سمير
09-20-2005, 12:12 AM
شيخ الشيوعيين العرب يروي سيرة العلاقات السيئة مع عبدالناصر والسادات
يبدو محمود امين العالم مثل واحد من فرسان العصور الوسطي في تمسكه بقيم النضال ومواجهة اشد الخصوم بنزاهة وموضوعية , في وقت تحولت فيه السياسة الى لعبة مصالح وصفقات كبرى.. لذا تبقى دائما القيمة الرائعة لمناضل مثل "العالم" الذي اعتبره الجميع شيخ الشيوعيين المصريين, وهو الذي لم يكتف بممارسة عمله النضالى الذي وصل لحد حمل السلاح اثناء العدوان الثلاثي والقى به في اقسى تجارب السجن والمعتقلات.. لكنه واصل مشوار عطائه الابداعي والنقدي والفلسفي لاكثر من نصف قرن..
وفي اعترافات »العالم« التي صدرت مؤخرا في كتاب للاديب والصحافي سليمان الحكيم نكتشف الكثير من المناطق المجهولة في مسيرته وعلاقته المتوترة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي يؤكد موته مقتولا وفضله للسادات ومحادثاته السرية مع الاسرائيليين والكثير من الاسرار المذهلة التي يقدمها للقارئ للمرة الاولى.
يفتح محمود أمين العالم ابواب ذكرياته في حي الدرب الاحمر الذي ولد به عام 1922 في احدى الليالى الشتوية باكثر احياء القاهرة القديمة شعبية , وشهرة ايضا, ويقول العالم: مثل كل ابناء جيلي في ذلك الوقت التحقت بكتاب الشيخ السعدني قبل ان انتقل الى المدارس الرسمية ومازلت اذكر الشيخ السعدني بوجهه المتجهم وعصاه الطويلة , وعندما اتممت مرحلة الكتاب انتقلت الى مدرسة الرضوانية الاولية بمنطقة القربية ومنها الى مدرسة النحاسين الابتدائية, على مقربة من جامع الحسين ,وعرفت بعد ذلك ان جمال عبد الناصر كان معي بنفس المدرسة لكني لم اعرفه!
ورغم ان قسوة الفقر كانت الشبح الذي يطارد اسرة العالم المتدينة الا ان محمود امين العالم استطاع ان يحافظ على تفوقه الشديد لدرجة انه بعد ان ترك الدراسة بمدرسة الاسماعيلية الثانوية بسبب عدم قدرته على دفع المصاريف وعمله في احدى المطابع انقذه تفوقه عندما قرر الملك فؤاد منح المجانية للمتفوقين بالمدارس فعاد العالم لاستئناف دراسته مرة اخرى..
ويذكر محمود العالم ان شقيقيه الاكبر منه "محمد شوقى" وأحمد لعبا دورا مؤثرا للغاية في توسيع معارفه فيقول: كان اخي محمد ازهريا وسمح لي بالاطلاع على ما تحويه مكتبته من كتب وذخائر ,واطلعت على كل اعداد مجلة "الرسالة" وقرأت فيها لكبار الكتاب ,كما كان يصحبني لصديقه الشاعر والاديب الكبير الشيخ الغاياتي وعلى يديه احببت الشعر وتمنيت ان اكون شاعرا ,ومن مكتبة اخي حصلت على ترجمة فيلكس فارس لكتاب نيتشه الشهير "هكذا تكلم زرادشت" الذي اثر في تأثيرا بالغا حتى انني قررت التخصص في دراسة الفلسفة بعد الانتهاء من قراءته.. اما اخي احمد فكان ازهريا ايضا لكنه كان كفيف البصر لذا كان يستعين بي لاقرأ له كتب التراث الاسلامي والفقه والتاريخ .
وعن الشرارة الاولى التي خطفت بصره للاتجاه لعالم السياسة ,يذكر العالم ان مصر كلها كانت تعج بالمظاهرات العارمة التي كانت تطالب بالاستقلال تحت شعار "الاستقلال التام او الموت الزؤام" الذي رفعه حزب الوفد ويقول العالم ان اول مظاهرة خرج فيها كان عمره لم يتجاوز الثامنة! وامتدت تلك الفترةعدة سنوات تعرف خلالها على ما يحدث في مصر الا انه خرج مرة اخرى في مظاهرات عام 1936 وكان طالبا بالثانوية.. وهي المرحلة التي شهدت اول اختلاف فكري له عن باقي ابناء جيله ,حيث اختلف ومعه عدد قليل من الزملاء مع باقي المدرسة من الوفديين الذين حاولوا الفتك به بسبب اعتراضه على معاهدة 1936 التي وقعها زعيم الوفد مع الانكليز الا انه نجا من الموت باعجوبة!
يقول العالم: في هذه الفترة خرجت انا وزميلي امين صفوت نلف على الاحزاب لنستطلع اراءها في تلك الاتفاقية وذهبنا الى حزب الاحرار الدستوريين فطردنا عند مدخل الحزب وذهبنا الى الحزب الوطني (لصاحبه مصطفي كامل وبعده الى حزب مصر الفتاة.. الا اننا في النهاية فكرنا في انشاء حزب جديد يغنينا عن كل الاحزاب التي مررنا عليها ولم تحظ برضانا فشكلنا حزبا اطلقنا عليه حزب "المجد الفرعونى" كل ما اذكره من لائحته وبرنامجه اننا قررنا ان نشرب الشاي ونأكل الجاتوه قبل اي اجتماع للحزب!!
