ابوقاسم
07-25-2003, 10:40 PM
الصبر قيمة إنسانية وتجسيد لمسيرة الحق
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
25 جمادى الاولى 1424هـ / 25 تموز-يوليو 2003م
--------------------------------------------------------------------------------
الصبر قيمة إنسانية وتجسيد لمسيرة الحق
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
الصبر يمثل خط التوازن
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}، ويقول سبحانه: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، ويقول تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
لم يركّز القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة من خلال ما ورد عن النبي (ص)، وما حدّث به أهل البيت (ع) عنه، على قيمة كقيمة الصبر، لأن الصبر هو سرّ قوة حركة الحياة في حركة الإنسان، فلو أردنا أن ندرس الإنسان منذ بدايته في رحلة الوجود، فإن الله تعالى يقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، فالإنسان يعاني في نموّه في بطن أمه الكثير، وهكذا عندما يخرج إلى الوجود، فإنه يعاني وأمه الكثير، وهكذا في شأن رعايته بحيث يتحمل أبوه الكثير في ذلك، فالإنسان بحسب طبيعة حركته في الوجود ينطلق من موقع صبر قد يكون غريزياً وقد يكون إرادياً، لأنه لا يستطيع أن يواجه كل مسؤوليات وجوده وتفاصيله إلا بالصبر.
والصبر يمثل في معنى القيمة الإنسانية خط التوازن، لأن الإنسان عندما يواجه خوفاً فإن الخوف قد يسقطه، وعندما يبتلى بجوع فإن الجوع قد يصادر حياته، وعندما يبتلى بنقص من الأموال في خسارة هنا وهناك، أو نقص في الأنفس في من يفقده من أحبابه وإخوانه وأهله، ونقص من الثمرات التي تمثل الحاجات الحيوية للمجتمع في أوضاعه الغذائية والعملية، فإن الإنسان بحسب طبيعته في ضغط حاجاته قد يسقط، لأنه يشعر بالحرمان مما يحبّه أو يريده. ولذلك، فإن الصبر يأتي هنا من أجل أن يعطي الإنسان قوة التحمّل والتماسك، ليواجه هذه السلبيات في حياته بإيجابية الإرادة والصمود والصلابة. وإذا استطاع الإنسان أن يتماسك ويصمد، فإنه يستطيع أن يفكّر ويخطِّط ويدرس المشكلة ويعرف حجمها ويفكر في حلولها ومدى ما يحتاجه الحل هنا وهناك من زمن معين ووسائل معينة. ولهذا نجد أن الإنسان الذي يفقد صبره لا يستطيع أن يفكر، وقد يعيش الجزع والسقوط تحت تأثير المصيبة، فيكون ردّ فعله عندما تصيبه أن يقول: "لست قادراً على التفكير".
الصبر على الحق
والصبر ربما يحتاجه الإنسان ـ وكثيراً ما يحتاجه ـ في الصبر على الحق، عندما يكلّفه الموقف في الحق، سواء كان عقيدياً أو شرعياً أو اجتماعياً أو سياسياً، الكثير من الجهد والتحديات، لأن الذين يلتزمون الباطل سوف يواجهون الذين يلتزمون الحق بكل عنف الحقد الذي يحمله الباطل ضد الحق. ولعل أفضل تعبير عن النتائج السلبية للذي يقف مع الحق هو ما قاله عليّ (ع): "ما ترك لي الحق من صديق"، لأنّ مشكلته (ع) أنّه كان يرى أن الحق رسالته، وأنه لا يملك أن يعطي الباطل أي هدنة أو مجاملة، حتى وهو يعيش مع أجواء الباطل، لا من خلال رضاه عن الباطل، بل لأن هناك حقاً يفرض عليه هذا الأسلوب في هذه المرحلة، وهو ما قاله: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"، فهو (ع) سلّم لكثير من الأوضاع السلبية التي كان يرى أنها باطل، ولكن عندما دار الأمر بين موقف العنف وبين مصلحة المسلمين، كانت مصلحة المسلمين هي الحقّ الأهمّ الذي ينطلق ليجمّد الحق الذي هو أقل أهمية.
