سمير
09-08-2005, 02:45 PM
الضغط الأميركي ـ السوري المتبادل، قد يولّد تقارباً، والبديل عن النظام السوري نظام القاعدة
الحديث مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، يشتمل على الفكر والسياسة والثقافة بأسلوب السهل الممتنع، إذ تحدثه لبنانياً بالقضايا الوطنية، وعربياً بهموم وشجون المنطقة العربية، وإسلامياً إزاء الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية، حيث تعصف فيها المذهبيات والعصبيات...
الحديث مع سماحته تمحور حول قضايا وطنية، وعربية، ودولية، وتفاصيل تتعلق بالطائفة الشيعية ودورها وأوضاعها.
وهنا نص الحوار:
النظام السياسي في لبنان
س: يبدو أن النظام السياسي في لبنان غير قادر على إنتاج حالة استقرار دون أن نقول حالة وفاق؟
ـ أنا أنقد لبنان منذ ما يسمى الاستقلال، إذا لم تحكمه قاعدة سياسية، فالذين جاؤوا كمسؤولين عن لبنان، كانوا يعيشون تجربة الحكم دون أن يكون هناك برنامج لما عليه الحكم في معنى الدولة، لذلك كانت دولة، الأمر الواقع. ويمكن الإشارة إلى دور الرئيس فؤاد شهاب في تنظيم شيء من الدولة وذلك عندما استدعى أحد الخبراء حتى يدرس كيفية تنظيم لبنان، سواء من الناحية الاقتصادية أو الناحية الإدارية. لذلك لم ينشأ لبنان كدولة، بل نشأ كشخصيات تملك وهجاً معيناً في الواقع اللبناني، خصوصاً مع النظام الطائفي الذي كان عرفاً ولم يكن قانوناً. لكن الشيء الذي نسجله للفريق الأول الذي حكم لبنان، أنه كان فريقاً يملك قاعدة سياسية، بحسب تصوّره للسياسة، بغض النظر عما إذا كان هذا صواباً أو خطأً، توافق عليه أو لا توافق، فأنت تستطيع عندما تدرس رياض الصلح أو بشارة الخوري وإميل اده، تستطيع أن تحدد الخطوط التي تحكم ذهنيتهم السياسية، وتناقشهم على أساس القاعدة التي تحكم أداءهم السياسي.
أما هذا التطور السلبي للأداء السياسي في لبنان، فكان من خلال الصراعات الطائفية، أو من خلال الحرب التي لا أسميها حرباً طائفية، بل حرباً كسنجرية، أثارها كيسنجر لتصفية القضية الفلسطينية في لبنان، وهذا النوع من الإرباك السياسي، ومجيء سياسيين من هنا وهناك نتيجة تسويات، جعل الخط السياسي في لبنان لا يتبع لقاعدة، بل يتبع لتسويات. ولذلك، فقد لبنان الشخصيات التي تفكر على أساس قاعدة سياسية تحكم برنامجها السياسي في الحكم. لذا، من الصعب جداً أن تناقش أحد السياسيين الطارئين أخيراً في سياستهم، لأنه ليست هناك عناصر يمكن أن تمسك فيها هذا الخط السياسي أو ذاك، حتى تناقشه كما تناقش الخطوط السياسية السابقة التي كانت لدى السياسيين القدامى.
لذلك، من الطبيعي جداً، عندما لا يكون هناك قاعدة للبنان الدولة والحكم، أن لا يكون هناك استقرار في لبنان. وأنا أعتقد أن النظام الطائفي، من غير المستبعد أن يكون مسؤولاً عن ذلك، لأن النظام الطائفي يجعل كلّ فريق يفكّر في أن يأخذ لنفسه موقعاً أمام مواقع الآخرين، بالطريقة التي يفسح فيها في المجال لأكثر من ثغرة يمكن أن ينفذ منها الآخرون، لأنه عندما تفقد القوة الذاتية الداخلية التي تجعلك قوةً تجاه الطائفة الثانية، فإنك تلجأ لأن تأخذ هذه القوة من خلال الخارج، وهكذا تصبح كل طائفة محسوبة على فريق خارجي معيّن، أو على محور دولي أو إقليمي.
لذلك، عندما تتجاذب المحاور الدولية والمحاور الإقليمية، إضافة إلى الدوائر الطائفية، فمن الصعب أن يكون هناك استقرار، لأن كل واحد يجذب المسألة من خلاله. لذلك، أتصور أنه لن يحدث الاستقرار على مستوى الدولة ما دام النظام الطائفي موجوداً، وقد كنت أكرر دائماً أيام الحرب أن لاءات ثلاث تحكم لبنان: «لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار».