سخرية
وقبل ان يلج محمود العالم الى دهاليز علاقته بالحركة الشيوعية وتنظيماتها السرية يكشف عن صلابة جذوره الدينية في تلك الفترة بحكم انتماء اغلب افراد اسرته للازهر بالاضافة لنشأته في بيئة شعبية تحكمها العديد من التقاليد الصارمة وهو ما كان حاجزا يمنعه من مجرد التفكير في الانضمام للتيار الشيوعي ويعترف العالم انه كثيرا ما تعرض لسخرية زملائه الذين سبقوه الى هذا التيار.
ويقول: حتى ذلك الوقت لم اكن قد دخلت الحركة الشيوعية بل والاغرب انني كنت اسخر من الماركسيين من زملاء الجامعة.. في تلك الفترة كنت مثاليا ومتصوفا.. ليس تصوفا دينيا بل تصوفا روحانيا ,وفي تلك الفترة عرفت لويس عوض وكان يقدم لي المادية والماركسية بشكل غامض وملتبس , واصبحت ممزقا بين مثاليتي ووجوديتي من ناحية, وبين ايماني بالافكار التي تشربتها من الجو الديني الذي عشته.. الى ان وقع في يدي كتاب المادية والنقد التجريبي الذي وضعه لينين ليحدث التحول في حياتي كلها وقد ساعدني هذا الكتاب على اكتشاف الاساس العلمي والموضوعي لكل شئ في العلم والسياسة والمجتمع والادب وقررت ان انضم للحركة الشيوعية.. وبعد ان استقريت على الماركسية منهجا والشيوعية طريقا وطريقة ,كان علي ان ابحث عن احد التنظيمات الشيوعية لانضم اليها واصب فيها طاقتي من اجل التغير والتقدم.. وبالفعل وجدت ضالتي من بين اكثر من 13 تنظيما شيوعيا في مصر في حزب شيوعي صغير اسمه نواة الحزب الشيوعي واختصاره "نحش" ,وكان هذا الحزب يهدف الى تطهير الحركة الشيوعية من اليهود, ليس لانهم يهود ولكن لانه لا يمكن ان يقود اليهود مصر في معركة الاستقلال عن الاستعمار..
ويبدو ان قيام ثورة يوليو كان المحك الرئيسي الذي كشف عن مواقف محمود امين العالم الصلبة وتمسكه الشديد بقناعاته الفكرية.. وكانت علاقة العالم وكثير من الشيوعيين بالثورة مثار جدل شديد حيث شهدت مراحل صعود وهبوط وتوتر وسكينة وحميمية وخصام لم تشهدها اي حركة سياسية اخرى, يذكر العالم في اعترافاته: عند قيام الثورة ونجاحها في طرد الملك فاروق ثم اصدارها لقانون الاصلاح الزراعي واعلانها الكفاح المسلح ضد الانكليز كل ذلك جعلنا نؤيدها ,ولكن بشئ من الترقب ,خاصة بعد ان تخيلنا ان هذه الثورة جاءت بدعم اميركي مباشر.. حيث كانت اميركا القوى الصاعدة في هذا الوقت تتحين الفرصة لتحل محل القوى الاستعمارية القديمة وساعدنا على هذا التفكير مسارعة اميركا لتقديم الدعم من خلال مشروع المعونة الذي جاء في نقطته الرابعة ان اميركا ستورد لمصر كميات كبيرة من الكتاكيت فكنا نسخر من المشروع ونسميه بهذا الاسم ,وقد دفعنا لاتخاذ موقف مناهض للثورة رفض قياداتها الافراج عن المسجونين الشيوعيين رغم اعلانها عن العفو عن جميع المساجين السياسيين الذين دخلوا السجن في عهد فاروق..
وخلال سنواته الاولى في العمل مع التيار الشيوعي استطاع محمود امين العالم ان يصبح احد القيادات المهمة بهذا التنظيم, كما نجح ومعه الرفيق شهدي عطية في توحيد كل الفصائل والتنظيمات الشيوعية وكان اول قرار صدر للقيادة الجديدة الموحدة هو فصل هنري كوريل الذي هرب خارج مصر بعد الثورة لكنه كان لا يزال عضوا في اللجنة المركزية لحركة "حدتو" ,بل كان يقوده من الخارج.
واستمر الشيوعيون على موقفهم المعادي للثورة حتى قامت اسرائيل بعدوانها على غزة عام 1955 وكان عبد الناصر قد تقدم بطلب لاميركا لتزوده بالسلاح الا انها رفضت ذلك ما لم يعلن عن استعداده للصلح مع اسرائيل حينئذ شرع عبد الناصر في الاتجاه الى الكتلة الشيوعية وعقد عدة اتفاقيات مع روسيا لتزوده بالسلاح لتبدأ مرحلة جديدة في حياة التنظيمات الشيوعية المصرية يقول عنه العالم: عقدنا مؤتمرا بناحية الهرم وقررنا فيه كحركة شيوعية ان نؤيد عبد الناصر تاييدا نقديا اي نسانده ولكن ننقد ما فيه من سلبيات ,وقد رايت لكي اقنعهم بمساعدة عبد الناصر والثورة ان هذا هو السبيل لاحتواء عبد الناصر تمهيدا لاسقاطه وان ذلك لن يتم الا بالاقتراب منه والدخول فيه وليس بتركه للقوى الاخرى.. ووقعنا على بيان بالتاييد لعبد الناصر الا ان احد الرفاق ودون ان نعلم اضاف في نهاية البيان الذي لم يتضمن سوى التاييد عبارة "وهذا هو السبيل لاسقاط الديكتاتورية العسكرية!" وكانت هذه العبارة بمثابة القنبلة التي نسفت كل ما توصلنا اليه واصبحت حجة علينا في كل المحاكمات والتحقيقات بعد ذلك.
