لمياء
09-21-2005, 08:46 AM
كتب:فهمي هويدي
لا أتمنى أن يجيء اليوم الذي تضيق فيه صدورنا بعبث الأطراف المختلفة بالملف الفلسطيني، إلى الحد الذي يشيع بيننا الإحباط، ويدفع بعضنا إلى القول: ليت الإسرائيليين لم ينسحبوا من غزة - على الأقل لان فضح الاحتلال الصريح والمتواطئين معه ايسر من فضح الاحتلال المقنع والمتسترين عليه.
(1)
قبل أي كلام في الموضوع، يظل من المهم للغاية أن يعطى الحدث حجمه الطبيعي، حتى لا تنطلي علينا الدعايات والأكاذيب، وحتى لا تختلط في أذهاننا الأوهام بالحقائق. ولا مفر في هذا الصدد من الانتباه إلى أن ما جرى لم يكن تحريراً لغزة، التي يتمسك الإسرائيليون بالسيطرة على بحرها وبرها وجوها، وعلى المعابر والميناء والمطار. وغاية ما يمكن أن يقال إن الإسرائيليين قاموا بتفكيك المستوطنات في القطاع. لكن ذلك لا يقلل من وجه الإنجاز في المشهد، لان هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع التي تضطر فيها الدولة العبرية إلى إخلاء مستوطناتها في أراض فلسطينية خارج نطاق التسويات السياسية.
ولئن حدث ذلك في غزة، فيجب ألا ينسينا أننا بصدد خطوة أولى على طريق الألف ميل، لان القطاع يمثل 6% فقط من الأراضي التي احتلت عام 67 - الأمر الذي يعني أن الجميع ينبغي ألا يتعجلوا الفرح، لان 94% من الأراضي التي يتعين على الإسرائيليين أن ينسحبوا منها ما زالت تحت الاحتلال الوحشي، الذي ما برح يغرز أظافره فيها يوماً بعد يوم من خلال التوسع في الاستيطان. ومسؤولية بهذه الجسامة تتطلب استمرار التعبئة والاستنفار، وحشد كل الطاقات المتاحة إقليميا ودولياً وراء مطلب إكمال الانسحاب المنشود.
بسبب من ذلك. فقد تصورت أن رد الفعل العربي والإسلامي على عملية تفكيك المستوطنات، ينبغي ألا يتجاوز حدود الترحيب الحذر، الذي يطالب بسيادة حقيقية للفلسطينيين على القطاع والمعابر المؤدية إليه، مع التأكيد على ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة، ووقف الاستيطان فيها، والكف عن سياسة تهويد القدس. بكلام آخر، فان هذه لحظة إشهار الاستحقاقات ومطالبة المغتصب برد ما سلبه ونهبه، وليست لحظة القفز فوق الاستحقاقات، والتعبير عن الامتنان والشكر، والتسابق على منح الجوائز لشارون وحكومته.
لم يحدث شيء مما توقعناه للأسف، ووقع كثيرون في الفخ - لا تسألني عما إذا كان ذلك من باب العبط أو الاستعباط - حيث لاحظنا هرولة صوب إسرائيل من جانب عدة دول عربية وإسلامية. فقد تحدثت التقارير الصحفية عن زيارات منتظرة لبعض القادة العرب إلى تل أبيب. وزيارة مرتقبة سيقوم بها شارون إلى إحدى الدول المغاربية.
وتحدثت تقارير أخرى عن لقاءات مرتبة بين شارون وبعض قادة العالم الإسلامي الذين سيشاركون في دورة الأمم المتحدة بنيويورك. وتواترت أنباء عن قرب إقامة علاقات رسمية بين إسرائيل وبين عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية، وبدا الإعلان عن إقامة علاقات مع باكستان (اندونيسيا في الطريق) مقدمة وتمهيداً لما أسمته إذاعة الجيش الإسرائيلي »موسم جني القطاف« الذي ترتب على الانسحاب من غزة.
