شكو ماكو
08-11-2023, 05:17 PM
https://dqnxlhsgmg1ih.cloudfront.net/storage/attachments/5919/%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%AC%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86-%D9%82%D9%86%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%87%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B4%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D9%84%D9%80-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D8%B3-%D9%83%D8%A3%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D8%B4%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B2%D8%B9%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%AC%D8%B1%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%8A-1691680903532_large.jpeg
السيدة يوشيكو كيوموتو مع الزميل داهم القحطاني في متحف هيروشيما التذكاري للسلام
10 أغسطس 2023
اليابان - داهم القحطاني موفد «القبس»
خلال زيارة مستشار جريدة «القبس» داهم القحطاني إلى اليابان، بدعوة رسمية من وزارة الخارجية اليابانية، التقى الناجية الأخيرة من القنبلة النووية، التي ألقاها الجيش الأميركي على مدينة هيروشيما، صبيحة السادس من أغسطس 1945.
السيدة يوشيكو كيوموتو، التي تبلغ من العمر الآن 92 عاماً، يمكن تعريفها بالناجية الأخيرة من قنبلة الأميركي اليهودي روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي كان مديراً لمختبر لوس ألاموس، أثناء الحرب العالمية الثانية، وغالباً ما يسمى «أبو القنبلة الذرية»، لدوره في مشروع مانهاتن، الذي أنتج أول الأسلحة النووية.
وتزامن ذلك اللقاء مع بدء عرض فيلم «أوبنهايمر»، الذي يمجّد صانع القنبلة، التي أدت إلى مقتل 70 ألفاً من الأطفال والنساء والأبرياء، ويجعل منه - بطريقة هوليوودية - بطلاً.
اللقاء مع السيدة يوشيكو جرى في متحف هيروشيما التذكاري للسلام، ودام نحو ساعة كاملة، بكت خلاله مرات عديدة. وفي ما يلي تفاصيل اليوم المرعب، الذي روته آخر الناجين من قنبلة هيروشيما لـ «القبس».
كان عمري في ذلك الوقت 14 عاماً، وفي ذلك اليوم، ذهبت إلى عملي، في مصنع لأجزاء من الطائرات الحربية.
في الطريق إلى المصنع، كنت أقول لصديقاتي إنني أشعر بالنعاس، حيث لم أستطع أن أنال قسطاً كافياً من النوم، بسبب تحذيرَين صوتيَّين من غارات جوية. وقلت لهن أيضاً إنه يوم حار.
مكان عملي في المصنع كان على بعد نحو 2300 متر من موقع تفجير القنبلة النووية، وفي الساعة الثامنة والربع صباحاً، رأيت عبر النافذة العريضة في المصنع ضوءاً أزرق هائلاً. كان جميلاً جداً، ولم أعلم حين رأيته أنه صادر من القنبلة النووية.
لكن عندما أدركت أن هناك قنبلة نووية انفجرت سارعت إلى الاحتماء تحت إحدى مكائن المصنع، وبسرعة شديدة، قمت بتغطية عينيّ وأذنيّ وأنفي، بواسطة يدي، ففي تدريباتنا اليومية، قيل لنا إن الضغط الناتج عن انفجار القنبلة النووية سيُخرج مقل أعيننا، ويمزق طبلة الأذن، ويكسر الأوعية الدموية في أنوفنا.
خوف شديد وضياع
في اللحظة التي رأيت فيها هذا النور الساطع، شعرت بخوف شديد، وبالضياع، وحينها، تذكّرت بوضوح وجوه أبي وأمي وجدتي وثلاثة أشقاء صغار. سمعت صوتاً قوياً مدوياً جعلني أشعر وكأن أحشائي قد انتُزعت. تراب الأرض انفجر من تحتي، ولا أستطيع تذكر أي شيء بعد هذا.
كنت قد دُفنت تحت مبنى المصنع الخشبي المنهار، المكون من طابقين. وعندما أفقت كان الظلام يغطي المكان، وسمعت صراخ صديقتي، وهي تردد: «أمي ساعديني.. أيها المعلم ساعدني».
حينها، حاولت تحريك جسدي، رغم كل الألم الذي شعرت به نتيجة الركام فوقي، لكنني لم أستطع، كنت مدفونة من رقبتي إلى قدمي تحت الأنقاض، وكان بإمكاني فقط تحريك رأسي ويدي. وعندما شعرت بألم في ذراعي، أدركت حينها أنني لا أزال حية.