دور الموارنة في النظام
س: إذا عدنا إلى جذور الأسس الفكرية لقيام لبنان، هنالك دور لشخصيات، كالرئيس الراحل فؤاد شهاب، أو الفريق الأول للاستقلال، ولكن تبدو الأمور كأن استقلال لبنان جاء نتيجة تسوية، وبالتالي عدم الاستقرار قد يعود إلى الأسس الفكرية التي نشأ عليها لبنان. كمرجعية، هل تعتقد أن لبنان قادر بسبب وضعه «التسووي» على الاستمرار بهذه الطريقة، أم يمكن أن يكون هناك وضعية جديدة بصيغة غير «تسووية»؟ وأستطرد فأقول: هل تراجع حال القومية العربية لصالح الحالة الإسلامية الدينية، يجعل لبنان مستمراً، أم يضعه في ظلمة الطوائف؟
ـ بدايةً، أتذكر كلمة لريمون إده، أن لبنان وجد ليكون دولة للموارنة. ولعل ريمون إده كان صريحاً حتى في ما لا يقبل الصراحة، وهذا الكلام ينطبق مع السياسة الفرنسية التي أعقبت الانتداب الفرنسي للبنان. ومن الطبيعي أن يحافظ الموارنة على أن يكون لبنان لهم، وأن يكون الآخرون عناصر تؤكِّد هذا الموقع، وتستجيب لكل امتيازاتهم. ولعلنا لا ننسى ما كان يقال في مسألة الامتيازات والحرمان. إنني أتصوّر، أنّه عندما نشأ لبنان ليكون للموارنة، عمل الموارنة بكل ما لديهم من طاقات، من خلال إخلاصهم لدورهم ولموقعهم، وربما لا يسجل أحد عليهم نقطة سوداء في هذا المجال، بقطع النظر عن طبيعة السلوك السياسي والاقتصادي، لأن كل شخص يرى أن له الحق، ومن حقه أن يحافظ على هذا الحق.
لكنّ المسألة في رصدنا لتأسيس لبنان، أنّ لبنان لم ينشأ ليكون وطناً لبنيه، وإنما نشأ ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة. إنه ساحة الاختبار والتجارب، فإذا أرادوا إيجاد حالة طائفية بين المسيحيين والمسلمين في مصر أو في غير مصر، فلبنان هو الساحة التي تعمل على هذا النوع من الحساسيات الطائفية من خلال تعدّد الطوائف، وإذا أرادوا حرباً دينية، أشعلوها بين المسلمين والمسيحيين، وإذا أرادوا إيجاد حالة بين السنّة والشيعة، فهناك إرباكات تعمل على إيجاد مشاكل وتعقيدات بينهم، وهكذا بين اليسار واليمين... ونحن نعرف أن الحرب الباردة كانت تنعكس صراعاً في لبنان، فكان هناك فريق لبناني مع الغرب، وفريق مع الشرق. وهكذا رأينا كيف كانت تخلط الأوراق في لبنان لحسابات خارجية، وكيف توزّعت القضية الفلسطينية بين كل الدول العربية، فأصبح لكل دولة عربية ممثل في المقاومة الفلسطينية، لتعمل على إرباك بعض الأوضاع في هذه الدولة العربية أو تلك.
لذلك، لم ينشأ لبنان كدولة طبيعية، والنظام الطائفي الذي كان عرفاً ثم صار قانوناً، لن يثبِّت استقراراً للبلد، باعتبار أنّ الطوائف تمثّل ولايات غير متحدة، ولكنها قد تأخذ عنوان لبنان، وكنت أقول دائماً، إنني أحمل مصباحاً في النهار لأرى لبنانياً، فلا أرى إلا طائفياً.
هذا كله يمنع لبنان من أن يستقر، لأن ليس هناك شيء اسمه لبنان يحكم وجدان الإنسان اللبناني، بحيث يشعر أنه في دولة يحصل فيها على حقوقه ويقوم بواجباته كمواطن. وإنني أتصور أن بقاء لبنان التسوية على أساس طائفي، يُجدَّد في كل مرحلة، كما جُدِّد بشكل غير معقول في الانتخابات النيابية الماضية، فوجدنا الطائفية تفترس حتى الأشخاص الذين يعيشون طهر المواطنة ويعيشون القومية، لأن الظروف الضاغطة حاصرت الجميع، حتى رجع كل واحد منهم إلى طائفيته. لذلك، إذا كان هناك جيل جديد يمكن أن يفكّر في لبنان المواطن وينسف لبنان الطائفي ـ ولا أقول ينسف الطوائف، لأنها تمثل التنوّع الإنساني ـ إذا أمكن ذلك، وإذا كان هؤلاء الذين يتحدثون عن 14 آذار مخلصين لما يُسمّى 14 آذار في شعارات هذا الجيل الشاب، الذي يتطلع إلى مستقبل يمكن أن يجد فيه استقراره ومواطنيته ونموّه وتقدّمه، فعلينا التغيير إلى لبنان المواطن وليس لبنان الطائفي.
السلطة المرجعيـة
س: تتحدثون عن دولة المواطن، ما يعني انتماء المواطن إلى الدولة مباشرة. أين يقع دور المرجعيات الدينية، لأنه حتى الآن، يمر المواطن إلى الدولة عبر مرجعيات دينية؟
- أنا شخصياً من الناس الذين يتحدثون أن لا شيء مقدّس، لا على المستوى الديني في ما نسمّيه مرجعيات دينية، ولا على المستوى السياسي، ومن يسمّى بالمرجعية الدينية هو إنسان كبقية الناس، يخطئ ويصيب، وأنا لا أوافق على أن لا ينقد الرمز الديني، ولا سيما عندما يتدخل في شؤون الناس.