هذه التطورات المدهشة تعاقبت مكافأة لشارون على انه اخرج يده من جيب غزة، لكي يحكم قبضته على رقبة القطاع، بينما يواصل التهام الضفة. وحتى يكتمل المشهد العبثي، فان ذلك كله تم وسط احتفاء وتهليل بعض المنابر والأبواق العربية، الأمر الذي يصدم المرء ويوقعه في حيرة: هل يضحك أم يبكي؟!
يزيل قدراً من الالتباس في المشهد، ما نشرته «يديعوت احرونوت» في 5/9 الحالي، نقلاً عن صحيفة «نيويورك تايمز»، وذكرت فيه ما خلاصته أن الرئيس بوش قرر أن يستخدم نفوذه لدى الدول «الصديقة» لدعم شارون وسياسته، حتى لا يتم إحراجه داخل حزب «ليكود»، ولتعزيز موقفه في مواجهة خصمه بنيامين نتنياهو الذي ينافسه على زعامة الحزب. بناء على ذلك فمطلوب من «الأصدقاء» أن يكفوا عن مطالبة شارون بأي استحقاقات فلسطينية أخرى، ومن أراد أن يخاطبه فليتوجه إليه بالتهنئة فقط ولا يضغط عليه بأي صورة. وهو كلام تبين انه صحيح، لان الرسالة وصلت، وكما رأيت تواً، فانه جار تنفيذ مضمونها!
(2)
اللامعقول في المشهد الفلسطيني لا يقف عند ذلك الحد. ولكن له تجليات أخرى عديدة، منها مثلاً أن تليفزيونات العالم سجلت خلال الأسابيع الماضية الجدل بين الفصائل الفلسطينية حول الطرف الذي له الفضل في تحقيق الإنجاز في غزة. وفي معرض هذا الجدل العقيم فان الفصائل قدمت إلى شارون من حيث لا تحتسب هدية ثمينة ووفرت له نصراً إعلامياً مجانياً. ذلك أن المنظمات القانونية الفلسطينية والدولية - وبعض الإسرائيلية - تتمسك بأنه طالما استمرت سيطرة إسرائيل على أجواء القطاع ومياهه ومعابره الحدودية، فان غزة ستظل مصنفة أرضاً محتلة، وبالتالي فان إسرائيل يجب أن تتحمل مسؤوليتها إزاء القطاع، حتى بعد فك الارتباط.
غير انه في معرض التراشق بين الفصائل الفلسطينية انطلق الجميع من وصف إخلاء المستوطنات بأنه تحرير ونهاية للاحتلال. وهو ما أفاد الحكومة الإسرائيلية كثيراً في خطابها السياسي والإعلامي، التي حرصت على أن تروج لذات الادعاء، لكي تتقدم بطلب إلى مجلس الأمن لاعتبار ما جرى في غزة إنهاء للاحتلال - وشهادة الفصائل الفلسطينية خير دليل - الأمر الذي يعد من وجهة النظر الإسرائيلية تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يتحدث في صيغته الإنجليزية عن وجوب انسحاب إسرائيل من «أراض» احتلتها في عام .37 وهو ما يضعنا بازاء مفارقة شديدة، وجدنا فيها فصائل المقاومة واقفة دون أن تدري في المربع الإسرائيلي، ومعينة لها على الترويج لأكذوبة تحرير غزة، لتنفض يدها من استحقاقات القرار 242 معلنة أنها أوفت بها، ولم تعد مطالبة بأكثر من ذلك!
من آيات العبث واللامعقول أيضاً انه في مقابل صور الابتهاج الفلسطيني بالتحرير الكاذب، أغرقت الحكومة الإسرائيلية تلفزيونات العالم بصور «معاناة» المستوطنين المصطنعة، وهم «يقتلعون» من منازلهم باكين، وجنود الاحتلال يقودونهم إلى الحافلات بسكينة ووقار، الأمر الذي اسقط من الأذهان صورة المستوطن المغتصب والمفتري. وفي هذه المباراة التي خسر فيها الفلسطينيون حرب الصورة. لم تتوان إسرائيل عن استثمار ذلك الفوز، إقليميا ودولياً.
