المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل سافر النبي إلى الشام؟



زوربا
10-08-2005, 03:50 PM
غالب حسن الشابندر


مقدمة جارحة بعض الشيء



كنت وما زلت أقول أن سبب محنة الإسلام هو كثرة الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما تضمنته من خرافات وأساطير وتهاويل وخيالات، كذلك ما روي عن سيرته الكريمة، حيث حشرت هناك من الحوادث والوقائع التي يصعب تصديقها، بل تتنافى مع خلق القرآن الكريم، بل وتتنافى مع القياس الزمني الخارق لانتشار الإسلام في العالم.

وسوف ألاحق في إيلاف وأنا كاتب مجاني هنا والحمد لله، سوف ألاحق بدقة غزوات النبي، لأجليها تجلية دقيقة، تطارد الشاردة والواردة، ليس على ضوء السند والمتن، تلك الطريقة التقليدية التي لم تعد بذات بال، بل من خلال السياقات الاجتماعية والفكرية للرواة والرواية، ومن خلال نقد المصادر التي طالما نعتمد عليها من دون تمحيص ونقد وتحليل، ثم لا ننسى أن أكثر الروايات بل أغلبها نقلت شفاها، ثم دونت في القرن الهجري الثاني، ومن المعلوم أن انتقال الخبر من الشفهية إلى الكتابية يمر عبر طبقات من الانفعال والتفعيل، ويتماس مع سابقات هائلة اختمرت في ضمير الراوي، والمستمع، والناقل، والمحتج، والمحتج عليه، والمتذوق والمستشهد، والقاصد والمؤمن. وبذلك ينبغي أن يكون هناك غور هائل، وسياحة مضنية في أخاديد هذا المورث الرهيب، وهو الأمر الذي لا يقدر عليه أولئك المسترعون، والمحبون بلا علم، والحاقدون لأغراض سياسية أو دينية.

وكم تأخذني شفقة على بعض الناس الذين يدعون العلم، حيث يسردون الروايات ويحشدون الأحاديث ليخرجوا لنا بوسط مشترك، أو رأي غالب، أو رأي مقبول، فيما تركوا مادة الاشتقاق بلا مس، بل تركوها تتحرك في مخيالهم، وفي أذواقهم، توجه بوصلة ألاستنتاج، وحاسة الاستنباط، أي هي التي تشق لهم طريق النسج المعرفي النهائي، فيما يجب أن يتسلح هذا المسكين بأدوات الغور المضنية، ليسطر على النص ولو بحدود ما. سيرة أبن هشام مثلا يجهل الكثيرون أنها حكاية أكثر من كونها علما، ويجهل الكثيرون أن أسباب النزول فيها عقيمة السند، فقيرة التاريخ، ويجهل الكثيرون أنها مختصرة عن سيرة ابن اسحق، والفارق بين الرجلين أكثر من مئة سنة، ولا ندري كيف تصرف ابن هشام بابن اسحق، خاصة أن التسلية كان وراء التأسيس والتلخيص، وهل نعلم أن سبي النبي الكريم ليهود خيبر كان كذبة تاريخية لا أساس لها من الصحة كما سوف أبين ذلك أن شاء الله تعالى، قدمت هذه المقدمة كي اجعلها مدخلا لبحثي هذا، وشكرا للجميع.

السفرة الأولى وقصّة بحيرا الراهب

من القصص التي أثارت جدلاً خصيباً لدى المحدّثين والرواة وكتّأب السيرة النبوية ما يُعرف بـ ( قصّة بحيرا الراهب )، وهي مشهورة على الصعيد الشعبي بمديات واسعة من التداول والإعتبار والدهشة لكثرة سماعها من ا لوعّاظ والقصّاص، ومرّد هذا الأهتمام البارز على كلا المستويين ما تتضمّنه القصة من غرائب تشكّل نسقاً غرائبيِّاً مرصوفاً بعناية ودقِّة، وهذه الغرائب تتخذ في بعض الأ حيان مساراً غير طبيعي، لا لأنها غير محكومة بقانون الطبيعة، بل لأنّها تتناقض مع المنطق وتتجاوز أحكامه العادلة لتؤسّس وهماً مزعجاً، فالغيب الّذي تدرجه هذه القصّة لا يخضع حتى لقواعد هذا العالم الخاص، فأن التناقض المنطقي مرفوض مها كان إتجاه العقل في تفسير الكون والحياة، ومن هنا أضطرب دعاة الأيمان بالمأثور ( ما دام صحيح السند ) في توجيه هذه القصّة وهي تحمل هذا القلق النظمي على الصعيد المنطقي.

موقف الرواة ملخَّصاً

أورد القصّة إبن إسحق طويلةً مفصّلة ن وقد شحنها بمعلومات مستفيضة عن الزمان وا لمكان والا شخاص والنتائج، وتبدو من تضاعيفها جيِّداً ( فن ) القصّة التقليدي من مقدمة وحبكة ونهاية 1 وأ خرج أبن سعد في طبقاته الكبرى القصّة على غرار إ بن أسحق تارة، وبشكل مختصر تارة أخرى 2، وتابع الطبري إبن إ سحق في روايته مجملاً، وأوردها بسنده عن أبي موسى الأشعري 3 تطرّق إبن كثير في سيرته إلى القصّة على لسان إبن إ سحق معلّقاً في الأثناء ( هكذا ذكر إبن إسحق في هذا السياق من غير إ سنادٍ منه ) 4 وأخرجها بسند ينتهي إ لى إبي موسى الأشعري وبمضامين غير متطابقة مع ما جاء في رواية إ بن اسحق مشيراً إلى أنّ ذلك قد رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وإ بن عساكر وبالسند السابق والذي هو (... العبّاس بن محمّد الدوري، عن قراد بن نوح، عن يونس، عن إبن إسحق، عن أبي بكر، عن أ بي موسى، عن أبيه... )

5 وقد حاكمَ إبن كثير الرواية في أكثر من نقطة سنأتي عليها لا حقاً، وأفرد الذهبي في سيرته فصلاً للقصّة، ذكر رواية أبن إسحق بلا تعليق، وأدرج حديث قُراد أبو نوح، قائلا ( وهو حديث مُنكر جدّاً ) 6 وذكر روايات إبن سعد في الموضوع دونما إشارة 7 وأخرج القصّة برواية قُراد في المستدرك ــ 8 وقال الذهبي في التلخيص ( أظنّه موضوعاً فبعضه باطل ) 9، أورد القصّة كذلك إ بن الجوزي برواية داود بن الحصين 10 وأصل السند والرواية في ا لطبقات الكبرى [ أخبرنا محمّد بن عمر بن صالح بن دينار، وعبد الله بن جعفر الزهري قال: وحدّثنا إبن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، قالوا... ( وساق القصّة ) ] 11 وجاءعليها إبن القيّم الجوزيّة باحتصار شديد دون إ سناد ــ 12 وطرقها ابن الاثير في الكامل من غير سند وجل معلوماته من إبن إ سحق ــ 13 كذك البلاذري بلا إ سناد موجزاً 14 وفي البداية والنهاية لابن كثير أيضاً استعراض مسهب للقصّة، أستهله برواية إ بن إ سحق، ثم بالرواية التي تنتهي إلى أبي موسى الاشعري، ناقداّ الحديث في ثلاث نقاط كما جاء في سيرته، وأدرج في ألاثناء رواية أبن سعد عن الواقدي عن داود بن حصين المشار اليه سابقاً، وأنهاه برواية مُجملة جدّاً عن محمّد بن سعد في طبقاته والسند [...أخبرنا خالد بن معدان، حدّثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدّث عن أبي مجلز.... ( وساق الحديث ) ] 15 ودافع عن القصّة برواية قراج عن ابي موسى الأشعري صاحب الاصابة ( وقد وردت هذه القصّة بإسناد رجاله ثقاة من حديث أبي موسى الاشعري أخرجها الترمذي وغيره ــ 1 /183 ــ
هذا ملخّص شديد عن موقف الروا ة والمحدّثين من قصّة الراهب بحيرا، وما علينا إلاّ أن نوغل بالتفاصيل، وسوف ندرس مسانيد القصّة ومحتوياتها وننقب عن جذورها وطبيعة صيرورتها من راو لأخر، ومن محدِّث لنانٍ، ولا ننسى ضرورة تقليب النصوص جرياً وراء هدف أو غرض دفين.

