باباك خورمدين
09-18-2005, 03:16 PM
من المعروف أن أحد أشهر نقاط الخلاف المثارة بين المسيحيين والمسلمين تتمثل في إيمان المسيحيين بصلب السيد المسيح(ع) على يد الرومان بتحريض من اليهود المعارضين له، ثم عودته مرة أخرى إلى الحياة بعد ثلاثة أيام وصعوده إلى السماء، ويعتقد المسيحيون أن الصلب تم لمغفرة خطايا البشر كما تذكر النصوص الإنجيلية " لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا " (متى / 26).
في المقابل يعتقد المسلمون أن السيد المسيح(ع) لم يُقتل ولم يُصلب بل رفعه الله إليه كما ينص القرآن الكريم " وقولهم إنا قتلنا عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما " (النساء / 157، 158).
والملاحظ أن الخلاف الوحيد بين الرأيين يتمثل في شخصية المصلوب .. فالمسلمين يعترفون بحادثة الصلب ولكنهم يعتقدون أن المصلوب هو شخص آخر من أعداء المسيح(ع)، وترى بعض المصادر الإسلامية أنه يهوذا الإسخريوطي الذي باع المسيح لليهود.
على أن الخلاف ما بين الرأيين لم يسر دائماً بنفس هذا التحديد، حيث أدى الاختلاط والتواصل الحضاري ما بين أتباع الديانتين إلى نفاذ بعض المؤثرات العقائدية بطريقة تبادلية ...
ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ظهرت في جنوب فرنسا طائفة " الكاثاريين " وهي طائفة مسيحية ثارت على تقاليد الكنيسة الكاثوليكية، وتبنت معتقدات خاصة ظهر من خلالها تأثرها بالفلسفات والعقائد الشرقية والتي تعرفت عليها عن طريق الفلاسفة المسلمين في الأندلس، بالإضافة إلى العقائد الإسلامية، فقد أنكرت ألهية السيد المسيح(ع) كما أنكرت أيضاً بشريته، واعتقدت أنه ملاك وابن من أبناء الله الذين لا حصر لهم، أمره الله بالنزول إلى الأرض لتعليم البشر، على أن أهم معتقدات هذه الطائفة هو إنكارها لعقيدة صلب المسيح، فجسد المسيح لم يكن له وجود وبالتالي فإن المسيح الذي رآه الناس لم يتجسد ولم يتألم ولم يمت موتاً حقيقياً ولم يظهر على الأرض إلا بطريقة روحية.
لقد نتجت اعتقادات هذه الطائفة عن إيمانها بسيطرة الشيطان على العالم المادي، وهو بالتالي صانع الأجساد البشرية، في حين أن الروح من صنع الله وليس بمقدور البشر في هذا العالم المادي السيطرة على روح المسيح(ع).
وفي القرن السادس عشر الميلادي عثر أحد الرهبان على نسخة من إنجيل " برنابا " في مكتبة البابا " سكتس الخامس "، وتميز هذا الإنجيل بإنكاره لصلب المسيح " الحق أقول لكم إني لم أمت .. بل يهوذا الخائن "، كما حوى هذا الإنجيل إنكاراً لألوهية المسيح واعترافاً صريحاً بنبوة محمد(ص)، ومهما قيل حول الكاتب الحقيقي لهذا الإنجيل فهو مظهر صريح على التأثير العقائدي المتبادل بين أتباع الديانتين، وهو ما دفع هذا الكاتب لمحاولة الجمع بينهما في أكبر مظاهر الخلاف بين العقيدتين.
على الجانب الإسلامي ... شهد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ظهور جماعة إخوان الصفا والتي استغلت حادثة اختفاء الإمام الثاني عشر (265 هـ) لتأسيس المذهب الشيعي الإسماعيلي، وقد تأثرت هذه الجماعة بالفلسفات اليونانية والشرقية في نظرتها للدين الإسلامي وتفسيرها للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويبدو التشابه بينهما وبين الكاثاريين في نظرتهم للعلاقة بين الروح والجسد، فالطائفتين يشتركان في اعتبار الجسد سجناً للروح، وإذا كان هذا الاعتقاد هو الدافع للكاثاريين لرفض الصلب وإنكار آلام المسيح، فقد كان هو دافع إخوان الصفا والإسماعيليين للإيمان بصحة الصلب، فبخلاف الكاثاريين لم يعتقد المسلمون الإسماعيليون بأن المسيح ظهر على الأرض بصورة روحية، وإنما اعتقدوا في ظهوره الجسدي، وبالتالي كان رضاه بالصلب تدليلاً على احتقاره لذلك الجسد وإيمانه بخلود الروح " حتى أوخذ وحمل إلى ملك بني إسرائيل، فأمر بصلبه، فصلب ناسوته، وسمرت يداه على خشبتي الصليب وبقى مصلوباً من ضحوة النهار إلى العصر " (الرسائل / رسالة 44).
وقد استمر الدعاة الإسماعيليين في الترويج لهذا الاعتقاد، يقول الداعي إدريس عماد الدين القرشي (ت/872 هـ) " وسعى فيه يهوذا حسداً لشمعون، وباعه من اليهود، وهو الذي دلهم عليه، فشكوه بالحراب وصلبوه ثلاثة أيام، وقبر بعد ذلك " (زهر المعاني /135).
ولا يجد الداعي الإسماعيلي تعارضاً بين إيمانهم بصلب المسيح ونص الآية القرآنية في سورة النساء على أساس أن ما صلب هو الجسد الظاهري أما الروح فمن غير الممكن أن تصلب أو تقتل، ويعتقد إدريس عماد الدين أن هذا هو التفسير الحقيقي للآية " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
ورغم غرابة عقائد الكاثاريين بالنسبة لوسطهم المسيحي، وغرابة عقائد الإسماعيليين بالنسبة لوسطهم الإسلامي، فالحقيقة أن عقائد الطائفتين تدليلاً على أن صلب المسيح لم يكن أبداً هو الخلاف الجوهري بين الإسلام والمسيحية.