ومن المفارقات أن المشاهد التي بثت من المستوطنات جعلت إحدى المؤسسات الإعلامية الإيطالية ترشح شارون، الجزار العتيد في قبية وصبرا وغيرهما الكثير، لجائزة نوبل للسلام، في مشهد يشي باستحالة المأساة إلى ملهاة. مع انه لا خلاف على أن شارون اقدم على تنفيذ خطة «فك الارتباط» في إطار استراتيجيته القائمة على «إدارة» الصراع لا حله، من خلال «التضحية» بالاستيطان في القطاع الذي فقد أهميته الاستراتيجية، لأجل تعزيز الاستيطان في الضفة. لقد نجحت الصور في أن تمحو من ذاكرة الرأي العام العالمي التصريحات التي أطلقها شارون وقال فيها صراحة أن خطة «فك الارتباط» تأتي لتجنيب إسرائيل خوض غمار أي تسوية سياسية لمدة خمسين عاماً، وان هذه الخطة تأتي لتصفية قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. كما لم يعد يتذكر أحد العبارة الشهيرة التي أطلقها دوف فايسغلاس كبير مستشاري شارون الذي قال «فك الارتباط يأتي لإسدال الستار على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية».
(3)
الادهى مما سبق والأمر أن إسرائيل من خلال تغطية عمليات الإخلاء حاولت اضفاء بعد انساني علي مستوطنيها عبر إظهار ألمهم على انه «ألم» حقيقي، وكأنهم لم يقيموا بيوتهم الفارهة على ارض فلسطينية مغتصبة. وحرصت إسرائيل أيضاً على «أنسنة» جيشها، فالجنود الذين شاركوا في عمليات الإخلاء لم يكن يسمح لهم بحمل أي سلاح، في سعي واضح لتحسين صورتهم، التي ارتبطت في الوجدان العالم بالوحشية المفرطة وإهلاك الحرث والنسل وتدمير البيوت. وحتى صور الممانعة والمقاومة التي أبداها المستوطنون في بعض المستوطنات استغلت من قبل شارون لإقناع العالم بأنه لن يكون بوسعه تنفيذ عمليات إخلاء أخرى في المستقبل. وقد عبر عن تلك الفكرة حين التقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك مؤخراً، بل انه ما برح يردد على مسامع كل من يقابله بأن تنفيذ عمليات إخلاء أخرى قد يكون مقترناً باندلاع حرب أهلية. ليس هذا فحسب، بل إن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية اعتبرت أن «الصدمة النفسية» التي تعرض لها المستوطنون توجب على الدولة العبرية ليس فقط عدم إزالة النقاط الاستيطانية التي أقيمت في الضفة الغربية بشكل غير قانوني، وإنما أيضاً تكثيف الاستيطان كتعويض للمستوطنين عن «خسارتهم».
إلى جانب ذلك بالغت وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم في كيل المديح لشارون على اعتبار انه قائد سياسي «جدي وشجاع، وصاحب قدرة على إمضاء تعهداته». وهذا المديح الذي جعل معظم الإسرائيليين يرون في شارون الممثل الحقيقي للوسط، فأصبح من هم على يمين شارون يمثلون اليمين، ومن هم على يساره يمثلون اليسار، على الرغم من مواقفه المعروفة والمتشددة من قضايا الصراع. كما حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية على إبداء التعاطف مع شارون، عن طريق الاستفاضة في طرح المشاكل الحزبية التي تواجهه بسبب خطة «فك الارتباط»، لتقول للعالم انه حتى لو أراد تنفيذ مزيد من الاخلاءات فان الواقع الحزبي في إسرائيل لن يسمح له بذلك. ليس هذا فحسب، بل تم إظهار شارون وكأنه يسدي جميلاً ومعروفاً للفلسطينيين، يتوجب عليهم الرد عليه من خلال تفكيك حركات المقاومة والقضاء عليها، ونزع الشرعية عن المقاومة في مواصلة عملياتها.
