المهدى
09-14-2005, 08:35 AM
كتب د . جمال حسين
وحدها في الطرقات التي ابتلعت نباتها، مترقبة عينها خوف افلاتها من الفضاء المسموح لها في أن تكون بلا حدود، علوّ انطلاق الوحيدة المرددة المعوذات كلها قبل تقدمها الصباحي في شوارع صارت أكثر قرفا وجزعا، والبلوى فيها شعور ونفايات ألقت بهم الرياح على مصائر الخلق، حرة في مواجهة المفاجآت والصدمات والتعليقات والتحرش المفضي إلى تحميل النفس أكثر مما ينوء به يومها، المغالي، الممعن أذى ومرارة، وحدها مغطاة بالأدعية وطرد الوساوس، ما أن تقع في مطبّ أو زحام عربات جوالة ومركبات محترقة ومسرفات غريبة والرجال الذين امتهنوا نجدة الآخرين وحيوانات تمرست في ايذاء الجميع، كما الصعود المتتالي لسلم ينبغي تجنبه وكتخطي النظرة غير الموفقة.
وحدها بمجاراة الطرق الملغومة وسيارات الموت واللصوص المبتدئين والزمارات المخبولة والشرطة العاجزين والاشارات غير المحترمة والجسور النافقة والرغبة في تخطي ما لا تحمد عقباه، وزعيق من ولد عاطل وجمهرة محمومين بالآمال وتجمع من خدعوا وتشاجر من خسروا الرهان الأخير ومواقع متشبثين بمجد لن يأتي، دائما وحدها بالرغبة ومملكة الهدوء والاكتفاء النقي واستجماع ما تبقى من حيل لكي تعاود صغيرتها مدرستها وتمسك بدفتر التوقيعات قبل سحبه من المدير العام المرتشي، رافعة الآهة تلو الدعاء، في أن يمضي بها الطريق بلا متاعب ولا مضايقات ولا انفجارات مدوية ولا رمي عشوائي ولا منافذ مغلقة حتى اخلاء الجثث وعبور مواكب المناضلين السابقين وأصحابهم مالكي السيارات المصادرة، وحدها راكعة خلف مقود الحياة التي قررتها، لتأتي وتروح وتدمع وتمسح ليلها وأمانيها ومتعها ومفرداتها المحببة، عل ّ وعسى أن يكون هذا اليوم أخف توترا من سابقه كرعشة من ارتكب خطأ بلا عمد، كمثل تقديم تعزية مفروضة أو استعارة بسمة في غير محلها، وحدها تدير مقود السيارة التي ورثتها من الرجل الأبدي أو تلك التي باعت غرفة عرسها لكي لا تهان في تدافع الحافلات الشعبية وتدون عليها النكات الماجنة والاشاعات المارقة وتصفيف شعارات الغد المنشود وزكام البنزين المغشوش وعرق من لم براغيث الحي في فراشه، وتودد من فاته قطار العمر ودعابات من أحس بمواهبه متأخرا.
وحدها، ان تظن أو هكذا يعتقد القلب المسكون بالهواجس، بأن مركبة متهالكة تسير بمشيئتها، أفضل من استدراج الأنين والأنباء المزورة والجلوس في فوضى الاشارات والمكونات الكاملة للشعب المسلوخ.
وحدها، مع آلاف ممن وضعن مصيرهن بأصابعهن لتوفير اللقمة الممكنة وكسر عضد الزهرة، فاتحات سماء الخلاص، مرجرجات الجمود، الرقيقات، الحزينات، الصامدات، نجمات الفرسان الغائبين وأحلام الأمراء وأوراق الشجر المذهـّب بالمآقي والمطلي بالدموع، إنهن بأوفى ما يمكن أن يوصفن به: العراقيات!
أصبح واضحا أن كل المخاطر التي يتعرض لها المرء في العراق تبدأ ما أن يغادر بيته، في الأغلب. وأن فرص الموت تزيد في الشوارع وأن السيارات، بالتحديد، المصدر الأول والرئيسي للتعرض للمهالك ولذلك فأن قمة التوتر تسود الشوارع العراقية، لاسيما في العاصمة، والشوارع تحولت الى ساحة للمنازلة غير العادلة ما بين الآمنين وكل أنواع المجرمين، بدءا من الانتحاريين وليس انتهاء بقطاع الطرق.