أدرت رأسي، ورأيت رِجلَي صديقتي، فسحبتهما بقوة في البداية، لم يكن هناك رد فعل، لكنها بدأت البكاء، وهي تردد: «هذا مؤلم.. ساعدوني». عندما سمعت ذلك، شعرت بارتياح شديد، لمعرفة أنها لا تزال على قيد الحياة.
في الوقت نفسه، أردت الفرار معها، فقلت لها وأنا أصرخ: «لنخرج من هنا، نحن في خطر، والنار قادمة في غضون دقيقة».
كافحنا لنحرك جسدينا بكل ما أوتينا من قوة. عندها سقط جسد، كان فوق جسد صديقتي، ظننت أنه يمكننا الفرار. ومع ذلك، كانت رجلي اليمنى محاصرة تحت كومة ثقيلة من الأخشاب الساقطة، وشعرت باليأس. ومن دون أن أكون مهتمة بما سيحدث لرجلي، شددت ساقي بكل قوتي، فتمزق بنطلون العمل الذي كنت أرتديه.
كانت ساقي تنزف بسبب الجروح، لكن عندما أصبحت حرة في الحركة، كل ما شعرت به كان الفرح، وليس الألم.
رائحة سمكة فاسدة
كانت إصابة ساقي سيئة أيضاً، حيث تعرض العظم لكسر جزئي. وصديقتي التي كانت معي في المصنع، أصيبت إصابة بليغة، حيث انسلخ بعض اللحم من ذراعها. وضعت طوقاً، للرأس أعطاني إياه أحدهم، وتمكنت من إيقاف النزيف من الجرح.
شاهدت أنا وصديقتي المدينة وقد تغيرت بالكامل مع تصاعد الدخان الرمادي، وشممت رائحة غريبة، تشبه سمكة فاسدة. المدينة كانت هادئة بشكل غير عادي، إلى أن صرخ أحدهم: «اختفت هيروشيما».
كان الناس جميعهم يغطيهم السواد، ليس فقط وجوههم، بل حتى ملابسهم. وكان البعض لا يزال في حالة صدمة، والبعض الآخر يبكي بصوت عال. أحدهم كان ينزف من رأسه المصاب، ويبدو وكأنه شبح.
يشبهون الأشباح
بعد فترة، مر علينا أشخاص يشبهون «الأشباح»، مثل الأشخاص الموجودين في الصور المحفوظة في متحف السلام التذكاري، كانوا يمشون وأيديهم مرفوعة أمامهم، وكان الجلد المتقشر يتساقط من أذرعهم مثل الخرق الممزقة، ووجوههم منتفخة مثل البالونات، أما شفاههم فانقلبت وعيونهم المنتفخة أغلقت تماماً. كانوا جميعاً عراة وحفاة، وافترضت أن ملابسهم وأحذيتهم قد تعرضت للتفجير أو الاحتراق.
من بين هؤلاء الناس، لا تزال في ذاكرتي صورة واضحة لصبي في المدرسة الثانوية، جاء نحونا، حاملاً ذراعه المقطوعة، وسقط أمامي مباشرة، ومات. كان وجهه حزيناً، وبدا مخيفاً بالنسبة لي.
جثث في كل مكان
عندما ذهبنا إلى وسط المدينة، كانت الجثث ملقاة في كل مكان. حملنا الجرحى بلا كلل، وكان علينا أن نطأ أجسادا أخرى بأقدامنا العارية. لكن سرعان ما أصبحت لا أشعر بتلك الأجساد، ولم أشعر بالهلع أو بالخوف.
أتساءل كيف يمكن أن يصبح البشر قساة بسهولة؟. كفتاة تبلغ من العمر 14 عاماً آنذاك، لم يكن لدي أي وقت لأدرك كم كنت قاسية عندما دست فوق أجساد الناس. آمل ألا يأتي على الناس يوم يكررون فيه مثل هذه التجربة أبداً.