ما أثار الدهشة في هذا السياق انه في مقابل هذه المشاهد. كانت بعض الفصائل الفلسطينية تواصل احتفاءها «بالتحرير»، عن طريق تنظيم الاستعراضات العسكرية التي أظهرت فيها أسلحتها البدائية. وهو ما سجلته التليفزيونات العالمية، كشاهد أيد مطالبة إسرائيل بتفكيك حركات المقاومة. وزاد الطين بلة، أن بعض منتسبي الجماعات المسلحة، وجهات أخرى غير معلومة تورطت في اختطاف عدد من الأجانب، العاملين في الإغاثة أو في الصحافة، الأمر الذي أضفى بعداً جديداً على قتامة الصورة الفلسطينية، في حين أن الطرف الإسرائيلي ظل يواصل سعيه لتقديم صورة بريئة وجذابة إلى العالم الخارجي. حتى بدا أن الجلاد كسب الرهان في حين خسرته الضحية - وهكذا يكون العبث وإلا فلا!
(4)
حتى يبلغ العبث ذروته، فان عدداً غير قليل من الصحفيين والمعلقين في إسرائيل لجأوا إلى حيلة خبيثة لتقزيم القضية الفلسطينية وطمس معالمها. فقد دأبوا على تشبيه إخلاء المستوطنين بما حل بالفلسطينيين في عام .48 فأطلقوا عليهم مصطلح «اللاجئين»، وحين تطرقوا إلى المخيمات المترفة التي أقيمت لهم وسط تل أبيب تحدثوا عنها باعتبارها «مخيمات اللاجئين»، وهي المصطلحات التي ظلت طويلاً مقصورة على الفلسطينيين دون غيرهم.
حتى يديعوت احرونوت، كبرى الصحف الإسرائيلية اعتبرت أن إخلاء المستوطنين يضاهي في قسوته النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون في عام 48 - كما أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية وجدت في حرص إسرائيل على إيواء المستوطنين الذين تم إخلاؤهم فرصة لمهاجمة السلطة والدول العربية، والطلب منها أن تتعلم من إسرائيل كيفية إعادة توطين اللاجئين وتأهيلهم. ولم يفت أولئك المعلقين أن يتحدثوا عن «معاناة» المستوطنين، الذين كانوا يمثلون 0.5% من المقيمين بقطاع غزة، وتجاهلوا معاناة 99.5% من سكانه، تحملوا الكثير من عذابات الاحتلال طيلة 38 عاماً، وقد خرجوا من الهيمنة المباشرة للاحتلال ليجدوا أنفسهم في سجن كبير بالقطاع، يحرسه جنود الاحتلال ذاتهم.
حين كنت أتبادل الرأي مع أحد الأصدقاء في غزة حول الوضع القانوني للقطاع بعد الانسحاب، ومفارقة وقوف الفصائل في مربع الحكومة الإسرائيلية التي تحاول تسويق فكرة تحرير القطاع والانتهاء من احتلاله، نبهني صاحبي إلى أن السلطة الفلسطينية واقفة بدورها في ذات المربع لهدف آخر. هو أنها حين تعتبر الإخلاء تحريراً فان ذلك يسوغ لها نزع سلاح الفصائل، لان الوضع المستجد لا يبرر لها الاحتفاظ بسلاحها، ومن ثم فيتعين على الفصائل أن تتخلى عن السلاح ولا تبقي لديها على شيء منه. وهو أمر ليس سهلاً، يفتح الباب لشرور كثيرة، قد تكون الحرب الأهلية بين خياراتها.
ترى، هل يقع المحظور يوماً ما، حتى نسمع قول القائل: ليتهم ما انسحبوا؟!