وأصبح مشاهدا بالعين المجردة، كثرة النساء اللواتي يعتمدن على أنفسهن في قيادة السيارات، وبتعبير أقصر : السائقات. فهذه الظاهرة انتشرت في العراق مرتبطة جدليا بالبطالة. فنسبة العاملات في الوزارات وشركات القطاع الخاص والمدارس والمستشفيات أكثر من نسبة العاملين، لأسباب ليست محصورة بحديثنا الآن.
الـخط والـحظ
وعليه فقد وجدت الغالبية العظمى من العاملات أنفسهن أمام ثلاث خيارات، رابعها الذهاب الى العمل مشيا وهذا خيار موهوم بالمسافة فحسب، أما أولها فينحصر في مصطلح ابتكرته النسوة العراقيات وهو الاشتراك بـ«خط».
و«الخط» هو تجمع بضعة نسوة والاتفاق فيما بينهن لتأجير سيارة، حجمها يتناسب مع عددهن ليصلن بواسطتها لأماكن العمل، على أن تقسم الأجرة بالتساوي. وللخط مساوئ كثيرة ترتبط بأفضل الحالات بمزاج السائق وصحة سيارته ومحاسنه اقتصادية وكذلك أمنية من باب الحشر مع الناس عيد.
والخيار الثاني وهو بمجمله سيئ كتسلق الحافلات العامة بلا حرية اختيار من يجلس معك أو جنبك ومهما تعرضت لمضايقة فهذا من شان المصادفات وأخلاق الشوارع ومحاسن الصدف وتجليات الدهر. والثالث، هو ما نبحث في توصيفه هذه الأثناء.
المضطرات
الأمهات غير العاملات يواجهن مشكلة ليست هينة، خاصة اللواتي لا يملكن معيلا، وهي كيفية وصول أبنائهن الى المدرسة وعودتهم منها. لذلك دفعت الكثيرات لاستبدال الخيارات المطروحة أعلاه بأخذ زمام الحل على عاتقهن بشراء سيارة مهما طال بها العمر لكي ترتهن مهمتها بتلبية الحاجة المدرسية وأحيانا للتسوق.
ويعد منظر امرأة منهمكة بفتح غطاء السيارة أو التفرج على عجلتها المثقوبة وتلك الهاربة من دخان المحرك القديم، مألوفا ومتزامنا خاصة مع ساعات الصباح الأولى.
هو اضطرار من ليس لديه الحل، وبند كآبة جديد يضاف لمن تترك رقتها لتنضج عضلاتها وتفكك غطاء الماء الفوار للسيارة الخامدة.
المتنوعات
اذا كان الرجال يتركون سياراتهم في البيت خوفا من الاعتداء والسرقة والتفجير ويستقلون أي وسيلة لقضاء حاجياتهم، فكيف بالنساء المتزايدات العدد في الشوارع؟
ولا تخفى صعوبة حشر نفسك في شارع عام لتسألهن بعضا من متطلبات الاستطلاع العام في وقت يعد فيه أي نوع من صنوف التطفل مشروع اعتداء، غير أن ظرفا متاحا أمهل لأمل محسن التأكد من حسن نوايانا لتبدأ بإلقاء اللوم على كل شيء بدءا من الظرف الذي ألقى بها سائقة في شوارع بغداد مرورا بالزحام الذي خلفته كثرة السيارات والاحتياطات الأمنية وقدر المخاوف المهلكة للأعصاب وحسب تعبيرها انحدار الأخلاق الذي وصل لدى البعض، حتى تلك التي يسمونها أخلاق السياقة.
داهمتنا س . ك بمجاملة غير متوقعة بقولها ان وجوهكم لا توحي بالمضايقة ولا بنية الاعتداء، وحسب قولها، ان لديها خبرة في معرفة الوجوه الشريرة، لكنها استدركت قائلة : لا أدري لماذا ازدادت هذه الوجوه كثيرا؟
هناك امرأة مؤمنة بالقدر لم تجد ضرورة في تعرف نفسها، وجل ّ ايمانها يجعلها راضية بالمكتوب الذي لا تستطيع هي أو غيرها الهروب منه، باختصار ألقت كل شيء على القسمة والنصيب.