بعد ظهر اليوم الثالث من القصف الجوي، سمعت أن منزلنا في حي كوي قد نجا من النيران، عندما كنت أسير إلى المنزل، قابلت والدي. كان سعيداً جداً عندما اكتشف أنني بخير. وقال إنه كان يحاول العثور عليّ من خلال مناداة اسمي قرب أنقاض المصنع، وكان يفعل ذلك نظراً لوجود إشاعة، تفيد بأن كل الطلاب العاملين في المصنع قد ماتوا، ولهذا كاد أن يتخلى عن البحث عني.
والدي الذي كان دائماً ما يتسم بالهدوء والصرامة، صرخ عندما التقينا، والدموع تملأ عينيه: «من الرائع رؤيتك على قيد الحياة»، ممسكاً بإحكام بي وبصديقتي التي كانت معي في ذلك الوقت.
بعد نحو عام ونصف العام. توفي والدي وهو يتقيأ الدم. وأعتقد أن سبب وفاته هوالإشعاع المتبقي، الذي تعرض له أثناء بحثه عني في موقع تسليم الجثث في المدينة، لثلاثة أيام متواصلة.
نزيف لثة وحمّى
بعد أن عدت إلى المنزل، بدأت لثتي تنزف، وأصبت بالحمى، وفقدت شهيتي للطعام. لم أستطع مغادرة السرير حتى نهاية شهر أغسطس. تورمت قدمي بشدة لدرجة أنني لم أستطع المشي. الجرح في ذراعي تعفّن، وظهر الدود فيه بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى المنزل.
أزالت جدتي الدود باستخدام عيدان تناول الطعام، التي تستخدم لمرة واحدة، وكان ذلك مؤلماً حقاً بحيث لا يمكن نسيانه.
جاء طبيب من محافظة شيماني ليعالجني، وأخرج سبع قطع من الزجاج، من الجروح الممتلئة بالصديد.
جرح ساقي الذي كان شديداً بدأ يلتئم بشكل طبيعي، بمرور الوقت، وبهذه الطريقة أُنقذت حياتي.
بعد أن انتهت السيدة يوشيكو من رواية قصتها، التي كانت تقرأ معظمها من ورقة مكتوبة، ساد الصمت قليلاً. الموقف بالفعل كان حزيناً، رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.
كيف قررت أن تروي قصتها للعالم للمرة الأولى؟
بعد أن ظلت حبيسة في صدرها عشرات السنين، قررت السيدة يوشيكو كيوموتو أن تروي قصتها للعالم، وعن اتخاذها هذا القرار للمرة الأولى، تقول: «بعد أن انتهيت من جنازة زوجي، وفي أول حفل تأبين له، في اليوم التاسع والأربعين بعد وفاته، سألتني حفيدتي، وهي طالبة في السنة الثالثة الإعدادية: الآن مات جدي، ماذا ستفعلين؟ هل أنت قادرة على أن تعيشي بمفردك؟ هل لديك ما تريدين أن تفعليه؟».
أجبتها: «علي أن أعيش بطريقة ما». ثم قالت: «لماذا لاتخبرين العالم بتجربتك مع القنبلة الذرية؟». قلت فوراً: «لا بد أنك تمزحين. لا أعتقد أنني أستطيع التحدث أمام الناس»، فردت: «نعم، يمكنك ذلك، فأنا ألقيت الخطاب الختامي في حفل تأبين جدي. وكان ذلك جيداً».
بعد فترة وجيزة من هذا الحديث، تعرفت السيدة على فريق من متحف السلام التذكاري، وبدأت تتحدث بصفتها أحد الناجين من القنبلة الذرية.
لقد تغير الزمن
تقول السيدة يوشيكو كيوموتو: «بالمقارنة مع أولئك الذين استمعوا إلي قبل 16 عاماً عندما بدأت رواية القصص، هناك المزيد من الأشخاص الذين لا يعرفون على الإطلاق عن القنبلة التي ألقيت في هيروشيما. لقد تغير الزمن. الآن حتى المعلّمون والطلاب في هيروشيما يعرفون القليل جداً عن هذه المأساة. هذا هو الحال الآن. لذا، أريد من الناس أن يستمعوا ليعلموا جيداً مدى صعوبة العيش بعد تجربة القنبلة النووية. للأسف كان هناك تمييز ضد الناجين، كما كانت هناك صعوبات سبّبتها الأمراض المرتبطة بالقنبلة، ومشكلة الأطفال الذين تورطوا في السرقة، أو أصبحوا رجال عصابات، للنجاة من الفترة التي أعقبت إلقاء القنبلة وشهدت نقص الغذاء».
