fadel
09-13-2005, 04:58 PM
د. محمد الرميحي
تعب أصدقاء الفلسطينيين من عرب وغيرهم، من أصداء النصح للامتناع عما يقوم به بعضهم من عبث في قضية العصر، القضية الفلسطينية، لقد جرى نهر من الحبر، كما يجري نهر من الدم في هذا الصدد، والعقل غائب، والحكمة مؤجلة، فلا أسوأ من يد تقبض على بندقية من دون فكر يرشدها.
آخر أخبار غزة، بعد أن شهدت سحب المستوطنين، أن قُتل موسى عرفات عنوة في بيته، كما شهدت غزة انفجاراً اختلف في تقدير أسبابه، والقادم من صراع فلسطيني ــ فلسطيني يخيف العاقل، ويقلق الحكيم، والفلسطينيون جميعا يغرقون أكثر وأكثر في مستنقع ردات الفعل، وينحسر مع الأسف عن قضيتهم غطاء التعاطف والتفهم الدولي، في خضم الحرب على الارهاب.
حتى هذا الاحتفال الفلسطيني وبعض العربي بسبب الانسحاب الاسرائيلي غير مبرر، فبعد ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال يبدو هذا «الانسحاب» لصالح اسرائيل أكثر بكثير منه لصالح الفلسطينيين, فلم تعد بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة ذات قيمة اقتصادية أو استراتيجية لاسرائيل, ربما ستجعل من حركة الفلسطينيين في داخل غزة نفسها حركة ممكنة نسبيا، ولكنها ستعجل من الاستنفار بين القوى الفلسطينية المتصارعة للحصول على بعض المكتسبات الصغيرة للقوى في الشريط الضيق، ولكن الانسحاب الاسرائيلي سوف يحول غزة الى سجن كبير، يتصارع فيه المختلفون، غزة ستكون معزولة عن العالم الخارجي، كما كانت دائما وأكثر.
في الستينات زرت غزة مع وفد طلابي، كانت وقتها تحت الادارة المصرية، وكانت حال اخوتنا هناك في مرحلة آدمية متدنية، الى درجة أن بعضنا لم يستطع أن يمنع دمعة حارقة سالت على الخدود ونحن نزور احدى مدارس القطاع, جميعا نعرف أن لا حول لهؤلاء ولا قوة، فقد أُجلوا بقوة السلاح والتهديد من أرضهم في الداخل الى ارض معزولة وأصبحوا لاجئين في بلادهم.
حقيقة الأمر أن غزة هي نتاج مباشر لحطام الفلسطينيين بعد عام 1948، معظم سكانها من أصول أولئك الناس الذين طردوا من ديارهم في الداخل، ومن المفارقات أن معظم سكان المستعمرات الاسرائيلية في غزة الذين تركوها اخيرا، سوف يستوطنون من جديد ذلك الساحل الممتد الى جنوب مدينة يافا، التي جاء منها معظم سكان غزة أصلا، ولا توجد اليوم قرية فلسطينية قائمة في ذلك الساحل الطويل، كلها دمرت، كما دمرت آلاف القرى، وظهرت مكانها أسماء جديدة، ونمط جديد من الحياة.
سوف تعوض الحكومة الاسرائيلية كل مستوطن (شرعي) في مستوطنات غزة السابقة بثلاثمئة وخمسين ألف دولار (ثمن منزل مستقل متوسط الحجم في ضواحي واشنطن) وخمسمئة دولار تعويضا عن ايجار شهري لمكانه المختار، لمدة سنتين! في الوقت الذي لم يفكر احد في أي تعويض للفلسطينيين، في أي وقت ومن أي مكان هُجروا اليه، وخصوصا أولئك المليون فلسطيني الذين أصابتهم نكبة 1948. حتى المناطق التي تركها الاسرائيليون في غزة سوف يتسلمها الفلسطينيون قاعا صفصفا، لا بناء فيها ولا شجر, المستوطن الاسرائيلي في غزة كان يحصل على كمية من المياه تعادل خمس مرات ما يحصل عليه الفلسطيني في غزة، وعلى مساحة ارض تبلغ سبعمئة مرة على ما يتوافر للفلسطيني في قطاعه، ذلك أبشع ما يمكن أن يحدث لشعب.
