المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سارتر والوجودية الأصلية



مجاهدون
10-11-2005, 03:22 PM
خالص جلبي

http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/Images/ElaphLiterature/2005/10/Thumbnails/T_af7540c4-ba27-4d20-8cd2-5e4b8913adf3.jpg


بين عامي 1852 و1947 م رحّلت فرنسا إلى غوايانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية 70 ألف معتقل مات ثلثاهم في جزر جهنمية. حيث تطلق صواريخ ارتياد الفضاء الأوربية حالياً. وتبدأ القصة من نابليون الثالث صاحب النكبة الفرنسية عام 1870 الذي قادته إليه زوجته المغناج يوجينا. ففي هذا العام خسرت فرنسا الحرب ضد بسمارك، وتم تتويج الإمبراطور الألماني في فرساي. وخسرت فرنسا 135 ألف قتيل. ودمرت العائلة المالكة بعدها وقامت الجمهورية الثالثة.

وحديثنا ليس عن نابليون التعيس وزوجته يوجينا الحمقاء، بل عن سجن رهيب لم يسمع به العالم إلا بعد مرور أكثر من ثمانين سنة على إنشائه. كان فيها القضاء الفرنسي يمارس عمله أقرب إلى الجريمة من العدالة، فيلقي القبض على من سرق دراجة ووجبة طعام، ثم يجمعهم في طوابير، على وجبتين في السنة، ويرحلهم إلى سان مرتين، الميناء الفرنسي الشمالي، ثم يزربون زربا في ناقلات المحيط لمدة عشرين يوما، حتى تنتهي بهم الرحلة على شاطيء غوايانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية، وغالبا ما كانت إقامتهم دائمة ولو كان حبسهم محدودا. وهو يذكر بقصة الكونت مونت كريستو فمن دخل السجن نسي، وهناك تصفد أقدامهم ويجبرون على الأعمال الشاقة. يلسعهم البعوض، وتعضهم الثعابين الخطيرة، وتقرصهم العناكب السامة. ومن عصا فله العصا؛ فيلقى المتمرد في الانفرادية لمدة ستة أشهر.

وإذا أظهر عدم الانضباط ولم يحترم الشرطي زادت عقوبته على شكل تصاعدي. ومن حاول الهرب فضبط زادت مدت حبسه سنتان فإن عاد زيدت إلى خمس سنوات. فإن أظهر صلابة نقل إلى واحد من ثلاث جزر قريبة من غوايانا وبالتدرج، حتى يصل إلى جزيرة أطلق عليها جزيرة الشيطان. هكذا سماها من استطاع الفرار فحمل رسومات فنان محبوس هناك حبس بسبب تزويره بعض اللوحات؟ وهناك من ضرب الرقم القياسي في مكثه في الانفرادية، هو (بول بورساك) الذي بقي فيها 11 سنة متواصلة، فلما خرج لم يطق الحياة فألقى نفسه في النهر وانتحر.

http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/10/thumbnails/T_aba1c6e4-53dc-4e66-9be6-5e7a78c01b5c.jpg

وأنا شخصيا ذقتها ولا أتمنى لأحد دخولها، وكان الفرار من الجزيرة بين خطرين عظيمين المحيط الغادر والغابات القاتلة. ومن خلفهم المقصلة التي نقلت من فرنسا إلى هذه الجزر الجهنمية. وفي النهاية نجح اثنان في الفرار ونقلوا الخبر للعالم فارتج رجا ومثلته هوليود فيلما وعرضته قناة الديسكفري. وكان آخر حبيس غادرها عام 1947، وأغلقت جهنم أبوابها، بعد أن التهمت عظام وأحلام عشرات الآلاف. واليوم هي منصة إطلاق صواريخ وشاطئ تنزه وعبرة للسائحين. إن في ذلك لآيات للمتوسمين.

ومن أهم الشخصيات التي حبست هناك ضابط فرنسي يهودي هو (دريفوس Dreyfus) اتهم بالجاسوسية ظلماً، ثم نفي للجزيرة فوضع في جزيرة الشيطان، وبعد حين صفدت أقدامه أيضاً، ويومها قام المثقفون الفرنسيون بحملة مكثفة ضد هذا الفعل الشنيع على رأسهم الأديب ( إيميل زولا) الذي حرك الموضوع بمقالة بعنوان (إنني أتهم J accuse)، حتى أطلق سراحه بعد عدة سنين، واعتذر وزير الحربية الفرنسية في البرلمان وهو يصر على نواجذه ثم أعيد الاعتبار للرجل. وزار حفيده محبس جده لاحقا عبرة لأولي الأبصار.