بينما أخرى تحرص على غلق أبواب سيارتها ورفع النوافذ حتى في الحر الشديد وبالرغم من كل شيء فهي تعيش قلقا دائما طالما هي تسير في الشارع، لكنها حذرت من السير في الشوارع الخالية وفي عز الظهر أو في المساء المتأخر، مؤكدة بأن الخشية ليست في سرقة السيارة، بل الخطف أو القتل الذي يمتهنه البعض.
الـمحاربات
لم نتعرف على بطلة حادثة الحارثية، لكن أكرم صاحب محل للتسجيلات شارك في جزء منها ويحلو ترديدها، ففي واحدة من أمسيات بغداد وبينما الشارع مكتظ بالسيارات والمارة سمعوا صوت اطلاق نار وما أن أطل حتى رأى سيدة بيدها مسدس وتمسك بأحد الأشخاص تبين فيما بعد انه واثنين من شركائه حاولوا سرقة سيارة سيدة المسدس.
لم تتوان هذه السيدة حال تعرض عصابة الثلاثة لها، انتزعت المسدس وأطلقت النار في الهواء، ولم تكتف بهروبهم، بل لاحقتهم ركضا وأمسكت بأحدهم، في حكاية يتناقلها البغداديون، وخاصة شرطة العاصمة بمزيد من الفخر.
وتبين بعد سؤال عدد من السائقات، أنهن جميعا تقريبا يحملن مسدسات ويحسنّ استخدامها، لكن أيا ممن تطفلنا عليهن، لم تشغلهن أناقة السيارة ولا منظرها ولا يفكرن حتى بسماع موسيقى وأغان، وقالت إحداهن بأنه لو يوجد مسجل في السيارة فستفضل سماع تلاوات القرآن.
وعن لصق صور رجال دين في بعض سيارات النساء، أجابت طبيبة أسنان تعود من عيادتها في وقت متأخر بقولها الصريح، أنها تطرد العين بهن والشر وضربت بعض الأمثلة التي أبعدتها هذه الصور من بعض المواقف المحرجة والخطرة.
المـحترفات
شجع خوف بعض النساء من سواق التكسي الرجال ولكثرة الحوادث المتنوعة من مضايقات وصولا الى الخطف أو الاعتداء، فالبعض يستخدم سيارته لمآرب كثيرة وخاصة لاصطياد النساء، حيث لا توجد في العراق حتى الآن سيارات تكسي خاصة معروفة بألوانها وعلاماتها، فأي سيارة يمكن العمل بها بالأجرة، هذا الخوف شجع بعض النساء على العمل سائقات تكسي غير معلنات، وينحصر نشاطهن على النساء فقط.
بمعنى، أن نساء كثيرات بحاجة الى تكسي في مواقف متعددة وكذلك هناك العديد من السائقات لا يشير أي شيء على أنهن يعملن سائقات بالأجرة. هذه الظاهرة انتشرت في بغداد، غير أنها خفية، دوافعها الحاجة الفظيعة وحرمان النساء واعالتهن أطفالا بلا رجل في ظرف يعاني منه البلد من البطالة الكبيرة النسبة.
تتخصص سائقات التكسي الى جانب النساء، في نقل العائلات والرجال كبار السن أو رجل مع زوجته، أما الوقت فيعتمد على ما يكسبه اليوم من رزق يكفي لاطعام الأطفال في اليوم التالي والأماكن أغلبها محصور حيث الأسواق التي تهواها النساء والمراكز الحكومية والمؤسسات التي تجذب المراجعين.
الطالبـات
بعد مسافة الجامعات عن مراكز السكن، أجبر بعض الفتيات على الاعتماد على أنفسهن في الوصول الى الجامعة وهي حالة بدأت تنمو. تقول هنادي بأنها تتعرض لمضايقات اعتادت عليها، سواء كانت وحدها أو عندما تنقل زميلاتها، فالبعض لا يحتمل وجود عدد من الفتيات في سيارة واحدة. أغلب المضايقين من المراهقين والشبان، لكنها ترى ان زيادة رجال الشرطة وسيارات النجدة في كل الشوارع تقريبا والساحات قلل كثيرا منها، لكن مصاحبة بعض سيارات الشبان لها لغاية وصولها للجامعة ونظراتهم وتعليقاتهم وأغانيهم العالية لا يستطيع احد محاسبتهم عليه من وجهة نظر القانون، فكل منا يجلس في سيارته ولم يوجه اعتداء مباشرا يحتـّم الشكوى.
