فاطمي
09-08-2005, 04:33 PM
رشيد الخيون
تستدعي كارثة بحجم كارثة جسر الأئمة، نافَ ضحاياها على ألف عراقي، النظر إلى تاريخ جغرافية المزارات بنواحي العراق، وهي تنتشر من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، وعلى مختلف الديانات والمذاهب. إلا الصابئة المندائيين فلم يحتفظوا بمزار، لأن تقليدهم الديني يوصي أن لا يحتفظ بالقبر لأكثر من خمسة وأربعين يوماً، فهي الفترة الكافية لأن تغادر الروح إلى مكان الحساب. ومع ذلك تعلموا من المحيط، فأقاموا مقابرهم، لكن بلا كرامات ونذور.
وبمخيلة جامحة جعل العراقيون لآدم ونوح مدفناً في الضريح العلوي، وعلى زائر صاحب الضريح الاعتراف بالقول: «السلام عليك وعلى ضجيعيك». وأن تعلو قبة بمقبرة النجف للنبيين صالح وهود. وهما حسب «قصص الأنبياء» سكنا الأحقاف بين عُمان وحضرموت. وتجد مزارات يهودية: ذي الكفل أو حزقيال على الفرات قريباً من بابل. وعزرا، أو العزير، على دجلة بين ميسان والبصرة، ومراقد ومزارات أخرى ببغداد. وبالموصل هناك مرقد النبي يونس، أو ذو النون. وكان المكان معبداً آشورياً، ثم ديراً مسيحياً، ثم صار جامعاً. وبالموصل أيضاً مرقد النبي جرجيس، عمره المسيحيون باسم مار جرجيس، والمسلمون شيدوا قربه مسجداً ومقاماً بالاسم نفسه. وبالقوش المسيحية من نواحي الموصل هناك مرقد للنبي ناحوم أحد أنبياء بني إسرائيل حسب «قاموس الكتاب المقدس». ولكل هذا ورد في ديباجة مسودة الدستور الجديد: العراق أرض الأنبياء.
وإلى جانب ذلك سعى العراقيون إلى زرع بلادهم بمزارات ومراقد للأئمة والأولياء، تكثر في المناطق الشيعية والسُنِّية والكاكائية والأيزيدية على السواء. فلا غرابة من وجود أكثر من مرقد لأولاد موسى الكاظم، وباسم محمد، وقد تقاسمتها الطائفتان: محمد الدُري بالدور من نواحي سامراء، ومحمد المعروف بالشيخ حديد بحديثة من توابع الأنبار، وسدنتهما وزوارهما من أهل السُنَّة (القباب المخروطية بالعراق). بينما يزور مرقد أخيهما السيد محمد ببلد، والمعروف بسبع الدجيل، الشيعة فقط. كذا الحال بالنسبة إلى مرقدي الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري بسامراء، وسط كثافة وسدانة سُنِّية. وهناك مراقد لأولاد أئمة ما زالت مفتوحة بالموصل، شيدها حاكمها الشيعي بدر لؤلؤ في القرن السابع الهجري. وتزدحم بغداد بالمراقد: الإمام أبي حنيفة، يقابله في ضفة الكرخ موسى الكاظم وحفيده. ووسطها تعلو قبة الشيخ عبد القادر الكيلاني، فتحولت المنطقة من اسمها العباسي باب الأزج إلى باب الشيخ. وبالكرخ تحولت مقبرة باب الدير المسيحية إلى مقبرة الشيخ معروف الكرخي، وحول قبته تزاحمت مراقد شيوخ الصوفية: الجنيد، والشبلي، والسقطي. وتعلو وسط المقبرة قبة رشيقة مخروطية الشكل لزمرد خاتون، والدة الخليفة الناصر لدين الله (ت 622هـ). والأعجب من التبادل المذهبي بين الشيعة والسُنَّة على المراقد ـ تحول مرقد أبي الخلال شيخ الحنابلة إلى مكان شيعي ينطلق منه موكب عزاء في عاشوراء ـ يجد مؤسس الديانة السيخية (بابا نانك) ضريحاً له في مقبرة الكرخي، نقش على واجهته: «إلى بغداد قصد بابا نانك مسافراً، وعند أبوابها اتخذ لنفسه مسكناً». واحتفل أتباعه ووضعوا نصباً تذكارياً على ضريحه بمناسبة ميلاده الخمسمائة (23 نوفمبر 1969).