التفصيل الروائي
( 1 ) رواية إبن إ سحق
1: ( 1 ــ أ ): جاءت رواية إبن إ سحق مفصّلة، ومملوءة بالحدث الإعجازي، حتى أنّ الاعجاز يشكل نسيج تكوينها وحركتها، إنّ الإعجاز هنا ليس فقرة صميميّة فحسب، بل تحتلُّ مادّته الرواية المتصلة، ويسهل إبن إسحق روايته ا بما هو معروف: أنّ أبا طالب أخذ معه رسول الله إلى الشام في ركب تجاري، فلمّا نزل الركب بصرا، وهي مدينة حوران فتحت صلحاً 5 ربيع الأول سنة 13 للهجرة، وقد لقيهم هناك الراهب بحيرا وهو راهب نصراني عُرِف بالعلم لدى قومه، وقد صنّع لهم طعاماً كثيراً في صومعته، ذلك على خلاف عادته فقد كان يمرّ عليه كثير من الرّحالة والناس فلا يعير لهم أهتماماً، فما السرّ وراء هذه الفارقة الغريبة؟

يقولون: أنّه رصد ظواهر غريبة بدت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كا ن ضمن الركب، فقد كانت غمامة ( تظلّه من بين القوم ) 16، ولمّا نزل القوم تحت ظل شجرة ( تهصّرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها ) 17، فالاعجاز هو الذي دعا بحيرا أقامة تلك الوليمة ثم إلى الا جتماع بهم، وكان قد ركزّ نظره على رسول الله، ملتفتاً إلى بعض ملامح جسده الشريف، وفي لحظة تفرّق القوم ( قال له: يا غلام أسألك بحق اللاّات و العزّى ألا ما أخبرتني عمّا اسألك عنه؟ وإ نما قال له بحيرا ذلك، لانّه سمع قومه يحلفان بهما، فزعموا أن ر سول الله قال له: لا تسألني باللاّت و العزى، فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما، فقال له بحيرا: فبا الله ألا ما أخبرتني عمّأ اسألك عنه، فقال له: اسالني عمّأ بد ا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيبته وأموره، فجعل رسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثمّ نظر إلى ظهره فرأي خاتم النبوّة بين كتفيه... ) 18، ثم سأل بحيرا أبا طالب عن هذا الغلام فادّعى أنّه أبنه، ولكن بحيرا كذّبه وقال (... وما ينبغي أن يكون ابوه حيّا ) 19، فاعترف أبو طالب بأنه عمّه وليس أباه، وطلب إليه أن يرجع بالصبي الى مكّة ( بلده )، وحذّره من خطر اليهود عليه ( فخرج عمّه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام ) 20، وقالوا: أنّ نفرأ من اليهود رأوا على رسول الله ما راى بحيرا فأرادوا به كيداً فصدّهم الراهب بحيرا 21.

( 2 ) رواية إبن سعد
2: ( 2 ــــ أ ) [ أخبرنا خالد بن خداش، أخبرنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يتحدث عن أبي مجلز: انّ عبد المطلب أو أبا طالب وشك خالد قال: لما مات عبد الله عطف على محمّد صلى الله عليه وسلم قال: فكان لا يسافر سفراً إلاّ كان معه فيه، وانّه توجه نحو الشام فنزل فأتاه فيه راهب، فقال: أنّ فيكم رجلاً صالحاً، فقال انّ فينا من يقري الضيف ويفك الاسير ويفعل المعروف، أو نحوا من هذا، ثمّ قال: لأت فيكم رجلاً صالحاً، ثمّ قال أين أبو هذا الغلام؟ قال: فقال: هائنذ وليّه، أو قيل هذا وليّه، قال: إحتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، أن اليهود حسد، وانّي أخشاهم عليه، قال: ما أنت تقول ذاك ولكنّ الله يقوله، فردّه قال: اللهم أني استودعك محمّدا ! ثمّ انّه مات ] ـ 22

3: ( 2 ــ ب ) [... أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني محمّد بن صالح وعبد الله بن جعفر وابراهيم بن اسماعيل إبن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: خرج به أبو طالب الى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة ، ونزلوا بالراهب بحيرا، فقال لأبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم ما قال وأمره أن يحتفظ به، فردّه أبو طالب معه إلى مكّة... ] 23.

4: ( 2 ــ ج ) [ أخبرنا عبد الله بن جعفر ا لرقي، أخبرنا أبو مليح ، عن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: أراد أبو طالب المسير إلى الشام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أي عمّ إلى من تخلفني ها هنا فما لي امت تكفلني، ولا أحد يؤذيني، قال: فرّق له، ثمّ أردفه خلفه، فخرج به، فنزلوا على صاحب دير فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك ! قال: أبني، قال: ما هو أبنك ولا ينبغي أن يكون له أب حي، قال: ولم؟ قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي، قال: وما النبي؟ قال: الّذي يوحى إليه من السماء فينبيئ به أهل الارض، قال: الله أجل ممّا تقول، قال: فأتق عليه اليهود، قال: ثمّ خرج حتى نزل براهب أيضاً، صاحب دير، فقال: ما هذا الغلام منك ! قال: إبني، قال: ما هو ابنك وما ينبغي ان يكون له أب حي، قال: ولم ذلك؟ قال: لانّ وجهه وجه نبي وعينه عين نبي، قال: سبحان الله ّ والله أجل ممّا تقول، وقال: يا ابن أخي ألا تسمعون؟ قال: أي عمّ لا تنكر قدرة الله ] 24.

5: ( 2 ــــ د ) [ أخبرنا محمّد بن عمر، أخبرنا بن صالح بن دينار وعبد الله بن جعفر الزهري قال: وحدّثنا أبن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين، قالوا... ] وساق كلام إبن آسحق مع أ ختلاف يسير في اللفظ 25

6: ( 2 ــ ه ) [ أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن جعفر إبن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، قال الراهب لابي طالب: لا تخرجنّ بإبن أخيك الى ما هنا، فأن اليهود أهل عداوة، وهذا نبيّ هذه الأمة، وهو من العرب، و اليهود تحسده، تريد ان يكون من بني إسرائيل، فاحذر على إبن أخيك ] 26.

( 3 ) رواية الحاكم
7: ( 1 ــ أ ) [ حدّثنا أبو العباس بن يعقوب ثنا العباس بن محمّد بن الدوري ثنا ق قراد بن أبو نوح ، أنبأنا يونس بن أبي إسحق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى... ] 27. وساق بعض ما ورد في رواية إبن إ سحق وزاد في خوارقها، من ذلك أن الراهب الّذي لم يسمه أخبر أشياخ قريش الذين صاحبوا أبا طالب في الركب بانِّ ما من شجر وحجر إلاّ وسجد للرسول الكريم وهو مُقبل عليهم، ثمّ قال الراهب في نهاية المطاف (... أنشدكم الله أيّكم وليّه، قال أبو طالب، فلم يزل يناشده حتّى ردّه وبعث معه أبو بكر بلالاً وزوّده الراهب من العك والزيت ) ــ والقطعة الاخيرة من الرواية ــ

( 4 ) رواية الترمذي
8: ( 1 ـــ أ ) [ حدّثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي، حدّثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح، أخبرنا يونس بن أبي إسحق، عن أبي موسى، عن أبيه... ] وساق بعض ما جاء في رواية إ بن إ سحق وقصّة ردّ النبي مع أبي بكر وبلال 28.
هذه هي روايات السفرة الالى الى الشام وفي الصميم قصة بحيرا الراهب، وما يروية المؤرِّخون وأهل السيرة والحديث يرجع الى المسانيد السابقة.