لذلك، فإن الكثيرين من الناس من سائر المستويات، قد يضعف عن موقف الحق، لأنه قد يخسر امتيازاً مالياً يمنحه إياه أهل الباطل، أو موقعاً رسمياً أو شعبية اجتماعية، فيتنازل عن الحق، وعندما تحدِّثه عن ذلك يقول لك: "إني خاضع للضغط وأريد أن أعيش"، ولذلك يستعمل الكثيرون ممن يلتزمون الباطل الإرهاب الفكري ضد الذين يلتزمون الحق لإسقاط الموقف عند هؤلاء. وهكذا قد يقيم الإنسان على باطل نتيجة تأثره ببيئته التي تحمل كثيراً من أفكار الباطل وعصبياته، وعندما يقابل بالحجة على الحق والبرهان عليه، فإنه يضعف عن أن يترك ما ورثه أو ما تأثّر به، لأنه إذا وقف مع الحق وكان المجتمع على الباطل فإنه سوف يخسر مجتمعه..
ولذلك نجد أن كثيراً من أفكار الغلوّ والعصبية والتخلّف والخرافة تتحرك في الكثير من الناس، لأنهم يضعفون عن أن يتركوا ما أخذوه من الباطل، باعتبار ـ كما يقول البعض ـ "حشر مع الناس عيد"، وقد قال لي بعض الناس الكبار في بعض ما كنت أثيره مما أعتقد أنه الحق، قال لي: "نحن معك، أنت على حق ولكن لماذا تتكلم بهذا، لك أعداء وسوف يستغلون ذلك"، ولكنني كنت أقول: إن الحق ليس ذاتياً ولكنه رسالة، ولا يجوز لصاحب الرسالة أن يتنازل عن الحق وأن لا يقول كلمة الحق لأن هناك من يشتمه أو يتهمه وما إلى ذلك.
ولذلك، فإن الصبر هنا، أن تتماسك من أجل أن تعتبر أن الله هو الحق، وأن الناس من حولك قد يأخذون بالباطل وقد يأخذون بالحق، فلذلك لا بد أن تحرك عقلك بطريقة موضوعية بعيداً عما إذا كان الناس يرتاحون أو لا يرتاحون لذلك، ونحن نعرف أن الأنبياء كانوا يواجهون المقولة التي تقول: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، ولعل هذا مما يأخذ به الكثير من مجتمعاتنا، لأن أصحاب الأفكار المضيئة المشرقة القوية يرجمهم المجتمع بشكل عام، وربما ينتظر حتى يغيبوا عن الحياة، فيجد المجتمع الجديد شيئاً من الحق هنا وهناك في أكثر من جانب، وهذه هي رسالة الأنبياء.
فالصبر هو أن تصبر على الحق، وهذه هي وصية الإمام الحسين (ع). يروي الإمام الباقر (ع) يقول: "لما حضرت أبي عليّ بن الحسين (ع) الوفاة أوصاني وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي عندما حضرته الوفاة، فإنه قال لي: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً". ونفهم من هذا الحديث، أن آخر وصية للإمام الحسين (ع) هذه الوصية، أن يصبر الإنسان على الحق حتى لو تحمّل كل مراراته في أيّ جانب من الجوانب؛ في العقيدة والشريعة والسياسة والاجتماع، في الحرب والسلم، وإلا لو أخذنا بالمجاملة وفكر كل إنسان بالعناصر الشخصية له، فكيف يمكن أن يتحرك الحق، والحق أمانة الله عندنا، وعلينا أن ننطلق فيه.