س: ولكنّه يستعمل سلطة إلهية؟!
- وعلينا أن لا نعتبر أن للمرجعية سلطة إلهية.
س: من أين يستمدّ سلطته؟
- يستمد سلطته من كونه رمزاً يمثِّل هذا الدين، والتراكمات التاريخية والتقاليد والعادات، جعلت منه شخصاً إلهياً، إلاّ أنني مثلاً لا أوافق على كلمة القمة الروحية، فهم بشر كبقية البشر، وليسوا روحاً تحلّق في السماء، أو تدخل إلى عمق الإنسان، وفي القرآن الكريم عن النبي(ص): {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ}.
وأستذكر في هذا المجال خطاباً للإمام علي(ع)، وهو خليفة المسلمين، يقول فيه للناس: "لا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحق أن يُقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي".
من هو الذي يقول هذا الكلام؟! هو الإمام علي(ع)، الذي يعتقد المسلمون الشيعة بعصمته.
إنني أعتقد أن إخلاص المرجع الديني لدينه، وصدقه في دينه، يفرض عليه أن يتقبّل النقد، وأن يتنازل عما أخطأ فيه، ولا سيما في القضايا التي ليست من اختصاصه أو خبرته، لأنّ القليل من رجال الدين الذين من يملك الخبرة السياسية أو الاجتماعية. أن يكون رمزاً دينياً في الثقافة الدينية، لا يعني أنه رمز الدين كلّه.
لذلك أنا لا أعتبر أن رجال الدين أو المرجعيات الدينية فوق النقد، بل إنني أدعو الناس إلى أن ينقدوهم بأدب، لأننا نؤمن بالنقد لكل الناس، بمن فيهم رجال الدين، وذلك حتى يعرف رجال الدين أنهم لا يملكون العصمة، وأنهم مجرّد مسؤولين في كل ما يرونه من فِكر يتّصل بالمسألة الثقافية الدينية، أو يتصل بالواقع السياسي، وأن عليهم، إذا كانوا يدلون بالرأي السياسي، أن يتقبّلوا نقد الناس لهم، وخصوصاً أنّهم يدخلون إلى كلّ كهوف السياسة ويصنعون أكثر المغارات للأمّة. يقولون إن المسألة هي المبادئ والقيم، إننا لا نقول إن كل قضية في الواقع تمثّل شيئاً من القيمة وتمثّل شيئاً من المبادئ. لذلك، علينا أن لا نعتبر في واقعنا الذي نعيش فيه، أن شيئاً فيه يحمل عنوان المقدّس، الكل، سواء كانوا رِجال سياسة أو رجال دين أو ثقافة، الكل يجب أن يخضع للنقد الموضوعي العقلاني الذي يضع كل إنسان في موقعه.
لبنان تجاوز الخطر
س: طالما دخلنا في الواقع والتفصيل، تحدثتم عن الانتخابات. نتيجة التمديد، رأينا الرئيس لحود وقد تحالف مع البطريرك صفير ونزل إلى بكركي، رأينا آل الحريري مع المفتي قباني في موقع سياسي وانتخابي واحد، رأينا نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان عملياً مع الرئيس بري وحزب الله. وواقع الأمور، أن البطريرك صفير يتأثر بدوائر الفاتيكان، والمفتي يتأثر برأي المملكة العربية السعودية، وهناك تأثير إيراني في لبنان بالنسبة لأمل وحزب الله. هذا يجعل، إضافةً إلى التدخل الطائفي والمذهبي في لبنان، أن يكون هناك تدخلات دولية، ونحن أمام لجنة دولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري. سؤالي بالتحديد، هو أنّ هذه التدخلات والامتدادات المذهبية – الدولية، ولجنة التحقيق وما ينتج عنها من نتائج لا نعرفها، ألا يجعلك ذلك تحذر من أن يكون هناك مخطط أميركي إسرائيلي؟
- نحن أمام هذه الخلفيات أو الارتباطات الدولية والعربية لبعض الشخصيات، وبقطع النظر عن الإيجابية أو السلبية لهذا الارتباط، لا بدّ من أن نقوم بحملة «توعوية» ثقافية للإنسان اللبناني، لأن يؤكد موقفه في وعيه لوطنه، ويتحرر من أن يكون مجرّد صدى لهذه الدولة أو تلك الدولة أو للآخرين.
س: وما الفرق بين السلطة والدولة؟
- أقول كلبناني، أو بالأحرى كإنسان أعيش في لبنان، وأريد أن «أؤنسن» لبنان، بحيث يكون الوطن إنساناً، أنّ عليَّ أن أعرف أن كل هؤلاء الذين يُقال إنهم يمثلون خلفيات الرموز الدينية، صواباً أو خطأً، إن هؤلاء يفكِّرون في بلادهم، وعليّ أن أفكر في بلدي، وعليّ أن أتمرد على كل من يريد أن يفرض عليّ أن أكون صدى لسياسة خارجية هنا أو هناك، وقد أوافق على سياسة هنا أو هناك، لكن بشرط أن أوافق عن اقتناع، لا أن أكون ظلاً أو صدى. هذه مسألة أولية في هذا المجال.