لا أتمنى أن يجيء اليوم الذي تضيق فيه صدورنا بعبث الأطراف المختلفة بالملف الفلسطيني، إلى الحد الذي يشيع بيننا الإحباط، ويدفع بعضنا إلى القول: ليت الإسرائيليين لم ينسحبوا من غزة - على الأقل لان فضح الاحتلال الصريح والمتواطئين معه ايسر من فضح الاحتلال المقنع والمتسترين عليه.
(1)
قبل أي كلام في الموضوع، يظل من المهم للغاية أن يعطى الحدث حجمه الطبيعي، حتى لا تنطلي علينا الدعايات والأكاذيب، وحتى لا تختلط في أذهاننا الأوهام بالحقائق. ولا مفر في هذا الصدد من الانتباه إلى أن ما جرى لم يكن تحريراً لغزة، التي يتمسك الإسرائيليون بالسيطرة على بحرها وبرها وجوها، وعلى المعابر والميناء والمطار. وغاية ما يمكن أن يقال إن الإسرائيليين قاموا بتفكيك المستوطنات في القطاع. لكن ذلك لا يقلل من وجه الإنجاز في المشهد، لان هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع التي تضطر فيها الدولة العبرية إلى إخلاء مستوطناتها في أراض فلسطينية خارج نطاق التسويات السياسية.
ولئن حدث ذلك في غزة، فيجب ألا ينسينا أننا بصدد خطوة أولى على طريق الألف ميل، لان القطاع يمثل 6% فقط من الأراضي التي احتلت عام 67 - الأمر الذي يعني أن الجميع ينبغي ألا يتعجلوا الفرح، لان 94% من الأراضي التي يتعين على الإسرائيليين أن ينسحبوا منها ما زالت تحت الاحتلال الوحشي، الذي ما برح يغرز أظافره فيها يوماً بعد يوم من خلال التوسع في الاستيطان. ومسؤولية بهذه الجسامة تتطلب استمرار التعبئة والاستنفار، وحشد كل الطاقات المتاحة إقليميا ودولياً وراء مطلب إكمال الانسحاب المنشود.
بسبب من ذلك. فقد تصورت أن رد الفعل العربي والإسلامي على عملية تفكيك المستوطنات، ينبغي ألا يتجاوز حدود الترحيب الحذر، الذي يطالب بسيادة حقيقية للفلسطينيين على القطاع والمعابر المؤدية إليه، مع التأكيد على ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة، ووقف الاستيطان فيها، والكف عن سياسة تهويد القدس. بكلام آخر، فان هذه لحظة إشهار الاستحقاقات ومطالبة المغتصب برد ما سلبه ونهبه، وليست لحظة القفز فوق الاستحقاقات، والتعبير عن الامتنان والشكر، والتسابق على منح الجوائز لشارون وحكومته.
لم يحدث شيء مما توقعناه للأسف، ووقع كثيرون في الفخ - لا تسألني عما إذا كان ذلك من باب العبط أو الاستعباط - حيث لاحظنا هرولة صوب إسرائيل من جانب عدة دول عربية وإسلامية. فقد تحدثت التقارير الصحفية عن زيارات منتظرة لبعض القادة العرب إلى تل أبيب. وزيارة مرتقبة سيقوم بها شارون إلى إحدى الدول المغاربية.
وتحدثت تقارير أخرى عن لقاءات مرتبة بين شارون وبعض قادة العالم الإسلامي الذين سيشاركون في دورة الأمم المتحدة بنيويورك. وتواترت أنباء عن قرب إقامة علاقات رسمية بين إسرائيل وبين عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية، وبدا الإعلان عن إقامة علاقات مع باكستان (اندونيسيا في الطريق) مقدمة وتمهيداً لما أسمته إذاعة الجيش الإسرائيلي »موسم جني القطاف« الذي ترتب على الانسحاب من غزة.
