المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إندونيسيا والإسلام .. من بوابة رحيل عالم



سلسبيل
09-09-2005, 09:40 AM
أمير طاهري


تلك علامة غريبة من علامات هذا الزمن الذي نعيشه. ففي الوقت الذي تحصل فيه آخر تصريحات الارهابي الهارب ايمن الظواهري على الاولوية في وسائل الاعلام، فإن موت واحد من اكثر العلماء الاسلاميين المعاصرين تنورا لا يحظى بأي ذكر تقريبا. ومع ذلك فمن المؤكد ان تأثير نور خالص مجيد على تطوير الفكر الاسلامي سيكون له اثر اكبر من افكار الظواهري او زميله الهارب اسامة بن لادن.

وكان مجيد الذي توفي في الاسبوع الماضي عن عمر يناهز 66 سنة، وهو واحد من اجرأ المفكرين الاسلاميين الاندونيسيين، ومسؤول، بدرجة كبيرة، عن هزيمة التيارات المتطرفة والمتزمتة التي ظهرت هناك في العقود القليلة الماضية.

وقد ترك زوجة وابنة هي ناديا مجيد، 34 سنة، وابنا هو احمد ميخائيل مجيد، 32 سنة.

وكان نور خالص مجيد شخصية حقيقية من شخصيات التنوير في اكبر الدول الاسلامية سكانا. وقد ولد في عام 1939 في الطرف الشرقي من جزيرة جافا لأب يشتغل بالوعظ والتدريس، وقضى مجيد طفولته في المدارس الدينية يتعلم العربية والفقه. وقد منحه ذلك احساسا قويا بالهوية، الذي اتاح له بالتالي الاتصال بالأفكار الاخرى بدون الخوف من الانبهار.

وأوضح لي مجيد في لقاء معه في اندونيسيا عام 1998، واندونيسيا تدخل مرحلة من الاضطراب السياسي. «ان هؤلاء الذين يرفضون الغرب، او كل الحضارات غير الاسلامية، لا يثقون بأنفسهم. ثم هناك الذين ينبهرون بالحضارة الغربية، ويشعرون بالخجل لأنهم لم يحققوا ذاتهم».

غير ان مجيد يرفض الفكرة السائدة بين الاسلاميين بأن الاتصال بالحضارات غير الاسلامية هي نوع من التلوث. وبعدما انهى تعليمه الاسلامي، تعلم الهولندية والإنجليزية وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو في عام 1984.

بالنسبة لابن واعظ مسلم يعتبر ذلك مسارا غير مألوف. وفي نفس الوقت، فإن الاسلام في اندونيسيا هيمنت عليه جماعة «نهضة العلماء»، التي اسست اصلا كمنظمة مناهضة للاستعمار، ما يعد نوعا من التراجع عن عالم السيطرة الغربية الى الاسلام. اسست المدارس الدينية في القرن التاسع عشر كرد فعل على السياسة الاخلاقية الهولندية، التي كان يخشاها كثير من المسلمين، وهي سياسة كانت تهدف في الاساس الى إضعاف السمة الاسلامية في جزر الهند الشرقية التابعة لهولندا. كانت جمعية نهضة العلماء تمقت كل ما هو غربي ابتداء من اللغة الهولندية مرورا باللباس الغربي، وقبل كل شيء، العلوم الغربية. إلا ان استراتيجية الجمعية ادت الى استبعاد المسلمين المتدينين من المواقع الرئيسية في الادارة والاقتصاد والقوات المسلحة. اما افضل الوظائف، فقد كانت تذهب الى الذين تلقوا تعليما غربيا ويتحدثون اللغة الهولندية، مما يعني ان التقدم الاجتماعي الاقتصادي السريع كان حكرا على الاقليات غير المسلمة مثل الصينيين والهندوس، اذ ليس لدى هؤلاء ما يتعارض مع توفير تعليم غربي لأبنائهم.

يقول مجيد ان كثرا من المسلمين كان يخشى أي نوع من الصلة بالتعليم الغربي، لأنه لم يكن لديهم اعتقاد بأن الاسلام من القوة بمكان ان يكون لديه ثقافته الخاصة في مواجهة الثقافة العالمية المهيمنة، فيما لم تكن لديه مثل هذه المخاوف، بل على العكس تماما. يقول مجيد انه يثق بقوة في مقدرة الاسلام على الصعود، وفي نفس الوقت يرفض مجيد فكرة ما بعد الحداثة مثل ارتداء ملابس الجنس الآخر وتغيير الشكل، فقد كان يقول: «اذا كنت تعرف نفسك، فبوسعك ان تفهم الآخرين وتتعلم منهم. ولكن اذا كان الشخص يفتقر الى معرفة نفسه وله مواقف مختلفة، فإنه لن يتعلم من الآخرين او يعلمهم».

ولفترة تقرب من 20 عاما كان خلالها يقوم بالتدريس في المعهد الاسلامي بأندونيسيا كانت هذه رسالة مجيد.

