على
09-07-2005, 08:17 AM
محمد الحداد
الحياة
كانت 1871 السنة التي التحم فيها البحث عن إصلاح مسيحي عربي مع البحث عن إصلاح ديني إسلامي مع فكرة الوطنية. وكانت القاهرة مركز هذا الالتحام العجيب في عهد إسماعيل باشا الذي طمح أن يعيد تجربة محمد علي ويجعل مصر بديلا عن الخلافة المتداعية. ومع أن تجربته انتهت بما انتهت به تجربة جده، فإن عهده فتح حراكا مهما لم يقتصر أثره على مصر بل استقطب عشرات الشاميين، المثقفين والتجار والسياسيين، الفارين من الاستبداد العثماني.
قدم جمال الدين إلى مصر في تلك السنة وأصبح يلقب نفسه بالأفغاني منذ ذلك الحين وجمع حوله خليطا عجيبا من الأتباع: طلبة من الأزهر متمردين على النظام التعليمي السائد، مسيحيين عرباً فقدوا الإيمان التقليدي، متعلمين أتقنوا أسلوب الصحافة الناشئة حديثا في الشرق، مغامرين سياسيين، شباناً من عائلات مصرية بدأت تترسخ في أذهانهم فكرة القومية، الخ. استطاع الأفغاني بشخصيته الزعامية القوية أن يضمّ حوله شخصيات بيّنة الاختلاف مثل محمد عبده وأديب إسحاق وسعد زغلول وعبد الله النديم وإبراهيم المويلحي وقاسم أمين، فمثل هؤلاء الجيل الثاني للنهضة. وقد برز دورهم بفضل إدراكهم التحولات التي بدأت الطباعة والصحافة تفرضها في المجال الفكري والثقافي، فاختلفوا عن النمطين الثقافيين التقليديين، نمط رجل الدين التقليدي ونمط أديب السلطان. شهد أدب النهضة حينئذ دفعا جديدا ومتميزا بفضل اللون الجديد من الكتابة الذي بدأ بالانتشار.
ثم كانت 1903 السنة التي تأكد فيها الانفصام بين هذا الخليط من التوجهات الفكرية المختلفة. كان مشروع الأفغاني قد قام على تحويل الدين قومية واعتماده وسيلة في تثوير الأوضاع في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. الجامعة الشرقية غير الجامعة الإسلامية لأنها مفتوحة لكل ملل الشرق ونحله، والتعصب لدى الأفغاني مختلف عن المعنى السائد اليوم لأنه مستمد من كلمة عصبية الخلدونية ويعني ضربا من القومية دون حدود جغرافية. لكن هذا الالتقاء قد انهار شيئا فشيئا واتخذ المسار السياسي والفكري العربي توجها أكثر منطقية. فبدأ التمايز بين تيار إصلاحي وتيار علماني، أحدهما يعتبر الدين وسيلة الإصلاح والثاني يعتبر بداية الإصلاح الفصل بين الدين والدولة. ومع 1903 نكون قد بلغنا لحظة القطيعة الفكرية، وذلك من خلال المجادلة المشهورة آنذاك بين محمد عبده وفرح أنطون.
جاءت هذه المجادلة لتعيد فتح نقاش بدا وكأنه حسم سنة 1883، عندما ألقى أرنست رينان محاضرة في جامعة السوربون موضوعها الإسلام والعلم. كانت باريس آنذاك قد فتحت أبوابها للاجئين السياسيين العرب والمسلمين من مناهضي الاستعمار البريطاني فلم تمر محاضرة رينان دون أن تثير اهتمامهم، ونشرت عدة ردود اشتهر منها رد الأفغاني.
كانت رسالة الأفغاني للرأي العام الأوروبي هي التالية: اعترفوا بالإسلام شريكا في بناء الحضارة الإنسانية كي يقتبس المسلمون الحضارة الحديثة دون شعور بالإهانة. مصير الدين الإسلامي الإصلاح كما أصلح لوثر المسيحية، ومصير النظام السياسي الإسلامي التحديث كما غيّرت الأنوار والثورة الفرنسية وجه أوروبا. عايش الأفغاني نموّ الفكرة القومية في أوروبا، فصاغ القضية الإسلامية على مقاس ما فهمه من العصر، إسلام يتحول قومية دون حدود جغرافية واضحة، فيكون أداة تحطيم الاستبداد السياسي والديني كما حطم لوثر والثورة الفرنسية سلطة الاكليروس والحكم المستبد. على هذا الأساس أمكن الحديث عن رابطة شرقية تجمع السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين العرب والمتدينين وغير المتدينين.
