المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاستفزاز الإعلامي يعبث بحرية لبنان



مجاهدون
10-04-2005, 07:01 AM
غسان الإمام

الحرية مسؤولية كبيرة. الحرية ليست فوضى. تنتهي الحرية عندما تصبح خطرا على حرية الآخرين وكرامتهم وكبريائهم. الإعلام الفالت من ضوابط القانون والضمير يهدد السلام المدني، والنسيج الاجتماعي الهش في بلد نزق كلبنان، بلد مختلف مع ذاته ومع وعن غيره.

أنحني باحترام أمام العرب والعجم واللبنانيين الذين تحسروا على الحرية الجريحة في حادث الاعتداء على النجمة التلفزيونية مي شدياق، وأمسح بمنديلي الدموع الغزيرة التي سالت على الخدود، حزنا على إعلامية فقدت ذراعها وساقها، ولم تعد قادرة، إذا كتبت لها الحياة، على استخدامهما في تلفزيون تلعب حركة الأذرع والسيقان دورها، قبل اللسان، في تسويق الخبر والرأي والموقف السياسي.

لم أشاهد برنامج مي شدياق. أنا من الفصيلة الصحافية النادرة التي لا تملك تلفزيونا، وتعتذر عن عدم الظهور على الشاشة. فقد حول مقدمو البرامج الحوار إلى مسرح تتصارع فيه ديكة السياسة والثقافة وطواويس الصحافة.

الاغتيال السياسي خسة أخلاقية. عجزٌ عن مواجهة الضحية بسلاح الحرية: الكلمة. أهل الإعلام فراخ سهلة القنص والذبح. الإعلامي يسبح مكشوفا بين الناس، فيما أصبح أهل السياسة محميين بحراس وجدران وتقنيات، ويمنعهم الإرهاب عن ملامسة الجمهور.

تفيق مي من هول الصدمة: «لماذا أنا وشو بُدُّنْ مني؟!».

الاغتيال السياسي يمنح ضحيته البراءة. كل الذين بكوا على حرية مي لم يقولوا لها، أدبا، لماذا يخهاتف معها سياسيا. منعهم أدب المجاملة للقوارير من أن يقولوا لها كم أرضت عواطف جمهورها المسيحي، وكم جرحت كرامة وكبرياء جمهورها الآخر. مي لا تعلم أنها مجرد مسمار في ترسانة تلفزيونية لبنانية وعربية بات سلاحها الاستفزاز السياسي الصارخ، أو ابتذال الثقافة الشعبية بالغناء الاستعراضي الراقص. يقول لي ديبلوماسي خليجي إن تلفزيون «إلْ. بي. سي» وغيره بات مشكلة زوجية حادة في البيت الخليجي. خفر الأنثى الخليجية يمنعها من مجاراة جدل الساق مع الساق، والذراع مع الذراع والنهد مع النهد والردف مع الخصر، أمام زوجها المحملق بالشاشة وهو يتناول «الكبسة» في العشاء.

للطرافة المرة، أقول إن مي شدياق بدأت مشوارها التلفزيوني من دمشق بالذات قبل عشرين سنة، عندما دشنت ظهورها على شاشة «إل. بي. سي» الجديدة بإعلانها الخبر «المفرح» الذي صنعته الأجهزة السورية: تحالف ثلاثي بين جنبلاط الدرزي ونبيه بري الشيعي وايلي حبيقة المسيحي. راهنت مي على حبيقة في بداية مشوارها الإعلامي، منذ أن اشتغلت مذيعة في «صوت لبنان» الإذاعة الإعلامية المتفوقة التي أنشأتها ميليشيا «القوات اللبنانية» خلال الحرب الأهلية، ثم أردفتها بالمحطة التلفزيونية.

عندما خسر حبيقة حربه الدموية مع سمير جعجع، انتقل الإرث الإعلامي بأدواته وشاشته وزلمه، بمن فيهم مي شدياق، إلى حضانة «حكيم» القوات. وظلت مي على الولاء في تقديم «دواء» الحكيم الذي كان للبنان هو الداء، داء التعصب الأعمى الممزوج بالخوف الأقلوى، المحكوم بالاستقواء بالأجنبي، والمغلف بغلاف إعلامي باهر سلاحه الاستفزاز الصارخ بالتركيز الدائم على القضية السياسية الواحدة: كراهية سورية نظاما وإهانة شعبها في كرامته وعروبته.

بعد زواج دام شهورا مع زميل إعلامي لها يعمل حاليا في تلفزيون نبيه بري، راحت مي تصقل صنعتها الإعلامية، بقدر ما تصقل أناقتها الغالية وماكياجها الذي جعلها زبونة دائمة لأطباء التجميل لإخفاء ضآلة القسط من الجمال الطبيعي، أناقة لبنانية مصنوعة بالخدود المتوهجة والشفاه المتورمة والشعر الذهبي المتوج. راحت «سندريلا» التلفزيون تستدعي إلى برنامجها كل من يستطيع مجاراتها في إلحاق الإهانة بسورية، مستغلة فساد جهازها المخابراتي في لبنان، وتجاوزاته الصارخة أمام ضعف ونفاق ساسة ومسؤولين وقضاة وعسكر ورجال أعمال في لبنان.