https://www.alqabas.com/article/5918080 :إقرأ المزيد
السيدة يوشيكو كيوموتو مع الزميل داهم القحطاني في متحف هيروشيما التذكاري للسلام
10 أغسطس 2023
اليابان - داهم القحطاني موفد «القبس»
خلال زيارة مستشار جريدة «القبس» داهم القحطاني إلى اليابان، بدعوة رسمية من وزارة الخارجية اليابانية، التقى الناجية الأخيرة من القنبلة النووية، التي ألقاها الجيش الأميركي على مدينة هيروشيما، صبيحة السادس من أغسطس 1945.
السيدة يوشيكو كيوموتو، التي تبلغ من العمر الآن 92 عاماً، يمكن تعريفها بالناجية الأخيرة من قنبلة الأميركي اليهودي روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي كان مديراً لمختبر لوس ألاموس، أثناء الحرب العالمية الثانية، وغالباً ما يسمى «أبو القنبلة الذرية»، لدوره في مشروع مانهاتن، الذي أنتج أول الأسلحة النووية.
وتزامن ذلك اللقاء مع بدء عرض فيلم «أوبنهايمر»، الذي يمجّد صانع القنبلة، التي أدت إلى مقتل 70 ألفاً من الأطفال والنساء والأبرياء، ويجعل منه - بطريقة هوليوودية - بطلاً.
اللقاء مع السيدة يوشيكو جرى في متحف هيروشيما التذكاري للسلام، ودام نحو ساعة كاملة، بكت خلاله مرات عديدة. وفي ما يلي تفاصيل اليوم المرعب، الذي روته آخر الناجين من قنبلة هيروشيما لـ «القبس».
كان عمري في ذلك الوقت 14 عاماً، وفي ذلك اليوم، ذهبت إلى عملي، في مصنع لأجزاء من الطائرات الحربية.
في الطريق إلى المصنع، كنت أقول لصديقاتي إنني أشعر بالنعاس، حيث لم أستطع أن أنال قسطاً كافياً من النوم، بسبب تحذيرَين صوتيَّين من غارات جوية. وقلت لهن أيضاً إنه يوم حار.
مكان عملي في المصنع كان على بعد نحو 2300 متر من موقع تفجير القنبلة النووية، وفي الساعة الثامنة والربع صباحاً، رأيت عبر النافذة العريضة في المصنع ضوءاً أزرق هائلاً. كان جميلاً جداً، ولم أعلم حين رأيته أنه صادر من القنبلة النووية.
لكن عندما أدركت أن هناك قنبلة نووية انفجرت سارعت إلى الاحتماء تحت إحدى مكائن المصنع، وبسرعة شديدة، قمت بتغطية عينيّ وأذنيّ وأنفي، بواسطة يدي، ففي تدريباتنا اليومية، قيل لنا إن الضغط الناتج عن انفجار القنبلة النووية سيُخرج مقل أعيننا، ويمزق طبلة الأذن، ويكسر الأوعية الدموية في أنوفنا.
خوف شديد وضياع
في اللحظة التي رأيت فيها هذا النور الساطع، شعرت بخوف شديد، وبالضياع، وحينها، تذكّرت بوضوح وجوه أبي وأمي وجدتي وثلاثة أشقاء صغار. سمعت صوتاً قوياً مدوياً جعلني أشعر وكأن أحشائي قد انتُزعت. تراب الأرض انفجر من تحتي، ولا أستطيع تذكر أي شيء بعد هذا.
كنت قد دُفنت تحت مبنى المصنع الخشبي المنهار، المكون من طابقين. وعندما أفقت كان الظلام يغطي المكان، وسمعت صراخ صديقتي، وهي تردد: «أمي ساعديني.. أيها المعلم ساعدني».
حينها، حاولت تحريك جسدي، رغم كل الألم الذي شعرت به نتيجة الركام فوقي، لكنني لم أستطع، كنت مدفونة من رقبتي إلى قدمي تحت الأنقاض، وكان بإمكاني فقط تحريك رأسي ويدي. وعندما شعرت بألم في ذراعي، أدركت حينها أنني لا أزال حية.