لكن مجادلة 1903 جاءت لتنهي هذا التوجه، خاصة أن السنوات العشرين الفاصلة بين التاريخين قد اتجهت في مسار بيّن الاختلاف. قال سلامة موسى بحق عن الكتاب الذي تركه فرح أنطون أثرا لهذه المعركة الفكرية أنه «أول كتاب ظهر في اللغة العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني». ومن أسف أن «ابن رشد وفلسفته» لأنطون كاد يختفي من التداول العام. أما كتاب عبده في هذه المجادلة، «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، فقد تعددت طبعاته منذ صدوره أول مرة عن مطبعة «المنار»، ويؤكد هذا الانتشار احتفاء الثقافة السائدة بمحاولة محدودة القيمة من الناحية الفكرية، لكنها عظيمة الأهمية من ناحية وظائفها الأيديولوجية والاجتماعية.
ثم لا يخفى أن المجادلة برمتها تستند إلى كتاب ثالث هو «ابن رشد والرشدية» (الصادر بالفرنسية سنة 1852) لأرنست رينان. وجدير بالذكر أن دار النشر الفرنسية المتخصصة «ميزونوف ولاروز» أعادت نشر هذا الكتاب بعد تفجيرات نيويورك في 2001، لكنها حذفت المقدمة الأصلية لرينان. ربما كانت نية الناشر أن لا يصدم القارئ المسلم بالعبارات الصدامية التي اختص رينان في إطلاقها ضد ما يدعوه السامية. إلا أن التسامح الفكري الحقيقي إنما يبدأ عندما يقبل القارئ أن يقرأ النصوص الأصلية دون حذف أو تصرف.
إن الثالوث رينان/ عبده/ أنطون يختصر وضع الخطاب الحديث حول الإسلام. أقول الحديث لتأكيد أن هذه الأسماء الثلاثة ترمز لشخصيات خطابية نمطية جديدة حلّت مكان ثلاثة شخصيات نمطية قديمة: اللاهوتي المسيحي الذي يجادل الإسلام بمعارضته بأقوال الأناجيل، الفقيه المسلم الذي يكتب المختصرات ويصدر الفتاوى، والأديب الظريف الذي يحرّر الرسائل السلطانية ويسلّي بحكاية أخبار الظرف والظرفاء.
عبده وأنطون هما البديل عن النمطين الثقافيين السائدين قديما في المجتمعات العربية الإسلامية، رجل الدين التقليدي وأديب السلطان. أما رينان فهو البديل عن اللاهوتي المسيحي المجادل للإسلام دون معرفة. كتاب رينان أعلن افتتاح مرحلة جديدة في الوضع الإسلامي، حاصلها انه لم يعد ممكنا التطرق إلى قضايا الحضارة الإسلامية خارج التفاعل بالكتابات الغربية. لم يعد ممكنا الحديث عن الرشدية دون مراجعة دراسات رينان مثلا، ومن أغفل هذه القاعدة حكم على ما ينتجه من معرفة أن يكون دون المستوى المقبول كونيا. يمكن الرجوع إلى رينان للتأييد أو الدحض أو لمجرد الاستعلام، لكنه يفرض نفسه في كل الحالات جزءا من الوعي الإسلامي المعاصر بالإسلام. ومن المفارقات أن الجيل الإصلاحي كان أكثر قبولا لهذا الواقع. لنتذكر العبارات التمجيدية التي تحدث بها الأفغاني عن رينان ولنقارن ذلك بالحديث المتشنج عن الاستشراق في الخطابات الحالية!
نأمل أن تكون الندوات العديدة التي ستقام آخر هذه السنة في مدن عدة، وفي مصر تخصيصا، للاحتفال بمئوية وفاة الشيخ محمد عبده، فرصة للتفكير العميق في الأوضاع المعقدة التي فرضها العصر الحديث على الخطابات حول الدين عموما، وحول الإسلام تخصيصا. ونرجو أن لا تكون هذه الاحتفالات مجرد استعراض للمواقف النمطية وتمجيد للشخصيات التاريخية على الطريقة الشرقية.