تحليل الروايات
قراءة الرواية بأشكالها وتضاعيفها ومسانيدها المتعدّدة تكشف لنا عن صور إعجازيّة خارقة، ويبدو أنها هي المقصودة بالإشارة والإخبار.
منها ( 1 ) تظليل الغيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منها ( 2 ) إ نهصار غصن الشجرة كي يستظل بفيئها رسول الله.
منها ( 3 ) سجود الشجر والحجر.

تحتلُّ قصّة بحيرا الراهب موقعّأ حسّاسا من الرواية، وجوهر القصّة أنّ بحيرا إكتششف النبي وشخّص نبوّته باهتداء الخوارق ا لسابقة، وأن خاتم النبوّة أكّد هذا الإكتشاف فضلاً عن أنّ موقف رسول الله الرافض للقَسَم باللاّت والعزّى، وهناك زيادة مهمّة’ في رواية إبي موسى الاشعري إلا وهي أن الرسول الكريم رجع أو أرجعه أبو طالب إلى مكّة بناء على طلب الراهب بصحبة بلال، وذلك بتدبير من أبي بكر.

إنّ تفحص الرواية بصيغها المتنوّعة يتيح لنا القدرة على ترتيبها طوليِّاً من حيث تكاثر وتصاعد وتيرة الحدث غير الطبيعي، فبالوقت الّذي إقتصرت رواية إبن إ سحق على موضوعي الغيمة والشجرة زادهما أبو موسى سجود الحجر والشجر، وإ ذا ك ان خاتم ا لنبوّة بين كتفيه يستبدّ بالإشارة فأن رواية محمّد بن عقيل في طبقات إبن سعد تضيف لذلك الوجه والعين، حيث أن الرا هب ميّزهما في إطار العلائم على نبوته صلى الله عليه وسلم، وتبدو الرواية عاديّة أحيانا، ونحن إذا أجرينا عمليّة مطابقة بين الرواية بصيغها المتباينة أو المتعدّدة بتعبير أدق لوجدنا الكثير من المفارقات منها على سبيل المثال: ــ
1: انّ أبا طالب هو الّذي عاد برسول الله إلى مكّة بعد أن أنهى مهمّته التجارية في الشام كما تقول رواية إبن إسحق، فيما رواية الترمذي عن أبي موسى أنّه عاد بصحبة بلال، وعلى ذلك الحاكم ايضا، وإن كان ذلك بتخطيط وتدبير أبي بكر.

2: أن إسم الراهب بحيرا غير موجود في بعض صيغ الرواية كما في الرواية التي يرويها أبو موسى الأشعري.

3: ولم نجد لقصّة الغيمة والشجر والحجر أثراً في رواية محمّد بن عقيل الواردة في الطبقات.
4: وقد سكتت الرواية كما في بعض مسانيدها في أكثر من صيغة عن مصير الراهب ولكن رواية أبي مجلز في الطبقات أنّه مات، وهو حدث ذو دلالة، ومن الصعب غياب مثل هذا الحدث عند الاخرين.
5: إنّ النبيّ عاد مباشرة من مكان اللقاء إلى مكّة في موضع وفي موضع آخر أنه عاد بعد أن أكمل رحلته الى الشام.

هذه بعض المفارقات ونحن إنّما نذكرها لانّها جديرة بالحضور في ا لرواية لأهميتها ودلالتها ولاتصالها بذات الحدث ككل وعلاقته بالأشارة إلى نبوّة الرسول الكريم، فإنّ العودة إلى مكّة من ( بصرى ) هو الأولى بموقف أبي طالب، وذلك تبعاً لوصيّة الراهب، و إنسجاماً مع حب أبي طالب للرسول، وخوفه المعهود عليه، فيما نجد ان كل هذه المقتربات المعقولة قد فقدت حقها من الحضور في بعض صيغ الرواية، واسم الراهب مسألة مهمة وخطيرة في سياق روح الحدث ككل واهميته وغايته، خاصّة والراهب معروف بعلمه لدى أهل الكتاب كما تذكر الرواية هنا وهناك، ولكن هذا الاسم المهم يغيب أحياناً وبشكل غير إكتراثي، انّه يدخل في جوهر الشواهد التي من شأنها تعزيز المسألة من جميع جوانبها، لأنها ستكون حاضرة باسمائها البارزة ، ومن الغريب أن تختفي صور الإعجاز في رواية أبي مجلز، أي لبّ الحدث وصميمه، واعتقد أنّ أبا مجلز ينبغي أن يكون منشدّاً إلى ألإثارة الرئيسيّة في الحدث أكثر من أن يكون منشدّاً إلى أطرافه التي جيِئ بها كي تعطي لتلك الإ ثارة مشروعيّة التحقق، أن السياق موظف بكل مفرداته وآجوائه لمواطن الإثارة الغيبية وليس العكس ، ولست أدري كيف غابت على أبي مجلز هذه الملاحظة الدقيقة في فن الاخبار الغريبة؟

رواية ابي موسى الاشعري قد توصف بانها قوية السند، ولكن متن الرواية مُخترَق ممزّق، ذلك أن أبا بكر كان اصغر من رسول الله بسنتين، حيث كان عمره ( تسع سنين على الراجح وقيل أثنى عشر سنة وشهرين وعشرة أ يام ) 29 كما انّ بلالاً قد لا يكون من أبناء الدنيا أنذاك 30 وسوف اعود الى رواية أبي مسلم تفصيل اوفى.

نظرة في المسانيد
لم يكن حظ السند في الرواية من الركاكة والضعف أقل من حظ المتن، فان إبن إسحق أورد هذه الرواية المطوّلة المفصّلة المشحونة بالعجائب بلا سند منه. ففي رواية إبن سعد ( 2 ــ أ ) نجد الراوي خالد بن قدّأش وقد ضعّفه المديني وقال زكريا الساجي فيه ضعف 31 وفي رواية إبن سعد ( 2 ـــ ب / د ) داود بن حصين وقد قال أبن عيينة كنّأ نتقي حديث داود، وقال ابو زرعة: ليّن، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال الساجي: منكر الحديث، وقال الجوزاني: لا يحمد الناس حديثه 32 وفي رواية إبن سعد ( 2 ــ ج ) عبد الله بن محمّد بن عقيل، وهو ضعيف عند السنّة والشيعة، ذكره إبن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، قال إبن يعقوب... في حديثه ضعف شديد جداّ، وكان إبن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم فذكره فيهم، وقال الحميدي عن ابن عيينة: كان في حفظه شيء فكرهت ان ألقيه، قال حنبل عن أحمد: منكر الحديث، وعن إبن معين: ضعيف الحديث 33 هذا فضلاً عن هذه الفترة الزمنية الطويلة بين وفاته والحدث المذكور، ذلك أنّ وفاته كما جاء في تهذيب التهذيب سنة 140 للهجرة.

في رواية إ بن سعد ( 2 ــ ه ) يعقوب بن عبد الله الاشعري المتوفي سنة 174 للهجرة، قال عنه الدار قطني ليس بالقوي 34 وفي السند أيضاً جعفر بن أبي المغيرة، قال عنه إبن مندة ليس بالقوي 35 إنّ أقوى سند هو سند رواية قُراد الّذي يتصل بأبي موسى ، وسوف نتحدّث عن هذه الرواية بعد حين.
أن التدقيق بمسانيد إبن سعد كشفت عن خلل في بعض رجالها، إلاّ أنّ هناك شيئاً آخر في ذلك .... إنّه بكل بساطة الإرسال...

