محب الصحابة
10-17-2005, 01:36 AM
يكشفها كريم حسن - الوطن الإسلامي
كان الناس من اهل نيسابور يرون شيخا تام القامة، طويل، ابيض الرأس واللحية يرخي طرف عمامته بين كتفيه، ويجلس ليكتب أو ليملي احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس علم ضخم.. يحضره الآلاف من محبي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الشيخ هو مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، وكنيته أبو الحسين، الامام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق. ولد الامام مسلم صاحب الصحيح سنة 204هـ يقول الذهبي: وما أظنه ولد قبل ذلك. يصفه قائلا: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخا حسن الوجه والثياب، وعليه رداء حسن وعمامة قد أرخاها بين كتفيه، فقيل: هذا مسلم فتقدم اصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج امام المسلمين، فقدموه في الجامع، فكبر وصلى بالناس.
اشتهر الامام مسلم بالدقة الشديدة في كتابة الاحاديث والسنن، الى حد ان البعض يفضل صحيحه على صحيح استاذه البخاري. فقد تشدد مسلم في قبول بعض الأحاديث الصحيحة. ولأن البخاري جزأ الأحاديث -طبقا لأبواب الفقه- فقد تعسر على طالب الحديث ان يجده بأكمله في البخاري، فليس كل طالب لحديث، طالبا للحكم الفقهي، وقد يكلف طالب الحديث وحده من البخاري ان يجمع اجزاءه من عدة مواضع لو استطاع. وقد لا يستطيع.
ومن اجل هذا، نشط الامام مسلم لجمع الأحاديث الصحيحة، وسردها مرة واحدة امام المحتاج لها من غير تكرار او تقطيع، حتى يسهل له حاجته في العثور على الحديث كله، ولا يشغله عن الوصول للحديث تكرار كثير، ولا استنباطات فقهية لا يبحث عنها ولا يحتاج اليها، «لأن ضبط القليل من هذا الشأن، واتقانه، أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما من لا تمييز عنده من العوام، الا بأن يوقفه على التمييز غيره» حسب وصف الامام مسلم في مقدمة صحيحه.
جمع الامام مسلم في صحيحه من الأحاديث أربعة آلاف حديث غير مكرر، وبالمكرر نحو 7275 حديثا. يقول مسلم: «صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة الف حديث مسموعة» مقدمة شرح النووي ص .15
وظل الامام مسلم يسعى لجمع احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته التي كانت قصيرة حيث توفي وعمره حوالي بضع وخمسين سنة.
وكان مسلم يعيش حياة العلماء من الزهد والورع والتقوى فكان لا يهتم الا بعلمه، ويقوم الليل يكتب ويصلي. وكان الامام مسلم عاشقا للتمر.. الى حد أنه كان يأكل منه الكثير.
وفي يوم من الأيام عقد لمسلم مجلس المذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه فاندهش وقام مسرعا الى منزله، واوقد السراج، وقال لزوجته واولاده: لا يدخل احد منكم عليّ. فقالت له زوجته: أهديت الينا سلة تمر. فابتسم وقال: قدموها. فقدموها اليه فوضعه امامه وراح يأكل فيما كان يبحث بين أوراقه عن الحديث الذي لا يعرفه. سلة التمر كانت ضخمة جدا. والوقت يمر ولا يظهر الحديث الذي يبحث عنه، وقد انعكس هذا على تركيز الامام مسلم فراح يأكل التمر وهو لا يدري. وفجأة ظهر الحديث بين الأوراق، وقبل ان يتنهد الامام مسلم راحة، مد يده الي السلة، فلم يجد التمر. لقد أكله كله. وحاول ان يتنفس لكن التمر كتم أنفاسه. نادى على أهله. وقبل أن يحضروا له الطبيب لفظ الامام مسلم انفاسه متأثرا بالتمر الذي يعشقه. وكان ذلك عام 261هـ بنيسابور.