وقصته تشبه ما جاء في القرآن عن (بشير بن أبيرق) اليهودي الذي اتهمه بعض الأنصار ظلما بعد أن سرقوا درعا، فلما حامت حولهم الشبهة، ألقوه في بيت اليهودي، ثم جاءوا النبي يطلبون أن يبرئهم علنا، فجاء القرآن يعاتب النبي كيف يكون للخائنين خصيما؟ ثم برأ القرآن ساحة اليهودي في ثماني آيات من سورة النساء في قصته(105 ـ 113) " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا".

ومن قصة دريفوس شق المثقفون الفرنسيون الطريق إلى عالم حر يواجهون به آلة الدولة القمعية. وتقول المؤرخة الأمريكية (فينيتا داتا Venita Datta) أن المثقفين الفرنسيين بهذا العمل لنصرة حقوق الإنسان خدموا المثال الثقافي في كل العالم وليس فرنسا لوحدها، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، أما عندنا فقد كرسنا الظلم والديكتاتورية في إجازة مفتوحة.
وفي 15 أبريل 2005م احتفلت فرنسا بمولد الفيلسوف الوجودي (سارتر) وأعيد رماده من المحرقة كما يقال؛ فالرجل كان بين محب واله ومبغض تالف، وعقدت عشرات الندوات وطبعت أعماله مجددا.

فمن هو جان بول سارتر؟

عاش سارتر 75 سنة مثل ابن خلدون (1905 ـ 1980م) في ثلاثة أثلاث، وكما قسم ابن خلدون حياته بين الأندلس والمغرب ومصر كل بربع قرن، كذلك تنوعت حياة سارتر بين ماركسي متعصب، إلى أسير في يد النازيين، ثم فيلسوف الحرية والقطيعة التامة مع الشيوعية، ليشق طريقه وحيدا مثل أبو ذر الغفاري، مع صديقته سيمون دي بوفوار، ووصف الرجل بأنه كان من أكثر فلاسفة القرن العشرين غزارة في الإنتاج، وكان يكتب كل يوم 6 ساعات، وكتب حتى عمي، وناضل حتى مات، ولم ينشر كل ما كتب، ومما نشر كان كتابه (الوجودية تعني الإنسانية) في أكتوبر 1945م فأحدث صدى هائلاً، ومما كتب 700 صفحة في الوجود والعدم، و2000 صفحة في طبعة خفيفة الورق بروايات شتى، وكتب 1300 صفحة في نقد العقل الجدلي، مذكرا بعمل (كانط) في نقد العقل الخالص والعملي، وكتب 3000 صفحة في دراسة فلوبير عن (أحمق العائلة)، وبين عامي 1943 و 1953م كتب 4 تحليلات فلسفية، وثلاث روايات، وتحليل أدبي مطول و6 قطع مسرحية، عرضت بالإضافة إلى إخراج فيلمين، وتأسيس المجلة المشهورة (مجلة العصور الحديثة) الشهرية، فهو كما يقولون ينتسب إلى الفلاسفة العمالقة، أو بتعبير (برنارد هنري ليفي) ديناصورات الفلسفة. أما في الوقت الراهن فإن المثقفين الفرنسيين في حالة تيه كما وصفهم الفيلسوف (بيير بوردو) ويعزي هذا إلى العولمة التي أدخلت البرد إلى كل وبر ومدر. وأن الثقافة الفرنسية تعيش أزمة بنيوية عميقة.

وكما وصف ابن خلدون بأنه كان فقيها شاعرا مؤرخا قاضيا وعالم اجتماع بل من مؤسسيه، فقد كان سارتر حوضاً معرفيا فكان فيلسوفا رومانسيا وروائيا وكاتبا وصحفيا وفنانا ومخرجا مسرحيا بل و(محرضاً Agitator) جماهيريا، كلها جمعها في شخص واحد، وقبل وبعد ذلك ثائرا لم يعرف الراحة حتى مماته.

