فاطمي
09-05-2005, 08:17 AM
بغداد ـ من عصام فاهم
أثناء قيادته للفرقة 101 المحمولة جواً في العراق، ذكر الجنرال ديفيد بيتريوس، ان «المال هنا هو ذخيرة القتال»,,, والمتتبع لنشاط الجماعات المسلحة من حيث بدايتها وتوجهاتها وما وصلت اليه الان بعد مضي اكثر من 29 شهرا من اجتياح العراق في مارس 2003، سيكتشف ان السياسة والأيديولوجيا والتحريض العرقي والقومي والديني، كلها شكلت روافع للعب دور في استمرار الصراع.
لكن من المؤكد ان الحافز المادي، واحد من أقوى دواعي استمرار الجماعات المسلحة في عملياتها, هذا على الاقل ما يراه بعض القادة العسكريين الاميركيين, ويقول اللفتنانت جنرال (جون فاينس)، قائد القوات البرية في القوة متعددة الجنسية في العراق، الذي عُين في فبراير العام 2005، «ان المتمردين ليس لهم أي أيديولوجية سوى القوة والعنف, وليس لديهم ما يقدمونه للشعب العراقي, ولذلك فان تلك الجهات التي تسعى إلى كسب السلطة، تكافىء وتقدم الرشوة للهجوم على قوى الأمن العراقية وقوى التحالف».
ويرد المحلل السياسي قاسم الغريري «بان الجانب المادي يعد عنصرا مهماً في العمليات المسلحة»، مشيرا إلى أن «من غير المعقول أن يتفرغ المسلحون لعملياتهم من غير أخذ المال لسد احتياجاتهم», إلا أنه أضاف «ان ذلك لا يعد دافعا بحد ذاته», وتابع: «في كل الاحوال أن قضية الحصول على الأموال ليست تهمة بحد ذاتها لأن الجنود الأميركيين والعراقيين يحصلون على المال أيضا».
ربما يساعد التعرف على السياق المالي الذي نمت عليه حركة الجماعات المسلحة في العراق في توجيه النقاش بهذا الخصوص, التقارير والتصريحات وحتى اعترافات بعض اعضاء الشبكات المسلحة، تؤكد وجود مكافآت يتلقاها المساهمون في تنفيذ هجماتهم, ففي ديسمبر 2003، ذكرت مصادر إحدى الوحدات الأميركية أن 70 ـ 80 في المئة من الهجمات «تنفذ مقابل تعويضات مالية تشجيعية».
ويؤكد مسؤول رفيع المستوى في جهاز المخابرات العراقي، أنه «وجدت دلائل وأشياء ثبوتية، بل واعترافات من بعض الذين القي القبض عليهم، أكدت على نحو غير قابل للشك، ان بضعة آلاف من عشرات الآلاف من المجرمين الذين أطلق صدام حسين سراحهم، هم الذين شاركوا في الهجمات والاعمال المسلحة المختلفة ضد قوات التحالف والجيش والشرطة العراقية، وحتى أعمال الخطف للاجانب التي أعلنت الجماعات المسلحة القيام بها».
ووفقا لما أعلنته القيادة المركزية الأميركية في تقرير حديث، فان «هناك أدلة دامغة بأن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يقومون بالعمليات المسلحة، هم من العاطلين عن العمل والذين يحصلون على مبالغ كبيرة لقاء تنفيذ العمليات الهجومية ضد قوات التحالف والقوات العراقية».
واتسع حجم البطالة في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في ابريل 2003، ولا سيما بعد تسريح أكثر من 440 ألف عسكري سابق من أفراد القوات المسلحة السابقة، فضلا عن تسريح الآلاف من منتسبي الاجهزة الامنية والدوائر الاخرى التي جرى حلها.
ويشير التقرير كاستنتاج إلى «أن هناك بالفعل ثقافة عراقية متفشية حول الارتزاق من العمل المسلح», ويتابع «هذا الاتجاه هو الذي يقود إلى تنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات التحالف», ويوضح ان «هناك تعريفات نقدية محددة بالنسبة الى شكل ومضمون كل عملية على حدة, وفيما تسري هذه التعاملات مع المسلحين العراقيين فان المنخرطين من عرب دول الجوار وغيرهم لا يتقاضون تعويضات نقدية مباشرة جراء عملياتهم، وإنما تدفع بعض الإعانات إلى أهلهم ولاسيما بالنسبة إلى الانتحاريين».
ويؤكد التقرير أن «هناك احتياجات مادية أُخرى لعمليات التمرد، فرغم أن هناك مخزوناً كبيراً من الأسلحة لدى المتمردين حصلوا عليه من بقايا النظام السابق، إلا أنهم يحتاجون إلى بعض الأجهزة والأدوات المعقدة بعض الشيء والتي تطلب مبالغ مالية كبيرة، ويبدو أنهم يشترونها من ساحات مفتوحة في سورية، على وجه التحديد, كما ان هناك احتياجات تخص توفير مصاريف اقامة وتنقل المتمردين القادمين عبر الحدود».