أما مسألة ما نواجهه من خطورة، يتحدث عنها الإعلام هذه الأيام، وبعض المواقع السياسية، والتي تُخيف أو توحي بالخطر، فإنني لا أوافق هؤلاء على ذلك. لماذا؟ لأن لبنان قد تجاوز مرحلة الخطر، عندما تخطّى مسألة الحرب الأهلية بعد عملية اغتيال الرئيس الحريري، وإنما جرى توظيف سياسي لهذا الاغتيال، فعندما ألصقت المسألة بسوريا، كان الخروج السوري، نتيجة الذهنية التي حمَّلت سوريا مسؤولية اغتيال الحريري، وقد ركب الآخرون هذه الموجة، من أجل إيجاد مناخ معين لحركة ما يسمى بالمعارضة، وتحميل كل الأخطاء للنظام الأمني اللبناني - السوري، باعتبار أن كل السياسيين في لبنان "معصومون" عن كل ما حدث، وأن هناك مجرد أفراد ورموز معينين هم المسؤولون، ما جعل غالبية السياسيين الآخرين الذين عاشوا الجريمة، حتى في ظل النظام الأمني اللبناني ـ السوري، بمنأى عن تحمّل أية مسؤولية،
حتى إنّ الأوضاع السياسية المستجدة برّأتهم من كل شيء، إلى درجة أنّ بعض الذين مارسوا الحكم، وأثيرت علامات استفهام حول ممارستهم للحكم، أصبحوا يحمِّلون أخطاءهم لهذا النظام، بحجّة أنّه هو الذي كان يضغط عليهم، الأمر الذي يساهم في إيجاد مناخٍ يريد تبرئة كلّ الذين سوف يحكمون لبنان من جديد باسم الإصلاح والتغيير والديموقراطية، ما جعلنا نفقد الموضوعية السياسية.
وإنني أتساءل: مَن من اللبنانيين الآن يملك القدرة على أن ينتقد المرحلة السابقة أو المرحلة الحالية، التي تنفتح على مواقع جديدة؟ حيث إن الكثير من التجاذبات السياسية بين سياسيّ وآخر، تنطلق من مسألة أنّ طرفاً تحدّث عن فلان أو نقد فلاناً، فهناك صراع سياسي، فهل يكون نقدي السياسي لشخصيّة معيّنة أصبحت مقدّسة الآن، نقطة سلبية تسقط واقعي السياسي؟! لقد تعدّى الأمر الموضوعية السياسية. ووضعنا ستاراً على كل الواقع السياسي اللبناني، من خلال الحكومات التي تعاقبت منذ التسعينات وحتى التطورات الأخيرة. لقد وضعنا ستاراً، لأن هذا الستار يتناول مقدسات بحسب طبيعة التطورات اللبنانية في هذا المجال.
س: ما يسمونه مقدسات؟
- "نعم"، لذلك، فإنني أتصور المسألة بالنسبة إلى لبنان، كما قلت في خطبة الجمعة، أن الذين يتحدثون بالإصلاح والتغيير، لا بدّ من أن يطالهم الإصلاح والتغيير. لا أتكلم عن شمولية، بل أتكلم عن ظاهرة.
س: أتابعكم بكل ما تتحدثون به وما تعطونه للرأي العام اللبناني والعربي والإسلامي، ولكن عندما أستمع إليكم، أرى أن ما تحملونه في فكركم وقلبكم، يُعبر عن معرفة بخطورة الأمور ودقتها وانتقاد للأوضاع، ولكن، يبدو لي أنكم لا تنقدون بنسبة أكثر من النصف، أي تحتفظون لأنفسكم بأمور أخرى كبيرة، فهل هذا يعود إلى دقة المرحلة؟
- أنا أشكو في بعض الأحيان من عدم المتابعة، إنني أتحدث دائماً مع المواطنين بكل صراحة.
س: هل دعوتم الناس إلى الانتفاض على هذا الواقع؟
- نعم، وغاية الأمر أنني لا أملك الأدوات التي يمكنني من خلالها أن أحرّك الواقع بطريقة واقعية، لكنني أملك التوعية. لعلكم كنت تتابعون أيام الانتخابات انتقادي لمسألة التكليف، وقلت للناس آنذاك، راقبوا ربكم عندما تنتخبون، بقطع النظر عن الجهة التي تنتخبونها. لذلك، لم أنطلق من موقع طائفي، كنت أقول انتخبوا الإنسان الكفوء الذي يملك الكفاءة والإخلاص والصدق والأمانة. هذا ما أتحدث به دائماً. ولهذا، في كل مسيرتي لن أجامل أحداً.
وسأكشف مسألة ربما لا يعرفها الكثيرون؛ في الثمانينات، دعاني المرحوم الرئيس حافظ الأسد إلى اللقاء به، فذهبت، وكان حديثاً صريحاً، حتى إنني قلت له ماذا بعد حافظ الأسد، لأن المسافة بينك وبين أقرب الناس إليك بعيدة جداً، ولم يجب، وليس هذا محل الشاهد، وعندما جئت إلى لبنان، بدأ البعض يهمسون أن السيد ربما «اشتري» من قبل السوريين، قلت لهم عندما ترونني لا أمثل قناعاتي، فلن أكون موجوداً.