عادة لا ينظر الأتباع في ما يُخالف عقائدهم: رواية دفن الإمام علي بالكوفة، ولو علم الشيعة مَنْ هو المدفون بالنجف لكفوا عن زيارته ورجموه بالحجارة (الخطيب، تاريخ بغداد). ولا يهمهم خراب مرقد أبي حنيفة، وحرق مرقد الكرخي، وإزالة قبر الإمام الحسين، وحرق مرقد الكيلاني، وكذا الحال مع المرقد الكاظمي عدة مرات. ويكفي أن فيضان السنة 554هـ ببغداد خسف «القبور المبنية، وخرج الموتى على رأس الماء» (الكامل في التاريخ). وأن الأيزيديين وإن شاهدوا الجنود العثمانيين يحرقون عظام شيخهم آدي، وأزالوا قبره، لكنهم أعادوا البناء، حتى من دون رفات، وأخذوا يؤدون الطقوس له بأقوى من السابق. ومثلما يستشفي المسيحيون بمزار مارت شموني بعينكاوة، وهي امرأة مؤمنة أعدمت مع أولادها من قبل الوثنيين، سعى الشيعة، ومن زمن غابر، يستشفون بالمرقد العلوي. قال ابن الحجاج (ت 391هـ):
ياصاحب القبة البيضاء في النجف
مَنْ زار قبرك واستشفى لديك شفي
وكذا يفعل أهل السُنَّة مع مرقد الشيخ الكيلاني، فهناك يزدحم الزوار، ومن مختلف البلدان، طلباً للشفاء وقضاء الحاجات.
لقد أشارت كارثة الجسر، الأربعاء الماضي، إلى أكثر من سؤال حول هوس العراقي بخيال الموتى، مثلما هوسه بالحزن، ويكاد لا يميز الغريب بين أغنية في عرس أو مرثية في مأتم. وللأمرين جذور تاريخية، منها ما يتعلق بالمنع القسري القديم، والخلاف المزمن مع السلطة، حتى أخذ مع الأيام طابع المعاندة.
لكن ما يثير الغرابة حقاً أن الدولة نفسها، ممثلة برئيسها أحمد حسن البكر، أخذت تكرس بين الناس الرهبة من المراقد والمزارات. فعلى الرغم من جبروتها وطائفيتها ضد الشيعة، يظهر رئيسها على الشاشة متوسلاً بضريح الحمزة، وقيل هو من سلالة موسى الكاظم أيضا، وهو شيعي بزواره وسدنته، ويقع بمنطقة الفرات الأوسط. ويشاع حول هذا الاهتمام أنه جاء نتيجة رؤيا تتعلق بشفاء الرئيس من مرض عضال، ولا خلاص إلا في تعمير المرقد المذكور، حتى أخذ الناس يسمونه حمزة البكر. إلى جانب ذلك ورد في مذكرات حردان التكريتي أن البكر كان يخشى من العباس بن علي بن أبي طالب، وكانوا يقسمون تحت قبته أن لا يخون بعضهم بعضاً.
وحالياً يظهر من على الشاشة نائب رئيس الجمهورية عادل مهدي معزياً الإمام صاحب الزمان المهدي المنتظر، مع عبارة عجل الله فرجه، بوفاة الكاظم أولاً وبقتلى الجسر ثانياً. هذا إذا علمنا أن عادل مهدي قد خاض أكثر من تجربة فكرية، وكان وزيراً للمالية سلمت بيده مفاتيح معضلات الاقتصاد. ويظهر رئيس الوزراء الجعفري معتبراً الألف قتيل ضرباً من ضروب التضحية من أجل الشعائر. ولا ندري بما أفاد هذا الموت الجماعي المذهب أو صاحب الذكرى!، إنها مساهمة الدولة في دعم اللامعقول، مرة بالمنع القسري وأخرى بمجاراة العقائد السائدة أو مجاملة وتملقاً. بينما عقيدة الدولة المنشودة هي سُوَّس البلاد، لا تكريس الشعائر ولا حجبها قسراً.