أدرت رأسي، ورأيت رِجلَي صديقتي، فسحبتهما بقوة في البداية، لم يكن هناك رد فعل، لكنها بدأت البكاء، وهي تردد: «هذا مؤلم.. ساعدوني». عندما سمعت ذلك، شعرت بارتياح شديد، لمعرفة أنها لا تزال على قيد الحياة.
في الوقت نفسه، أردت الفرار معها، فقلت لها وأنا أصرخ: «لنخرج من هنا، نحن في خطر، والنار قادمة في غضون دقيقة».
كافحنا لنحرك جسدينا بكل ما أوتينا من قوة. عندها سقط جسد، كان فوق جسد صديقتي، ظننت أنه يمكننا الفرار. ومع ذلك، كانت رجلي اليمنى محاصرة تحت كومة ثقيلة من الأخشاب الساقطة، وشعرت باليأس. ومن دون أن أكون مهتمة بما سيحدث لرجلي، شددت ساقي بكل قوتي، فتمزق بنطلون العمل الذي كنت أرتديه.
كانت ساقي تنزف بسبب الجروح، لكن عندما أصبحت حرة في الحركة، كل ما شعرت به كان الفرح، وليس الألم.
رائحة سمكة فاسدة
كانت إصابة ساقي سيئة أيضاً، حيث تعرض العظم لكسر جزئي. وصديقتي التي كانت معي في المصنع، أصيبت إصابة بليغة، حيث انسلخ بعض اللحم من ذراعها. وضعت طوقاً، للرأس أعطاني إياه أحدهم، وتمكنت من إيقاف النزيف من الجرح.
شاهدت أنا وصديقتي المدينة وقد تغيرت بالكامل مع تصاعد الدخان الرمادي، وشممت رائحة غريبة، تشبه سمكة فاسدة. المدينة كانت هادئة بشكل غير عادي، إلى أن صرخ أحدهم: «اختفت هيروشيما».
كان الناس جميعهم يغطيهم السواد، ليس فقط وجوههم، بل حتى ملابسهم. وكان البعض لا يزال في حالة صدمة، والبعض الآخر يبكي بصوت عال. أحدهم كان ينزف من رأسه المصاب، ويبدو وكأنه شبح.
يشبهون الأشباح
بعد فترة، مر علينا أشخاص يشبهون «الأشباح»، مثل الأشخاص الموجودين في الصور المحفوظة في متحف السلام التذكاري، كانوا يمشون وأيديهم مرفوعة أمامهم، وكان الجلد المتقشر يتساقط من أذرعهم مثل الخرق الممزقة، ووجوههم منتفخة مثل البالونات، أما شفاههم فانقلبت وعيونهم المنتفخة أغلقت تماماً. كانوا جميعاً عراة وحفاة، وافترضت أن ملابسهم وأحذيتهم قد تعرضت للتفجير أو الاحتراق.
من بين هؤلاء الناس، لا تزال في ذاكرتي صورة واضحة لصبي في المدرسة الثانوية، جاء نحونا، حاملاً ذراعه المقطوعة، وسقط أمامي مباشرة، ومات. كان وجهه حزيناً، وبدا مخيفاً بالنسبة لي.
جثث في كل مكان
عندما ذهبنا إلى وسط المدينة، كانت الجثث ملقاة في كل مكان. حملنا الجرحى بلا كلل، وكان علينا أن نطأ أجسادا أخرى بأقدامنا العارية. لكن سرعان ما أصبحت لا أشعر بتلك الأجساد، ولم أشعر بالهلع أو بالخوف.
أتساءل كيف يمكن أن يصبح البشر قساة بسهولة؟. كفتاة تبلغ من العمر 14 عاماً آنذاك، لم يكن لدي أي وقت لأدرك كم كنت قاسية عندما دست فوق أجساد الناس. آمل ألا يأتي على الناس يوم يكررون فيه مثل هذه التجربة أبداً.
بعد ظهر اليوم الثالث من القصف الجوي، سمعت أن منزلنا في حي كوي قد نجا من النيران، عندما كنت أسير إلى المنزل، قابلت والدي. كان سعيداً جداً عندما اكتشف أنني بخير. وقال إنه كان يحاول العثور عليّ من خلال مناداة اسمي قرب أنقاض المصنع، وكان يفعل ذلك نظراً لوجود إشاعة، تفيد بأن كل الطلاب العاملين في المصنع قد ماتوا، ولهذا كاد أن يتخلى عن البحث عني.