الحديث مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، يشتمل على الفكر والسياسة والثقافة بأسلوب السهل الممتنع، إذ تحدثه لبنانياً بالقضايا الوطنية، وعربياً بهموم وشجون المنطقة العربية، وإسلامياً إزاء الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية، حيث تعصف فيها المذهبيات والعصبيات...
الحديث مع سماحته تمحور حول قضايا وطنية، وعربية، ودولية، وتفاصيل تتعلق بالطائفة الشيعية ودورها وأوضاعها.
وهنا نص الحوار:
النظام السياسي في لبنان
س: يبدو أن النظام السياسي في لبنان غير قادر على إنتاج حالة استقرار دون أن نقول حالة وفاق؟
ـ أنا أنقد لبنان منذ ما يسمى الاستقلال، إذا لم تحكمه قاعدة سياسية، فالذين جاؤوا كمسؤولين عن لبنان، كانوا يعيشون تجربة الحكم دون أن يكون هناك برنامج لما عليه الحكم في معنى الدولة، لذلك كانت دولة، الأمر الواقع. ويمكن الإشارة إلى دور الرئيس فؤاد شهاب في تنظيم شيء من الدولة وذلك عندما استدعى أحد الخبراء حتى يدرس كيفية تنظيم لبنان، سواء من الناحية الاقتصادية أو الناحية الإدارية. لذلك لم ينشأ لبنان كدولة، بل نشأ كشخصيات تملك وهجاً معيناً في الواقع اللبناني، خصوصاً مع النظام الطائفي الذي كان عرفاً ولم يكن قانوناً. لكن الشيء الذي نسجله للفريق الأول الذي حكم لبنان، أنه كان فريقاً يملك قاعدة سياسية، بحسب تصوّره للسياسة، بغض النظر عما إذا كان هذا صواباً أو خطأً، توافق عليه أو لا توافق، فأنت تستطيع عندما تدرس رياض الصلح أو بشارة الخوري وإميل اده، تستطيع أن تحدد الخطوط التي تحكم ذهنيتهم السياسية، وتناقشهم على أساس القاعدة التي تحكم أداءهم السياسي.
أما هذا التطور السلبي للأداء السياسي في لبنان، فكان من خلال الصراعات الطائفية، أو من خلال الحرب التي لا أسميها حرباً طائفية، بل حرباً كسنجرية، أثارها كيسنجر لتصفية القضية الفلسطينية في لبنان، وهذا النوع من الإرباك السياسي، ومجيء سياسيين من هنا وهناك نتيجة تسويات، جعل الخط السياسي في لبنان لا يتبع لقاعدة، بل يتبع لتسويات. ولذلك، فقد لبنان الشخصيات التي تفكر على أساس قاعدة سياسية تحكم برنامجها السياسي في الحكم. لذا، من الصعب جداً أن تناقش أحد السياسيين الطارئين أخيراً في سياستهم، لأنه ليست هناك عناصر يمكن أن تمسك فيها هذا الخط السياسي أو ذاك، حتى تناقشه كما تناقش الخطوط السياسية السابقة التي كانت لدى السياسيين القدامى.
لذلك، من الطبيعي جداً، عندما لا يكون هناك قاعدة للبنان الدولة والحكم، أن لا يكون هناك استقرار في لبنان. وأنا أعتقد أن النظام الطائفي، من غير المستبعد أن يكون مسؤولاً عن ذلك، لأن النظام الطائفي يجعل كلّ فريق يفكّر في أن يأخذ لنفسه موقعاً أمام مواقع الآخرين، بالطريقة التي يفسح فيها في المجال لأكثر من ثغرة يمكن أن ينفذ منها الآخرون، لأنه عندما تفقد القوة الذاتية الداخلية التي تجعلك قوةً تجاه الطائفة الثانية، فإنك تلجأ لأن تأخذ هذه القوة من خلال الخارج، وهكذا تصبح كل طائفة محسوبة على فريق خارجي معيّن، أو على محور دولي أو إقليمي.
لذلك، عندما تتجاذب المحاور الدولية والمحاور الإقليمية، إضافة إلى الدوائر الطائفية، فمن الصعب أن يكون هناك استقرار، لأن كل واحد يجذب المسألة من خلاله. لذلك، أتصور أنه لن يحدث الاستقرار على مستوى الدولة ما دام النظام الطائفي موجوداً، وقد كنت أكرر دائماً أيام الحرب أن لاءات ثلاث تحكم لبنان: «لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار».