المبتدئات
وتنتشر في العراق مع الزيادة الهائلة للسيارات في السنتين الأخيرتين، مكاتب تعليم السياقة. يقول صاحب مكتب السعدون إن أغلب زبائنه من النساء فالرجال برأيه لا يلجأون الى مدارس تعليم القيادة، لأن لديهم متسعا من الحرية للتعلم بطرق مختلفة عن طريق أصدقائهم وفي أي وقت ومكان، بينما لا تملك النساء هذه الحرية والمكان والسيارة ولا يأخذن راحتهن في الشوارع العامة، فالمرأة بطبعها حسب اعتقاده، تلتزم بمعرفة الدروس وتحرص عليها، وتخشى التعلم في الأماكن المكتظة والمزدحمة كون المبتدئة ترتبك كثيرا وسط هذا النوع من الطرق.
بلا إحصاء
لا يمتلكون في ادارة المرور العامة أي احصائية لعدد السائقات في العاصمة، بالرغم من أن الأمر قد يكون متاحا لو راجعوا سجل من تم منحهن اجازات السوق.
لكن الوضع في العراق الآن يتيح لمراهقين بأعمار لا تتجاوز الخامسة عشر في قيادة مركبات نقل وسيارات خاصة، فاجازات السوق يمكن الحصول عليها من أرصفة التزوير. ومع ذلك فان الانطباع العام لدى شرطة المرور على قيادة المرأة للسيارة ايجابية كونها تتصف بالرزانة والالتزام بضوابط الشارع وعدم خرق القوانين.
على الطرقات أجمل
وسواء كنّ محاربات أو طالبات، عاملات أو مهيضات الجناح، مبتدئات أو محترفات، فإن وجودهن في الطرق، مهابة مكشوفة ونزع الآلام من المطبات، وصيرورة تزيد من تحمل مفاجآت الأيام.
هنّ أنوار الشوارع وعصافير الرؤيا وأكاليل متنقلة وبذار أعمالهن الفاضلة.
وحدها في الطرقات التي ابتلعت نباتها، مترقبة عينها خوف افلاتها من الفضاء المسموح لها في أن تكون بلا حدود، علوّ انطلاق الوحيدة المرددة المعوذات كلها قبل تقدمها الصباحي في شوارع صارت أكثر قرفا وجزعا، والبلوى فيها شعور ونفايات ألقت بهم الرياح على مصائر الخلق، حرة في مواجهة المفاجآت والصدمات والتعليقات والتحرش المفضي إلى تحميل النفس أكثر مما ينوء به يومها، المغالي، الممعن أذى ومرارة، وحدها مغطاة بالأدعية وطرد الوساوس، ما أن تقع في مطبّ أو زحام عربات جوالة ومركبات محترقة ومسرفات غريبة والرجال الذين امتهنوا نجدة الآخرين وحيوانات تمرست في ايذاء الجميع، كما الصعود المتتالي لسلم ينبغي تجنبه وكتخطي النظرة غير الموفقة.
وحدها بمجاراة الطرق الملغومة وسيارات الموت واللصوص المبتدئين والزمارات المخبولة والشرطة العاجزين والاشارات غير المحترمة والجسور النافقة والرغبة في تخطي ما لا تحمد عقباه، وزعيق من ولد عاطل وجمهرة محمومين بالآمال وتجمع من خدعوا وتشاجر من خسروا الرهان الأخير ومواقع متشبثين بمجد لن يأتي، دائما وحدها بالرغبة ومملكة الهدوء والاكتفاء النقي واستجماع ما تبقى من حيل لكي تعاود صغيرتها مدرستها وتمسك بدفتر التوقيعات قبل سحبه من المدير العام المرتشي، رافعة الآهة تلو الدعاء، في أن يمضي بها الطريق بلا متاعب ولا مضايقات ولا انفجارات مدوية ولا رمي عشوائي ولا منافذ مغلقة حتى اخلاء الجثث وعبور مواكب المناضلين السابقين وأصحابهم مالكي السيارات المصادرة، وحدها راكعة خلف مقود الحياة التي قررتها، لتأتي وتروح وتدمع وتمسح ليلها وأمانيها ومتعها ومفرداتها المحببة، عل ّ وعسى أن يكون هذا اليوم أخف توترا من سابقه كرعشة من ارتكب خطأ بلا عمد، كمثل تقديم تعزية مفروضة أو استعارة بسمة في غير محلها، وحدها تدير مقود السيارة التي ورثتها من الرجل الأبدي أو تلك التي باعت غرفة عرسها لكي لا تهان في تدافع الحافلات الشعبية وتدون عليها النكات الماجنة والاشاعات المارقة وتصفيف شعارات الغد المنشود وزكام البنزين المغشوش وعرق من لم براغيث الحي في فراشه، وتودد من فاته قطار العمر ودعابات من أحس بمواهبه متأخرا.