أنّ مصدر الرواية ( 2 ــ أ ) أبو مجلز وهو من التابعين، وكان قد توفي في خلاقة عمر بن عبد العزيز، أي في حدود سنة 100 للهجرة، فروايته من المراسيل، مراسيل التابعين وليس الصحابة، ومصدر الرواية ( 2 ــ ب ) هو داود بن الحصين وقد توفى سنة 135 للهجرة، ومصدر الراوية ( 2 ــ ج ) عبد الله بن محمّد بن عقيل الضعيف وقد توفي سنة 140 للهجرة، أنهم جميعاً من التابعين... ولم يبيّنوا مصدرهم من الصحابة، وحكم المرسل عند جمهور المحدثين وكثير من علماء الفقه والاصول ضعيف، لان الوا سطة المجهولة العين لا تُعرَف هويتها، فقد لا يكون صحابيِّاً على فرض الإيمان بعدالة كل الصحابة، والمرسل لا يقوِّي المرسل أبداً، لأنّ علّة الضعف سارية في الإ ثنين، كلاهما عليل، والفراغ الحاصل بين التابعي ومصدره لا تعالج المشكلة بكون التابعي من الكبار، كما في أبي مجلز، لأنّه فراغ على أي حال، خاضع لأكثر من فرض في تعيين هويّة المصدر.


الرواية العُمدة
إنّ أهم سند هو سند قُراد المتصل بابي موسى الاشعري ، فلنتفحّص أولاً مكونات الرواية، أي وحداتها التكونية، وذلك باستعراضها كاملة.

(... خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمّد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش فلمّا أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخللهم وهم يحلّون رحالهم حتى جاء فاخذ بيده محمّد صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيّد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أشياخ قريش: وما علمك بهذا؟ قال: أنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا وخرّ ساجداً، ولا يسجدون إلاّ لنبي، لأ عرفه بخاتم النبوّة ، واسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، ثمّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به... فأرسلوا إليه ــ أي النبي ــ فأقبل وعليه غمامة تظلّه، فلمّا دنا من القوم وجدهم قد سبقوه ــ يعني الى فيئ الشجرة ــ فلمّا جلس مال فيئ الشجرة عليه، فقال: إنظروا إلى فيئ الشجرة مال عليه.
قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا به الى الروم فأن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه، فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب فقال: ما جاء بكم؟

قالوا: جئنا أنّ هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلاّ وقد بُعث إليه ناس، وإنّا قد أُخبرنا فبُعثنا ألى طريقك هذا، فقال لهم: هل خلّفتم أحداً هو خير منكم؟ قالوا لا إنّما أُخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس ردّه؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليّه؟ قال أبو طالب: أنا، فلم يزل يناشده حتى ردّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً وزوّده الراهب من الكعك وا لزيت ).

هذا هو نصّ رواية قُراد عن أبي موسى الاشعري، نصُّ مملوء بالغيب والغرائب وما لا يتفق وسنن الطبيعة، نص غير مفهوم في بعض مفرداته.

كيف كان يسجد الشجر والحجر؟ أن الراهب بحيرا يصمت هنا، فيما المطلوب هوالشرح والبيان، لأن في هذا السجود المزعوم الّذي يدّعي بحيرا رؤيته يكمن سرّ موقفه وحركته... والغيمة التي كانت تظله في الطريق إختفت إلى حد كبير من نصيب تشكيل الحدث أو الواقعة، وحافظت على جزء يسير من دورها الّذي قرأناه في رواية إبن إ سحق، وفي الرواية هتاف ( بحيرا ) في الشهادة الّذي لم نعثر عليه في الصيغ الأخرى، ومن الغريب أنّ الراوي أغفل أسماء أشياخ قريش الّذين حضروا مفاصل الحدث المدهش، ثم مسألة أبي بكر وبلال التي أثارت استغراب أهل الحديث ونقّاده، حيث يقول الذهبي ( وهو حديث منكر جدا، وأين كان أبو بكر؟ كان أبن عشر سنين، فأنه أصغر من رسول الله بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت، فان أبا بكر لم يستره إلاّ بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد، وأيضاً فإ ذا كان عليه غمامة تظلله كيف يُتصوّر أن يميل فيئ الشجرة؟ لأنّ ظل الغمامة يعدم فيئ الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الشيوخ، مع توفّر همهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لأشتهر بينهم أيّما إشتهار... وفي الحديث ألفاط منكرة تشبة الفاظ الطُرقيّة... ) 37.

الحديث تفرّد به قُراد ولذا قال الترمذي ( هو غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ) 38 وفي الواقع أن سنده ( الصحيح ) أربك بعضهم ولذا يقول أبو نعيم الاصفهاني في الدلائل (... وقد وردت هذه القصّة باسناد رجاله ثقاة من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجها الترمذي وغيره ولم يسم الراهب، وزاد فيها لفظة منكرة وهي قوله: واتبعه أبو بكر بلالا، وسبب نكارتها أن أبا بكر حينئذٍ لم يكن متأهلاً، ولا أشترى بلالا ، إلا ّ أن يُحمل على انّ هذه الجملة الاخيرة منقطعة من حديث آخر درجت في هذا الحديث، وفي الجملة هي وهم من أحد رواته ) 39 ولم يُشر صاحب الدلائل هذا إلى المفا رقات الأخرى التي فصّل بها الذهبي آنفاً، ولكن من حقنا أن نسال: تُرى لمذا أقتصر حظ سماعه على أبي موسى، وهو الّذي تأخر إ سلامه، ولم يكن يلق رسول الله إلاّ بعد الهجرة، وأبو نعيم وهو يدافع الرواية لم يذكر لنا مصدر القطعة التي تسرّبت وهْماً إلى الرواية أصلا.
وبعد...

إنّ الرواية بصيغها المتعدّدة غير متطابقة، تتفاوت في كثير من الفقرات والجزئيات وسندها مرسل، ومصدرها لم يكن مولوداً أصلاً آنذاك، وغرائبها تصطدم بالعقل والمنطق والتاريخ.
فلماذا نقبلها ونعوّل عليها؟

إ

زوربا
10-08-2005, 03:54 PM
تابع البحث



اذا كان السند هو المشكلة هنا باعتبار وثاقة رجاله عند البعض، فأن الحل ليس صعباً، إنها مكذوبة بشكل وآخر على أحد هؤلاء الرجال، ليس في هذه الصورة ما هو مستحيل وما أكثر النظائر في هذا المجال.

مفارقات الأسماء و العناوين الكبيرة
أبو طالب هو الآخر لم يسلم من علامة الاستفهام من حيث دوره في الحدث، فعلى الرغم من أنّه رمز مؤسّس في الرواية سواء في البداية أ و الوسط أو النهاية، إلاّ أنّه جاهز للاستبدال بغيره في أحد روايات إبن سعد، فأن الروا ية ( 2 ــ أ ) ردّدت بين أبي طالب وعبد المطلب، وعليه فإنّ أ حد ركائز الرواية بل من أهم ركائزها أصابها إضطراب التشخيص، وقد يبدو أنّ هذا الأمر بسيط لا يؤثر، ولكن في الحقيقة أنّ عدم الاحتفاظ بأسم أو عنوان أو صفة يؤثّر في قوّة الرواية، خاصّة إذا كان في صميم تكوين ا لحدث أو القضية.