هذه التطورات المدهشة تعاقبت مكافأة لشارون على انه اخرج يده من جيب غزة، لكي يحكم قبضته على رقبة القطاع، بينما يواصل التهام الضفة. وحتى يكتمل المشهد العبثي، فان ذلك كله تم وسط احتفاء وتهليل بعض المنابر والأبواق العربية، الأمر الذي يصدم المرء ويوقعه في حيرة: هل يضحك أم يبكي؟!
يزيل قدراً من الالتباس في المشهد، ما نشرته «يديعوت احرونوت» في 5/9 الحالي، نقلاً عن صحيفة «نيويورك تايمز»، وذكرت فيه ما خلاصته أن الرئيس بوش قرر أن يستخدم نفوذه لدى الدول «الصديقة» لدعم شارون وسياسته، حتى لا يتم إحراجه داخل حزب «ليكود»، ولتعزيز موقفه في مواجهة خصمه بنيامين نتنياهو الذي ينافسه على زعامة الحزب. بناء على ذلك فمطلوب من «الأصدقاء» أن يكفوا عن مطالبة شارون بأي استحقاقات فلسطينية أخرى، ومن أراد أن يخاطبه فليتوجه إليه بالتهنئة فقط ولا يضغط عليه بأي صورة. وهو كلام تبين انه صحيح، لان الرسالة وصلت، وكما رأيت تواً، فانه جار تنفيذ مضمونها!
(2)
اللامعقول في المشهد الفلسطيني لا يقف عند ذلك الحد. ولكن له تجليات أخرى عديدة، منها مثلاً أن تليفزيونات العالم سجلت خلال الأسابيع الماضية الجدل بين الفصائل الفلسطينية حول الطرف الذي له الفضل في تحقيق الإنجاز في غزة. وفي معرض هذا الجدل العقيم فان الفصائل قدمت إلى شارون من حيث لا تحتسب هدية ثمينة ووفرت له نصراً إعلامياً مجانياً. ذلك أن المنظمات القانونية الفلسطينية والدولية - وبعض الإسرائيلية - تتمسك بأنه طالما استمرت سيطرة إسرائيل على أجواء القطاع ومياهه ومعابره الحدودية، فان غزة ستظل مصنفة أرضاً محتلة، وبالتالي فان إسرائيل يجب أن تتحمل مسؤوليتها إزاء القطاع، حتى بعد فك الارتباط.
غير انه في معرض التراشق بين الفصائل الفلسطينية انطلق الجميع من وصف إخلاء المستوطنات بأنه تحرير ونهاية للاحتلال. وهو ما أفاد الحكومة الإسرائيلية كثيراً في خطابها السياسي والإعلامي، التي حرصت على أن تروج لذات الادعاء، لكي تتقدم بطلب إلى مجلس الأمن لاعتبار ما جرى في غزة إنهاء للاحتلال - وشهادة الفصائل الفلسطينية خير دليل - الأمر الذي يعد من وجهة النظر الإسرائيلية تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يتحدث في صيغته الإنجليزية عن وجوب انسحاب إسرائيل من «أراض» احتلتها في عام .37 وهو ما يضعنا بازاء مفارقة شديدة، وجدنا فيها فصائل المقاومة واقفة دون أن تدري في المربع الإسرائيلي، ومعينة لها على الترويج لأكذوبة تحرير غزة، لتنفض يدها من استحقاقات القرار 242 معلنة أنها أوفت بها، ولم تعد مطالبة بأكثر من ذلك!
من آيات العبث واللامعقول أيضاً انه في مقابل صور الابتهاج الفلسطيني بالتحرير الكاذب، أغرقت الحكومة الإسرائيلية تلفزيونات العالم بصور «معاناة» المستوطنين المصطنعة، وهم «يقتلعون» من منازلهم باكين، وجنود الاحتلال يقودونهم إلى الحافلات بسكينة ووقار، الأمر الذي اسقط من الأذهان صورة المستوطن المغتصب والمفتري. وفي هذه المباراة التي خسر فيها الفلسطينيون حرب الصورة. لم تتوان إسرائيل عن استثمار ذلك الفوز، إقليميا ودولياً.