وحدها، ان تظن أو هكذا يعتقد القلب المسكون بالهواجس، بأن مركبة متهالكة تسير بمشيئتها، أفضل من استدراج الأنين والأنباء المزورة والجلوس في فوضى الاشارات والمكونات الكاملة للشعب المسلوخ.
وحدها، مع آلاف ممن وضعن مصيرهن بأصابعهن لتوفير اللقمة الممكنة وكسر عضد الزهرة، فاتحات سماء الخلاص، مرجرجات الجمود، الرقيقات، الحزينات، الصامدات، نجمات الفرسان الغائبين وأحلام الأمراء وأوراق الشجر المذهـّب بالمآقي والمطلي بالدموع، إنهن بأوفى ما يمكن أن يوصفن به: العراقيات!
أصبح واضحا أن كل المخاطر التي يتعرض لها المرء في العراق تبدأ ما أن يغادر بيته، في الأغلب. وأن فرص الموت تزيد في الشوارع وأن السيارات، بالتحديد، المصدر الأول والرئيسي للتعرض للمهالك ولذلك فأن قمة التوتر تسود الشوارع العراقية، لاسيما في العاصمة، والشوارع تحولت الى ساحة للمنازلة غير العادلة ما بين الآمنين وكل أنواع المجرمين، بدءا من الانتحاريين وليس انتهاء بقطاع الطرق.
وأصبح مشاهدا بالعين المجردة، كثرة النساء اللواتي يعتمدن على أنفسهن في قيادة السيارات، وبتعبير أقصر : السائقات. فهذه الظاهرة انتشرت في العراق مرتبطة جدليا بالبطالة. فنسبة العاملات في الوزارات وشركات القطاع الخاص والمدارس والمستشفيات أكثر من نسبة العاملين، لأسباب ليست محصورة بحديثنا الآن.
الـخط والـحظ
وعليه فقد وجدت الغالبية العظمى من العاملات أنفسهن أمام ثلاث خيارات، رابعها الذهاب الى العمل مشيا وهذا خيار موهوم بالمسافة فحسب، أما أولها فينحصر في مصطلح ابتكرته النسوة العراقيات وهو الاشتراك بـ«خط».
و«الخط» هو تجمع بضعة نسوة والاتفاق فيما بينهن لتأجير سيارة، حجمها يتناسب مع عددهن ليصلن بواسطتها لأماكن العمل، على أن تقسم الأجرة بالتساوي. وللخط مساوئ كثيرة ترتبط بأفضل الحالات بمزاج السائق وصحة سيارته ومحاسنه اقتصادية وكذلك أمنية من باب الحشر مع الناس عيد.
والخيار الثاني وهو بمجمله سيئ كتسلق الحافلات العامة بلا حرية اختيار من يجلس معك أو جنبك ومهما تعرضت لمضايقة فهذا من شان المصادفات وأخلاق الشوارع ومحاسن الصدف وتجليات الدهر. والثالث، هو ما نبحث في توصيفه هذه الأثناء.
المضطرات
الأمهات غير العاملات يواجهن مشكلة ليست هينة، خاصة اللواتي لا يملكن معيلا، وهي كيفية وصول أبنائهن الى المدرسة وعودتهم منها. لذلك دفعت الكثيرات لاستبدال الخيارات المطروحة أعلاه بأخذ زمام الحل على عاتقهن بشراء سيارة مهما طال بها العمر لكي ترتهن مهمتها بتلبية الحاجة المدرسية وأحيانا للتسوق.