إستطراداً وفي ضوء هذا المقترب لابد من ملامسة موضوع بحيرا، الّذي يتصل إتصالاً صميميّاً بقضية الإعجاز التي هي جوهر الحدث، فإ ذا كانت الرواية في بعض صيغها لم تذكر الأسم ومن أهمها رواية ( قُراد عن أبي موسى ) كما هو مشهور، ولكن عن المسعودي أنّ إ سمه ( جرجيس ) وهو من ( عبد قيس ) 40 كان لعبد قيس دور كبير في الاسلام، شاركوا في الحروب، ولهم باع طويل في تأسيس الإتجاهات المذهبية في التاريخ الاسلامي، ولو كان بحيرا حقاً من عبد قيس لسمعنا أخباره عندهم إ فتخاراً ورواية وإعتزازا، ولكن حكي السهيلي عن سير الذهبي أنّ بحيرا كان حبراً من أحبار اليهود 41 ولكن الذي نقرأه في الروايات أنّه راهب نصراني، وكان النصارى يرجعون إليه لما عنده من علم، وقد حاول بعضهم معالجة هذا التناقض بالقول أنه ربما كان يهوديّا ثم ترهّب 42 والجمع لا دليل عليه كما يقولون، وهو جمع علاجي اي لحل المشكل المطروح بسبب التناقض، وليس عندنا من الاخبار ما يثبت الحالين على التوالي، ولكن إبن كثير يقول ( قلتُ: والذي يظهر من سياق القصّة أنّه كان رهباً نصرانيّاً والله أعلم ) 43.

أنّ أهم مفاصلها في سيرة إبن هشام نجدها في طبقات إبن سعد ولكن في رحلة الشام الثانية، وذلك عندما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة 44 بل نجد فيها أهم مفاصل رواية إبن سعد عن السفرة المذكورة، أي الأولى خاصّة ( 2 ـــ أ )، مع فارق الزمان، وفارق الرفيق حيث كان في السفرة الثانية هو ( ميسرة )، ويتكرّر في قصّة السفرة الثانية موضوع الراهب ولكن باسم نسطور هذه المرّة، وسوف نعالج السفرة الثانية لاحقا.


ملحمة السند مرّة أخرى
قوّة الراوية في صياغتها المروية عن قُراد عن أبي موسى الاشعري، وقد تطرّقنا الى جملة مفارقات في المتن والسند، ولان السند هو مبرّر قبول هذه الصيغة في بعض فقراتها كما عن أبي نعيم صاحب دلائل النبوّة نريد هنا ان نتفحّص السند بجديّة أكثر.

إنّ السند يقف عند أبي موسى الاشعري، ولم يبين لنا مصدره، والاشعري لم يحضر الحادثة، وقد لحق رسول الله سنة 7 للهجرة وذلك في وقعة الخندق، ولكن قالوا أنّ بقية رواته ثقاة، فإذا تركنا قراد المتوفي سنة 207 للهجرة 45 سنتواجه مع يونس بن أبي إسحق المتوفي سنة 250 للهجرة، وردت فيه توثيقات، ولكن ورد فيه قدح وتشكيك أيضاً، ففي تهذيب التهذيب (... وقال الأثر: سمعت أحمد يضعّف حديث يونس عن أبيه، وقال: حديث أسماعيل أحبّ لي منه، قال أبو طالب عن أحمد عن أ بيه: في حديثه زيادة في حديث الناس، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: حديثه مضطرب، وقال أيضاً: سألت أبي عن عيسى بن يونس فقال:

عن مثل عيسى يُسأل، قلتُ: فأبوه يونس؟ قال كذا وكذا، قال الساجي: وضعّفه بعضهم ) 46 وقال ( إبن حزم في المُحلّى: ضعّفه يحي بن قطّان وأحمد بن حنبل أيضا وقال أبن خراش: في حديثه لين، وقال أبو حاتم: لا يُحتج بحديثه ) 47 وفي السند أيضاً أبو بكر بن أبي موسى الاشعري المتوفي سنة 106 للهجرة، فقد روى ذلك عن أبيه مباشرة، ولكن يقول عبد الله بن أحمد ( قلتُ لابي فأبو بكر بن أبي موسى الاشعري سمع من أبيه؟ قال: لا ) 48 ولكن نقرأ ( قال الآجري: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أراه قد سمع ) 49 والكلام مساق بلغة التمريض كما هو واضح، ( آراه... )، ولكن الرجل يذهب مذهب أهل الشام ( جاءه أبو غادية الجهني قاتل عمّأر فاجلسه إلى جانبه وقال: مرحباً يا أخي... ) 50 وقال إبن سعد (... كان قليل الحديث يُستضعف ) 51 ولاّه الحجاج قضاء الكوفة ــ

هذا هو أبو بكر بن أبي موسى، مختلف باسمه مشكوك بسماعه عن أبيه ضعيف عند البعض يبش ويهش لقاتل عمأر بن ياسر واخيرا كان قاضي الحجاج على الكوفة، فسند الحديث ليس كما وصفه أبو نعيم وغيره.

فلا أعتقد أنّ حدثاً بهذا الغموض وهذا الاضطراب يمكن أخذه في سياق تكوين رؤية تاريخية عن حياة أعظم رجل عرفته السماء والارض، ولم يكن هو بحاجة إلى بركات بحيرا، ولم نجد لهذ الحدث المزعوم أي اثر في حياته الكريمة أو نبوّته الشريفة... أنه حدث مختلق بكل تفاصيله....

السفرة الثانية إلى الشام
مضى بنا الحديث عن سفرة النبي الاولى للشام بصحبة عمّة أبي طالب أو جدّه عبد المطلب، وتبين لنا أنّ الخبر لا يتمتع باسباب قبوله، ولا يمكن الركون إليه باطمئنان كبير، سواء على صعيد السند أو علي صعيد المضامين التي تكوّن بنيته الأساسيّة، وأن مقارنة سريعة بين صيغه تهوي وتطيح بكل إمكانية التفاعل معه بدرجة معتّدة من الإ يجابية، وبالتالي من المخاطرة إستلهام الخبر هذا في تشخيص معلم من معالم الحياة النبوية الكريمة، وتحديد بعض مسارتها كحياة وعبرة وفلسفة، ومن التدقيق بتضاعيف إكتشفنا بدرجة عالية من الحدس أنّه سلسلة من دواعي النظر الناقد، لأنه محتشد بأحداث غريبة .

كما أنّ مقتربات ما عبد الخبر بكل معطياته مفقدودة، بل غائبة، فيما هي تفرض نفسها بقوّة غرابتها على حسّ الحاضرين ( أشياخ قريش ورفاق الرحلة )، وتملك قابلية الشيوع والحكم والاستشهاد في نثر وشعر وأخبار أهل مكّة بل وحتى ضواحيها ، نظراً لحاكميّة الرواية والغريبة منها على وجه الخصوصفي الذهنية العربيّة، فمثل هذا الحَدث وصاحبه صار ذا شأن كبير لا يقف عند حد راو واحد تابعي أو راو واحد صحابي لم يشهد رسول الله إلاّ بعد الهجرة، بل سيكون مادّة حوار ساخن وتناقل وتداول بين أخذ ورد، وربما يحتدم الجدل فيه بين أصناف الرافضين والمؤمنين بنبوّة الرسول الكريم، وقد يذهب بعضهم أن ذلك لا ينفي أصل السفرة، ولكن ما ذا نفعل بالسند المرتبك؟ ماذا نفعل والسفرة بكل ملابساتها ومحتوياتها ومضامينها مضطربة مشوشة، غريبة وغير طبيعيّة؟ ماذا نفعل وقد غاب خبرها على لسان الاصحاب في المصادر الحديثيّة المهمة ولم ترد إلاّ في الحاكم والترمذي بكل مفارقاتها، ماذا نفعل ولم نجد آثارها فيما بعد؟ والموقف الحصيف في مثل هذه الحالات هو التردّد على أقل تقدير، ولكن يقولون: أن هناك سفرة ثانية للشام، سفرة في عمل تجاري، نريد أن نتعرّف على خبر السفرة الثانية.