من الصبر: دراسة مواقع القوة
وفي هذا المجال نعرّج على نقطة مهمة، وهي أن المستكبرين في العالم، ومعهم الكافرون المعقّدون من الإسلام، يعملون على خلق الظروف التي تحاصر الواقع الإسلامي سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً، ثم يقولون لهم: الطريق من هنا، ويغلقون بوجههم كل الطرق من خلال التعقيدات السياسية والاجتماعية والأمنية، واستغلال ضعف المسؤولين في هذه المنطقة أو تلك، ويقولون: "الزنزانة وراءكم والحل الاستكباري أمامكم"، ويقتنع الناس بذلك لأنهم لا يصبرون ويسألونك عن البديل، ويقولون لك: "إن العين لا تقاوم المخرز".
علينا أن نبحث عن البديل، لأن المسألة أن الاستكبار هو الذي جعل نفسه البديل المعيّن، وعلينا أن لا نستسلم لذلك، والمشكلة في العالم الثالث أنه لا يدرس عناصر القوة فيه، بل يخضع للإعلام والخطط التي تجعله يسقط في إحصائيات نقاط الضعف.
لهذا، نحتاج إلى الصبر حتى نستطيع أن نواجه كل الحصار الذي يحيط بنا، وإلى التخطيط لحلّ المشكلات التي تعترضنا، ولنتفهّم كل الخطوط التي ترسم لنا، وكل الأوضاع التي تريد أن تسقط المستقبل في حياتنا.
الصبر على الطاعة والمعصية
ولذلك، أكّد القرآن الكريم في عدة جوانب بأن عليك أن تضغط على جراحك وأعصابك: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}. ويحدِّث الله تعالى المسلمين عن الذين يواجهون العداوة والبغضاء من الآخرين، سواء على مستوى الإعلام والسياسة والضغوط الاقتصادية: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا ـ فلا تعيشوا الانفعال والسقوط أمام كل تلك الضغوط التي تحاول أن تتحدى حالتكم النفسية ـ وتتقوا ـ والتقوى هي دراسة الأمور بالطريقة التي تحقق الأهداف الكبرى للمسلمين ـ فإن ذلك من عزم الأمور}، لأن الصّبر ليس ضعفاً بل قوة.
ويقول الله تعالى لنبيّه (ص): {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. ونحن نعرف أن المؤمنين الذين يدخلون الجنة إنما يدخلونها بالصبر؛ الصبر على الطاعة وعن المعصية والصبر على البلاء. كيف نفهم ذلك؟ من خلال الاستقبال الاحتفالي الذي يقوم به الملائكة في الجنة للمؤمنين: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وقد ورد عن عليّ (ع): "وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه".
الصبر سر حركة الإنسان
الصبر هو سرّ حركة الإنسان في الوجود كله، في كل مسؤوليته ومواقفه وانتمائه وحركة فكره نحو الحق، لذلك عندما نقرأ: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، فمن يمكن له أن يتصور مدى الأجر الذي وعده الله به، والله أصدق من وعد. لذلك لا بدّ أن نربّي أنفسنا وأجيالنا على الصبر، لأننا نواجه تحديات ثقافية وسياسية وأمنية واجتماعية تحاول أن تهزّ الأرض من تحت أقدامنا، والله تعالى يحدّثنا عن الرابحين المفلحين: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
وهكذا رأينا عندما انطلقت واقعة "خيبر" كيف رجع البعض يجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه، ولكن عندما انطلق بها الصابر في الحق والموقف وفي رضوان الله، عندما انطلق بها عليّ (ع) الذي كان يتحرك على أساس القوة الإلهية الربانية، كان الفتح الكبير، ونحن بحاجة إلى صبر عليّ وحقه، وبحاجة إلى الروح العالية التي تنطلق مع الله في كلِّ القضايا والأمور، نحن بحاجة إلى عليّ ولو بنسبة العشرة بالمئة، ولذلك لا بدّ أن نبقى مع عليّ (ع)، تلميذ رسول الله (ص) وتلميذ القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