شهر العسل
المرحلة الاكثر اهمية في تاريخ النضال الشيوعي تكشف عنها اعترافات العالم اثناء العدوان الثلاثي على بورسعيد ,حيث لعب الشيوعيون دورا بارزا في المقاومة وعملياتها المسلحة, ويقول العالم: كان لنا الكثير من الخلايا الشيوعية في مختلف انحاء القطر وكنا نحن الذين قدنا عمليات المقاومة المسلحة ضد قوات الغزو وساعدنا في دخول المتطوعين ,من مختلف القيادات الوطنية الاخرى, للمشاركة في عمليات المقاومة التي كانت تحت قيادتنا كاملة وقامت بعض عناصرنا بعمليات بطولية وانتحارية غير مسبوقة في صفوف القوات المعادية ونجحنا في اختطاف "مورهيد" احد القادة الانجليز في عملية خاطفة اذهلت القوات الغازية واربكت صفوفها.. وفي هذه المعركة كنت انا وشهدي عطية في القاهرة بمثابة مركز القيادة الرئيسي وكنا نلتقي في "قهوة الحرية" بالمختلط.. وكنا حلقة وصل بين رجال المقاومة والقيادة المصرية التي ثبت لديها بالتجربة ان المعلومات التي نوصلها لهم في غاية الاهمية..
ويذكر العالم في اعترافاته ان حرب بورسعيد كانت المحك العملي لاثبات حسن نوايا الشيوعيين تجاه الثورة وعبد الناصر ولاول مرة يخرج الشيوعيون على وجه الارض بعد ان ظلوا لسنوات طويلة اما في السجون او في مخابئهم السرية فاصبحت اجتماعاتهم علانية ومنشوراتهم توزع بمنتهى الحرية والاكثر من ذلك اصبح السلاح في ايديهم يتجولون به في الشوارع دون خوف من السلطة.. لان السلطة نفسها هي التي قامت بتسليمه لهم!!
لكن حتى اثناء شهر العسل في العلاقة ما بين الشيوعيين والثورة كانت هناك الكثير من اجواء التوتر والتصدع خاصة في ازمة مارس الشهيرة عقب تنحية عبد الناصر للرئيس محمد نجيب واحتلال مكانه وقتها تعاون الشيوعيون مع قطاعات عريضة من المجتمع في مقدمتها الوفد بالطبع للتنديد بعبد الناصر وخاض العالم وعبد العظيم انيس معركة فكرية شهيرة ضد طه حسين والعقاد وغيرهما ويذكر العالم العبارة الشهيرة التي كتبها العقاد ردا عليهما: "انا لا اناقشهما.. ولكي اضبطهما..
انهما شيوعيان! وكان هجوم طه حسين علينا سببا مباشرا ليصدر قرار بفصلنا من الجامعة انا ولويس عوض وعبد العظيم انيس وعدد كبير من الاساتذة ذوي الميول الوفدية والاخوانية.. لكن الصدام الحقيقي مع الثورة جاء مع مظاهرات مصانع النسيج بكفر الدوار حيث خرج العمال يطالبون بحقوقهم بدعم من رئيس الديوان الملكي السابق واتجه العمال نحو الحرق والتخريب فاصدرت الثورة اوامرها باعدام خميس والبقري وهما اثنان من العمال الشيوعيين بتلك المصانع وذلك كان مؤشرا واضحا على وقوف الثورة ضد الشيوعيين , فلم تكن قيادة الثورة حتى ذلك الوقت قد اصدرت حكما بالاعدام وكانت تفخر بانها ثورة بيضاء لم تقم على اراقة الدم واعتبرنا اعدام خميس والبقري بمثابة اعلان الحرب ضد الشيوعية والشيوعيين.. وقد علمنا فيما بعد ان قرار الحكم بالاعدام تم في مجلس قيادة الثورة باجماع الاعضاء فيما عدا خالد محيي الدين ويوسف صديق وجمال عبد الناصر..
ويستعرض العالم في اعترافاته بداية توجهه للعمل الصحفي بصورة اكثر احترافية حيث دعاه احسان عبد القدوس للعمل في روزاليوسف وكتب خلالها زاوية بعنوان حاول ان تفهم ليستقر به المقام كاتبا مع احمد بهاء الدين وجمال كامل وحسن فؤاد وصلاح جاهين.. ويقول العالم: في هذه الاثناء اتصل بي انور السادات الذي كان رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية وطلب مني تولي مسؤولية مجلة جديدة سياسية اخترت لها اسم الفجر ورغم صدور اعدادها التمهيدية الا انها لم تظهر للنور بسبب الحرب..
اصطياد الانسان
شرخ جديد في العلاقة بين العالم وعبد الناصر حدث بعد الوحدة مع سورية حيث كتب العالم مقالا في الرسالة الجديدة يعترض فيه على طريقة تنفيذ هذه الوحدة وطالب فيه بمراعاة خصوصية وظروف كل دولة ,وهو نفس الرأي الذي تبناه زميله عبد العظيم انيس لكن الاثنين كان نصيبهما مرة اخرى الفصل من العمل.. ويذكر العالم عن اللقاء الغامض الذي جرى مع السادات في نهايات عام 1958 ويقول : دعاني السادات لاقابله في بيته واستمر النقاش بيننا من العاشرة مساء وحتى الرابعة صباحا وحاول خلاله ان يعرض علي الانضمام للاتحاد القومي وان نحل الحزب الشيوعي ونقل لي تهديدات كثيرة لكنني رفضت كل عروضه ولم تمر ايام قليلة على هذا اللقاء حتى دخلت السجن مع باقي زملائي الشيوعيين..
