم يكن اغتصاب فلسطين واحتلالها، إلّا محرّكاً ومسوّغاً، في وجدان الناس، لوجوب تغيير جذريّ شامل لحماية هذه الأوطان. ولم تكن فضائح الملِك، وزوجته، وأمّهِ، وشقيقاته، وأفراد أسرته وحاشيته، إلّا مجلبةً لسقوط عرش.

ولم يكن إجحاف وضع طبقيّ متوحش إلّا مدعاةً لانقلابٍ شاملٍ وتغييرٍ كاملٍ في الموازين الاجتماعية والاقتصادية³.

لقد كانت تلك هي الظروف السانحة التي تهيّأت لإنجاح ثورة 23 يوليو/ تمّوز 1952. وصحيح أنّ منطلق هذه الثورة كان على شكل انقلاب عسكري، ولكنّ المضمون الفعلي الذي أحدثه ذلك الانقلاب كان تغييراً هائلاً بكل المقاييس شمل مصر، وأمّتها العربية، ومحيطها القارّيّ، بل إنّ هذا الإشعاع الثوريّ امتد إلى أنحاء بعيدة في العالم الفسيح.

هوامش:

1- لسوء حظ فؤاد باشا سراج الدين، فإنّ العمارة التي أهمل مهامه، في سبيل شرائها يوم 26 يناير 1952، جرى تدمير جزء مهم منها، في نفس ذلك النهار، ضمن أحداث يوم حريق القاهرة.

2- كان «أمير الصعيد» لقباً رسمياً أطلقه الملك فؤاد الأول على ابنه فاروق في عام 1933. ثم أصبح اللقب ملازماً لِمن يحمل صفة وليّ العهد في المملكة المصرية. ومن الواضح أنّ اللقب مجرد محاكاة عبيطة لما هو موجود في بريطانيا تحت مسمّى «أمير ويلز». لكنّ العجيب أن الأسرة العلوية تشبثت بهذا «اللقب» وغيره، حتى بعد انتهاء النظام الملكي في مصر. وما زال الأمير محمد علي حفيد الملك فاروق الذي يعيش في باريس، يلقب نفسه إلى الآن بـ«أمير الصعيد».

3- كان يجثم على صدر مصر، في أواخر العهد الملكي، أحد عشر ألفاً من «الإقطاعيين» الذين يملكون وحدهم أكثر من 70% من الأراضي الزراعية (وهي الأساس الحقيقي للاقتصاد المصريّ وقتها). وكان فى الأرياف أحد عشر مليون فلّاح لا يملكون سوى أجر يومهم الذي لم يكن يزيد على قرشين، فى أفضل الأحوال. ولم يكن العمّال، وغالبيتهم يشتغلون فى مجال الخدمات، يعيشون ظروفاً أفضل من الفلاحين. ولم تكن في مصر، في العصر الملكي، مشاريع صناعية أو تجارية كبيرة. وإن وُجدت فإنها غالباً تكون تحت هيمنة الشركات الأجنبية.

ولم يكن للمصريين سوى 30% من مقاعد مجالس إدارات تلك الشركات. وهي في معظمها بنوك، أو شركات تأمين، أو مؤسسات استيراد...

* كاتب عربي من تونس

https://www.al-akhbar.com/Opinion/384704/%D9%85%D8%B5%D8%B1%D8%B9-%D9%86%D8%B8%D8%A7