كان سارتر مزيجاً عجيبا للناس يتأملونه بين الإعجاب والدهشة والرعب والكراهية، وكما وصف (راسل) الفلسفة بأنها المنطقة التي لا اسم لها تهاجم من العلم والتيولوجيا معا، فقد كانت الفلسفة الوجودية عند سارتر موضع هجوم الأغلبية، وكان مكروها ممقوتا موصوفا بالإلحاد، وكان الناس يتحاشونه حين يدخل مقهاه المفضل والدائم (الفلور) في سانت جيرمان في باريس، وتعرض لعمليتين إرهابيتين من إلقاء القنابل عليه ولكنه نجا.

ولكن الشعب الفرنسي كله متحمس له اليوم، كما يقول روبرت غرين إن الأموات والآلهة لا تحسد، وقامت المكتبة الوطنية الفرنسية بدءً من 15 أبريل بتكريس ذكريات الرجل وأعماله حسب مراحل حياته بما فيها بعض المخطوطات التي لم تنشر، كما ظهر إلى الضوء أيضا تقارير جاسوسة حسناء نامت في فراشه كلفها الروس بنقل كل شيء عنه مع أنه كان نعم القرين والمؤيد، وكانت أخباراً موجعة. ومن النصوص (التابو) التي تعرض ما كتب بعنوان (العاهرة الشريفة)، وهو يذكر بدفاع القرآن عن النسوة التي تمارس البغاء بالإكراه "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم".

لا شك أن الرجل كان عبقريا وشاهداً لعصره، كما يطلب الله من المؤمنين أن يكونوا شهداء على الناس، والشهادة هي الحضورالواعي فلا يمكن أن يؤتى بشاهد غافل لمحكمة رفيعة المستوى للبت في قضية خطيرة. ويحمل سارتر كل عيوب وتناقضات عصره بما فيها رائحة الإلحاد، وبقي الثائر (الأبدي) لحرية الأفراد والشعوب، ومشت كتبه في كل أسواق العالم، واحتفلت به أمريكا، وأصبحت إيطاليا بلده الثاني، ورأى فيه الكثير من شعوب العالم الثالث الناطق باسم المستضعفين.

وعندما مات الرجل عام 1980م كان شيخاً واهناً منهكاً، بعيون منطفئة، وفم بدون أضراس، غير قادر على الكتابة والقراءة ـ ربما بفرط التدخين والكحول وتناول الأمفتامين؟ ـ وكان يسبح في شفق المغيب العقلي، وأحيانا يرجع إلى الوعي فيأمل أن ينهض من الرماد كما في قصة طائر الفينيكس، وهي من جملة تناقضاته، وربما من أجمل ما فعل مع صديقه وعدوه لمدة ثلاثين سنة (اندريه جلوكسمان) في التدخل عند الرئيس الفرنسي (فاليري جيسكار ديستان) في منح اللجوء السياسي لفيتناميي القوارب، أو بتعبيره (آوسشفيتز على ظهر الماء) وهو اسم معسكر النازي في بولونيا، وهو بهذا برهن على أن الفلسفة "أن تعيش المعاناة مع الناس وليس انتظار نهاية التاريخ على شكل جنة فلسفية".

كان سارتر (ظاهرةPhenomen ) فلم ينافسه في المقعد الأول فيلسوف أو كاتب أو روائي، وكانت كلماته أسلحة فتاكة، كما وصف ديورانت فولتير أنه كان يصرع خصمه بضربة من كلمة بدون رحمة، ولم يكن يردعه أن يهان أو يتعرض للأذى أو الإذلال، فقد كان روحاً وأسطورة ظهر ذلك في حركة 1968م وسار في جنازته خمسين ألفا أو يزيدون، ودفن في مقبرة العظماء في (مون بارناس Monparnasse ).

ثم بدا من بعد ذلك وكأنه نسي وضاع في ملفات الإهمال، ولكن الأمم العظيمة لا تفرط في رجال الفكر ولو أثاروا أعظم زوابع الجدل، فهنا هي الحياة وليست ديكتاتورية العربان. ومع موته ودع عالم الفلسفة الوجودية ليبدأ رحلة الفلسفة البنيوية (Structureliasm)
وعقد أكثر من 15 مؤتمر حول الرجل في فرنسا لوحدها، في باريس وأميان وليون، ولمدة أسبوعين، وفي أسبانيا وإيطاليا، وخصصت إذاعة (الثقافة الفرنسية) النخبوية أسبوعين لبث كامل أعمال الرجل للتعريف به، أما دار النشر (جالليمارد Gallimard) فقد طبعت كل أعماله من جديد، ويقول الفيلسوف ليفي "يجب أن تعاد قراءة أعمال الرجل كلها". ويعتبر حاليا بمثابة فيلسوف القرن العشرين مثل ما كان هوجو وفولتير وإيميل زولا في القرن التاسع عشر.