دور الموارنة في النظام
س: إذا عدنا إلى جذور الأسس الفكرية لقيام لبنان، هنالك دور لشخصيات، كالرئيس الراحل فؤاد شهاب، أو الفريق الأول للاستقلال، ولكن تبدو الأمور كأن استقلال لبنان جاء نتيجة تسوية، وبالتالي عدم الاستقرار قد يعود إلى الأسس الفكرية التي نشأ عليها لبنان. كمرجعية، هل تعتقد أن لبنان قادر بسبب وضعه «التسووي» على الاستمرار بهذه الطريقة، أم يمكن أن يكون هناك وضعية جديدة بصيغة غير «تسووية»؟ وأستطرد فأقول: هل تراجع حال القومية العربية لصالح الحالة الإسلامية الدينية، يجعل لبنان مستمراً، أم يضعه في ظلمة الطوائف؟
ـ بدايةً، أتذكر كلمة لريمون إده، أن لبنان وجد ليكون دولة للموارنة. ولعل ريمون إده كان صريحاً حتى في ما لا يقبل الصراحة، وهذا الكلام ينطبق مع السياسة الفرنسية التي أعقبت الانتداب الفرنسي للبنان. ومن الطبيعي أن يحافظ الموارنة على أن يكون لبنان لهم، وأن يكون الآخرون عناصر تؤكِّد هذا الموقع، وتستجيب لكل امتيازاتهم. ولعلنا لا ننسى ما كان يقال في مسألة الامتيازات والحرمان. إنني أتصوّر، أنّه عندما نشأ لبنان ليكون للموارنة، عمل الموارنة بكل ما لديهم من طاقات، من خلال إخلاصهم لدورهم ولموقعهم، وربما لا يسجل أحد عليهم نقطة سوداء في هذا المجال، بقطع النظر عن طبيعة السلوك السياسي والاقتصادي، لأن كل شخص يرى أن له الحق، ومن حقه أن يحافظ على هذا الحق.
لكنّ المسألة في رصدنا لتأسيس لبنان، أنّ لبنان لم ينشأ ليكون وطناً لبنيه، وإنما نشأ ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة. إنه ساحة الاختبار والتجارب، فإذا أرادوا إيجاد حالة طائفية بين المسيحيين والمسلمين في مصر أو في غير مصر، فلبنان هو الساحة التي تعمل على هذا النوع من الحساسيات الطائفية من خلال تعدّد الطوائف، وإذا أرادوا حرباً دينية، أشعلوها بين المسلمين والمسيحيين، وإذا أرادوا إيجاد حالة بين السنّة والشيعة، فهناك إرباكات تعمل على إيجاد مشاكل وتعقيدات بينهم، وهكذا بين اليسار واليمين... ونحن نعرف أن الحرب الباردة كانت تنعكس صراعاً في لبنان، فكان هناك فريق لبناني مع الغرب، وفريق مع الشرق. وهكذا رأينا كيف كانت تخلط الأوراق في لبنان لحسابات خارجية، وكيف توزّعت القضية الفلسطينية بين كل الدول العربية، فأصبح لكل دولة عربية ممثل في المقاومة الفلسطينية، لتعمل على إرباك بعض الأوضاع في هذه الدولة العربية أو تلك.
لذلك، لم ينشأ لبنان كدولة طبيعية، والنظام الطائفي الذي كان عرفاً ثم صار قانوناً، لن يثبِّت استقراراً للبلد، باعتبار أنّ الطوائف تمثّل ولايات غير متحدة، ولكنها قد تأخذ عنوان لبنان، وكنت أقول دائماً، إنني أحمل مصباحاً في النهار لأرى لبنانياً، فلا أرى إلا طائفياً.
هذا كله يمنع لبنان من أن يستقر، لأن ليس هناك شيء اسمه لبنان يحكم وجدان الإنسان اللبناني، بحيث يشعر أنه في دولة يحصل فيها على حقوقه ويقوم بواجباته كمواطن. وإنني أتصور أن بقاء لبنان التسوية على أساس طائفي، يُجدَّد في كل مرحلة، كما جُدِّد بشكل غير معقول في الانتخابات النيابية الماضية، فوجدنا الطائفية تفترس حتى الأشخاص الذين يعيشون طهر المواطنة ويعيشون القومية، لأن الظروف الضاغطة حاصرت الجميع، حتى رجع كل واحد منهم إلى طائفيته. لذلك، إذا كان هناك جيل جديد يمكن أن يفكّر في لبنان المواطن وينسف لبنان الطائفي ـ ولا أقول ينسف الطوائف، لأنها تمثل التنوّع الإنساني ـ إذا أمكن ذلك، وإذا كان هؤلاء الذين يتحدثون عن 14 آذار مخلصين لما يُسمّى 14 آذار في شعارات هذا الجيل الشاب، الذي يتطلع إلى مستقبل يمكن أن يجد فيه استقراره ومواطنيته ونموّه وتقدّمه، فعلينا التغيير إلى لبنان المواطن وليس لبنان الطائفي.
السلطة المرجعيـة
س: تتحدثون عن دولة المواطن، ما يعني انتماء المواطن إلى الدولة مباشرة. أين يقع دور المرجعيات الدينية، لأنه حتى الآن، يمر المواطن إلى الدولة عبر مرجعيات دينية؟
- أنا شخصياً من الناس الذين يتحدثون أن لا شيء مقدّس، لا على المستوى الديني في ما نسمّيه مرجعيات دينية، ولا على المستوى السياسي، ومن يسمّى بالمرجعية الدينية هو إنسان كبقية الناس، يخطئ ويصيب، وأنا لا أوافق على أن لا ينقد الرمز الديني، ولا سيما عندما يتدخل في شؤون الناس.
س: ولكنّه يستعمل سلطة إلهية؟!