الاتفاق السلمي الذي يسمى «اتفاق أوسلو» حرم الفلسطينيين من جملة من الحقوق، منها اتصالهم ببعضهم، فقد تم تقسيم غزة الى أربع مقاطعات تتخللها طرق اسرائيلية، مرصعة بمراكز مراقبة وتفتيش، تفتح في أوقات غير منتظمة يقررها الاسرائيليون كيف ومتى شاءوا,
صحافي بريطاني يصف عذاب الانتقال للمواطن الفلسطيني كالتالي: «ان أراد طفل فلسطيني الذهاب الى المدرسة من مدينة غزة الى رفح القريبة، فعليه أن يبدأ المشي الى المدرسة عند الساعة الثالثة صباحا، حتى يصل الى مدرسته في موعد الدرس الأول، ومن ثم عليه أن يبدأ العودة الى بيته الساعة الرابعة بعد الظهر، عله يصل بيته في منتصف الليل».
وهل نحن بحاجة لهذا الوصف وشاشات التلفزيون العربية والأجنبية تنقل لنا بصور حية هذا العذاب اليومي، سيارات الاسعاف كثيرا ما تُوقًف عند نقاط التفتيش لساعات, منذ عام الفين فقط نحو ثمانين فلسطينيا فقدوا حياتهم بسبب هذا التوقف القسري، وكانوا في حاجة للعلاج, وحسب تقارير الأمم المتحدة لاحصاءات السكان، فان ستة وخمسين مولودا فلسطينيا ولدوا في نقاط التفتيش الاسرائيلية، بين أواخر عام 2000 وصيف 2003، نصفهم تقريبا ولدوا موتى،كما توفيت تسعة عشرة امرأة على شفا الوضع في هذه النقاط، بسبب نقص وتأخر الاسعاف، وذلك لشكوك اسرائيلية غير مبررة.
ليس من المؤمل أن يحدث الانسحاب الاسرائيلي من غزة أو شمال الضفة الغربية أي تحسن في وضع الفلسطينيين، فتقارير البنك الدولي التي نشرت في أكثر من دراسة تقول ان الوضع الاقتصادي يزداد تدهورا، فبين عام 2000 الى عام 2005 تناقص الدخل الفلسطيني للفرد بنحو الثلث، وان نحو نصف الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر (فقط دولاران في اليوم) وفي غزة الوضع أسوأ من ذلك، فتوقع قرب حدوث كارثة اقتصادية، لم يعد بالمقدور تفاديها، هو ما تؤكد عليه تقارير المؤسسات الدولية.
قبل اتفاقات اوسلو كان يمكن للفلسطيني أن يتنقل بين الضفة الغربية وغزة، ويعمل بعضهم في اسرائيل، كانت اسرائيل تشغل هذه اليد العاملة الرخيصة، وتستفيد من سوق الأرض المحتلة لتصريف منتجاتها، اليوم فقط عدد قليل من الفلسطينيين يسمح لهم أن يعملوا في الداخل الاسرائيلي،حتى أصبح العاطلون عن العمل تصل أعدادهم في بعض النسب الى ثلاثين في المئة من القوة العاملة، ما يعني استقطاب اكبر للقوى السياسية في صفوف هؤلاء العاطلين وزيادة الاحباط في نفوسهم.
معركة الفلسطينيين في هذه المرحلة هي معركة سياسية، تتلخص في فتح المعابر لانتشال الاقتصاد من الهوة المنتظرة، وفي الوصول الى تفاهم لحقن الدم الفلسطيني بين القوى المتصارعة، والقول ان الانسحاب من غزة هو «بداية النهاية للاحتلال» أو «هو انتصار للبندقية» هو قول في حده الأدنى مضلل وفي سقفه سياسي، فالانسحاب من غزة يُمكن اسرائيل من تنفيذ «خطة آلون الموضوعة عام 1967» والقائلة «باغتصاب ارض خصبة ومناطق مياه من الضفة الغربية،وارجاع الباقي اما للأردن وقتها، أو لحكم فلسطيني محلي», تلك الفلسفة لها من يبررها اليوم عن طريق ارغام الفلسطينيين اما للاقتتال بين بعضهم أو النزوح «الطوعي» هذه الفلسفة تحتاج الى أن يعمل الفلسطينيون عقلهم كي يضحدوها، لا أن يفتحوا نيران بنادقهم على بعضهم للبحث عن منتصر وخاسر، ان حدث هذا، فإن القضية سوف تستمر في النفق المظلم الطويل.