إشارة في الصميم
إذا كان حديث السفرة ألاولى قد أخرجه الترمذي والحاكم فأن حديث السفرة الثانية لم يرد في أي مصدر حديثي، ولذا نجد أن ( إبراهيم العلي ) صاحب موسوعة ( صحيح السيرة النبوية ) 53 لم يورد خبر هذه السفرة إ طلاقا، سواء بشكل منفرد أو أثناء تعرّضه لزواج الرسول الكريم من خديجة للصلة الموجودة بين السفرة المزعومة والزواج الميمون، وقد قال صاحب هذا الجهد (...إعتمدتْ هذه الدراسة على أصح الروايات... ) 54 وهو لم يذكر هذه السفرة لان روايتها ضعيفة فضلاً عن عدم وجودها في المصادر الحديثية عند الجمهور، والكاتب إتبع مناهج النقد الحديثي والرجالي المعروفة لدى أهل السنّة في إختيار الأخبار والروايات المتعلّقة بالسيرة النبوية.

السفرة الثانية الى الشام وردت في كتب السيرة والتراجم والتاريخ مثل كما هي السفرة الأولى مثل سيرة إبن هشام وطبقات إبن سعد وإبن كثير والطبري وغيرها، وينبغي أن لا يكون ذلك مدعاة إغراء لقبول هذه الرواية لأنّ الواجب يدعو الى فحص المسانيد وتقليب المضمون، كما أنّ الكثير من المؤرخين والرواة قد يكون سندهم واحداً، ولذا فإن كثرة المصادر لا تشكّل بحد ذاتها قرينة قويّة أو دالّة موحية بالرضا والقبول، فربما أصل هذه الكثرة سند واحد لا أكثر.


الروايات و النصوص التاريخيّة ( 1 ) رواية إبن إسحق
1: ( 1 ـــ أ ) يبدأ النص بحديث عن بعض أحوال خديجة الرفيعة، ثم يعرج على قرارها بتكليف رسول الله بالاتجار بمالها لما سمعت من كرم أخلاقه ثم يقول (... فقبله رسول الله منها وخرج في مالها ذلك ــ إلى الشام ــ وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فا طلع الراهب إلى ميسرة فقال له: من هذا الرجل الّذي تحت ا لشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريس من أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلاّ نبي، ثم باع رسول الله سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ، ثمّ أقبل قافلاً إلى مكّة ومعه مسيرة، فكان ميسره فيما يزعمون إ ذا كانت الهاجرة واشتدّ الحر يرى ملكين يُظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكّة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب، وعمّا كان يجري من أظلال الملكين إياه... ) 55.
هذه هي روا ية إبن إسحق، رواها الطبري عن إبن إسحق 2 / 363، ونقله إبن الاثير مختصرا 2 / 39، وذكره أبن الاثير كاملاً في سيرته 1 / 162، كذلك في تاريخه البداية و النهاية 2 / 272، والذهبي في سيرته 63، وغيرهم والمصدر هو إ بن إسحق.

( 2 ) رواية إبن سعد
2: ( 2 ـــ أ ) [ قال: أخبرنا محمّد بن عمر بن واقد... أخبرنا موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بن منية أخت يعلي بن منية قالت: لما بلغ رسول الله خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أ نا رجل لا مال لي وقد إشتدّ الزمان علينا وهذه عير قومك وقد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، فأرسلت إليه في ذلك وقالت له: أنا اعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك ] 56.

3: ( 2 ـــ ب ) [ قال: أ خبرنا عبد بن جعفر الرقي، حدّثني أبو المليح، عن عبد الله بن محمّد بن عقيل، قال: قال أبو طالب: يا أبن أخي قد بلغني أن خديجة استأجرت فلاناً ببكرين ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك ان تكلّمها؟ قال: ما أحببت ! فخرج إليها فقال: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمّدا؟ فقد بلغنا أنك إستاجرت فلاناً ببكرين، ولسنا نرضى لمحمّد دون أربع أبكار، قال: قالت خديجة: لو سالت ذاك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيت قريب ] 57.

4: ( 2 ـــ ج ) [ قال: أخبرنا محمّد بن عمر، أخبرنا موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية قالت: قال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إ ليك، فخرج مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدما بصرا من الشام، فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلاّ نبي ثمّ قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبي وهو آخر الأنبياء، ثمّ باع سلعته فوقع بينه وبين رجل تلاح فقال له: أحلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط، وأني لأمرّ واعرض عنهما ، فقال الرجل: القول قولك، ثمّ قال لميسرة: هذا والله نبي تجده أحبارنا منقوشاً في كتبهم، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحر يرى ملكين يُظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كلّه ميسرة، وكان الله قد ألقى عليه المحبّة من ميسرة، فكان كأنه عبد له... ] 58.

( 3 ) رواية البلاذري
5: ( 3 ـــ أ ) [ قالوا: ولما جاوز سني رسول الله صلى الله عليه وسلم العشرين قال له أبو طالب: يا ابن أ خي: أنّ خديجة بنت خويلد أمرأة موسرة ذات تجارة عريضة، وهي محتاجة إلى مثلك في أمانتك وطهارتك ووفائك، فلو كلّمناها فيك فوكّلتك ببعض أمرها وتجارتها، فقال صلى الله عليه وسلم: أفعل يا عم ما رأيت، فسعى أبو طالب إليها، فكلّمها في توكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض تجارتها، فسارعت إلى ذلك ورغبت فيه، ووجهته إلى الشام، ومعه غلام لها وقيم يُقال له ميسرة، فلمّا فرغ ممّأ توجّه له قَدِم مكّة، أخبرها ميسرة بأمانته وطهارته،وما يقول به أ هل الكتاب ] 59.

تنقيب في مضمون النصوص
هذه هي بعض الروايات والنصوص، وفي الحقيقة أن إبن هشام أو بالأحرى إبن إ سحق وإبن سعد هما المصدران الرئيسيان للرواية، وهما المصدران المهمّان في هذا الموضوع، لأن السيرة الهشامية مصدر أصيل لأختصاص صاحبها في السيرة النبوية، ولأن إبن سعد يروي مسنداً، ولذا نجد نفوذ رواية إنن إسحق في إمهات المصادر التاريخية، كما أنّ كثيراً من الباحثين الدينيين في السيرة يعتمدون الطبقات أكثر من إعتمادها المصادر التاريخية.

