المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عروبة العراق.. بين البويهيين والبعثيين؟



سمير
09-05-2005, 11:29 PM
داود البصري



وسط محاولات الصيرورة الوطنية الجديدة، وبناء الذات العراقية الخربة، وتشييد البيت العراقي المتداعي بفعل سنوات الحروب والدمار والتصفيات الجسدية ومن ثم الاحتلال وسيادة الإرهاب بشقيه السلفي المتوحش والبعثي الأهوج، وفي خضم رؤى و تيارات متصارعة تتصارع فيها كل عوامل الطائفية وخلفياتها والعشائرية وقيمها، والتخلف و منابعه، تبرز قضية (عروبة العراق) وانتمائه القومي والحضاري لتشكل واحدة من أهم نقاط الخلاف والاختلاف ولربما الانفجار في الواقع العراقي الهش، وحيث باتت تنبري اليوم مؤسسات إعلامية وحزبية وإقليمية لتلعب على هذا الوتر الحساس، وتحاول العبث بالتوليفة العراقية أو تفسير الأحداث و التوجهات بما يخدم مصالح وتوجهات أعداء الحرية في العراق وهم بطبيعة الحال أكثر من الهم على القلب وأكثر عددا من المتبقي من نخيل العراق!، فعروبة العراق لم تكن يوما محل جدل وجدال منذ أن أرتضى العراقيون قبل ثمانين عاما ونيف صيغة قيام الدولة العراقية الحديثة (المملكة العراقية) بملك دستوري عربي ينتسب لأهل بيت النبوة الكريم (الملك فيصل الأول) رغم وجود مرشحين كثر كان أحدهم (إيراني) وهو والي بشتكوة!


وكان خيار السلف من الشعب العراقي باختيار ذلك النظام (على نواقصه وعلاته) رمزا تأكيديا لحقيقة تاريخية ترسخت عبر العصور وهي الهوية العربية للعراق الذي عاش عبر العصور من خلال حضارات عديدة سادت ثم بادت منذ فجر السلالات السومرية والبابلية والأكدية والآشورية ومن ثم الخضوع للإحتلال الساساني الفارسي حتى تحرير سواد العراق على يد الفاتحين الأوائل من العرب المسلمين وبمساعدات لوجستية من عشائر العراق العربية، وحيث ترسخت الحضارة العربية الإسلامية، ليشهد العراق جل الصراعات المؤسسة لدولة الخلافة الإسلامية وليموج بالتيارات الفكرية والمذهبية والثقافية والمدارس النحوية ولتضم أرضه و تحتضن أجداث الصحابة والتابعين الذين قتلوا في الحروب الأهلية الإسلامية التي أتبعت عصر الفتنة الكبرى، ففي البصرة ما غيرها حدثت (معركة الجمل) الشهيرة بين الخليفة الراشدي الرابع الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وبين مخالفيه من كبار الصحابة والتي كانت مأساة حقيقية لا تزال تظل بقرونها حتى اليوم!!


وعلى أرض العراق ظهر الفكر الخارجي التكفيري المنشق عن الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وعلى أرض العراق قتل الخوارج ذلك الخليفة الأخير في موازين الإسلام الحقيقية، ومن العراق تصاعد الصراع الأهلي الإسلامي الذي إنتهى بهيمنة الإرستقراطية العربية الإسلامية على القرار ليتسيد الأمويون المشهد التاريخي ولتكون (الكوفة) مركزا من مراكز المعارضة التاريخية والقوية، وفي العراق برز نجم (بنو العباس) ليحكموا العالم الإسلامي من (بغداد) في أوسع وأكبر و أهم إمبراطورية عربية إسلامية في تاريخ البشرية كانوا يعدون بأنهم لن يسلموا زمامها إلا للمسيح عيسى بن مريم (ع)!