ويذكر العالم تفاصيله السرية لهذه المرحلة: في صباح احد الايام فتحت الباب فاذا بي امام جماعة من رجال الامن تطلب الدخول لتفتيش البيت فسمحت لهم وعلى الفور تذكرت تلك الخطة التي وضعتها على مكتبي للدخول في مرحلة النضال السري وبينما هم مشغولون في البحث عن بعض الاشياء تمكنت من تناول الخطة وطبقتها ووضعتها في كم القميص وتحت حزام الساعة.. ذهبت الى سجن "قرة ميدان" وهناك تخلصت منها في دورة المياه.. وحين خرجت وجدت امير اسكندر وسط عدد من الحراس يريدون خلع ملابسه المدنية والباسه ملابس السجن وهو يقاومهم فدخلت مع الحرس في اشتباك بالضرب واصبت احدهم في رأسه فحولوني الى مأمور السجن وتم عقابي بالحبس الانفرادي لمدة 15 يوما..
وتزداد سخونة الاحداث والعالم يحكي عن تجربته القاسية في السجن يقول: دخلت الى اسوأ مكان رأيته في حياتي رائحة كريهة وحشرات تتساقط على رأسي من السقف وتزحف على جسدي من الارض انواع غريبة من الحشرات بعدها تقرر نقلنا الى سجن الحضرة بالاسكندرية ثم بعدها ذهبنا الى سجن ابو زعبل وصلت السيارات وطلب ان ينزل ثلاثة منا اولا فنزل فؤاد مرسي وعبد المنعم شتلة وانا وفوجئت بان احد الجنود يركب حصانا ويمسك في يده سوطا يضرب به فؤاد مرسي بينما كان يجري وراءه كلب ضخم يحاول ان ينهش ساقه اندهشت لما يحدث معه ولم احسب انه سيحدث معي ايضا.. كرباج على ظهري وكلب على قدمي فاذا هربت من احدهما لن اهرب من الاخر ومنذ هذه اللحظة تعلمت انه حين يقع لي شئ مهول لا طاقة لي على تحمله فلابد ان افكر في شئ واحد.. لان السجن كان يحاول ان يصطاد الانسان داخلنا لكننا كنا نضحك ضحكا هيستيريا لنعلن فشلهم ونحتفظ بالانسان داخلنا ..
التأميم
وطوال فترة السجن التي استمرت حتى عام 1964 لم يكن الشيوعيون يتوقفون عن متابعة الاحداث والتعليق عليها واقامة ندوات ومؤتمرات داخل السجن ويقول العالم: اذكر انني يوم ان اصدر جمال عبد الناصر قرارات التأميم كتبت رسالة له لم اطلب فيها الافراج عني ولكني قلت له انني أحيي قراراته الاشتراكية ولكني اري انها اجراءات فوقية ولابد ان تدعم بحزب اشتراكي يلعب فيه الاشتراكيون دورا اساسيا..
ويرصد العالم حالة التحول التي تعرض لها الشيوعيون بمجرد الدخول مرة اخرى الى الحياة العامة بعد الافراج عنهم ويقول: تحول الذين كانوا يكرهون عبد الناصر ويزايدون عليه الى نفس الموقف الذي وصلنا اليه ونحن داخل السجن وهو حل الحزب والاندماج كافراد في بنية السلطة وتنظيمها الرسمي بعدها بدات مرحلة مختلفة مع العالم نفسه يذكرها في اعترافاته : اتصل بي ثروت عكاشة واخبرني انني اصبحت مسؤولا عن مؤسسة المسرح مع الدكتور علي الراعي ولا يزال النقاد يعتبرونها ازهى فترات المسرح حتى الان.. بعدها فوجئت بالرئيس عبد الناصر يستدعيني لمقابلته وقال انه اختارني لادارة مؤسسة اخبار اليوم والتي بدات فيها رحلة من المعاناة بسبب الصراع مع ادارتها القديمة .. لكني بعد فترة فوجئت باستبعادي منها بعد ان عاد الشيوعيون الى تأسيس حزبهم القديم مرة اخرى.. وبعد فترة من بقائي في البيت عدت رئيسا لمؤسسة المسرح وذات يوم وبينما انا في مكتبي بمجلس قيادة الثورة ,فوجئت بخبر وفاة عبد الناصر الذي اشك في انه قتل ولدي ما يؤكد ذلك وهو ما اكده ايضا صديقي د. حمدي السيد الذي ظل يردد ان عبد الناصر مات مقتولا .. حتى اسكته شعراوي جمعة بالامر..
قضايا فكرية
زاد توتر العلاقة مع السلطة بقدوم السادات ويؤكد العالم ذلك في اعترافاته: كنت اشعر في قرارة نفسي ومعي اغلب التنظيم الطليعي ان هناك من هو اجدر منه بتولي هذا المنصب وهو علي صبري ,وبدأت معارضتي للسادات برفض مد اتفاقية روجرز الشهيرة وكنت الوحيد الذي عارض السادات فيها, بعدها اقالني السادات من الاشراف على مجلة الطليعة وتم القبض علي وذهبت الى معتقل القلعة..
وقد فجرت في التحقيقات مفاجأة هائلة عندما كشفت عن وجود اتصالات سرية بين السادات وموشي ديان للتفاهم حول انتهاء المشكلة بين مصر واسرائيل بعيدا عن عيون الجميع.. وفي اليوم التالى افرجوا عنى..
وبقيت في المنزل فترة بلا عمل حتى جاءتني دعوة من جامعة اكسفورد للتدريس فيها وبعدها ذهبت لالقاء محاضرات في الكولدج دي فرانس بباريس وهناك واصلت العمل النضالى حتى تم اغتيال السادات.. وبعدها جاء الرئيس مبارك وامر بالافراج عن المعتقلين السياسيين وعودة الموجودين بالخارج فعدت واسست مجلة "قضايا فكرية" التي اصدرت اعدادا حول موضوعات هامة عن حكم مصر والرأسمالية والاسلام السياسي وهي الاصدار الذي اشرف عليه حتى الان..