ولأن عقل الرجل كان نقديا ولم يكن نقليا فقد سافر في كل المعمورة، ورأى الإنجاز الشيوعي ميدانيا، وتحمس له في البدء ودعا إلى تقليده، مما قاد إلى كارثة في باريس حينما حاول الرفاق إقامة ما يشبه الكومونة الشيوعية، مما حولها إلى مصح عقلي للجريمة، والأمم تنمو بتجارب الحذف والإضافة. وممن اجتمع بهم كان رئيس عصابة البادر ماينهوف الألمانية اندرياس، وكتب في الدفاع عن زعماء حمر هم من طبقة المجرمين اليوم مثل بول بوت وستالين وكاسترو، ولكن بعد ربيع براغ كانت قاصمة الظهر فودع الشيوعية قبل أن تنطفئ شمعتها بثلاث عقود.

ولكن ما هي الوجودية حصراً؟ إنها في الواقع نزعة أو اتجاه ظهر في تاريخ الفلسفة ولا تخص سارتر، ويمكن أن نميز فيها أربع ملامح رئيسية كما أشارت إلى ذلك الموسوعة الفلسفية: فهي أولا (1) عداء للنظر المجرد الذي يطمس ما في الحيلة الفعلية من حالات التباين وعدم الاضطراد، وأحياناً تتخذ شكل التحليل الذاتي العميق كما في (الخواطر) لبسكال أو (الاعترافات) لأوغستين أو حتى (الخطرات) لجمال الدين الأفغاني ولذا فالدعوى أن المنهج الرياضي منهج كامل للمعرفة يمشي بسيقان من خشب.

وهذا يدخلنا إلى المفهوم الكوانتي للحياة، ولذا نقل سارتر الفلسفة إلى الشارع وكان في جلسته في مقهاه (الورد) في سانت جيرمان في باريس يتبادل الآراء مع القهوة والسيكار، ويثير الزوابع مع صديقته سيمون دي بوفوار. كما كان كانط يفعل في مجلسه على الغداء اليومي الذي يمتد إلى العشاء، والفلسفة إن لم يكن لها علاقة بالحياة فهي ميتة ومميتة. ولذا عنون ماركس كتابه في الرسالة التي أرسلها لصديقه (بؤس الفلسفة)

(2) هناك تقارب بين عمل الفيلسوف والروائي أو الكاتب المسرحي وهو ما شاهدناه من تنوع المواهب سواء كان عند سارتر أو ابن خلدون، ولذا فالفلسفة الوجودية تتحيز للجانب العاملي وتعارض (كانط) بتقديم العقل العملي على النظري كما كتب كانط عن ( نقد العقل العملي). وفي القرآن كان دليل إبراهيم دوما على فساد عبادة الأصنام من منطق براغماتي "هل ينفعونكم أو يضرون؟"

(3) الفكر الوجودي عميق التدين كما ظهر ذلك عند الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد، وليس بالضروة أن يكون على شكل إلحاد صريح كما تبدى ذلك عند سارتر، ولم يكن بحاجة له، ولكنها حرية الفكر ـ كما خسر القصيمي السعودي أيضاً، الذي بقي على أفكاره حتى مرض موته ـ فتعرض للهجوم من المسيحيين والشيوعيين، لأنه كفر بالكنيسة وستالين معاً، وبقيت كتبه على القائمة السوداء في محظورات الكنيسة قبل أن يرفع عنها الحظر في الستينات.

مع هذا فالنغمة الإلحادية هي تعبير عميق ديني من وجه عميق يخفى على الكثيرين فهو تمرد على الطقوس وتعلق بالروح، وتختلف عن الاتجاهات الأنجلوسكسونية التجريبية في رفض الاتجاهات الدينية عموما، وكامو الذي أخذ جائزة نوبل أعانته رواية الطاعون التي تنم عن "مشكلة القداسة حين تصطبغ بالإلحاد"، وعندما أعلن نيتشه موت الإله فهو كان يعني الكنيسة، ولكنه في أعماقه كان من أشد المؤمنين، ولذا كان ينصح من حوله" إذا أردت أن ترتاح فاعتقد، وإذا أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل؟" وهذا هو الجدل العميق بين الإيمان والمؤسسة الدينية، كما هو الحال بين المنشق الكاثوليكي (هانس كونج) والبابا.