الامام النووي
وهو الشيخ الذي قام بشرح كتاب صحيح مسلم. والامام الذي شهد بفضله وعلمه وصلاحه أهل المشرق والمغرب. ولد الامام محيي الدين، ابو زكريا، يحيى بن شرف المعروف بـ «النووي» سنة 631، وتوفي عام 676 عن 45 سنة من العمر وكان ميلاده بحوران، وقدم الى دمشق عام 649 فسكن المدرسة الرواحية. يتناول خبز المدرسة -يتقوت به لاغير- ثم حج مع ابيه، واقام بالمدينة المنورة شهرا ونصف الشهر، واصيب بالمرض الشديد طوال هذه الفترة. يقول الامام النووي عن فترة تحصيل العلم في شبابه وكيف بدأ: «بارك الله تعالى في وقتي، وخطر لي ان اشتغل في الطب، واشتريت كتاب «القانون» لابن سينا، فاظلم قلبي وبقيت أياما لا أقدر على الدراسة والقراءة، فأشفقت على نفسي وبعت «القانون» فأنار قلبي».
وبعد هذا درس النووي كتب السنة الستة والمسند والموطأ، وشرح السنة للبغوي، وسنن الدارقطني، واشياء كثيرة. ولازم الاشتغال-اي بالتدريس- والتأليف، ونشر العلم، والعبادة والاوراد والصيام والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس، ملازمة كلية لا هم له سواها حتى اصبح احد ائمة المذهب الشافعي.
لم يعرف النووي سوى الحياة الخشنة جدا، فكانت ملابسه من الخام -اي الصوف القاسي- وعمامته «شبختانية» -اسم لنوع رخيص من العمائم- صغيرة. وكان ينسى دخول «الحمام» الى حد ان احد معاصريه وهو الرشيد بن المعلم قال له: «عاتبت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن تحصيل العلم، فقال النووي: ان فلانا صام وعَبَد الله حتى اخضر جلده.
امتنع النووي عن اكل الفواكه والخيار، ويقول معللا: اخاف ان يرطب جسمي ويجلب لي النوم. كان يأكل في اليوم كله أكلة واحدة، ويشرب شربة واحدة عند السحر.
يقول ابن العطار: كلمته في امتناعه عن اكل فاكهة دمشق، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف واملاك من تحت الحجر --اي المحجور عليهم- والتصرف لهم لا يجوز الا على وجه الغبطة لهم -اي على الوجه الاحسن والأنفع لهم مالا- ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟!
وكان لا يقبل الهدايا -الا في النادر- وخصوصا من هؤلاء التلاميذ الذين لا يدرس لهم. فقد أهدى له رجل فقير ابريقا فقبله، وعزم عليه الشيخ برهان الدين الاسكندراني ان يفطر عنده، فقال النووي: أحضر الطعام الى هنا، ونفطر جملة -أي معا- فأكل من ذلك، وكان صنفين من الطعام، وربما جمع الشيخ في بعض الأوقات بين إدامين.
وهذا الزهد والاستغناء عما في ايدي الناس جعله يواجه الملوك بظلمهم ويكتب اليهم آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، الى درجة ان الملك الظاهر كان يقول عن النووي: «انا أفزع منه».
ويصفه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: «كان يحيى -النووي- سيدا وحصورا- اي عازبا لم يتزوج- ولينا على النفس هصورا وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا اذا صير دينه ربعا معمورا، له الزهد والقناعة ومتابعة السالفين من اهل السنة والجماعة، والمصابرة على انواع الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في اصناف العلوم، فقها ومتون احاديث، واسماء رجال، ولغة وتصوفا وغير ذلك».
ولأن النووي كان «صاحب مرض» طوال حياته التي اختار لها الزهد والورع ورفض الطعام الحسن انتظارا لما عند الله من الخير الكثير، فقد لازمته الامراض. فقد سافر وزار بيت المقدس، وعاد الى «نوى»، واشتد عليه المرض فمرض عند والده، وحضرته المنية وانتقل الى رحمة الله تعالى في رجب سنة 676 -عن 45 سنة- وقبره معروف في نوى بالشام يزوره الناس.
الأنباري
امتنع الامام ابو بكر بن الانباري النحوي والمفسر والأديب والراوية، العالم ابن العالم البغدادي المولود سنة 271 والمتوفى سنة 328هـ، عن تناول الطيبات من الطعام -وقد قدم له على موائد الملوك- ابقاء على حفظه وزهد في اقتراب النساء - حفاظا على تفرغه لعلمه، فكان اعجوبة في حفظه وفي علمه، وفي زهده، فلم يكن له نسل ولا ذرية من بعده سوى أكثر من ثلاثين مؤلفا، تزيد اوراقها على اكثر من خمسين الف ورقة (حسب وصف الشيخ عبد الفتاح ابو غدة في ترجمته للعلماء العزاب).