كاتب كويتي
تعب أصدقاء الفلسطينيين من عرب وغيرهم، من أصداء النصح للامتناع عما يقوم به بعضهم من عبث في قضية العصر، القضية الفلسطينية، لقد جرى نهر من الحبر، كما يجري نهر من الدم في هذا الصدد، والعقل غائب، والحكمة مؤجلة، فلا أسوأ من يد تقبض على بندقية من دون فكر يرشدها.
آخر أخبار غزة، بعد أن شهدت سحب المستوطنين، أن قُتل موسى عرفات عنوة في بيته، كما شهدت غزة انفجاراً اختلف في تقدير أسبابه، والقادم من صراع فلسطيني ــ فلسطيني يخيف العاقل، ويقلق الحكيم، والفلسطينيون جميعا يغرقون أكثر وأكثر في مستنقع ردات الفعل، وينحسر مع الأسف عن قضيتهم غطاء التعاطف والتفهم الدولي، في خضم الحرب على الارهاب.
حتى هذا الاحتفال الفلسطيني وبعض العربي بسبب الانسحاب الاسرائيلي غير مبرر، فبعد ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال يبدو هذا «الانسحاب» لصالح اسرائيل أكثر بكثير منه لصالح الفلسطينيين, فلم تعد بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة ذات قيمة اقتصادية أو استراتيجية لاسرائيل, ربما ستجعل من حركة الفلسطينيين في داخل غزة نفسها حركة ممكنة نسبيا، ولكنها ستعجل من الاستنفار بين القوى الفلسطينية المتصارعة للحصول على بعض المكتسبات الصغيرة للقوى في الشريط الضيق، ولكن الانسحاب الاسرائيلي سوف يحول غزة الى سجن كبير، يتصارع فيه المختلفون، غزة ستكون معزولة عن العالم الخارجي، كما كانت دائما وأكثر.
في الستينات زرت غزة مع وفد طلابي، كانت وقتها تحت الادارة المصرية، وكانت حال اخوتنا هناك في مرحلة آدمية متدنية، الى درجة أن بعضنا لم يستطع أن يمنع دمعة حارقة سالت على الخدود ونحن نزور احدى مدارس القطاع, جميعا نعرف أن لا حول لهؤلاء ولا قوة، فقد أُجلوا بقوة السلاح والتهديد من أرضهم في الداخل الى ارض معزولة وأصبحوا لاجئين في بلادهم.
حقيقة الأمر أن غزة هي نتاج مباشر لحطام الفلسطينيين بعد عام 1948، معظم سكانها من أصول أولئك الناس الذين طردوا من ديارهم في الداخل، ومن المفارقات أن معظم سكان المستعمرات الاسرائيلية في غزة الذين تركوها اخيرا، سوف يستوطنون من جديد ذلك الساحل الممتد الى جنوب مدينة يافا، التي جاء منها معظم سكان غزة أصلا، ولا توجد اليوم قرية فلسطينية قائمة في ذلك الساحل الطويل، كلها دمرت، كما دمرت آلاف القرى، وظهرت مكانها أسماء جديدة، ونمط جديد من الحياة.
سوف تعوض الحكومة الاسرائيلية كل مستوطن (شرعي) في مستوطنات غزة السابقة بثلاثمئة وخمسين ألف دولار (ثمن منزل مستقل متوسط الحجم في ضواحي واشنطن) وخمسمئة دولار تعويضا عن ايجار شهري لمكانه المختار، لمدة سنتين! في الوقت الذي لم يفكر احد في أي تعويض للفلسطينيين، في أي وقت ومن أي مكان هُجروا اليه، وخصوصا أولئك المليون فلسطيني الذين أصابتهم نكبة 1948. حتى المناطق التي تركها الاسرائيليون في غزة سوف يتسلمها الفلسطينيون قاعا صفصفا، لا بناء فيها ولا شجر, المستوطن الاسرائيلي في غزة كان يحصل على كمية من المياه تعادل خمس مرات ما يحصل عليه الفلسطيني في غزة، وعلى مساحة ارض تبلغ سبعمئة مرة على ما يتوافر للفلسطيني في قطاعه، ذلك أبشع ما يمكن أن يحدث لشعب.