25 جمادى الاولى 1424هـ / 25 تموز-يوليو 2003م
--------------------------------------------------------------------------------
الصبر قيمة إنسانية وتجسيد لمسيرة الحق
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
الصبر يمثل خط التوازن
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}، ويقول سبحانه: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، ويقول تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
لم يركّز القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة من خلال ما ورد عن النبي (ص)، وما حدّث به أهل البيت (ع) عنه، على قيمة كقيمة الصبر، لأن الصبر هو سرّ قوة حركة الحياة في حركة الإنسان، فلو أردنا أن ندرس الإنسان منذ بدايته في رحلة الوجود، فإن الله تعالى يقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، فالإنسان يعاني في نموّه في بطن أمه الكثير، وهكذا عندما يخرج إلى الوجود، فإنه يعاني وأمه الكثير، وهكذا في شأن رعايته بحيث يتحمل أبوه الكثير في ذلك، فالإنسان بحسب طبيعة حركته في الوجود ينطلق من موقع صبر قد يكون غريزياً وقد يكون إرادياً، لأنه لا يستطيع أن يواجه كل مسؤوليات وجوده وتفاصيله إلا بالصبر.
والصبر يمثل في معنى القيمة الإنسانية خط التوازن، لأن الإنسان عندما يواجه خوفاً فإن الخوف قد يسقطه، وعندما يبتلى بجوع فإن الجوع قد يصادر حياته، وعندما يبتلى بنقص من الأموال في خسارة هنا وهناك، أو نقص في الأنفس في من يفقده من أحبابه وإخوانه وأهله، ونقص من الثمرات التي تمثل الحاجات الحيوية للمجتمع في أوضاعه الغذائية والعملية، فإن الإنسان بحسب طبيعته في ضغط حاجاته قد يسقط، لأنه يشعر بالحرمان مما يحبّه أو يريده. ولذلك، فإن الصبر يأتي هنا من أجل أن يعطي الإنسان قوة التحمّل والتماسك، ليواجه هذه السلبيات في حياته بإيجابية الإرادة والصمود والصلابة. وإذا استطاع الإنسان أن يتماسك ويصمد، فإنه يستطيع أن يفكّر ويخطِّط ويدرس المشكلة ويعرف حجمها ويفكر في حلولها ومدى ما يحتاجه الحل هنا وهناك من زمن معين ووسائل معينة. ولهذا نجد أن الإنسان الذي يفقد صبره لا يستطيع أن يفكر، وقد يعيش الجزع والسقوط تحت تأثير المصيبة، فيكون ردّ فعله عندما تصيبه أن يقول: "لست قادراً على التفكير".
الصبر على الحق
والصبر ربما يحتاجه الإنسان ـ وكثيراً ما يحتاجه ـ في الصبر على الحق، عندما يكلّفه الموقف في الحق، سواء كان عقيدياً أو شرعياً أو اجتماعياً أو سياسياً، الكثير من الجهد والتحديات، لأن الذين يلتزمون الباطل سوف يواجهون الذين يلتزمون الحق بكل عنف الحقد الذي يحمله الباطل ضد الحق. ولعل أفضل تعبير عن النتائج السلبية للذي يقف مع الحق هو ما قاله عليّ (ع): "ما ترك لي الحق من صديق"، لأنّ مشكلته (ع) أنّه كان يرى أن الحق رسالته، وأنه لا يملك أن يعطي الباطل أي هدنة أو مجاملة، حتى وهو يعيش مع أجواء الباطل، لا من خلال رضاه عن الباطل، بل لأن هناك حقاً يفرض عليه هذا الأسلوب في هذه المرحلة، وهو ما قاله: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"، فهو (ع) سلّم لكثير من الأوضاع السلبية التي كان يرى أنها باطل، ولكن عندما دار الأمر بين موقف العنف وبين مصلحة المسلمين، كانت مصلحة المسلمين هي الحقّ الأهمّ الذي ينطلق ليجمّد الحق الذي هو أقل أهمية.