ويحكي ابو الحسن العروضي: «اجتمعت انا وابو بكر الانباري عند الراضي -الخليفة العباسي احمد بن المقتدر وكان الانباري يقوم بالتدريس لاولاده- على الطعام، وكان ابو بكر قد عرف الطباخ ما يأكل، فكان يسوي له قلية يابسة فأكلنا نحن من الوان الطعام و اطايبه، وهو لا يأكل سوى من تلك القلية، ثم فرغنا، فأتينا بحلوى فلم يأكل منها شيئا، وقام وقمنا الى الخيش، فنام بين يدي الخيش، ونمنا نحن في سرائر ناعمة، ولم يشرب ماء الى العصر. فلما كان بعد العصر قال: ياغلام، الوظيفة، فجاءه بماء من الخابية -اي من غير مثلج وترك الماء المزمل بالثلج، فغاظني امره، فصحت صيحة: يا أمير المؤمنين! فأمر باحضاري، وقال: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: هذا -أي الأنباري- يحتاج الى ان يحال بينه وبين تدمير نفسه، لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، قال: فضحك وقال: له في هذا لذة، وقد جرت به العادة، وصار مألوفا فلن يضره.
يضيف العروضي: ثم قلت له: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ قال: الانباري ابقي على حفظي. قلت: قد اكثر الناس من حفظك.. فكم تحفظ؟ قال: احفظ ثلاثة عشر صندوقا.
وكان الانباري يأخذ الرطب ويشمه ويقول: اما انك لطيب، ولكن اطيب منك حفظ ما وهب الله لي من العلم. ولما مرض مرض الموت اكل كل شيء بشدة وقال: هي علة الموت!!
وحاول الخليفة العباسي تزويجه بجارته الا ان الانباري رفض الدخول بها لأنها شغلته عن علمه فقال المقتدر بالله: «لا ينبغي ان يكون العلم في قلب احد احلى منه في صدر هذا الرجل».
كان الناس من اهل نيسابور يرون شيخا تام القامة، طويل، ابيض الرأس واللحية يرخي طرف عمامته بين كتفيه، ويجلس ليكتب أو ليملي احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس علم ضخم.. يحضره الآلاف من محبي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الشيخ هو مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، وكنيته أبو الحسين، الامام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق. ولد الامام مسلم صاحب الصحيح سنة 204هـ يقول الذهبي: وما أظنه ولد قبل ذلك. يصفه قائلا: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخا حسن الوجه والثياب، وعليه رداء حسن وعمامة قد أرخاها بين كتفيه، فقيل: هذا مسلم فتقدم اصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج امام المسلمين، فقدموه في الجامع، فكبر وصلى بالناس.
اشتهر الامام مسلم بالدقة الشديدة في كتابة الاحاديث والسنن، الى حد ان البعض يفضل صحيحه على صحيح استاذه البخاري. فقد تشدد مسلم في قبول بعض الأحاديث الصحيحة. ولأن البخاري جزأ الأحاديث -طبقا لأبواب الفقه- فقد تعسر على طالب الحديث ان يجده بأكمله في البخاري، فليس كل طالب لحديث، طالبا للحكم الفقهي، وقد يكلف طالب الحديث وحده من البخاري ان يجمع اجزاءه من عدة مواضع لو استطاع. وقد لا يستطيع.
ومن اجل هذا، نشط الامام مسلم لجمع الأحاديث الصحيحة، وسردها مرة واحدة امام المحتاج لها من غير تكرار او تقطيع، حتى يسهل له حاجته في العثور على الحديث كله، ولا يشغله عن الوصول للحديث تكرار كثير، ولا استنباطات فقهية لا يبحث عنها ولا يحتاج اليها، «لأن ضبط القليل من هذا الشأن، واتقانه، أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما من لا تمييز عنده من العوام، الا بأن يوقفه على التمييز غيره» حسب وصف الامام مسلم في مقدمة صحيحه.