متون الأحاديث غير متطابقة في كثير من الأمور، فتكليف رسول الله صلى الله عليه وآله بالتجارة تارة من خديجة بصورة مباشرة لما سمعت من أمانته وخُلقه، وأخرى بواسطة أبي طالب بدافع العوز والفقر، وقد كان ذلك وعمره خمس وعشرون سنة، فيما في رواية أخرى كان عمره أكثر من عشرين سنة بقليل، وفي ا لرواية رقم 2 ( 2 ــ ب ) تنبيئ عن وجود علاقة حميمة بين محمّد وخديجة قبل التكليف بالزواج، وتعيب كل المعجزات في الرواية رقم 2 ( 2 ــ أ ) وفي رقم 3 ( 2 ــ ب ) وفي رقم 5 ( 3 ــ أ ) رغم أهميتها الجوهريّة، وهي لابد أن تكون في مقدمة الاشارة عند كل راوية يتحدث عن السفرة المذكورة، وأي شان من شؤونها حتى ولو كان هامشيّا، لأنها الجزء البارز المتوقّد بضرورة الذكر والتنويه، ومن الغريب أيضاً أن نجد نفس الوقع الأعجازي أو مايشبهه في السفرة الاولى ( التظليل والراهب )، فكلاهما يتكرّران في الحدث المتشابه بالهوية ــ السفر إلى الشا م ـــ إلاّ أننا نكتشف عمليّة تطور هنا، ذلك إنّ مهمة ( التظليل ) أإنيطت بالملائكة فيما كانت بفعل الغيمة والشجرة في سفرة الشام الأولى، ممّأ يُطلعنا على ظاهرة التصعيد ، لأنّ التظليل بواسطة الملائكة أكثر دلالة على الغيب وأعمق إ تصالاّ بالأفق غير المنظور، ويبدو أنّ ميسرة هذا كان على علم دقييق بطبيعة الملائكة الذين هم أصلا من صلب الغيب بمعناه الميتافيزي الصرف ! وإذا كان الخاتم بين ا لكتفين هو علامة النبوّة عند الراهب بحيرا الّذي حارت الأخبار في إسمه ودينه الحقيقي ومصيره، فأن العلامة عند نسطور هي إحمرار العين الدائم، ولم نسمع بأن عيني الرسول كانتا حمراوين، وهذا العمر الطويل للشجرة الميمونة يخرج بها عن الحد المعقول، وأعتقد أن من نافلة القول بأنّ نسطوراً لم يشهد عيسى فضلاً عن الأنبياء الّذين قبله. على أنّنا نتساءل مضطرين كيف وافق أبو طالب أن يسافر عزيزه محمّد إلى الشام وسبق أن خذّره الراهب بحيرا من يهود الشام، وقد مرّ علينا أنّه عاد به مسرعاً لى مكّة بناء على هذا الطلب، فالسفرة الأولى تنفي السفرة الثانية، بل أكثر من ذلك، إذا قرأنا في رواية إ بن سعد نفسه عن داود بن حصين أن أبا طالب رجع برسول الله الى مكّة ( وما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه )، وهو ما جاء في سيرة الوفاء لأبن الجوزي أيضاً 60.

هذه المفارقات والتصدّعات دعت أصحاب الولع بالغريب إلى معالجتها، فقالوا أن قول الراهب نسطور ( ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ ) إ نما معناه ( ما نزل تحتها هذه الساعة إلاّ نبيّ )، وهي معالجة باردة بدلالة ( قط ) التي تؤكد النفي، وهناك محاولات أخرى أضعف واسذج وكلّها تؤكد بشكل وآخر أزمة الخبر 61.

يتصل ميسرة ـ غلام خديجة ــ بسفرة الرسول الثانية وأحداثها إتصالاً وثيقاً، وكان مدخلها أو سببها إلى التاريخ، وقد شهد حسب رواية نفيسة ما يُدهش ا لعقل ويهزّ الفكر والطبيعة، وكانت الأحداث الغريبة تسجّل تاريخاً متواصلاً في السفرة المذكورة، ومن هنا نتوقّع أن يدخل ميسرة هذا التاريخ شاهد عيان، يملأ الوسط القرشي بالخبر بشكل وآخر، ولكن لم نجد لميسرة هذا أيّ ترجمة في كتب السير والأصحاب سوى أنّه غلام خديجة !! لقد عُرِف الخبر بميسرة، ولكن الخبر خارق للعادة ملفت للنظر، يستفزّ الاسئلة، وعليه لا بد أن يُعرَف ميسرة هو الأخر بالخبر المذكور، ولكن للاسف الشديد تشحّ علينا كتب السير والتراجم في هذا المجال، ممّأ يولّد درجة من التردّد على مستوى التعامل الموثوق مع القضية برمّـها، ورسول الله صلى الله عليه وآله ذاته لم يخبر بشيئ عن هذه السفرة ولا عن أحداثها، فإن مصادر الحديث والسيرة جدبة إلى حدّ الدهشة على صعيد الإشارة النبوية إلى هذه القضية الخطرة، وإذا كان هناك خبر بسيط يُروى عنه في حرب الفجّار فإنّ ذلك معدوم في المجال الّذي نحن فيه، ر غم أنّ مشاركته في حرب الفجّار ــ أنْ صحّ ذلك ــ لا تشكل قيمة ذات بال أوخطر على صعيد صيرورته النبوية، بل هي ذات مفعول سلبي على سيرته النظيفة لان الحرب وقعت في الاشهر الحرم المقدّسة وقد نوّه عن ذلك، وإنّها لمفارقة كبيرة ان يستذكر مشاركته في حرب الفجار ولا يستذكر تجارته الى الشام وميسرة والراهب نسطور وتظليل الملائكة وربحه الوفير.

زوربا
10-08-2005, 03:56 PM
معاينة السند وفحصه

لم يعد خافياً أن الرواية التي تنتهي الى نفيسة بنت مُنبه أوأميّة إ نّما هي موقوفة على نفيسة نفسها، وبالعودة إلى ترجمتها نقع على معلومات باهتة، لا تُسعف الباحث في إ ستلهام ما يقود إلى الإطمئنان في التعامل مع الرواية، فكل ما نقرأه عنها ما أورده إ بن الأثير وغيره ( نفسية بنت أمية أخت يعلي بن أميّة التميمي لها صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنها أم سعد بن سعد بن الربيع أنّها قالت: ولدت خديجه للنبي صلى الله عليه وسلم القاسم وا لطاهر وزينت ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين ) 62 فهل تكفي هذه الترجمة في الإطمئنان إ لى الخبر الوارد عنها؟

خاصّة وأن روايتها المذكورة خاضعة لنقاش طويل؟ ويبدو لمجهوليّتها تُعرَف بأخيها المدعو ( يعلي بن أُميّة ) وهو ما جاء في تهذيب التهذيب والأصابة كذلك، ولو عدنا إلى المرَّف كي تكتمل الصورة، لاصطدمنا بحالة إ نتهازية غريبة في تا ريخ الاسلام، فهذا الرجل أسلم يوم الفتح، عمل لعمر على نجران وقد ولي صنعاء لعثمان بن عثمان وشهد مع عائشة الجمل و صفين، وانفق أمولا عظيمة في هذه الحرب، وهو ممّن أعان على علي وقُتل معه في صفين 63 على أننّأ نقرأ في أنساب الا شراف ( 1 / 98 ) أنها أسلمت يوم الفتح، وفي الحقيقة لو كان ذلك صحيحاً ما روت عن ميسرة لما تأ خر أسلامها هذه المدّة الطويلة نسبياً، فإ ن ذلك هو المقول خاصّة وأنها على صلة بخديجة كما يقولون، وليس هناك ترجمة كذلك لـ ( عميرة بنت عبيد الله ).

ولكن لماذا نذهب بعيداً وقد أختلفوا في هويّة أم سعد بنت سعد بن الربيع، فقد قال بعضهم أنّه يُحتمل أن تكون أم خارجة بن زيد بن حارثة، وربما زوجه أو هي لا هذه ولا تلك 64 أكثر من هذا، ذلك أن موسى بن شيبة الّذي يروي عنه الوا قدي قا ل عنه عبد الله بن أ حمد ( أ حاديثه مناكير ) ــ التهذيب 10 /349 ــ وعلّق الذهبي على حديث نفيسة بقوله ( وهو حديث منكر ) 65 أما رواية إبن سعد ( 2 ــ ب ) فهي بالإضافة إلى عدم تطابقها مع الروايات الاخرى، فانّ مصدرها عبد الله بن عقيل بن ابي طالب، وهذا الرجل توفي سنة 140 للهجرة وقد ضعّفه الرجاليون، كما أنّ هناك شبه إتفاق على أن حفظه سيئ وعدم الإ حتجاج به 66.

وقد روى قصّة خروجه عليه السلام إ لى الشام تاجراً القاضي عبد الله بن الحسين بن إ سماعيل بن محمّد الضبّي المتوفي سنة 330 للهجرة، عن عبد الله بن شبيب، وهو واهٍ، كما جاء في سيرة الذهبي 67 وفي سنده الربيع بن بدر المتوفي سنة 178 للهجرة 68 وقال: هذا حديث صحيح الأسناد ــ وهذا الرجل قال فيه إبن معين ( ليس بشيئ، وقال مرّة ضعيف، وقال البخاري: ضعّفه إبن قتيبة، وقال أبو داود: ضعيف... وهكذا عن العديد من الرجاليين ) 69.