في دهاء الحرفة السياسية السورية، جرت محاولة للتخفيف من حدة «إل. بي. سي». دخل سليمان فرنجية حليف سورية «الزغرتاوي» شريكا من الشركاء العرب واللبنانيين في المحطة التلفزيونية، في مقابل الإشراف السياسي عليها. لكن الكتلة المساهمة الأكبر التي تدعم بيار الضاهر الحاكم الحقيقي المتحكم في المحطة سياسيا وإداريا، أبطلت «مفعول» فرنجية السوري.

لست محرضا على بيار الضاهر. غرضي النصيحة البريئة له بالكف عن ممارسة «ذكاء» فهمه الإعلامي الفج: التركيز على القضية السياسية الواحدة التي ذهبت، قبل مي، بزميلها سمير قصير، والكف عن استخدام إغراء الجمال المصقول في دغدغة عواطف وغرائز المجتمع العربي، إلى درجة أن الإعلامي السعودي الضاحك رضا لاري عرّب إل بي سي بـ «إلبسي».

النصيحة ذاتها أزجيها إلى «الحكيم» جعجع. عندما سمعته يتكلم بعد خروجه من سجنه الطويل، أحسست بأن الرجل استخلص العبرة من محنته. أتمنى مخلصا أن ينتهز الرجل الصفح القانوني والسياسي عنه بطي صفحة الماضي، وفتح صفحة علاقة سياسية سلمية مع الشارع المسيحي والإسلامي، امتدادا إلى العالم العربي. مرارة السجن الطويل تسمو بالنفس إلى أفق من الصفاء الفكري. آمل أن يركز «الحكيم» جهده على صقل الإرث القواتي الذي حافظت عليه زوجته ستريدا بحسم وذكاء نادرين في زوجة السياسي المحترف. مهمة الحكيم أن يهذب شارعه القواتي. معارضة نظام بشار لا تتم برفع لافتات رسم عليها حذاء مجاور لكلمة «ارحلوا» وما شابه. «الحكيم» يعرف أن السوريين مغلوبون كاللبنانيين بنظام لم يعرف بشار إلى الآن كيف يهذب مؤسسته المخابراتية، ويطلق سراحه من أسر مسلمات البعث الإنشائية النظرية والتطبيقية الجافة.

الاعتداء على مي يعيدني إلى إشكالية الإعلام اللبناني والتلفزيوني بالذات. إعلام تنافسي صارخ باستفزازه وطائفيته وإثارته. باتت لكل من زعماء الطوائف محطة تلفزيون! بحيث أن الراحل الحريري وبري فكرا جديا باستخدام التشريع والقانون لمنع الساسة من إطلاق محطات تلفزيونية. أصبح إطلاق محطة تلفزيونية أسهل من اصدار صحيفة، والعثور على وجه تلفزيوني جميل أسهل من العثور على قلم صحافي نزيه.

لبنان بحاجة إلى إجازة يستريح فيها من سياسة صاخبة وإعلام استفزازي. لبنان بحاجة إلى وسادة يسند إليها رأسه في ليله الطويل، ليفكر بإصلاح الخلل في مؤسساته: إدارة متعطلة مملوءة بموظفين يقبضون ولا يعملون. أجهزة مخترقة تتعرف ولا تعرف. ساسة محترفون يعقدون ويفكون التحالفات مع الداخل والخارج بسهولة.

يبقى أن أقول إن الاستعانة على سورية بتدويل القضايا اللبنانية سوف يعجل بنقل الصراع العربي والإقليمي والدولي إلى هذا البلد الصغير الجميل. هل استطاعت المباحث الجنائية والسياسية الأميركية (إف. بي. آي) كشف قاتل واحد في الجرائم المروعة في العراق، لتأتي للبحث في ركام سيارة مي عن قاتل مجهول؟! مسكين المحقق الألماني ميليس! جريمة اغتيال الحريري سوف تبقى لغزا حتى ولو تم تلبيسها سياسيا لنظام بشار.

يبقى أن أقول أيضا إن قدرة بشار على إعادة القنوات الخفية التي ضمنت، دوليا وعربيا، البقاء الطويل لنظام أبيه، محكومة بقدرته على ضبط أجهزته المخابراتية المخيفة، والمظلة التي تنشرها فوق مزيج من المنظمات والتنظيمات الأصولية وغير الأصولية التي تتجه إلى نقل الصراع في المنطقة، إلى مسرح العبث الصاخب في لبنان.