والدي الذي كان دائماً ما يتسم بالهدوء والصرامة، صرخ عندما التقينا، والدموع تملأ عينيه: «من الرائع رؤيتك على قيد الحياة»، ممسكاً بإحكام بي وبصديقتي التي كانت معي في ذلك الوقت.
بعد نحو عام ونصف العام. توفي والدي وهو يتقيأ الدم. وأعتقد أن سبب وفاته هوالإشعاع المتبقي، الذي تعرض له أثناء بحثه عني في موقع تسليم الجثث في المدينة، لثلاثة أيام متواصلة.
نزيف لثة وحمّى
بعد أن عدت إلى المنزل، بدأت لثتي تنزف، وأصبت بالحمى، وفقدت شهيتي للطعام. لم أستطع مغادرة السرير حتى نهاية شهر أغسطس. تورمت قدمي بشدة لدرجة أنني لم أستطع المشي. الجرح في ذراعي تعفّن، وظهر الدود فيه بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى المنزل.
أزالت جدتي الدود باستخدام عيدان تناول الطعام، التي تستخدم لمرة واحدة، وكان ذلك مؤلماً حقاً بحيث لا يمكن نسيانه.
جاء طبيب من محافظة شيماني ليعالجني، وأخرج سبع قطع من الزجاج، من الجروح الممتلئة بالصديد.
جرح ساقي الذي كان شديداً بدأ يلتئم بشكل طبيعي، بمرور الوقت، وبهذه الطريقة أُنقذت حياتي.
بعد أن انتهت السيدة يوشيكو من رواية قصتها، التي كانت تقرأ معظمها من ورقة مكتوبة، ساد الصمت قليلاً. الموقف بالفعل كان حزيناً، رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.
كيف قررت أن تروي قصتها للعالم للمرة الأولى؟
بعد أن ظلت حبيسة في صدرها عشرات السنين، قررت السيدة يوشيكو كيوموتو أن تروي قصتها للعالم، وعن اتخاذها هذا القرار للمرة الأولى، تقول: «بعد أن انتهيت من جنازة زوجي، وفي أول حفل تأبين له، في اليوم التاسع والأربعين بعد وفاته، سألتني حفيدتي، وهي طالبة في السنة الثالثة الإعدادية: الآن مات جدي، ماذا ستفعلين؟ هل أنت قادرة على أن تعيشي بمفردك؟ هل لديك ما تريدين أن تفعليه؟».
أجبتها: «علي أن أعيش بطريقة ما». ثم قالت: «لماذا لاتخبرين العالم بتجربتك مع القنبلة الذرية؟». قلت فوراً: «لا بد أنك تمزحين. لا أعتقد أنني أستطيع التحدث أمام الناس»، فردت: «نعم، يمكنك ذلك، فأنا ألقيت الخطاب الختامي في حفل تأبين جدي. وكان ذلك جيداً».
بعد فترة وجيزة من هذا الحديث، تعرفت السيدة على فريق من متحف السلام التذكاري، وبدأت تتحدث بصفتها أحد الناجين من القنبلة الذرية.
لقد تغير الزمن
تقول السيدة يوشيكو كيوموتو: «بالمقارنة مع أولئك الذين استمعوا إلي قبل 16 عاماً عندما بدأت رواية القصص، هناك المزيد من الأشخاص الذين لا يعرفون على الإطلاق عن القنبلة التي ألقيت في هيروشيما. لقد تغير الزمن. الآن حتى المعلّمون والطلاب في هيروشيما يعرفون القليل جداً عن هذه المأساة. هذا هو الحال الآن. لذا، أريد من الناس أن يستمعوا ليعلموا جيداً مدى صعوبة العيش بعد تجربة القنبلة النووية. للأسف كان هناك تمييز ضد الناجين، كما كانت هناك صعوبات سبّبتها الأمراض المرتبطة بالقنبلة، ومشكلة الأطفال الذين تورطوا في السرقة، أو أصبحوا رجال عصابات، للنجاة من الفترة التي أعقبت إلقاء القنبلة وشهدت نقص الغذاء».
https://www.alqabas.com/article/5918080 :إقرأ المزيد