تستدعي كارثة بحجم كارثة جسر الأئمة، نافَ ضحاياها على ألف عراقي، النظر إلى تاريخ جغرافية المزارات بنواحي العراق، وهي تنتشر من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، وعلى مختلف الديانات والمذاهب. إلا الصابئة المندائيين فلم يحتفظوا بمزار، لأن تقليدهم الديني يوصي أن لا يحتفظ بالقبر لأكثر من خمسة وأربعين يوماً، فهي الفترة الكافية لأن تغادر الروح إلى مكان الحساب. ومع ذلك تعلموا من المحيط، فأقاموا مقابرهم، لكن بلا كرامات ونذور.
وبمخيلة جامحة جعل العراقيون لآدم ونوح مدفناً في الضريح العلوي، وعلى زائر صاحب الضريح الاعتراف بالقول: «السلام عليك وعلى ضجيعيك». وأن تعلو قبة بمقبرة النجف للنبيين صالح وهود. وهما حسب «قصص الأنبياء» سكنا الأحقاف بين عُمان وحضرموت. وتجد مزارات يهودية: ذي الكفل أو حزقيال على الفرات قريباً من بابل. وعزرا، أو العزير، على دجلة بين ميسان والبصرة، ومراقد ومزارات أخرى ببغداد. وبالموصل هناك مرقد النبي يونس، أو ذو النون. وكان المكان معبداً آشورياً، ثم ديراً مسيحياً، ثم صار جامعاً. وبالموصل أيضاً مرقد النبي جرجيس، عمره المسيحيون باسم مار جرجيس، والمسلمون شيدوا قربه مسجداً ومقاماً بالاسم نفسه. وبالقوش المسيحية من نواحي الموصل هناك مرقد للنبي ناحوم أحد أنبياء بني إسرائيل حسب «قاموس الكتاب المقدس». ولكل هذا ورد في ديباجة مسودة الدستور الجديد: العراق أرض الأنبياء.
وإلى جانب ذلك سعى العراقيون إلى زرع بلادهم بمزارات ومراقد للأئمة والأولياء، تكثر في المناطق الشيعية والسُنِّية والكاكائية والأيزيدية على السواء. فلا غرابة من وجود أكثر من مرقد لأولاد موسى الكاظم، وباسم محمد، وقد تقاسمتها الطائفتان: محمد الدُري بالدور من نواحي سامراء، ومحمد المعروف بالشيخ حديد بحديثة من توابع الأنبار، وسدنتهما وزوارهما من أهل السُنَّة (القباب المخروطية بالعراق). بينما يزور مرقد أخيهما السيد محمد ببلد، والمعروف بسبع الدجيل، الشيعة فقط. كذا الحال بالنسبة إلى مرقدي الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري بسامراء، وسط كثافة وسدانة سُنِّية. وهناك مراقد لأولاد أئمة ما زالت مفتوحة بالموصل، شيدها حاكمها الشيعي بدر لؤلؤ في القرن السابع الهجري. وتزدحم بغداد بالمراقد: الإمام أبي حنيفة، يقابله في ضفة الكرخ موسى الكاظم وحفيده. ووسطها تعلو قبة الشيخ عبد القادر الكيلاني، فتحولت المنطقة من اسمها العباسي باب الأزج إلى باب الشيخ. وبالكرخ تحولت مقبرة باب الدير المسيحية إلى مقبرة الشيخ معروف الكرخي، وحول قبته تزاحمت مراقد شيوخ الصوفية: الجنيد، والشبلي، والسقطي. وتعلو وسط المقبرة قبة رشيقة مخروطية الشكل لزمرد خاتون، والدة الخليفة الناصر لدين الله (ت 622هـ). والأعجب من التبادل المذهبي بين الشيعة والسُنَّة على المراقد ـ تحول مرقد أبي الخلال شيخ الحنابلة إلى مكان شيعي ينطلق منه موكب عزاء في عاشوراء ـ يجد مؤسس الديانة السيخية (بابا نانك) ضريحاً له في مقبرة الكرخي، نقش على واجهته: «إلى بغداد قصد بابا نانك مسافراً، وعند أبوابها اتخذ لنفسه مسكناً». واحتفل أتباعه ووضعوا نصباً تذكارياً على ضريحه بمناسبة ميلاده الخمسمائة (23 نوفمبر 1969).