ومن المفارقات أن المشاهد التي بثت من المستوطنات جعلت إحدى المؤسسات الإعلامية الإيطالية ترشح شارون، الجزار العتيد في قبية وصبرا وغيرهما الكثير، لجائزة نوبل للسلام، في مشهد يشي باستحالة المأساة إلى ملهاة. مع انه لا خلاف على أن شارون اقدم على تنفيذ خطة «فك الارتباط» في إطار استراتيجيته القائمة على «إدارة» الصراع لا حله، من خلال «التضحية» بالاستيطان في القطاع الذي فقد أهميته الاستراتيجية، لأجل تعزيز الاستيطان في الضفة. لقد نجحت الصور في أن تمحو من ذاكرة الرأي العام العالمي التصريحات التي أطلقها شارون وقال فيها صراحة أن خطة «فك الارتباط» تأتي لتجنيب إسرائيل خوض غمار أي تسوية سياسية لمدة خمسين عاماً، وان هذه الخطة تأتي لتصفية قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. كما لم يعد يتذكر أحد العبارة الشهيرة التي أطلقها دوف فايسغلاس كبير مستشاري شارون الذي قال «فك الارتباط يأتي لإسدال الستار على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية».
(3)
الادهى مما سبق والأمر أن إسرائيل من خلال تغطية عمليات الإخلاء حاولت اضفاء بعد انساني علي مستوطنيها عبر إظهار ألمهم على انه «ألم» حقيقي، وكأنهم لم يقيموا بيوتهم الفارهة على ارض فلسطينية مغتصبة. وحرصت إسرائيل أيضاً على «أنسنة» جيشها، فالجنود الذين شاركوا في عمليات الإخلاء لم يكن يسمح لهم بحمل أي سلاح، في سعي واضح لتحسين صورتهم، التي ارتبطت في الوجدان العالم بالوحشية المفرطة وإهلاك الحرث والنسل وتدمير البيوت. وحتى صور الممانعة والمقاومة التي أبداها المستوطنون في بعض المستوطنات استغلت من قبل شارون لإقناع العالم بأنه لن يكون بوسعه تنفيذ عمليات إخلاء أخرى في المستقبل. وقد عبر عن تلك الفكرة حين التقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك مؤخراً، بل انه ما برح يردد على مسامع كل من يقابله بأن تنفيذ عمليات إخلاء أخرى قد يكون مقترناً باندلاع حرب أهلية. ليس هذا فحسب، بل إن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية اعتبرت أن «الصدمة النفسية» التي تعرض لها المستوطنون توجب على الدولة العبرية ليس فقط عدم إزالة النقاط الاستيطانية التي أقيمت في الضفة الغربية بشكل غير قانوني، وإنما أيضاً تكثيف الاستيطان كتعويض للمستوطنين عن «خسارتهم».
إلى جانب ذلك بالغت وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم في كيل المديح لشارون على اعتبار انه قائد سياسي «جدي وشجاع، وصاحب قدرة على إمضاء تعهداته». وهذا المديح الذي جعل معظم الإسرائيليين يرون في شارون الممثل الحقيقي للوسط، فأصبح من هم على يمين شارون يمثلون اليمين، ومن هم على يساره يمثلون اليسار، على الرغم من مواقفه المعروفة والمتشددة من قضايا الصراع. كما حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية على إبداء التعاطف مع شارون، عن طريق الاستفاضة في طرح المشاكل الحزبية التي تواجهه بسبب خطة «فك الارتباط»، لتقول للعالم انه حتى لو أراد تنفيذ مزيد من الاخلاءات فان الواقع الحزبي في إسرائيل لن يسمح له بذلك. ليس هذا فحسب، بل تم إظهار شارون وكأنه يسدي جميلاً ومعروفاً للفلسطينيين، يتوجب عليهم الرد عليه من خلال تفكيك حركات المقاومة والقضاء عليها، ونزع الشرعية عن المقاومة في مواصلة عملياتها.