المصادر الشيعيِّة
تتحدث المصادر الشيعية عن سفرة النبي الثانية إلى الشام بإسهاب، وحيث تصادفنا عملية نمو الحدث من خلال الإضافات المتوالية لخوارق الطبيعة والقانون ، ممّا يجعلنا نجيل النظر في هذا التباري بين الرواة في تصعيد وتوتير الوجد الذهني والروحي من خلال دمج الرسول بعالم الغيب واللاّ منظور على نحو يعدم فرصة الأرض وحق التا ريخ من الحركة، كما أنّها تضمنّت ما يصطدم بالروايات السابقة بشكل فاضح.

نقلاً عن الخرائج برواية عن جابر يذكر ان أبا طالب التمس محمّدا ان يتاجر في أموال خديجة رغبة في تحصيل المال بغية التزوّج منها ! وهو عنصر جديد لم نلحظه في روايات إبن سعد أو رواية إبن إسحق أواي نص تاريخي أو روائي أخر، وفي الرواية يتضخّم دور ميسرة ( فلما رجع ميسرة حدّث أنّه مرّ بشجرة ولا يدري إ لاّ وقالت السلام عليك يا رسول الله ) 70 ويغيب هنا نسطور كي يحلّ محلّه الراهب بحيرا 71 الّذي سبق وأن مات في رواية أو في أحدى رواية إبن سعد عن طريق خالد بن خدأش، وذلك في ظرف السفرة الأولى 72 وتستعيد الغمامة دورها إذ تظلل راس النبي الكريم وهو على راحلته في لحظة استقباله خديجة عائداً من السفرة الميمونة، ورأت الملكين يحميان رسول الله 73 وبهذا يكون ميسرة قد تخلّى عن أحدى كراماته لخديجة. ونقرأ في رواية المناقب لإبن شهراشوب وغيره تراكم الغرائب و المعجزات في هذه السفرة الغامضة.

• يهودي يخبر خديجة وغيرها بنبي سوف يبعث ! فيقع في قلب خديجة هوى به !
• الراهب نسطور يقبّل يدي ورجلي رسول الله.
• كان ميسرة يأكل مع رسول الله فيشبع ويبقى الطعام على حاله.
• السحابة كانت تمشي مع رسول الله.

لم يجد الباحث في هذه الرواية أي فراغ للطبيعة 74.
وأخيراً وليس آخرا (...عن أبي شهاب الزهري... أنّ خديجة إنّما كانت استأجرت رسول الله صلى الله عليه وسلم روجلاً أخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة... ) 75.
وإذا كانت السفرة الى الشام الاولى أو الثانية تحتوي على سيل من الحوادث والمعالم والمشاهد فإنّ هذه السفرة المزعومة جرداء من كل معلم أو إشارة أو شاخص، رواية يتيمة بالحدث، خاوية البُنية، فضلاً عن كونها روا ية متضادّة مع سابقاتها، ولا ندري ما هو مصدر الزهري أو أ حالته.


المصادر والمراجع

( 1 ) سيرة إبن هشام 1 / 191 ــ 195.
( 2 ) الطبقات 1 / 121، 152، 153، 154، 155، 156.
( 3 ) الطبري 2 / 363 ــ 365.
( 4 ) سيرة إبن كثير 1 / 246.
( 5 ) نفس المصدر ص 247.
( 6 ) سيرة الذهبي ص 56.
( 7 ) نفس المصدر ص 60.
( 8 ) مستدرك الحاكم 2 / 615.
(9 ) نفس المصدر الهامش 2 / 615.
(10 ) صفوة الصفوة 1 / 33.
( 11 ) الطبقات الكبرى 1 / 153.
(12 ) زاد المعاد 2 / 76.
( 13 ) الكامل في التاريخ 2 / 37 ـــ 38.
(14 ) أنساب الاشراف 1 / 96 ـــ 97.
( 15 ) البداية والنهاية 2 / 263 ــ 266، الطبقات 1 / 120.
( 16 ) سيرة إ بن هشام 1 / 192.
( 17 ) نفس المصدر والصفحة.
( 18 ) نفس المصدر ص 193.
( 19 ) نفس المصدر والصفحة.
( 20 ) نفس المصدر ص 194.
(21 ) نفس المصدر والصفحة
( 22 ) طبقات إبن سعد 1 / 120 ــ 121.
( 23 ) نفس المصدر والصفحة.
( 24 ) طبقات إبن سعد 1 / 153.
( 25 ) نفس المصدر 1 / 153 ــ 155.
( 26 ) نفس المصدر 1 / 155.
( 27 ) مستدرك الحاكم 2 / 615 ــ 616.
( 28 ) سنن الترمذي 5 / 595.
( 29 ) السيرة الحلبية 1 / 117.
(30 ) نفس المصدر ص 120.
( 31 ) تهذيب التهذيب 3 / 85.
(32 ) تهذيب التهذيب 3 / 181 ـــ 182.
( 33 ) نفس المصدر 6 / 14.
( 34 ) نفس المصدر 11 / 390 ــ 391.
(35 ) نفس المصدر 2 / 108.
( 36 ) طبقات إبن سعد 7 / 216.
( 37 ) سيرة الذهبي ص 57.
( 38 ) صحيح الترمذي.
( 39 ) الاصابة 1 / 183 ــ 184.
( 40 ) سيرة إبن كثير 1 / 250.
( 41 ) نفس المصدر ص 249.
( 42 ) السيرة الحلبية.
( 43 ) سيرة إبن كثير 1 / 249.
( 44 ) الطبقات الكبرى 1 / 155 ــ 126.
( 45 ) تاريخ بغداد 10 / 254.
( 46 ) تهذيب التهذيب 11 / 434.
( 47 ) ضعفاء الذهبي 2 / 766.
( 48 ) تهذيب التهذيب 12 / 40.
( 49 ) نفس المصدر 12 / 40.
( 50 ) نفس المصدر ص 41.
( 51 ) نفس المصدر والصفحة.
( 52 ) سير أعلام النبلاء 5 / 6.
( 53 ) صحيح السيرة، طبع دار النفائس لأبراهيم بن علي، قدّم له دكتور عمر سليمان الأشقر ط 2 سنة 1996
( 54 ) صحيح السيرة ص 12.
( 55 ) سيرة إبن هشام 1 / 199 ـــ 200.
(56 ) نفس المصدر 1 / 129.
(57 ) نفس المصدر 1 / 130.
(58 ) طبقات إبن سعد 1 / 130.
(59 ) أنساب الأشراف 1 / 97.
(60 ) الوفاء لابن الجوزي 171، 172.
(61 ) السيرة الحلبية 1 / 132 ــ 133.
(62 ) أُسد الغابة 5 / 556.
(63 ) تاريخ الإسلام للذهبي.
(64 ) تهذيب التهذيب 12 / 470، أُسد الغابة 5 / 586 ، الإصابة 8 / 238، طبقات إبن سعد 5 / 262 ــ 263.
( 65 ) سيرة الذهبي ص 64.
( 66 ) تهذيب التهذيب 6 / 13 ــ 15.
( 67 ) المصدر ص 64.
( 68 ) الحاكم 3 / 1821.
( 69 ) تهذيب التهذيب 3 / 239.
( 70 ) نقلاً عن االبحار 16 / 3.
( 71 ) نفس المصدر والصفحة.
( 72 ) طبقات إبن سعد 1 / 120.
( 73 ) البحار 16 / 3.
( 74 ) البحار 16/ 4، 5.
( 75 ) الطبري 2 / 368.