ينشر بترتيب مع وكالة الاهرام للصحافة.
يبدو محمود امين العالم مثل واحد من فرسان العصور الوسطي في تمسكه بقيم النضال ومواجهة اشد الخصوم بنزاهة وموضوعية , في وقت تحولت فيه السياسة الى لعبة مصالح وصفقات كبرى.. لذا تبقى دائما القيمة الرائعة لمناضل مثل "العالم" الذي اعتبره الجميع شيخ الشيوعيين المصريين, وهو الذي لم يكتف بممارسة عمله النضالى الذي وصل لحد حمل السلاح اثناء العدوان الثلاثي والقى به في اقسى تجارب السجن والمعتقلات.. لكنه واصل مشوار عطائه الابداعي والنقدي والفلسفي لاكثر من نصف قرن..
وفي اعترافات »العالم« التي صدرت مؤخرا في كتاب للاديب والصحافي سليمان الحكيم نكتشف الكثير من المناطق المجهولة في مسيرته وعلاقته المتوترة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي يؤكد موته مقتولا وفضله للسادات ومحادثاته السرية مع الاسرائيليين والكثير من الاسرار المذهلة التي يقدمها للقارئ للمرة الاولى.
يفتح محمود أمين العالم ابواب ذكرياته في حي الدرب الاحمر الذي ولد به عام 1922 في احدى الليالى الشتوية باكثر احياء القاهرة القديمة شعبية , وشهرة ايضا, ويقول العالم: مثل كل ابناء جيلي في ذلك الوقت التحقت بكتاب الشيخ السعدني قبل ان انتقل الى المدارس الرسمية ومازلت اذكر الشيخ السعدني بوجهه المتجهم وعصاه الطويلة , وعندما اتممت مرحلة الكتاب انتقلت الى مدرسة الرضوانية الاولية بمنطقة القربية ومنها الى مدرسة النحاسين الابتدائية, على مقربة من جامع الحسين ,وعرفت بعد ذلك ان جمال عبد الناصر كان معي بنفس المدرسة لكني لم اعرفه!
ورغم ان قسوة الفقر كانت الشبح الذي يطارد اسرة العالم المتدينة الا ان محمود امين العالم استطاع ان يحافظ على تفوقه الشديد لدرجة انه بعد ان ترك الدراسة بمدرسة الاسماعيلية الثانوية بسبب عدم قدرته على دفع المصاريف وعمله في احدى المطابع انقذه تفوقه عندما قرر الملك فؤاد منح المجانية للمتفوقين بالمدارس فعاد العالم لاستئناف دراسته مرة اخرى..
ويذكر محمود العالم ان شقيقيه الاكبر منه "محمد شوقى" وأحمد لعبا دورا مؤثرا للغاية في توسيع معارفه فيقول: كان اخي محمد ازهريا وسمح لي بالاطلاع على ما تحويه مكتبته من كتب وذخائر ,واطلعت على كل اعداد مجلة "الرسالة" وقرأت فيها لكبار الكتاب ,كما كان يصحبني لصديقه الشاعر والاديب الكبير الشيخ الغاياتي وعلى يديه احببت الشعر وتمنيت ان اكون شاعرا ,ومن مكتبة اخي حصلت على ترجمة فيلكس فارس لكتاب نيتشه الشهير "هكذا تكلم زرادشت" الذي اثر في تأثيرا بالغا حتى انني قررت التخصص في دراسة الفلسفة بعد الانتهاء من قراءته.. اما اخي احمد فكان ازهريا ايضا لكنه كان كفيف البصر لذا كان يستعين بي لاقرأ له كتب التراث الاسلامي والفقه والتاريخ .
وعن الشرارة الاولى التي خطفت بصره للاتجاه لعالم السياسة ,يذكر العالم ان مصر كلها كانت تعج بالمظاهرات العارمة التي كانت تطالب بالاستقلال تحت شعار "الاستقلال التام او الموت الزؤام" الذي رفعه حزب الوفد ويقول العالم ان اول مظاهرة خرج فيها كان عمره لم يتجاوز الثامنة! وامتدت تلك الفترةعدة سنوات تعرف خلالها على ما يحدث في مصر الا انه خرج مرة اخرى في مظاهرات عام 1936 وكان طالبا بالثانوية.. وهي المرحلة التي شهدت اول اختلاف فكري له عن باقي ابناء جيله ,حيث اختلف ومعه عدد قليل من الزملاء مع باقي المدرسة من الوفديين الذين حاولوا الفتك به بسبب اعتراضه على معاهدة 1936 التي وقعها زعيم الوفد مع الانكليز الا انه نجا من الموت باعجوبة!
يقول العالم: في هذه الفترة خرجت انا وزميلي امين صفوت نلف على الاحزاب لنستطلع اراءها في تلك الاتفاقية وذهبنا الى حزب الاحرار الدستوريين فطردنا عند مدخل الحزب وذهبنا الى الحزب الوطني (لصاحبه مصطفي كامل وبعده الى حزب مصر الفتاة.. الا اننا في النهاية فكرنا في انشاء حزب جديد يغنينا عن كل الاحزاب التي مررنا عليها ولم تحظ برضانا فشكلنا حزبا اطلقنا عليه حزب "المجد الفرعونى" كل ما اذكره من لائحته وبرنامجه اننا قررنا ان نشرب الشاي ونأكل الجاتوه قبل اي اجتماع للحزب!!
سخرية
وقبل ان يلج محمود العالم الى دهاليز علاقته بالحركة الشيوعية وتنظيماتها السرية يكشف عن صلابة جذوره الدينية في تلك الفترة بحكم انتماء اغلب افراد اسرته للازهر بالاضافة لنشأته في بيئة شعبية تحكمها العديد من التقاليد الصارمة وهو ما كان حاجزا يمنعه من مجرد التفكير في الانضمام للتيار الشيوعي ويعترف العالم انه كثيرا ما تعرض لسخرية زملائه الذين سبقوه الى هذا التيار.