وقد أخذ جيل من باحثي تلك الرسالة وحولوها، بالمقابل، الى ملايين من اقرانهم المسلمين عبر انحاء الأرخبيل. وقد تقدم ذلك الجيل الى الطليعة تقريبا في الفترة ذاتها التي كانت تظهر فيها التيارات الجديدة والمتطرفة من الاسلام في اندونيسيا، والتي غالبا ما تستورد من الشرق الأوسط. وهذه الحركات، التي تمتد من الاخوان المسلمين الى الجمعية الاسلامية المتزمتة، تعظ برسالة اقصاء داعية المسلمين الاندونيسيين الى اقامة جدران بوجه الجاليات الأخرى.

غير أن رسالة مجيد كانت رسالة انفتاح واحتواء. وقد رفض فكرة ان جميع الأديان، باستثناء الاسلام، أبطلت وبالتالي لا قيمة لها. وكان التسامح والتعددية والتنوع قيما اعتبرها مجيد ضرورية ليس فقط للسلام الاجتماعي في أندونيسيا وانما للتعايش السلمي بين الشعوب في عصر العولمة.

وكذلك رفض النزعة القومية باعتبارها «واحدة من ابتكارات الغرب الهدامة»، وقد أحب مجيد أن يصف اندونيسيا باعتبارها «قوميات موحدة أكثر منها شعبا».

لقد رأى في إندونيسيا دولة «متخيلة».

وكانت كلمة اندونيسيا بالذات قد ابتكرها الاثنولوجيون الهولنديون لتوصيف مناطق جنوب شرق آسيا التي صارت تحت التأثير الاثني والثقافي الهندي. وتبنت الجماعات المناهضة للكولونيالية ومن أجل الاستقلال الكلمة في أواخر عشرينات القرن العشرين. ثم حاولوا صياغة معيار للوحدة في أرخبيل يضم 17 ألف جزيرة وأكثر من 100 اثنية مختلفة عبر ابتكار لغة مشتركة تحل محل عشرات اللغات المحلية.

ان البنية المثالية لأندونيسيا كدولة قومية جديدة كان لها أن تكون بينية فيدرالية. غير أن ذلك رفض من جانب مؤسسيها، وخصوصا سوكارنو الذي كان يحلم بإقامة دولة قوية أكثر وبلد يتميز بالرخاء.

ومع الصلاحيات المتركزة بيد جاكارتا، كان من غير الممكن تجنب هيمنة الأيديولوجيات الشمولية خلال فترة قصيرة على النخبة الحاكمة الجديدة. فخلال عقد من الاستقلال انقسمت تلك النخبة فيما بينها إلى يمين يرفع القومانية الفاشية، ويسار يرفع راية الاشتراكية. كذلك شق الانقسام القوات المسلحة الإندونيسية إلى عدة أقسام وآلت إلى المذبحة الكبرى التي وقعت ضد الشيوعيين في فترة السبعينات.

ورأى مجيد إن الإسلاموية هي نسخة جديدة عن الأيديولوجيات الشمولية وهذه المرة ترتدي ملابس دينية. وهو يحب أن يقول إن «استخدام التدين كأداة سياسية خطير للسياسة والدين معا».

لكن ذلك لا يعني أن مجيد كان يبشر بأفكار علمانية متطرفة شبيهة بتلك التي قدمها أتاتورك في تركيا،إذ اقر أن الشعب المؤمن لا يمكن التأثير عليه إلا من خلال قناعاته الدينية عندما يتخذ مواقف سياسية. وليس لأي دولة الحق في التدخل بالطريقة التي يعيش بها الناس أو وفقها يمارسون شعائرهم الدينية كأفراد. لكن الشيء غير المقبول هو استخدام قوة الدولة لفرض تأويل ما للدين باسم الإرادة الجماعية.

والى ذلك فقد ساعد مجيد في نشر الكثير من المفاهيم الكلاسيكية للسياسة الإسلامية التي تخيف الإسلامويين وهذا يشمل «مصلحة» وهو مبدأ «المنفعة العامة» التي تعد الأداة الأساسية لتنفيذ السياسة، مثلما يشمل {التمكين} وهو مبدأ «الحكم مع إجماع حر للشعب».

كذلك هناك مفهوم «الصبر» والذي يشترط أنه لإنجاز نموذج ما يتطلب العمل الشاق في المعارضة في العالم الحقيقي ومن الأفضل الانتظار لفرص مستقبلية للقيام بذلك.

سيفتقد مجيد بشكل موجع في وقت عودة الإسلامويين إلى وضع هجومي داخل إندونيسيا حيث أنهم يحاولون تسريب رؤيتهم الاستبدادية للدين.

كان مجيد يؤمن بأن رجال الدين المسلمين والمثقفين بشكل عام عليهم مقاومة الإغراء بأن يصبحوا حكاما بدلا من لعب دورهم كضمير لمجتمعاتهم، ولكنه وفي عام 2004 بدا وللحظة واحدة وكأنه يسعى إلى تجاهل نصيحته ليفكر بترشيح نفسه للرئاسة عن حزب غولكار الذي يعد واحدا من أكبر الأحزاب الإندونيسية، لكن لحسن الحظ أوقف مجيد المعروف باسم شوق نور على يد ملاكه الحارس في آخر لحظة.

فلنترحم عليه.