عادة لا ينظر الأتباع في ما يُخالف عقائدهم: رواية دفن الإمام علي بالكوفة، ولو علم الشيعة مَنْ هو المدفون بالنجف لكفوا عن زيارته ورجموه بالحجارة (الخطيب، تاريخ بغداد). ولا يهمهم خراب مرقد أبي حنيفة، وحرق مرقد الكرخي، وإزالة قبر الإمام الحسين، وحرق مرقد الكيلاني، وكذا الحال مع المرقد الكاظمي عدة مرات. ويكفي أن فيضان السنة 554هـ ببغداد خسف «القبور المبنية، وخرج الموتى على رأس الماء» (الكامل في التاريخ). وأن الأيزيديين وإن شاهدوا الجنود العثمانيين يحرقون عظام شيخهم آدي، وأزالوا قبره، لكنهم أعادوا البناء، حتى من دون رفات، وأخذوا يؤدون الطقوس له بأقوى من السابق. ومثلما يستشفي المسيحيون بمزار مارت شموني بعينكاوة، وهي امرأة مؤمنة أعدمت مع أولادها من قبل الوثنيين، سعى الشيعة، ومن زمن غابر، يستشفون بالمرقد العلوي. قال ابن الحجاج (ت 391هـ):
ياصاحب القبة البيضاء في النجف
مَنْ زار قبرك واستشفى لديك شفي
وكذا يفعل أهل السُنَّة مع مرقد الشيخ الكيلاني، فهناك يزدحم الزوار، ومن مختلف البلدان، طلباً للشفاء وقضاء الحاجات.
لقد أشارت كارثة الجسر، الأربعاء الماضي، إلى أكثر من سؤال حول هوس العراقي بخيال الموتى، مثلما هوسه بالحزن، ويكاد لا يميز الغريب بين أغنية في عرس أو مرثية في مأتم. وللأمرين جذور تاريخية، منها ما يتعلق بالمنع القسري القديم، والخلاف المزمن مع السلطة، حتى أخذ مع الأيام طابع المعاندة.
لكن ما يثير الغرابة حقاً أن الدولة نفسها، ممثلة برئيسها أحمد حسن البكر، أخذت تكرس بين الناس الرهبة من المراقد والمزارات. فعلى الرغم من جبروتها وطائفيتها ضد الشيعة، يظهر رئيسها على الشاشة متوسلاً بضريح الحمزة، وقيل هو من سلالة موسى الكاظم أيضا، وهو شيعي بزواره وسدنته، ويقع بمنطقة الفرات الأوسط. ويشاع حول هذا الاهتمام أنه جاء نتيجة رؤيا تتعلق بشفاء الرئيس من مرض عضال، ولا خلاص إلا في تعمير المرقد المذكور، حتى أخذ الناس يسمونه حمزة البكر. إلى جانب ذلك ورد في مذكرات حردان التكريتي أن البكر كان يخشى من العباس بن علي بن أبي طالب، وكانوا يقسمون تحت قبته أن لا يخون بعضهم بعضاً.
وحالياً يظهر من على الشاشة نائب رئيس الجمهورية عادل مهدي معزياً الإمام صاحب الزمان المهدي المنتظر، مع عبارة عجل الله فرجه، بوفاة الكاظم أولاً وبقتلى الجسر ثانياً. هذا إذا علمنا أن عادل مهدي قد خاض أكثر من تجربة فكرية، وكان وزيراً للمالية سلمت بيده مفاتيح معضلات الاقتصاد. ويظهر رئيس الوزراء الجعفري معتبراً الألف قتيل ضرباً من ضروب التضحية من أجل الشعائر. ولا ندري بما أفاد هذا الموت الجماعي المذهب أو صاحب الذكرى!، إنها مساهمة الدولة في دعم اللامعقول، مرة بالمنع القسري وأخرى بمجاراة العقائد السائدة أو مجاملة وتملقاً. بينما عقيدة الدولة المنشودة هي سُوَّس البلاد، لا تكريس الشعائر ولا حجبها قسراً.