فإذا بها تنهار أمام جحافل المغول الزاحفة من الشرق البعيد، لينجح العراق في تعريب أولئك المغول بعد أن هذبهم وأدخلهم للإسلام وتبقى هوية العراق العربية المسلمة مترسخة عبر القرون، ثم بعد الهيمنة التركية الهمايونية العثمانية والصراع العثماني / الفارسي على البطاح العراقية بما أفرزه من قيم وعادات وأساطير وخرافات والذي إستمر لأكثر من أربعة قرون عجاف، لم تمح الهوية العربية، ولم (تستعجم) عشائر العراق في الجنوب والوسط، بل على العكس (تعرب) المماليك والولاة وإندمجوا في الصيغة والبوتقة العراقية حتى اضحت العروبة بمثابة الدم الذي يجري في الجسم البشري، وحينما أتحدث عن العروبة فأنا لا أقصد معناها ومبناها الآيديولوجي الشوفيني العنصري الذي رسخته ممارسات التيارات القومية الفاشية المتأثرة بالفاشيات والقوميات الأوروبية العدوانية بل أعني (عروبة الفطرة) بما تتضمنه من قيم ونخوة وشهامة ونجدة للملهوث والإعتزاز بالنفس الكريمة وبالتراث، فالعربية ليست صنما مقدسا متحجرا بل أنها لغة وحضارة وسلوك إنساني و لا علاقة لها بكل الفذلكات والألاعيب التي تاجرت بها القوى الحزبية القومية فيما بعد وعلى رأسها حزب البعث الفاشي الغريب بقيادته ثقافته وممارساته عن كل ما يمت للعروبة الإنسانية الواقعية الحقة بصلة!


والتنوع الإثني الحضاري والثقافي والقومي في العراق ليس حالة شاذة في العالم العربي، وهو ليس صفة ينفرد بها عن بقية الشعوب، فالعراق بحكم موقعه الجغرافي كان معبرا وممرا وملاذا للعديد من الثقافات، وأعتقد أن تجارب أخرى في العالم العربي تحمل ثراءا لا يقل عن الحالة العراقية فالمغرب الأقصى مثلا تقول حقائق الديموغرافيا ووقائع التاريخ بأن غالبية سكانه من (الأمازيغ) الذين يمتد تواجدهم الجغرافي حتى (ليبيا) الحديثة مشكلين العنصر البشري الغالب في عموم الشمال الإفريقي، ولكن وجود الأمازيغ لم يقف حجر عثرة أمام (تعريب) المغرب ونشوء الثقافة العربية واللسان العربي الذي أحتضنه الأمازيغ وبرزوا فيه وتبحروا في عالمه وأنجبوا خيرة العلماء والأدباء والفطاحل والمفكرين، ولعل إفتخار الأمازيغي بالنسب العربي قد جعل العديد منهم يفتخرون بتسمية أبنائهم بإسم (السي العربي)


أي السيد العربي قبل أن تلعب الأمزجة والعقول الاستعمارية بذلك الوضع وتنشأ حساسيات وعقد مركبة و مريضة، ولا زالت صيغة الحكم المغربي الحالية امتداد لتاريخ طويل من التفاعل بين حملة رسالة الإسلام من العرب وأهل البلاد الأصليين مما أنتج بالضرورة الحضارة الأندلسية الراقية التي شيدها العرب والبربر في أروع تناغم حضاري عبر العصور، وإن يكن المرء أمازيغيا فهو لا يخجل أو يشعر بالمرارة حينما يصنفه البعض بالهوية العربية!! ففي المغرب انصهرت الهوية الإسلامية ضمن مكوني الشعب الرئيسيين العرب والبربر بأقسامهم وتنوعاتهم اللغوية والقبائلية وكان الإسلام هو الوعاء الحضاري الجامع والمانع لتقوية تلك اللحمة، والسلطات المغربية وهي تدعم اليوم اللغة الأمازيغية وتتيح للأمازيغ الحرية في التعبير عن طموحاتهم وأهدافهم بلغتهم الأم (تيفيناغ) لا تقوم بمحاربة اللغة والثقافة العربية بل على العكس تماما.


إذ أنها تدعم عوامل الشد الوطني، ونفس الواقع ربما يجابه الزنوج في موريتانيا أو جنوب السودان أو في بلاد النوبة، فالثقافة العربية ليست ثقافة إستعمارية غريبة عن أهل البلد بل أنها من ضمن النسيج الحيوي لتلك البلدان، وهي حصيلة قرون طويلة من التلاقح الحضاري.