جمع الامام مسلم في صحيحه من الأحاديث أربعة آلاف حديث غير مكرر، وبالمكرر نحو 7275 حديثا. يقول مسلم: «صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة الف حديث مسموعة» مقدمة شرح النووي ص .15
وظل الامام مسلم يسعى لجمع احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته التي كانت قصيرة حيث توفي وعمره حوالي بضع وخمسين سنة.
وكان مسلم يعيش حياة العلماء من الزهد والورع والتقوى فكان لا يهتم الا بعلمه، ويقوم الليل يكتب ويصلي. وكان الامام مسلم عاشقا للتمر.. الى حد أنه كان يأكل منه الكثير.
وفي يوم من الأيام عقد لمسلم مجلس المذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه فاندهش وقام مسرعا الى منزله، واوقد السراج، وقال لزوجته واولاده: لا يدخل احد منكم عليّ. فقالت له زوجته: أهديت الينا سلة تمر. فابتسم وقال: قدموها. فقدموها اليه فوضعه امامه وراح يأكل فيما كان يبحث بين أوراقه عن الحديث الذي لا يعرفه. سلة التمر كانت ضخمة جدا. والوقت يمر ولا يظهر الحديث الذي يبحث عنه، وقد انعكس هذا على تركيز الامام مسلم فراح يأكل التمر وهو لا يدري. وفجأة ظهر الحديث بين الأوراق، وقبل ان يتنهد الامام مسلم راحة، مد يده الي السلة، فلم يجد التمر. لقد أكله كله. وحاول ان يتنفس لكن التمر كتم أنفاسه. نادى على أهله. وقبل أن يحضروا له الطبيب لفظ الامام مسلم انفاسه متأثرا بالتمر الذي يعشقه. وكان ذلك عام 261هـ بنيسابور.
الامام النووي
وهو الشيخ الذي قام بشرح كتاب صحيح مسلم. والامام الذي شهد بفضله وعلمه وصلاحه أهل المشرق والمغرب. ولد الامام محيي الدين، ابو زكريا، يحيى بن شرف المعروف بـ «النووي» سنة 631، وتوفي عام 676 عن 45 سنة من العمر وكان ميلاده بحوران، وقدم الى دمشق عام 649 فسكن المدرسة الرواحية. يتناول خبز المدرسة -يتقوت به لاغير- ثم حج مع ابيه، واقام بالمدينة المنورة شهرا ونصف الشهر، واصيب بالمرض الشديد طوال هذه الفترة. يقول الامام النووي عن فترة تحصيل العلم في شبابه وكيف بدأ: «بارك الله تعالى في وقتي، وخطر لي ان اشتغل في الطب، واشتريت كتاب «القانون» لابن سينا، فاظلم قلبي وبقيت أياما لا أقدر على الدراسة والقراءة، فأشفقت على نفسي وبعت «القانون» فأنار قلبي».
وبعد هذا درس النووي كتب السنة الستة والمسند والموطأ، وشرح السنة للبغوي، وسنن الدارقطني، واشياء كثيرة. ولازم الاشتغال-اي بالتدريس- والتأليف، ونشر العلم، والعبادة والاوراد والصيام والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس، ملازمة كلية لا هم له سواها حتى اصبح احد ائمة المذهب الشافعي.
لم يعرف النووي سوى الحياة الخشنة جدا، فكانت ملابسه من الخام -اي الصوف القاسي- وعمامته «شبختانية» -اسم لنوع رخيص من العمائم- صغيرة. وكان ينسى دخول «الحمام» الى حد ان احد معاصريه وهو الرشيد بن المعلم قال له: «عاتبت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن تحصيل العلم، فقال النووي: ان فلانا صام وعَبَد الله حتى اخضر جلده.
امتنع النووي عن اكل الفواكه والخيار، ويقول معللا: اخاف ان يرطب جسمي ويجلب لي النوم. كان يأكل في اليوم كله أكلة واحدة، ويشرب شربة واحدة عند السحر.
يقول ابن العطار: كلمته في امتناعه عن اكل فاكهة دمشق، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف واملاك من تحت الحجر --اي المحجور عليهم- والتصرف لهم لا يجوز الا على وجه الغبطة لهم -اي على الوجه الاحسن والأنفع لهم مالا- ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟!