- وعلينا أن لا نعتبر أن للمرجعية سلطة إلهية.
س: من أين يستمدّ سلطته؟
- يستمد سلطته من كونه رمزاً يمثِّل هذا الدين، والتراكمات التاريخية والتقاليد والعادات، جعلت منه شخصاً إلهياً، إلاّ أنني مثلاً لا أوافق على كلمة القمة الروحية، فهم بشر كبقية البشر، وليسوا روحاً تحلّق في السماء، أو تدخل إلى عمق الإنسان، وفي القرآن الكريم عن النبي(ص): {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ}.
وأستذكر في هذا المجال خطاباً للإمام علي(ع)، وهو خليفة المسلمين، يقول فيه للناس: "لا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحق أن يُقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي".
من هو الذي يقول هذا الكلام؟! هو الإمام علي(ع)، الذي يعتقد المسلمون الشيعة بعصمته.
إنني أعتقد أن إخلاص المرجع الديني لدينه، وصدقه في دينه، يفرض عليه أن يتقبّل النقد، وأن يتنازل عما أخطأ فيه، ولا سيما في القضايا التي ليست من اختصاصه أو خبرته، لأنّ القليل من رجال الدين الذين من يملك الخبرة السياسية أو الاجتماعية. أن يكون رمزاً دينياً في الثقافة الدينية، لا يعني أنه رمز الدين كلّه.
لذلك أنا لا أعتبر أن رجال الدين أو المرجعيات الدينية فوق النقد، بل إنني أدعو الناس إلى أن ينقدوهم بأدب، لأننا نؤمن بالنقد لكل الناس، بمن فيهم رجال الدين، وذلك حتى يعرف رجال الدين أنهم لا يملكون العصمة، وأنهم مجرّد مسؤولين في كل ما يرونه من فِكر يتّصل بالمسألة الثقافية الدينية، أو يتصل بالواقع السياسي، وأن عليهم، إذا كانوا يدلون بالرأي السياسي، أن يتقبّلوا نقد الناس لهم، وخصوصاً أنّهم يدخلون إلى كلّ كهوف السياسة ويصنعون أكثر المغارات للأمّة. يقولون إن المسألة هي المبادئ والقيم، إننا لا نقول إن كل قضية في الواقع تمثّل شيئاً من القيمة وتمثّل شيئاً من المبادئ. لذلك، علينا أن لا نعتبر في واقعنا الذي نعيش فيه، أن شيئاً فيه يحمل عنوان المقدّس، الكل، سواء كانوا رِجال سياسة أو رجال دين أو ثقافة، الكل يجب أن يخضع للنقد الموضوعي العقلاني الذي يضع كل إنسان في موقعه.
لبنان تجاوز الخطر
س: طالما دخلنا في الواقع والتفصيل، تحدثتم عن الانتخابات. نتيجة التمديد، رأينا الرئيس لحود وقد تحالف مع البطريرك صفير ونزل إلى بكركي، رأينا آل الحريري مع المفتي قباني في موقع سياسي وانتخابي واحد، رأينا نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان عملياً مع الرئيس بري وحزب الله. وواقع الأمور، أن البطريرك صفير يتأثر بدوائر الفاتيكان، والمفتي يتأثر برأي المملكة العربية السعودية، وهناك تأثير إيراني في لبنان بالنسبة لأمل وحزب الله. هذا يجعل، إضافةً إلى التدخل الطائفي والمذهبي في لبنان، أن يكون هناك تدخلات دولية، ونحن أمام لجنة دولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري. سؤالي بالتحديد، هو أنّ هذه التدخلات والامتدادات المذهبية – الدولية، ولجنة التحقيق وما ينتج عنها من نتائج لا نعرفها، ألا يجعلك ذلك تحذر من أن يكون هناك مخطط أميركي إسرائيلي؟
- نحن أمام هذه الخلفيات أو الارتباطات الدولية والعربية لبعض الشخصيات، وبقطع النظر عن الإيجابية أو السلبية لهذا الارتباط، لا بدّ من أن نقوم بحملة «توعوية» ثقافية للإنسان اللبناني، لأن يؤكد موقفه في وعيه لوطنه، ويتحرر من أن يكون مجرّد صدى لهذه الدولة أو تلك الدولة أو للآخرين.
س: وما الفرق بين السلطة والدولة؟
- أقول كلبناني، أو بالأحرى كإنسان أعيش في لبنان، وأريد أن «أؤنسن» لبنان، بحيث يكون الوطن إنساناً، أنّ عليَّ أن أعرف أن كل هؤلاء الذين يُقال إنهم يمثلون خلفيات الرموز الدينية، صواباً أو خطأً، إن هؤلاء يفكِّرون في بلادهم، وعليّ أن أفكر في بلدي، وعليّ أن أتمرد على كل من يريد أن يفرض عليّ أن أكون صدى لسياسة خارجية هنا أو هناك، وقد أوافق على سياسة هنا أو هناك، لكن بشرط أن أوافق عن اقتناع، لا أن أكون ظلاً أو صدى. هذه مسألة أولية في هذا المجال.