في العراق اليوم قد يبدو الوضع مختلف في ظل حالات الشد والجذب والملفات الإقليمية التي تقف خلف طرح مسألة عروبة العراق أمام المحك، والأصابع الفارسية واضحة في الصورة العراقية، والأكراد لا علاقة لهم بتغيير الهوية القومية فهم على المدى البعيد والقصير يفتخرون بالثقافة والأدب العربي وأنجبوا للثقافة العربية فطاحل وكبار ومنهم أمير الشعراء (أحمد شوقي) هذا غير القائد الأسطوري محطم الصليبيين (صلاح الدين الأيوبي) وصراعهم المرير لم يكن ضد العرب بل ضد الفاشيين وشرار العرب وسقط متاعهم كسلسلة الحكام من البعثيين والقومجيين والفاشست الذين مزقوا النسيج العراقي العام وهم بالتالي كأشقائهم الأمازيغ في المغرب الأقصى تلاقحوا مع العرب تلاقحا صميميا ومازالت حروف اللغة الكردية في العراق تكتب بالأبجدية العربية رغم إتخاذ مجاميع متطرفة منهم مسارات أخرى معروفة!!


ما أقصده هنا تحديدا أن من يحاول التصيد بالماء العكر ونفي حقيقة عروبة العراق هي التيارات الطائفية والظلامية ذات الخلفيات البويهية والصفوية التي تتخذ مواقفا تدليسية مراوغة و تحاول التلاعب بالكلمات لنفي حقيقة إنتماء العراق بكل مكوناته الحضارية والإثنية والثقافية والتاريخية للعالم العربي ببعده التاريخي والثقافي وليس ببعده العدواني، ولعل أهم قضية تطل برأسها من خلال تحريف عروبة العراق هي محاولة (إلتهام الخليج العربي) بحرب الشعارات التدليسية الطائفية، أما (شيعة العراق) فهم عرب قحاح وهذه عشائرهم تشهد على حقيقة ما أقول.


وشيعة العراق بالذات وحوزتهم العلمية تحديدا هي من حافظت على الفكر والثقافة العربية والحرف العربي في عصور العجمة والظلام وهيمنة الفرس والسلاجقة و الترك والديلم، وكانت المدرسة الفكرية الشيعية التي تدين بالولاء لأهل بيت النبوة الكريم، فلولا حوزة الشيعة لتعجم العراق أو لتترك (أصبح تركيا)!، فلقد مرت عصور وسقطت سلالات وبقيت عروبة العراق حقيقة راسخة لا يمكن أن تتلاعب بها فقرة دستورية أو فذلكة قانونية، وأعتقد إن إعتراضات السيد (عمرو باشا موسى) هي اعتراضات سياسية تنبع من عدم فهم للواقع والحالة العراقية، فالشعب العراقي بكل مكوناته من عرب وغير عرب هم في حالة صدمة من موقف الدول العربية والجامعة العربية من المأساة العراقية،فغالبية العرب وهذه حقيقة قد وضعوا بيضهم في سلة النظام البائد ولم يساندوا كفاح العراقيين ضد الفاشية البعثية التي كانت موجهة ضد العرب أساسا؟ ماذا نسمي (غزو دولة الكويت)!؟


وماذا نسمي قصف (الرياض والمنطقة الشرقية)؟، وماذا نسمي حملات التحريض الفاشية البعثية البائدة ضد الدول العربية؟ وماذا نسمي تقاعس الجامعة العربية عن إدانة الإرهاب السلفي / البعثي؟ وقيام السيد عمرو موسى باستقبال ورعاية أطراف عراقية تدعم الإرهاب والإرهابيين؟


إنها ملفات متداخلة ومريرة، ولكننا لا نغفل حقيقة أن هنالك مؤامرة على عروبة العراق وانتمائه العربي لا تستهدف العراق الحالي بل تستهدف الإقليم الخليجي بأكمله، وهي الحالة التي انتبهت لها جيدا دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن شعب العراق بكل مكوناته ليس غائبا عن الصورة، وسيجهض كل الطروحات المشبوهة الهادفة لتسويق الطائفية البويهية/ الصفوية المريضة تحت ستار التشريعات الدستورية التي لا تعني شيئا ولا تصمد أمام حقائق التاريخ و واقع الديموغرافيا...

عروبة العراق ليست موضعا للمساومات ولا للمحاصصة الطائفية والحزبية البغيضة والكريهة، إنها أكبر من ذلك بكثير، وهي عصية على الاختراق والتلاعب والعبث، وسيهلك الطائفيون والمشعوذون بنيران حقدهم، وللعروبة كما للمستضعفين والمحرومين في العراق رب يحميهم ويقيهم شر الفتنة الطائفية النتنة.

dawoodalbasri@hotmail.com