وكان لا يقبل الهدايا -الا في النادر- وخصوصا من هؤلاء التلاميذ الذين لا يدرس لهم. فقد أهدى له رجل فقير ابريقا فقبله، وعزم عليه الشيخ برهان الدين الاسكندراني ان يفطر عنده، فقال النووي: أحضر الطعام الى هنا، ونفطر جملة -أي معا- فأكل من ذلك، وكان صنفين من الطعام، وربما جمع الشيخ في بعض الأوقات بين إدامين.
وهذا الزهد والاستغناء عما في ايدي الناس جعله يواجه الملوك بظلمهم ويكتب اليهم آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، الى درجة ان الملك الظاهر كان يقول عن النووي: «انا أفزع منه».
ويصفه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: «كان يحيى -النووي- سيدا وحصورا- اي عازبا لم يتزوج- ولينا على النفس هصورا وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا اذا صير دينه ربعا معمورا، له الزهد والقناعة ومتابعة السالفين من اهل السنة والجماعة، والمصابرة على انواع الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في اصناف العلوم، فقها ومتون احاديث، واسماء رجال، ولغة وتصوفا وغير ذلك».
ولأن النووي كان «صاحب مرض» طوال حياته التي اختار لها الزهد والورع ورفض الطعام الحسن انتظارا لما عند الله من الخير الكثير، فقد لازمته الامراض. فقد سافر وزار بيت المقدس، وعاد الى «نوى»، واشتد عليه المرض فمرض عند والده، وحضرته المنية وانتقل الى رحمة الله تعالى في رجب سنة 676 -عن 45 سنة- وقبره معروف في نوى بالشام يزوره الناس.
الأنباري
امتنع الامام ابو بكر بن الانباري النحوي والمفسر والأديب والراوية، العالم ابن العالم البغدادي المولود سنة 271 والمتوفى سنة 328هـ، عن تناول الطيبات من الطعام -وقد قدم له على موائد الملوك- ابقاء على حفظه وزهد في اقتراب النساء - حفاظا على تفرغه لعلمه، فكان اعجوبة في حفظه وفي علمه، وفي زهده، فلم يكن له نسل ولا ذرية من بعده سوى أكثر من ثلاثين مؤلفا، تزيد اوراقها على اكثر من خمسين الف ورقة (حسب وصف الشيخ عبد الفتاح ابو غدة في ترجمته للعلماء العزاب).
ويحكي ابو الحسن العروضي: «اجتمعت انا وابو بكر الانباري عند الراضي -الخليفة العباسي احمد بن المقتدر وكان الانباري يقوم بالتدريس لاولاده- على الطعام، وكان ابو بكر قد عرف الطباخ ما يأكل، فكان يسوي له قلية يابسة فأكلنا نحن من الوان الطعام و اطايبه، وهو لا يأكل سوى من تلك القلية، ثم فرغنا، فأتينا بحلوى فلم يأكل منها شيئا، وقام وقمنا الى الخيش، فنام بين يدي الخيش، ونمنا نحن في سرائر ناعمة، ولم يشرب ماء الى العصر. فلما كان بعد العصر قال: ياغلام، الوظيفة، فجاءه بماء من الخابية -اي من غير مثلج وترك الماء المزمل بالثلج، فغاظني امره، فصحت صيحة: يا أمير المؤمنين! فأمر باحضاري، وقال: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: هذا -أي الأنباري- يحتاج الى ان يحال بينه وبين تدمير نفسه، لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، قال: فضحك وقال: له في هذا لذة، وقد جرت به العادة، وصار مألوفا فلن يضره.
يضيف العروضي: ثم قلت له: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ قال: الانباري ابقي على حفظي. قلت: قد اكثر الناس من حفظك.. فكم تحفظ؟ قال: احفظ ثلاثة عشر صندوقا.
وكان الانباري يأخذ الرطب ويشمه ويقول: اما انك لطيب، ولكن اطيب منك حفظ ما وهب الله لي من العلم. ولما مرض مرض الموت اكل كل شيء بشدة وقال: هي علة الموت!!
وحاول الخليفة العباسي تزويجه بجارته الا ان الانباري رفض الدخول بها لأنها شغلته عن علمه فقال المقتدر بالله: «لا ينبغي ان يكون العلم في قلب احد احلى منه في صدر هذا الرجل».