ويعد منظر امرأة منهمكة بفتح غطاء السيارة أو التفرج على عجلتها المثقوبة وتلك الهاربة من دخان المحرك القديم، مألوفا ومتزامنا خاصة مع ساعات الصباح الأولى.
هو اضطرار من ليس لديه الحل، وبند كآبة جديد يضاف لمن تترك رقتها لتنضج عضلاتها وتفكك غطاء الماء الفوار للسيارة الخامدة.
المتنوعات
اذا كان الرجال يتركون سياراتهم في البيت خوفا من الاعتداء والسرقة والتفجير ويستقلون أي وسيلة لقضاء حاجياتهم، فكيف بالنساء المتزايدات العدد في الشوارع؟
ولا تخفى صعوبة حشر نفسك في شارع عام لتسألهن بعضا من متطلبات الاستطلاع العام في وقت يعد فيه أي نوع من صنوف التطفل مشروع اعتداء، غير أن ظرفا متاحا أمهل لأمل محسن التأكد من حسن نوايانا لتبدأ بإلقاء اللوم على كل شيء بدءا من الظرف الذي ألقى بها سائقة في شوارع بغداد مرورا بالزحام الذي خلفته كثرة السيارات والاحتياطات الأمنية وقدر المخاوف المهلكة للأعصاب وحسب تعبيرها انحدار الأخلاق الذي وصل لدى البعض، حتى تلك التي يسمونها أخلاق السياقة.
داهمتنا س . ك بمجاملة غير متوقعة بقولها ان وجوهكم لا توحي بالمضايقة ولا بنية الاعتداء، وحسب قولها، ان لديها خبرة في معرفة الوجوه الشريرة، لكنها استدركت قائلة : لا أدري لماذا ازدادت هذه الوجوه كثيرا؟
هناك امرأة مؤمنة بالقدر لم تجد ضرورة في تعرف نفسها، وجل ّ ايمانها يجعلها راضية بالمكتوب الذي لا تستطيع هي أو غيرها الهروب منه، باختصار ألقت كل شيء على القسمة والنصيب.
بينما أخرى تحرص على غلق أبواب سيارتها ورفع النوافذ حتى في الحر الشديد وبالرغم من كل شيء فهي تعيش قلقا دائما طالما هي تسير في الشارع، لكنها حذرت من السير في الشوارع الخالية وفي عز الظهر أو في المساء المتأخر، مؤكدة بأن الخشية ليست في سرقة السيارة، بل الخطف أو القتل الذي يمتهنه البعض.
الـمحاربات
لم نتعرف على بطلة حادثة الحارثية، لكن أكرم صاحب محل للتسجيلات شارك في جزء منها ويحلو ترديدها، ففي واحدة من أمسيات بغداد وبينما الشارع مكتظ بالسيارات والمارة سمعوا صوت اطلاق نار وما أن أطل حتى رأى سيدة بيدها مسدس وتمسك بأحد الأشخاص تبين فيما بعد انه واثنين من شركائه حاولوا سرقة سيارة سيدة المسدس.
لم تتوان هذه السيدة حال تعرض عصابة الثلاثة لها، انتزعت المسدس وأطلقت النار في الهواء، ولم تكتف بهروبهم، بل لاحقتهم ركضا وأمسكت بأحدهم، في حكاية يتناقلها البغداديون، وخاصة شرطة العاصمة بمزيد من الفخر.
وتبين بعد سؤال عدد من السائقات، أنهن جميعا تقريبا يحملن مسدسات ويحسنّ استخدامها، لكن أيا ممن تطفلنا عليهن، لم تشغلهن أناقة السيارة ولا منظرها ولا يفكرن حتى بسماع موسيقى وأغان، وقالت إحداهن بأنه لو يوجد مسجل في السيارة فستفضل سماع تلاوات القرآن.
وعن لصق صور رجال دين في بعض سيارات النساء، أجابت طبيبة أسنان تعود من عيادتها في وقت متأخر بقولها الصريح، أنها تطرد العين بهن والشر وضربت بعض الأمثلة التي أبعدتها هذه الصور من بعض المواقف المحرجة والخطرة.