لذلك، فإن الكثيرين من الناس من سائر المستويات، قد يضعف عن موقف الحق، لأنه قد يخسر امتيازاً مالياً يمنحه إياه أهل الباطل، أو موقعاً رسمياً أو شعبية اجتماعية، فيتنازل عن الحق، وعندما تحدِّثه عن ذلك يقول لك: "إني خاضع للضغط وأريد أن أعيش"، ولذلك يستعمل الكثيرون ممن يلتزمون الباطل الإرهاب الفكري ضد الذين يلتزمون الحق لإسقاط الموقف عند هؤلاء. وهكذا قد يقيم الإنسان على باطل نتيجة تأثره ببيئته التي تحمل كثيراً من أفكار الباطل وعصبياته، وعندما يقابل بالحجة على الحق والبرهان عليه، فإنه يضعف عن أن يترك ما ورثه أو ما تأثّر به، لأنه إذا وقف مع الحق وكان المجتمع على الباطل فإنه سوف يخسر مجتمعه..
ولذلك نجد أن كثيراً من أفكار الغلوّ والعصبية والتخلّف والخرافة تتحرك في الكثير من الناس، لأنهم يضعفون عن أن يتركوا ما أخذوه من الباطل، باعتبار ـ كما يقول البعض ـ "حشر مع الناس عيد"، وقد قال لي بعض الناس الكبار في بعض ما كنت أثيره مما أعتقد أنه الحق، قال لي: "نحن معك، أنت على حق ولكن لماذا تتكلم بهذا، لك أعداء وسوف يستغلون ذلك"، ولكنني كنت أقول: إن الحق ليس ذاتياً ولكنه رسالة، ولا يجوز لصاحب الرسالة أن يتنازل عن الحق وأن لا يقول كلمة الحق لأن هناك من يشتمه أو يتهمه وما إلى ذلك.
ولذلك، فإن الصبر هنا، أن تتماسك من أجل أن تعتبر أن الله هو الحق، وأن الناس من حولك قد يأخذون بالباطل وقد يأخذون بالحق، فلذلك لا بد أن تحرك عقلك بطريقة موضوعية بعيداً عما إذا كان الناس يرتاحون أو لا يرتاحون لذلك، ونحن نعرف أن الأنبياء كانوا يواجهون المقولة التي تقول: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، ولعل هذا مما يأخذ به الكثير من مجتمعاتنا، لأن أصحاب الأفكار المضيئة المشرقة القوية يرجمهم المجتمع بشكل عام، وربما ينتظر حتى يغيبوا عن الحياة، فيجد المجتمع الجديد شيئاً من الحق هنا وهناك في أكثر من جانب، وهذه هي رسالة الأنبياء.
فالصبر هو أن تصبر على الحق، وهذه هي وصية الإمام الحسين (ع). يروي الإمام الباقر (ع) يقول: "لما حضرت أبي عليّ بن الحسين (ع) الوفاة أوصاني وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي عندما حضرته الوفاة، فإنه قال لي: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً". ونفهم من هذا الحديث، أن آخر وصية للإمام الحسين (ع) هذه الوصية، أن يصبر الإنسان على الحق حتى لو تحمّل كل مراراته في أيّ جانب من الجوانب؛ في العقيدة والشريعة والسياسة والاجتماع، في الحرب والسلم، وإلا لو أخذنا بالمجاملة وفكر كل إنسان بالعناصر الشخصية له، فكيف يمكن أن يتحرك الحق، والحق أمانة الله عندنا، وعلينا أن ننطلق فيه.