باباك خورمدين
في المقابل يعتقد المسلمون أن السيد المسيح(ع) لم يُقتل ولم يُصلب بل رفعه الله إليه كما ينص القرآن الكريم " وقولهم إنا قتلنا عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما " (النساء / 157، 158).
والملاحظ أن الخلاف الوحيد بين الرأيين يتمثل في شخصية المصلوب .. فالمسلمين يعترفون بحادثة الصلب ولكنهم يعتقدون أن المصلوب هو شخص آخر من أعداء المسيح(ع)، وترى بعض المصادر الإسلامية أنه يهوذا الإسخريوطي الذي باع المسيح لليهود.
على أن الخلاف ما بين الرأيين لم يسر دائماً بنفس هذا التحديد، حيث أدى الاختلاط والتواصل الحضاري ما بين أتباع الديانتين إلى نفاذ بعض المؤثرات العقائدية بطريقة تبادلية ...
ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ظهرت في جنوب فرنسا طائفة " الكاثاريين " وهي طائفة مسيحية ثارت على تقاليد الكنيسة الكاثوليكية، وتبنت معتقدات خاصة ظهر من خلالها تأثرها بالفلسفات والعقائد الشرقية والتي تعرفت عليها عن طريق الفلاسفة المسلمين في الأندلس، بالإضافة إلى العقائد الإسلامية، فقد أنكرت ألهية السيد المسيح(ع) كما أنكرت أيضاً بشريته، واعتقدت أنه ملاك وابن من أبناء الله الذين لا حصر لهم، أمره الله بالنزول إلى الأرض لتعليم البشر، على أن أهم معتقدات هذه الطائفة هو إنكارها لعقيدة صلب المسيح، فجسد المسيح لم يكن له وجود وبالتالي فإن المسيح الذي رآه الناس لم يتجسد ولم يتألم ولم يمت موتاً حقيقياً ولم يظهر على الأرض إلا بطريقة روحية.
لقد نتجت اعتقادات هذه الطائفة عن إيمانها بسيطرة الشيطان على العالم المادي، وهو بالتالي صانع الأجساد البشرية، في حين أن الروح من صنع الله وليس بمقدور البشر في هذا العالم المادي السيطرة على روح المسيح(ع).
وفي القرن السادس عشر الميلادي عثر أحد الرهبان على نسخة من إنجيل " برنابا " في مكتبة البابا " سكتس الخامس "، وتميز هذا الإنجيل بإنكاره لصلب المسيح " الحق أقول لكم إني لم أمت .. بل يهوذا الخائن "، كما حوى هذا الإنجيل إنكاراً لألوهية المسيح واعترافاً صريحاً بنبوة محمد(ص)، ومهما قيل حول الكاتب الحقيقي لهذا الإنجيل فهو مظهر صريح على التأثير العقائدي المتبادل بين أتباع الديانتين، وهو ما دفع هذا الكاتب لمحاولة الجمع بينهما في أكبر مظاهر الخلاف بين العقيدتين.
على الجانب الإسلامي ... شهد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ظهور جماعة إخوان الصفا والتي استغلت حادثة اختفاء الإمام الثاني عشر (265 هـ) لتأسيس المذهب الشيعي الإسماعيلي، وقد تأثرت هذه الجماعة بالفلسفات اليونانية والشرقية في نظرتها للدين الإسلامي وتفسيرها للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويبدو التشابه بينهما وبين الكاثاريين في نظرتهم للعلاقة بين الروح والجسد، فالطائفتين يشتركان في اعتبار الجسد سجناً للروح، وإذا كان هذا الاعتقاد هو الدافع للكاثاريين لرفض الصلب وإنكار آلام المسيح، فقد كان هو دافع إخوان الصفا والإسماعيليين للإيمان بصحة الصلب، فبخلاف الكاثاريين لم يعتقد المسلمون الإسماعيليون بأن المسيح ظهر على الأرض بصورة روحية، وإنما اعتقدوا في ظهوره الجسدي، وبالتالي كان رضاه بالصلب تدليلاً على احتقاره لذلك الجسد وإيمانه بخلود الروح " حتى أوخذ وحمل إلى ملك بني إسرائيل، فأمر بصلبه، فصلب ناسوته، وسمرت يداه على خشبتي الصليب وبقى مصلوباً من ضحوة النهار إلى العصر " (الرسائل / رسالة 44).
وقد استمر الدعاة الإسماعيليين في الترويج لهذا الاعتقاد، يقول الداعي إدريس عماد الدين القرشي (ت/872 هـ) " وسعى فيه يهوذا حسداً لشمعون، وباعه من اليهود، وهو الذي دلهم عليه، فشكوه بالحراب وصلبوه ثلاثة أيام، وقبر بعد ذلك " (زهر المعاني /135).
ولا يجد الداعي الإسماعيلي تعارضاً بين إيمانهم بصلب المسيح ونص الآية القرآنية في سورة النساء على أساس أن ما صلب هو الجسد الظاهري أما الروح فمن غير الممكن أن تصلب أو تقتل، ويعتقد إدريس عماد الدين أن هذا هو التفسير الحقيقي للآية " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
ورغم غرابة عقائد الكاثاريين بالنسبة لوسطهم المسيحي، وغرابة عقائد الإسماعيليين بالنسبة لوسطهم الإسلامي، فالحقيقة أن عقائد الطائفتين تدليلاً على أن صلب المسيح لم يكن أبداً هو الخلاف الجوهري بين الإسلام والمسيحية.
باباك خورمدين