المـحترفات
شجع خوف بعض النساء من سواق التكسي الرجال ولكثرة الحوادث المتنوعة من مضايقات وصولا الى الخطف أو الاعتداء، فالبعض يستخدم سيارته لمآرب كثيرة وخاصة لاصطياد النساء، حيث لا توجد في العراق حتى الآن سيارات تكسي خاصة معروفة بألوانها وعلاماتها، فأي سيارة يمكن العمل بها بالأجرة، هذا الخوف شجع بعض النساء على العمل سائقات تكسي غير معلنات، وينحصر نشاطهن على النساء فقط.
بمعنى، أن نساء كثيرات بحاجة الى تكسي في مواقف متعددة وكذلك هناك العديد من السائقات لا يشير أي شيء على أنهن يعملن سائقات بالأجرة. هذه الظاهرة انتشرت في بغداد، غير أنها خفية، دوافعها الحاجة الفظيعة وحرمان النساء واعالتهن أطفالا بلا رجل في ظرف يعاني منه البلد من البطالة الكبيرة النسبة.
تتخصص سائقات التكسي الى جانب النساء، في نقل العائلات والرجال كبار السن أو رجل مع زوجته، أما الوقت فيعتمد على ما يكسبه اليوم من رزق يكفي لاطعام الأطفال في اليوم التالي والأماكن أغلبها محصور حيث الأسواق التي تهواها النساء والمراكز الحكومية والمؤسسات التي تجذب المراجعين.
الطالبـات
بعد مسافة الجامعات عن مراكز السكن، أجبر بعض الفتيات على الاعتماد على أنفسهن في الوصول الى الجامعة وهي حالة بدأت تنمو. تقول هنادي بأنها تتعرض لمضايقات اعتادت عليها، سواء كانت وحدها أو عندما تنقل زميلاتها، فالبعض لا يحتمل وجود عدد من الفتيات في سيارة واحدة. أغلب المضايقين من المراهقين والشبان، لكنها ترى ان زيادة رجال الشرطة وسيارات النجدة في كل الشوارع تقريبا والساحات قلل كثيرا منها، لكن مصاحبة بعض سيارات الشبان لها لغاية وصولها للجامعة ونظراتهم وتعليقاتهم وأغانيهم العالية لا يستطيع احد محاسبتهم عليه من وجهة نظر القانون، فكل منا يجلس في سيارته ولم يوجه اعتداء مباشرا يحتـّم الشكوى.
المبتدئات
وتنتشر في العراق مع الزيادة الهائلة للسيارات في السنتين الأخيرتين، مكاتب تعليم السياقة. يقول صاحب مكتب السعدون إن أغلب زبائنه من النساء فالرجال برأيه لا يلجأون الى مدارس تعليم القيادة، لأن لديهم متسعا من الحرية للتعلم بطرق مختلفة عن طريق أصدقائهم وفي أي وقت ومكان، بينما لا تملك النساء هذه الحرية والمكان والسيارة ولا يأخذن راحتهن في الشوارع العامة، فالمرأة بطبعها حسب اعتقاده، تلتزم بمعرفة الدروس وتحرص عليها، وتخشى التعلم في الأماكن المكتظة والمزدحمة كون المبتدئة ترتبك كثيرا وسط هذا النوع من الطرق.
بلا إحصاء
لا يمتلكون في ادارة المرور العامة أي احصائية لعدد السائقات في العاصمة، بالرغم من أن الأمر قد يكون متاحا لو راجعوا سجل من تم منحهن اجازات السوق.
لكن الوضع في العراق الآن يتيح لمراهقين بأعمار لا تتجاوز الخامسة عشر في قيادة مركبات نقل وسيارات خاصة، فاجازات السوق يمكن الحصول عليها من أرصفة التزوير. ومع ذلك فان الانطباع العام لدى شرطة المرور على قيادة المرأة للسيارة ايجابية كونها تتصف بالرزانة والالتزام بضوابط الشارع وعدم خرق القوانين.
على الطرقات أجمل
وسواء كنّ محاربات أو طالبات، عاملات أو مهيضات الجناح، مبتدئات أو محترفات، فإن وجودهن في الطرق، مهابة مكشوفة ونزع الآلام من المطبات، وصيرورة تزيد من تحمل مفاجآت الأيام.
هنّ أنوار الشوارع وعصافير الرؤيا وأكاليل متنقلة وبذار أعمالهن الفاضلة.