الحياة
كانت 1871 السنة التي التحم فيها البحث عن إصلاح مسيحي عربي مع البحث عن إصلاح ديني إسلامي مع فكرة الوطنية. وكانت القاهرة مركز هذا الالتحام العجيب في عهد إسماعيل باشا الذي طمح أن يعيد تجربة محمد علي ويجعل مصر بديلا عن الخلافة المتداعية. ومع أن تجربته انتهت بما انتهت به تجربة جده، فإن عهده فتح حراكا مهما لم يقتصر أثره على مصر بل استقطب عشرات الشاميين، المثقفين والتجار والسياسيين، الفارين من الاستبداد العثماني.
قدم جمال الدين إلى مصر في تلك السنة وأصبح يلقب نفسه بالأفغاني منذ ذلك الحين وجمع حوله خليطا عجيبا من الأتباع: طلبة من الأزهر متمردين على النظام التعليمي السائد، مسيحيين عرباً فقدوا الإيمان التقليدي، متعلمين أتقنوا أسلوب الصحافة الناشئة حديثا في الشرق، مغامرين سياسيين، شباناً من عائلات مصرية بدأت تترسخ في أذهانهم فكرة القومية، الخ. استطاع الأفغاني بشخصيته الزعامية القوية أن يضمّ حوله شخصيات بيّنة الاختلاف مثل محمد عبده وأديب إسحاق وسعد زغلول وعبد الله النديم وإبراهيم المويلحي وقاسم أمين، فمثل هؤلاء الجيل الثاني للنهضة. وقد برز دورهم بفضل إدراكهم التحولات التي بدأت الطباعة والصحافة تفرضها في المجال الفكري والثقافي، فاختلفوا عن النمطين الثقافيين التقليديين، نمط رجل الدين التقليدي ونمط أديب السلطان. شهد أدب النهضة حينئذ دفعا جديدا ومتميزا بفضل اللون الجديد من الكتابة الذي بدأ بالانتشار.
ثم كانت 1903 السنة التي تأكد فيها الانفصام بين هذا الخليط من التوجهات الفكرية المختلفة. كان مشروع الأفغاني قد قام على تحويل الدين قومية واعتماده وسيلة في تثوير الأوضاع في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. الجامعة الشرقية غير الجامعة الإسلامية لأنها مفتوحة لكل ملل الشرق ونحله، والتعصب لدى الأفغاني مختلف عن المعنى السائد اليوم لأنه مستمد من كلمة عصبية الخلدونية ويعني ضربا من القومية دون حدود جغرافية. لكن هذا الالتقاء قد انهار شيئا فشيئا واتخذ المسار السياسي والفكري العربي توجها أكثر منطقية. فبدأ التمايز بين تيار إصلاحي وتيار علماني، أحدهما يعتبر الدين وسيلة الإصلاح والثاني يعتبر بداية الإصلاح الفصل بين الدين والدولة. ومع 1903 نكون قد بلغنا لحظة القطيعة الفكرية، وذلك من خلال المجادلة المشهورة آنذاك بين محمد عبده وفرح أنطون.
جاءت هذه المجادلة لتعيد فتح نقاش بدا وكأنه حسم سنة 1883، عندما ألقى أرنست رينان محاضرة في جامعة السوربون موضوعها الإسلام والعلم. كانت باريس آنذاك قد فتحت أبوابها للاجئين السياسيين العرب والمسلمين من مناهضي الاستعمار البريطاني فلم تمر محاضرة رينان دون أن تثير اهتمامهم، ونشرت عدة ردود اشتهر منها رد الأفغاني.
كانت رسالة الأفغاني للرأي العام الأوروبي هي التالية: اعترفوا بالإسلام شريكا في بناء الحضارة الإنسانية كي يقتبس المسلمون الحضارة الحديثة دون شعور بالإهانة. مصير الدين الإسلامي الإصلاح كما أصلح لوثر المسيحية، ومصير النظام السياسي الإسلامي التحديث كما غيّرت الأنوار والثورة الفرنسية وجه أوروبا. عايش الأفغاني نموّ الفكرة القومية في أوروبا، فصاغ القضية الإسلامية على مقاس ما فهمه من العصر، إسلام يتحول قومية دون حدود جغرافية واضحة، فيكون أداة تحطيم الاستبداد السياسي والديني كما حطم لوثر والثورة الفرنسية سلطة الاكليروس والحكم المستبد. على هذا الأساس أمكن الحديث عن رابطة شرقية تجمع السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين العرب والمتدينين وغير المتدينين.