ويقول: حتى ذلك الوقت لم اكن قد دخلت الحركة الشيوعية بل والاغرب انني كنت اسخر من الماركسيين من زملاء الجامعة.. في تلك الفترة كنت مثاليا ومتصوفا.. ليس تصوفا دينيا بل تصوفا روحانيا ,وفي تلك الفترة عرفت لويس عوض وكان يقدم لي المادية والماركسية بشكل غامض وملتبس , واصبحت ممزقا بين مثاليتي ووجوديتي من ناحية, وبين ايماني بالافكار التي تشربتها من الجو الديني الذي عشته.. الى ان وقع في يدي كتاب المادية والنقد التجريبي الذي وضعه لينين ليحدث التحول في حياتي كلها وقد ساعدني هذا الكتاب على اكتشاف الاساس العلمي والموضوعي لكل شئ في العلم والسياسة والمجتمع والادب وقررت ان انضم للحركة الشيوعية.. وبعد ان استقريت على الماركسية منهجا والشيوعية طريقا وطريقة ,كان علي ان ابحث عن احد التنظيمات الشيوعية لانضم اليها واصب فيها طاقتي من اجل التغير والتقدم.. وبالفعل وجدت ضالتي من بين اكثر من 13 تنظيما شيوعيا في مصر في حزب شيوعي صغير اسمه نواة الحزب الشيوعي واختصاره "نحش" ,وكان هذا الحزب يهدف الى تطهير الحركة الشيوعية من اليهود, ليس لانهم يهود ولكن لانه لا يمكن ان يقود اليهود مصر في معركة الاستقلال عن الاستعمار..
ويبدو ان قيام ثورة يوليو كان المحك الرئيسي الذي كشف عن مواقف محمود امين العالم الصلبة وتمسكه الشديد بقناعاته الفكرية.. وكانت علاقة العالم وكثير من الشيوعيين بالثورة مثار جدل شديد حيث شهدت مراحل صعود وهبوط وتوتر وسكينة وحميمية وخصام لم تشهدها اي حركة سياسية اخرى, يذكر العالم في اعترافاته: عند قيام الثورة ونجاحها في طرد الملك فاروق ثم اصدارها لقانون الاصلاح الزراعي واعلانها الكفاح المسلح ضد الانكليز كل ذلك جعلنا نؤيدها ,ولكن بشئ من الترقب ,خاصة بعد ان تخيلنا ان هذه الثورة جاءت بدعم اميركي مباشر.. حيث كانت اميركا القوى الصاعدة في هذا الوقت تتحين الفرصة لتحل محل القوى الاستعمارية القديمة وساعدنا على هذا التفكير مسارعة اميركا لتقديم الدعم من خلال مشروع المعونة الذي جاء في نقطته الرابعة ان اميركا ستورد لمصر كميات كبيرة من الكتاكيت فكنا نسخر من المشروع ونسميه بهذا الاسم ,وقد دفعنا لاتخاذ موقف مناهض للثورة رفض قياداتها الافراج عن المسجونين الشيوعيين رغم اعلانها عن العفو عن جميع المساجين السياسيين الذين دخلوا السجن في عهد فاروق..
وخلال سنواته الاولى في العمل مع التيار الشيوعي استطاع محمود امين العالم ان يصبح احد القيادات المهمة بهذا التنظيم, كما نجح ومعه الرفيق شهدي عطية في توحيد كل الفصائل والتنظيمات الشيوعية وكان اول قرار صدر للقيادة الجديدة الموحدة هو فصل هنري كوريل الذي هرب خارج مصر بعد الثورة لكنه كان لا يزال عضوا في اللجنة المركزية لحركة "حدتو" ,بل كان يقوده من الخارج.
واستمر الشيوعيون على موقفهم المعادي للثورة حتى قامت اسرائيل بعدوانها على غزة عام 1955 وكان عبد الناصر قد تقدم بطلب لاميركا لتزوده بالسلاح الا انها رفضت ذلك ما لم يعلن عن استعداده للصلح مع اسرائيل حينئذ شرع عبد الناصر في الاتجاه الى الكتلة الشيوعية وعقد عدة اتفاقيات مع روسيا لتزوده بالسلاح لتبدأ مرحلة جديدة في حياة التنظيمات الشيوعية المصرية يقول عنه العالم: عقدنا مؤتمرا بناحية الهرم وقررنا فيه كحركة شيوعية ان نؤيد عبد الناصر تاييدا نقديا اي نسانده ولكن ننقد ما فيه من سلبيات ,وقد رايت لكي اقنعهم بمساعدة عبد الناصر والثورة ان هذا هو السبيل لاحتواء عبد الناصر تمهيدا لاسقاطه وان ذلك لن يتم الا بالاقتراب منه والدخول فيه وليس بتركه للقوى الاخرى.. ووقعنا على بيان بالتاييد لعبد الناصر الا ان احد الرفاق ودون ان نعلم اضاف في نهاية البيان الذي لم يتضمن سوى التاييد عبارة "وهذا هو السبيل لاسقاط الديكتاتورية العسكرية!" وكانت هذه العبارة بمثابة القنبلة التي نسفت كل ما توصلنا اليه واصبحت حجة علينا في كل المحاكمات والتحقيقات بعد ذلك.