من الصبر: دراسة مواقع القوة
وفي هذا المجال نعرّج على نقطة مهمة، وهي أن المستكبرين في العالم، ومعهم الكافرون المعقّدون من الإسلام، يعملون على خلق الظروف التي تحاصر الواقع الإسلامي سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً، ثم يقولون لهم: الطريق من هنا، ويغلقون بوجههم كل الطرق من خلال التعقيدات السياسية والاجتماعية والأمنية، واستغلال ضعف المسؤولين في هذه المنطقة أو تلك، ويقولون: "الزنزانة وراءكم والحل الاستكباري أمامكم"، ويقتنع الناس بذلك لأنهم لا يصبرون ويسألونك عن البديل، ويقولون لك: "إن العين لا تقاوم المخرز".
علينا أن نبحث عن البديل، لأن المسألة أن الاستكبار هو الذي جعل نفسه البديل المعيّن، وعلينا أن لا نستسلم لذلك، والمشكلة في العالم الثالث أنه لا يدرس عناصر القوة فيه، بل يخضع للإعلام والخطط التي تجعله يسقط في إحصائيات نقاط الضعف.
لهذا، نحتاج إلى الصبر حتى نستطيع أن نواجه كل الحصار الذي يحيط بنا، وإلى التخطيط لحلّ المشكلات التي تعترضنا، ولنتفهّم كل الخطوط التي ترسم لنا، وكل الأوضاع التي تريد أن تسقط المستقبل في حياتنا.
الصبر على الطاعة والمعصية
ولذلك، أكّد القرآن الكريم في عدة جوانب بأن عليك أن تضغط على جراحك وأعصابك: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}. ويحدِّث الله تعالى المسلمين عن الذين يواجهون العداوة والبغضاء من الآخرين، سواء على مستوى الإعلام والسياسة والضغوط الاقتصادية: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا ـ فلا تعيشوا الانفعال والسقوط أمام كل تلك الضغوط التي تحاول أن تتحدى حالتكم النفسية ـ وتتقوا ـ والتقوى هي دراسة الأمور بالطريقة التي تحقق الأهداف الكبرى للمسلمين ـ فإن ذلك من عزم الأمور}، لأن الصّبر ليس ضعفاً بل قوة.
ويقول الله تعالى لنبيّه (ص): {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. ونحن نعرف أن المؤمنين الذين يدخلون الجنة إنما يدخلونها بالصبر؛ الصبر على الطاعة وعن المعصية والصبر على البلاء. كيف نفهم ذلك؟ من خلال الاستقبال الاحتفالي الذي يقوم به الملائكة في الجنة للمؤمنين: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وقد ورد عن عليّ (ع): "وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه".
الصبر سر حركة الإنسان
الصبر هو سرّ حركة الإنسان في الوجود كله، في كل مسؤوليته ومواقفه وانتمائه وحركة فكره نحو الحق، لذلك عندما نقرأ: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، فمن يمكن له أن يتصور مدى الأجر الذي وعده الله به، والله أصدق من وعد. لذلك لا بدّ أن نربّي أنفسنا وأجيالنا على الصبر، لأننا نواجه تحديات ثقافية وسياسية وأمنية واجتماعية تحاول أن تهزّ الأرض من تحت أقدامنا، والله تعالى يحدّثنا عن الرابحين المفلحين: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
وهكذا رأينا عندما انطلقت واقعة "خيبر" كيف رجع البعض يجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه، ولكن عندما انطلق بها الصابر في الحق والموقف وفي رضوان الله، عندما انطلق بها عليّ (ع) الذي كان يتحرك على أساس القوة الإلهية الربانية، كان الفتح الكبير، ونحن بحاجة إلى صبر عليّ وحقه، وبحاجة إلى الروح العالية التي تنطلق مع الله في كلِّ القضايا والأمور، نحن بحاجة إلى عليّ ولو بنسبة العشرة بالمئة، ولذلك لا بدّ أن نبقى مع عليّ (ع)، تلميذ رسول الله (ص) وتلميذ القرآن.