لكن مجادلة 1903 جاءت لتنهي هذا التوجه، خاصة أن السنوات العشرين الفاصلة بين التاريخين قد اتجهت في مسار بيّن الاختلاف. قال سلامة موسى بحق عن الكتاب الذي تركه فرح أنطون أثرا لهذه المعركة الفكرية أنه «أول كتاب ظهر في اللغة العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني». ومن أسف أن «ابن رشد وفلسفته» لأنطون كاد يختفي من التداول العام. أما كتاب عبده في هذه المجادلة، «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، فقد تعددت طبعاته منذ صدوره أول مرة عن مطبعة «المنار»، ويؤكد هذا الانتشار احتفاء الثقافة السائدة بمحاولة محدودة القيمة من الناحية الفكرية، لكنها عظيمة الأهمية من ناحية وظائفها الأيديولوجية والاجتماعية.
ثم لا يخفى أن المجادلة برمتها تستند إلى كتاب ثالث هو «ابن رشد والرشدية» (الصادر بالفرنسية سنة 1852) لأرنست رينان. وجدير بالذكر أن دار النشر الفرنسية المتخصصة «ميزونوف ولاروز» أعادت نشر هذا الكتاب بعد تفجيرات نيويورك في 2001، لكنها حذفت المقدمة الأصلية لرينان. ربما كانت نية الناشر أن لا يصدم القارئ المسلم بالعبارات الصدامية التي اختص رينان في إطلاقها ضد ما يدعوه السامية. إلا أن التسامح الفكري الحقيقي إنما يبدأ عندما يقبل القارئ أن يقرأ النصوص الأصلية دون حذف أو تصرف.
إن الثالوث رينان/ عبده/ أنطون يختصر وضع الخطاب الحديث حول الإسلام. أقول الحديث لتأكيد أن هذه الأسماء الثلاثة ترمز لشخصيات خطابية نمطية جديدة حلّت مكان ثلاثة شخصيات نمطية قديمة: اللاهوتي المسيحي الذي يجادل الإسلام بمعارضته بأقوال الأناجيل، الفقيه المسلم الذي يكتب المختصرات ويصدر الفتاوى، والأديب الظريف الذي يحرّر الرسائل السلطانية ويسلّي بحكاية أخبار الظرف والظرفاء.
عبده وأنطون هما البديل عن النمطين الثقافيين السائدين قديما في المجتمعات العربية الإسلامية، رجل الدين التقليدي وأديب السلطان. أما رينان فهو البديل عن اللاهوتي المسيحي المجادل للإسلام دون معرفة. كتاب رينان أعلن افتتاح مرحلة جديدة في الوضع الإسلامي، حاصلها انه لم يعد ممكنا التطرق إلى قضايا الحضارة الإسلامية خارج التفاعل بالكتابات الغربية. لم يعد ممكنا الحديث عن الرشدية دون مراجعة دراسات رينان مثلا، ومن أغفل هذه القاعدة حكم على ما ينتجه من معرفة أن يكون دون المستوى المقبول كونيا. يمكن الرجوع إلى رينان للتأييد أو الدحض أو لمجرد الاستعلام، لكنه يفرض نفسه في كل الحالات جزءا من الوعي الإسلامي المعاصر بالإسلام. ومن المفارقات أن الجيل الإصلاحي كان أكثر قبولا لهذا الواقع. لنتذكر العبارات التمجيدية التي تحدث بها الأفغاني عن رينان ولنقارن ذلك بالحديث المتشنج عن الاستشراق في الخطابات الحالية!
نأمل أن تكون الندوات العديدة التي ستقام آخر هذه السنة في مدن عدة، وفي مصر تخصيصا، للاحتفال بمئوية وفاة الشيخ محمد عبده، فرصة للتفكير العميق في الأوضاع المعقدة التي فرضها العصر الحديث على الخطابات حول الدين عموما، وحول الإسلام تخصيصا. ونرجو أن لا تكون هذه الاحتفالات مجرد استعراض للمواقف النمطية وتمجيد للشخصيات التاريخية على الطريقة الشرقية.