شهر العسل
المرحلة الاكثر اهمية في تاريخ النضال الشيوعي تكشف عنها اعترافات العالم اثناء العدوان الثلاثي على بورسعيد ,حيث لعب الشيوعيون دورا بارزا في المقاومة وعملياتها المسلحة, ويقول العالم: كان لنا الكثير من الخلايا الشيوعية في مختلف انحاء القطر وكنا نحن الذين قدنا عمليات المقاومة المسلحة ضد قوات الغزو وساعدنا في دخول المتطوعين ,من مختلف القيادات الوطنية الاخرى, للمشاركة في عمليات المقاومة التي كانت تحت قيادتنا كاملة وقامت بعض عناصرنا بعمليات بطولية وانتحارية غير مسبوقة في صفوف القوات المعادية ونجحنا في اختطاف "مورهيد" احد القادة الانجليز في عملية خاطفة اذهلت القوات الغازية واربكت صفوفها.. وفي هذه المعركة كنت انا وشهدي عطية في القاهرة بمثابة مركز القيادة الرئيسي وكنا نلتقي في "قهوة الحرية" بالمختلط.. وكنا حلقة وصل بين رجال المقاومة والقيادة المصرية التي ثبت لديها بالتجربة ان المعلومات التي نوصلها لهم في غاية الاهمية..
ويذكر العالم في اعترافاته ان حرب بورسعيد كانت المحك العملي لاثبات حسن نوايا الشيوعيين تجاه الثورة وعبد الناصر ولاول مرة يخرج الشيوعيون على وجه الارض بعد ان ظلوا لسنوات طويلة اما في السجون او في مخابئهم السرية فاصبحت اجتماعاتهم علانية ومنشوراتهم توزع بمنتهى الحرية والاكثر من ذلك اصبح السلاح في ايديهم يتجولون به في الشوارع دون خوف من السلطة.. لان السلطة نفسها هي التي قامت بتسليمه لهم!!
لكن حتى اثناء شهر العسل في العلاقة ما بين الشيوعيين والثورة كانت هناك الكثير من اجواء التوتر والتصدع خاصة في ازمة مارس الشهيرة عقب تنحية عبد الناصر للرئيس محمد نجيب واحتلال مكانه وقتها تعاون الشيوعيون مع قطاعات عريضة من المجتمع في مقدمتها الوفد بالطبع للتنديد بعبد الناصر وخاض العالم وعبد العظيم انيس معركة فكرية شهيرة ضد طه حسين والعقاد وغيرهما ويذكر العالم العبارة الشهيرة التي كتبها العقاد ردا عليهما: "انا لا اناقشهما.. ولكي اضبطهما..
انهما شيوعيان! وكان هجوم طه حسين علينا سببا مباشرا ليصدر قرار بفصلنا من الجامعة انا ولويس عوض وعبد العظيم انيس وعدد كبير من الاساتذة ذوي الميول الوفدية والاخوانية.. لكن الصدام الحقيقي مع الثورة جاء مع مظاهرات مصانع النسيج بكفر الدوار حيث خرج العمال يطالبون بحقوقهم بدعم من رئيس الديوان الملكي السابق واتجه العمال نحو الحرق والتخريب فاصدرت الثورة اوامرها باعدام خميس والبقري وهما اثنان من العمال الشيوعيين بتلك المصانع وذلك كان مؤشرا واضحا على وقوف الثورة ضد الشيوعيين , فلم تكن قيادة الثورة حتى ذلك الوقت قد اصدرت حكما بالاعدام وكانت تفخر بانها ثورة بيضاء لم تقم على اراقة الدم واعتبرنا اعدام خميس والبقري بمثابة اعلان الحرب ضد الشيوعية والشيوعيين.. وقد علمنا فيما بعد ان قرار الحكم بالاعدام تم في مجلس قيادة الثورة باجماع الاعضاء فيما عدا خالد محيي الدين ويوسف صديق وجمال عبد الناصر..
ويستعرض العالم في اعترافاته بداية توجهه للعمل الصحفي بصورة اكثر احترافية حيث دعاه احسان عبد القدوس للعمل في روزاليوسف وكتب خلالها زاوية بعنوان حاول ان تفهم ليستقر به المقام كاتبا مع احمد بهاء الدين وجمال كامل وحسن فؤاد وصلاح جاهين.. ويقول العالم: في هذه الاثناء اتصل بي انور السادات الذي كان رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية وطلب مني تولي مسؤولية مجلة جديدة سياسية اخترت لها اسم الفجر ورغم صدور اعدادها التمهيدية الا انها لم تظهر للنور بسبب الحرب..
اصطياد الانسان
شرخ جديد في العلاقة بين العالم وعبد الناصر حدث بعد الوحدة مع سورية حيث كتب العالم مقالا في الرسالة الجديدة يعترض فيه على طريقة تنفيذ هذه الوحدة وطالب فيه بمراعاة خصوصية وظروف كل دولة ,وهو نفس الرأي الذي تبناه زميله عبد العظيم انيس لكن الاثنين كان نصيبهما مرة اخرى الفصل من العمل.. ويذكر العالم عن اللقاء الغامض الذي جرى مع السادات في نهايات عام 1958 ويقول : دعاني السادات لاقابله في بيته واستمر النقاش بيننا من العاشرة مساء وحتى الرابعة صباحا وحاول خلاله ان يعرض علي الانضمام للاتحاد القومي وان نحل الحزب الشيوعي ونقل لي تهديدات كثيرة لكنني رفضت كل عروضه ولم تمر ايام قليلة على هذا اللقاء حتى دخلت السجن مع باقي زملائي الشيوعيين..