الاتفاق السلمي الذي يسمى «اتفاق أوسلو» حرم الفلسطينيين من جملة من الحقوق، منها اتصالهم ببعضهم، فقد تم تقسيم غزة الى أربع مقاطعات تتخللها طرق اسرائيلية، مرصعة بمراكز مراقبة وتفتيش، تفتح في أوقات غير منتظمة يقررها الاسرائيليون كيف ومتى شاءوا,
صحافي بريطاني يصف عذاب الانتقال للمواطن الفلسطيني كالتالي: «ان أراد طفل فلسطيني الذهاب الى المدرسة من مدينة غزة الى رفح القريبة، فعليه أن يبدأ المشي الى المدرسة عند الساعة الثالثة صباحا، حتى يصل الى مدرسته في موعد الدرس الأول، ومن ثم عليه أن يبدأ العودة الى بيته الساعة الرابعة بعد الظهر، عله يصل بيته في منتصف الليل».
وهل نحن بحاجة لهذا الوصف وشاشات التلفزيون العربية والأجنبية تنقل لنا بصور حية هذا العذاب اليومي، سيارات الاسعاف كثيرا ما تُوقًف عند نقاط التفتيش لساعات, منذ عام الفين فقط نحو ثمانين فلسطينيا فقدوا حياتهم بسبب هذا التوقف القسري، وكانوا في حاجة للعلاج, وحسب تقارير الأمم المتحدة لاحصاءات السكان، فان ستة وخمسين مولودا فلسطينيا ولدوا في نقاط التفتيش الاسرائيلية، بين أواخر عام 2000 وصيف 2003، نصفهم تقريبا ولدوا موتى،كما توفيت تسعة عشرة امرأة على شفا الوضع في هذه النقاط، بسبب نقص وتأخر الاسعاف، وذلك لشكوك اسرائيلية غير مبررة.
ليس من المؤمل أن يحدث الانسحاب الاسرائيلي من غزة أو شمال الضفة الغربية أي تحسن في وضع الفلسطينيين، فتقارير البنك الدولي التي نشرت في أكثر من دراسة تقول ان الوضع الاقتصادي يزداد تدهورا، فبين عام 2000 الى عام 2005 تناقص الدخل الفلسطيني للفرد بنحو الثلث، وان نحو نصف الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر (فقط دولاران في اليوم) وفي غزة الوضع أسوأ من ذلك، فتوقع قرب حدوث كارثة اقتصادية، لم يعد بالمقدور تفاديها، هو ما تؤكد عليه تقارير المؤسسات الدولية.
قبل اتفاقات اوسلو كان يمكن للفلسطيني أن يتنقل بين الضفة الغربية وغزة، ويعمل بعضهم في اسرائيل، كانت اسرائيل تشغل هذه اليد العاملة الرخيصة، وتستفيد من سوق الأرض المحتلة لتصريف منتجاتها، اليوم فقط عدد قليل من الفلسطينيين يسمح لهم أن يعملوا في الداخل الاسرائيلي،حتى أصبح العاطلون عن العمل تصل أعدادهم في بعض النسب الى ثلاثين في المئة من القوة العاملة، ما يعني استقطاب اكبر للقوى السياسية في صفوف هؤلاء العاطلين وزيادة الاحباط في نفوسهم.
معركة الفلسطينيين في هذه المرحلة هي معركة سياسية، تتلخص في فتح المعابر لانتشال الاقتصاد من الهوة المنتظرة، وفي الوصول الى تفاهم لحقن الدم الفلسطيني بين القوى المتصارعة، والقول ان الانسحاب من غزة هو «بداية النهاية للاحتلال» أو «هو انتصار للبندقية» هو قول في حده الأدنى مضلل وفي سقفه سياسي، فالانسحاب من غزة يُمكن اسرائيل من تنفيذ «خطة آلون الموضوعة عام 1967» والقائلة «باغتصاب ارض خصبة ومناطق مياه من الضفة الغربية،وارجاع الباقي اما للأردن وقتها، أو لحكم فلسطيني محلي», تلك الفلسفة لها من يبررها اليوم عن طريق ارغام الفلسطينيين اما للاقتتال بين بعضهم أو النزوح «الطوعي» هذه الفلسفة تحتاج الى أن يعمل الفلسطينيون عقلهم كي يضحدوها، لا أن يفتحوا نيران بنادقهم على بعضهم للبحث عن منتصر وخاسر، ان حدث هذا، فإن القضية سوف تستمر في النفق المظلم الطويل.
كاتب كويتي