ما أثار الدهشة في هذا السياق انه في مقابل هذه المشاهد. كانت بعض الفصائل الفلسطينية تواصل احتفاءها «بالتحرير»، عن طريق تنظيم الاستعراضات العسكرية التي أظهرت فيها أسلحتها البدائية. وهو ما سجلته التليفزيونات العالمية، كشاهد أيد مطالبة إسرائيل بتفكيك حركات المقاومة. وزاد الطين بلة، أن بعض منتسبي الجماعات المسلحة، وجهات أخرى غير معلومة تورطت في اختطاف عدد من الأجانب، العاملين في الإغاثة أو في الصحافة، الأمر الذي أضفى بعداً جديداً على قتامة الصورة الفلسطينية، في حين أن الطرف الإسرائيلي ظل يواصل سعيه لتقديم صورة بريئة وجذابة إلى العالم الخارجي. حتى بدا أن الجلاد كسب الرهان في حين خسرته الضحية - وهكذا يكون العبث وإلا فلا!
(4)
حتى يبلغ العبث ذروته، فان عدداً غير قليل من الصحفيين والمعلقين في إسرائيل لجأوا إلى حيلة خبيثة لتقزيم القضية الفلسطينية وطمس معالمها. فقد دأبوا على تشبيه إخلاء المستوطنين بما حل بالفلسطينيين في عام .48 فأطلقوا عليهم مصطلح «اللاجئين»، وحين تطرقوا إلى المخيمات المترفة التي أقيمت لهم وسط تل أبيب تحدثوا عنها باعتبارها «مخيمات اللاجئين»، وهي المصطلحات التي ظلت طويلاً مقصورة على الفلسطينيين دون غيرهم.
حتى يديعوت احرونوت، كبرى الصحف الإسرائيلية اعتبرت أن إخلاء المستوطنين يضاهي في قسوته النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون في عام 48 - كما أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية وجدت في حرص إسرائيل على إيواء المستوطنين الذين تم إخلاؤهم فرصة لمهاجمة السلطة والدول العربية، والطلب منها أن تتعلم من إسرائيل كيفية إعادة توطين اللاجئين وتأهيلهم. ولم يفت أولئك المعلقين أن يتحدثوا عن «معاناة» المستوطنين، الذين كانوا يمثلون 0.5% من المقيمين بقطاع غزة، وتجاهلوا معاناة 99.5% من سكانه، تحملوا الكثير من عذابات الاحتلال طيلة 38 عاماً، وقد خرجوا من الهيمنة المباشرة للاحتلال ليجدوا أنفسهم في سجن كبير بالقطاع، يحرسه جنود الاحتلال ذاتهم.
حين كنت أتبادل الرأي مع أحد الأصدقاء في غزة حول الوضع القانوني للقطاع بعد الانسحاب، ومفارقة وقوف الفصائل في مربع الحكومة الإسرائيلية التي تحاول تسويق فكرة تحرير القطاع والانتهاء من احتلاله، نبهني صاحبي إلى أن السلطة الفلسطينية واقفة بدورها في ذات المربع لهدف آخر. هو أنها حين تعتبر الإخلاء تحريراً فان ذلك يسوغ لها نزع سلاح الفصائل، لان الوضع المستجد لا يبرر لها الاحتفاظ بسلاحها، ومن ثم فيتعين على الفصائل أن تتخلى عن السلاح ولا تبقي لديها على شيء منه. وهو أمر ليس سهلاً، يفتح الباب لشرور كثيرة، قد تكون الحرب الأهلية بين خياراتها.
ترى، هل يقع المحظور يوماً ما، حتى نسمع قول القائل: ليتهم ما انسحبوا؟!