ويذكر العالم تفاصيله السرية لهذه المرحلة: في صباح احد الايام فتحت الباب فاذا بي امام جماعة من رجال الامن تطلب الدخول لتفتيش البيت فسمحت لهم وعلى الفور تذكرت تلك الخطة التي وضعتها على مكتبي للدخول في مرحلة النضال السري وبينما هم مشغولون في البحث عن بعض الاشياء تمكنت من تناول الخطة وطبقتها ووضعتها في كم القميص وتحت حزام الساعة.. ذهبت الى سجن "قرة ميدان" وهناك تخلصت منها في دورة المياه.. وحين خرجت وجدت امير اسكندر وسط عدد من الحراس يريدون خلع ملابسه المدنية والباسه ملابس السجن وهو يقاومهم فدخلت مع الحرس في اشتباك بالضرب واصبت احدهم في رأسه فحولوني الى مأمور السجن وتم عقابي بالحبس الانفرادي لمدة 15 يوما..
وتزداد سخونة الاحداث والعالم يحكي عن تجربته القاسية في السجن يقول: دخلت الى اسوأ مكان رأيته في حياتي رائحة كريهة وحشرات تتساقط على رأسي من السقف وتزحف على جسدي من الارض انواع غريبة من الحشرات بعدها تقرر نقلنا الى سجن الحضرة بالاسكندرية ثم بعدها ذهبنا الى سجن ابو زعبل وصلت السيارات وطلب ان ينزل ثلاثة منا اولا فنزل فؤاد مرسي وعبد المنعم شتلة وانا وفوجئت بان احد الجنود يركب حصانا ويمسك في يده سوطا يضرب به فؤاد مرسي بينما كان يجري وراءه كلب ضخم يحاول ان ينهش ساقه اندهشت لما يحدث معه ولم احسب انه سيحدث معي ايضا.. كرباج على ظهري وكلب على قدمي فاذا هربت من احدهما لن اهرب من الاخر ومنذ هذه اللحظة تعلمت انه حين يقع لي شئ مهول لا طاقة لي على تحمله فلابد ان افكر في شئ واحد.. لان السجن كان يحاول ان يصطاد الانسان داخلنا لكننا كنا نضحك ضحكا هيستيريا لنعلن فشلهم ونحتفظ بالانسان داخلنا ..
التأميم
وطوال فترة السجن التي استمرت حتى عام 1964 لم يكن الشيوعيون يتوقفون عن متابعة الاحداث والتعليق عليها واقامة ندوات ومؤتمرات داخل السجن ويقول العالم: اذكر انني يوم ان اصدر جمال عبد الناصر قرارات التأميم كتبت رسالة له لم اطلب فيها الافراج عني ولكني قلت له انني أحيي قراراته الاشتراكية ولكني اري انها اجراءات فوقية ولابد ان تدعم بحزب اشتراكي يلعب فيه الاشتراكيون دورا اساسيا..
ويرصد العالم حالة التحول التي تعرض لها الشيوعيون بمجرد الدخول مرة اخرى الى الحياة العامة بعد الافراج عنهم ويقول: تحول الذين كانوا يكرهون عبد الناصر ويزايدون عليه الى نفس الموقف الذي وصلنا اليه ونحن داخل السجن وهو حل الحزب والاندماج كافراد في بنية السلطة وتنظيمها الرسمي بعدها بدات مرحلة مختلفة مع العالم نفسه يذكرها في اعترافاته : اتصل بي ثروت عكاشة واخبرني انني اصبحت مسؤولا عن مؤسسة المسرح مع الدكتور علي الراعي ولا يزال النقاد يعتبرونها ازهى فترات المسرح حتى الان.. بعدها فوجئت بالرئيس عبد الناصر يستدعيني لمقابلته وقال انه اختارني لادارة مؤسسة اخبار اليوم والتي بدات فيها رحلة من المعاناة بسبب الصراع مع ادارتها القديمة .. لكني بعد فترة فوجئت باستبعادي منها بعد ان عاد الشيوعيون الى تأسيس حزبهم القديم مرة اخرى.. وبعد فترة من بقائي في البيت عدت رئيسا لمؤسسة المسرح وذات يوم وبينما انا في مكتبي بمجلس قيادة الثورة ,فوجئت بخبر وفاة عبد الناصر الذي اشك في انه قتل ولدي ما يؤكد ذلك وهو ما اكده ايضا صديقي د. حمدي السيد الذي ظل يردد ان عبد الناصر مات مقتولا .. حتى اسكته شعراوي جمعة بالامر..
قضايا فكرية
زاد توتر العلاقة مع السلطة بقدوم السادات ويؤكد العالم ذلك في اعترافاته: كنت اشعر في قرارة نفسي ومعي اغلب التنظيم الطليعي ان هناك من هو اجدر منه بتولي هذا المنصب وهو علي صبري ,وبدأت معارضتي للسادات برفض مد اتفاقية روجرز الشهيرة وكنت الوحيد الذي عارض السادات فيها, بعدها اقالني السادات من الاشراف على مجلة الطليعة وتم القبض علي وذهبت الى معتقل القلعة..
وقد فجرت في التحقيقات مفاجأة هائلة عندما كشفت عن وجود اتصالات سرية بين السادات وموشي ديان للتفاهم حول انتهاء المشكلة بين مصر واسرائيل بعيدا عن عيون الجميع.. وفي اليوم التالى افرجوا عنى..
وبقيت في المنزل فترة بلا عمل حتى جاءتني دعوة من جامعة اكسفورد للتدريس فيها وبعدها ذهبت لالقاء محاضرات في الكولدج دي فرانس بباريس وهناك واصلت العمل النضالى حتى تم اغتيال السادات.. وبعدها جاء الرئيس مبارك وامر بالافراج عن المعتقلين السياسيين وعودة الموجودين بالخارج فعدت واسست مجلة "قضايا فكرية" التي اصدرت اعدادا حول موضوعات هامة عن حكم مصر والرأسمالية والاسلام السياسي وهي الاصدار الذي اشرف عليه حتى الان..
ينشر بترتيب مع وكالة الاهرام للصحافة.