أما مسألة ما نواجهه من خطورة، يتحدث عنها الإعلام هذه الأيام، وبعض المواقع السياسية، والتي تُخيف أو توحي بالخطر، فإنني لا أوافق هؤلاء على ذلك. لماذا؟ لأن لبنان قد تجاوز مرحلة الخطر، عندما تخطّى مسألة الحرب الأهلية بعد عملية اغتيال الرئيس الحريري، وإنما جرى توظيف سياسي لهذا الاغتيال، فعندما ألصقت المسألة بسوريا، كان الخروج السوري، نتيجة الذهنية التي حمَّلت سوريا مسؤولية اغتيال الحريري، وقد ركب الآخرون هذه الموجة، من أجل إيجاد مناخ معين لحركة ما يسمى بالمعارضة، وتحميل كل الأخطاء للنظام الأمني اللبناني - السوري، باعتبار أن كل السياسيين في لبنان "معصومون" عن كل ما حدث، وأن هناك مجرد أفراد ورموز معينين هم المسؤولون، ما جعل غالبية السياسيين الآخرين الذين عاشوا الجريمة، حتى في ظل النظام الأمني اللبناني ـ السوري، بمنأى عن تحمّل أية مسؤولية،
حتى إنّ الأوضاع السياسية المستجدة برّأتهم من كل شيء، إلى درجة أنّ بعض الذين مارسوا الحكم، وأثيرت علامات استفهام حول ممارستهم للحكم، أصبحوا يحمِّلون أخطاءهم لهذا النظام، بحجّة أنّه هو الذي كان يضغط عليهم، الأمر الذي يساهم في إيجاد مناخٍ يريد تبرئة كلّ الذين سوف يحكمون لبنان من جديد باسم الإصلاح والتغيير والديموقراطية، ما جعلنا نفقد الموضوعية السياسية.
وإنني أتساءل: مَن من اللبنانيين الآن يملك القدرة على أن ينتقد المرحلة السابقة أو المرحلة الحالية، التي تنفتح على مواقع جديدة؟ حيث إن الكثير من التجاذبات السياسية بين سياسيّ وآخر، تنطلق من مسألة أنّ طرفاً تحدّث عن فلان أو نقد فلاناً، فهناك صراع سياسي، فهل يكون نقدي السياسي لشخصيّة معيّنة أصبحت مقدّسة الآن، نقطة سلبية تسقط واقعي السياسي؟! لقد تعدّى الأمر الموضوعية السياسية. ووضعنا ستاراً على كل الواقع السياسي اللبناني، من خلال الحكومات التي تعاقبت منذ التسعينات وحتى التطورات الأخيرة. لقد وضعنا ستاراً، لأن هذا الستار يتناول مقدسات بحسب طبيعة التطورات اللبنانية في هذا المجال.
س: ما يسمونه مقدسات؟
- "نعم"، لذلك، فإنني أتصور المسألة بالنسبة إلى لبنان، كما قلت في خطبة الجمعة، أن الذين يتحدثون بالإصلاح والتغيير، لا بدّ من أن يطالهم الإصلاح والتغيير. لا أتكلم عن شمولية، بل أتكلم عن ظاهرة.
س: أتابعكم بكل ما تتحدثون به وما تعطونه للرأي العام اللبناني والعربي والإسلامي، ولكن عندما أستمع إليكم، أرى أن ما تحملونه في فكركم وقلبكم، يُعبر عن معرفة بخطورة الأمور ودقتها وانتقاد للأوضاع، ولكن، يبدو لي أنكم لا تنقدون بنسبة أكثر من النصف، أي تحتفظون لأنفسكم بأمور أخرى كبيرة، فهل هذا يعود إلى دقة المرحلة؟
- أنا أشكو في بعض الأحيان من عدم المتابعة، إنني أتحدث دائماً مع المواطنين بكل صراحة.
س: هل دعوتم الناس إلى الانتفاض على هذا الواقع؟
- نعم، وغاية الأمر أنني لا أملك الأدوات التي يمكنني من خلالها أن أحرّك الواقع بطريقة واقعية، لكنني أملك التوعية. لعلكم كنت تتابعون أيام الانتخابات انتقادي لمسألة التكليف، وقلت للناس آنذاك، راقبوا ربكم عندما تنتخبون، بقطع النظر عن الجهة التي تنتخبونها. لذلك، لم أنطلق من موقع طائفي، كنت أقول انتخبوا الإنسان الكفوء الذي يملك الكفاءة والإخلاص والصدق والأمانة. هذا ما أتحدث به دائماً. ولهذا، في كل مسيرتي لن أجامل أحداً.
وسأكشف مسألة ربما لا يعرفها الكثيرون؛ في الثمانينات، دعاني المرحوم الرئيس حافظ الأسد إلى اللقاء به، فذهبت، وكان حديثاً صريحاً، حتى إنني قلت له ماذا بعد حافظ الأسد، لأن المسافة بينك وبين أقرب الناس إليك بعيدة جداً، ولم يجب، وليس هذا محل الشاهد، وعندما جئت إلى لبنان، بدأ البعض يهمسون أن السيد ربما «اشتري» من قبل السوريين، قلت لهم عندما ترونني لا أمثل قناعاتي، فلن أكون موجوداً.