(4) وأكثر من ذلك فقد انطلق (كيركيجارد) ليضع فلسفة جديدة للاهوت إصلاحي، وهي تصحيح لنزعة هيجل الجدلية وتأويلها للفكر الديني، ولنا أن نقول أن الفلاسفة المحترفين سيجدون دوما النماذج المعدلة للفكر الوجودي كما اكتشف ذلك (فتجنشتاين Wittgenstein) النمساوي في اعترافات أوغسطين، أو كتابات تولستوي أو تأثير الوجودية على اللاهوت في مؤلفات مثل رودلف بلتمان وبول تلتش.

مع هذا ونحن في صدد الوجودية يأتي نقد سارتر كما نقد غيره فليس من أحد فوق الخطأ أو دون النقد، أنه كيف يمكن لكاتب حر مهمته الأولى مقاومة التسلط على نحو راديكالي، أن يتحول إلى قاض، فيخسر أهم أصدقائه (البرت كامو Albert Camus ) الحساس والذي نال جائزة نوبل لأعماله.

هذه الشيزوفرينيا (الفصام) أو التناقض بين العبقرية والجنون هي ميزة سارتر، فقد كان قطب مغناطيسي امتص كل نقائص وعيوب عصره وعاش في حربين عالميتين وشاهد خداع الشيوعية وعاصر بدايات انهيارها، ولم تكن تناقضاته ببساطة مراحل مختلفة من حياته، بل كان تدفقا مزدوجا معيبا مربادا كالكوز مجخيا، وهذا (الانشقاق) في شخصيته جعلت منه الشخص المرغوب المرفوض. إنه التقط ببساطة تناقضات المحيط وانعكس كل هذا على نحو حاد في خلاصة مركزة من شخصية مرهفة شديدة الحساسة.
إن هذا المزاج الفرنسي عموما من العودة الأبدية إلى الاحباطات والهزائم والأوهام يمثل لعنة للفكر، وقد أثقل هذا إنتاج المثقفين الفرنسيين، مثل انهيار الشيوعية، وحركة العمال، وتمردات الطلبة، ولذا كما يقال (رومين لايك Romain Leick) من مجلة المرآة الألمانية (14 | 2005م | ص 166) فإن مستقبل المثقفين الفرنسيين يبدو مشوشاً.

ومما ينقل الأخير عن (ريجي ديبري Regis Debray) الذي رافق (تشي غيفارا) في حملاته في غابات بوليفيا، وأصبح لاحقاً مستشارا للرئيس (فرنسوا ميتران) أنها نهاية الرحلة الثقافية في فرنسا ويرمز لها بحرفين:( Intellictuel Terminal=I.T).

إن أبطال الفكر يرون رسالتهم كحكماء في المجتمع يواجهون الأقوياء باسم المستضعفين ليقولوا في وجوههم الحقيقة، ويكافحوا خونة المجتمع (المنافقون) فيقولوا لهم في أنفسهم قولا بليغا، ولكن هذا يحتاج إلى تيارات اجتماعية، وصراعا ضاريا، حين يقومون بالتحليل والوعظ في وسط يحقق صدى هائلا لكلماتهم التي تتحول إلى كيانات حية، أما المثقفون الفرنسيون كما يقول (بوردو) فهم يمشون على غير هدى بدون بوصة وخرائط ويعانون من أزمة مستحكمة. ولم يبق أمام المثقفون سوى الانسحاب للعمل في مؤسسات أو العمل الأكاديمي في دوائر حكومية في أرض قفراء من الإبداع . أما خليفة سارتر من (ديناصورات) الفلاسفة من حجم سبينوزا وكانط من الموسوعيين فلا أثر لهم في الأفق.

قال سارتر عن نفسه: لقد فوجئت بالشهرة وكان صديقي الكراهية من الجميع، أما الشهرة التي أصابتني فهي أشبه بالصدفة. لقد مات الرجل (القصير) كما كان يسميه رفاقه في المدرسة، الذي كان موضع الكراهية، ولكن لاشيء أبغض على النفس من النقد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء. واطلب من يقول لك الحقيقة لا من يفرحك، فهذه يقوم بها المهرجون وقصور الطغاة عامرة بهم.