وبغض النظر عن دقة هذه التقارير والتصريحات، فالتجربة التاريخية كشفت اعتماد المنظمات المسلحة ـ من الناحية الاقتصادية ـ خلال مرحلتي الاستقلال والحرب الباردة بعد 1945، على الرعاة الأغنياء من القوى الاستعمارية السابقة (كما في حالة الثوار الذين دربتهم ومولتهم فرنسا في إندونيسيا) أو من القوتين العظميين (المجموعات التي ترعاها الدولة والممولة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لشن الحروب بالوكالة على أطراف مناطق نفوذهما), ونظراً لتكلفة هذه الحروب المرتفعة ولعدم شعبيتها على النطاق الداخلي، فقد اضطرت القوتان إلى التعامل مع مزيج من العائدات القانونية وغير القانونية لتمرير الأموال إلى عملائها المفضلين.
ولعل المثال الكلاسيكي الذي يمكن استحضاره في هذا الصدد، رعاية إدارة الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان، لمجموعات «الكونترا» المسلحة التي قاتلت ضد حكومة نيكاراغوا الساندينستية في الثمانينات, وحصلت الإدارة الاميركية في خضم معارضة سياسية واسعة لهذا التوجه، على موافقة الكونغرس لتقديم مساعدة مالية قدرها 42 مليون دولار (كافية لتسليح 2000 من «الكونترا»), وبدأ هذا المبلغ بالازدياد سنوياً، حتى اندلاع فضيحة «إيران ـ كونترا» في 1986، ومع ذلك بقي هذا المبلغ عاجزاً عن مواجهة التكاليف المرتفعة لتمويل هذه المجموعات.
لكن في ظل عالم أحادي القطب وهيمنة أميركية، تتصاعد ضرورة الاجابة عن اقتصادات الجماعات المسلحة في العراق، وعلى من تعتمد في تمويل انشطتها والدفع لعناصرها؟
الشيء الواضح وفق معطيات عديدة، أن هناك مبالغ كبيرة لا تزال مخبأة في العراق من قبل أشخاص تم التمويه عنهم منذ عهد النظام السابق, وكل هذه الاموال مخصصة لتمويل العمليات الهجومية للجماعات المسلحة.
وقد خضعت عملية أموال النظام السابق إلى فحص دقيق بروية وبعد نظر من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي اي اي) وهيئات من الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي وشركة تسويق النفط العراقي.
وكانت المفاتيح الأساسية للكشف عن المعلومات الخاصة بمدخرات النظام السابق المالية، جاءت من قبل برزان التكريتي، شقيق صدام حسين من أمه، وحكمت إبراهيم العزاوي، الوزير السابق للمالية في عهد صدام، اللذين كشفا الكثير في شكل معمق، مما ساعد على التعرف على كيفية إخفاء الأموال في العهد السابق لاستغلالها في تمويل عمليات المسلحين.
وحصل النظام السابق على مبالغ كبيرة من جراء بيع وتهريب النفط في إطار التحايل على قيود برنامج «الغذاء مقابل النفط»، من العديد من المصادر التي سمحت بتحرير مبالغ نقدية إلى جهات حددها النظام, وهذه المبالغ في المحصلة، زودت النظام السابق بما لا يقل عن تسعة مليارات دولار، كما خدم العراق في ظل النظام السابق العديد من المجموعات الخاصة في سورية ولبنان في تجارة غير شرعية ارتبطت بالصناعة العسكرية العراقية، انتقل جزء منها أيضاً إلى الأردن.
وقد وقع العراق مع سورية في 29 مايو العام 2000، اتفاقية غير شرعية مهدت لأن يحصل العراق على مبالغ قدرت بـ 8 ,2 مليار دولار مقابل حصول سورية عن النفط الذي استفادت من بيعه في الأسواق الخارجية بدلاً من استخدامه في الداخل.
وقد تكدست أرصدة نقدية عراقية كبيرة في كل من سورية ولبنان والأردن وتركيا، وفي شكل دوري كانت تجري على هذه الارصدة سحوبات تذهب الى بغداد لتغطية نفقات الحكومة واحتياجاتها خارج نطاق «النفط مقابل الغذاء».
ومنذ عام 2001، عمد النظام السابق الى زيادة سحوباته من ارصدته الخارجية، في اطار نوبة خوف اصابته من احتمال تعرض هذه الارصدة للاكتشاف، وبالتالي الشمول بقرار تجميد ارصدة العراق الخارجية.
وفي فبراير 2003، نجحت الشبكة التجارية للصناعة العسكرية العراقية في تفريغ الارصدة النقدية التابعة لنظام صدام في الاردن ولبنان ونقلها الى سورية والعراق, وعندما بدأت الحرب على العراق في ربيع 2003، كان تحت تصرف حكومة البعث العراقية على الاقل نحو 842 مليون دولار في سورية ونحو مليار دولار في العراق.
وبعد ساعات من الهجمات الجوية في 20 مارس 2003، سحب النظام موجوداته من العملة الصعبة من البنك المركزي العراقي ، وقد قامت مجموعة مختارة من رجال النظام السابق، ضمت قصي صدام وحكمت العزاوي، وعصام حويش، محافظ البنك المركزي، وهاني عبد اللطيف طلفاح، مدير الامن الخاص، ونحو 50 شخصا آخرين بسحب 920 مليون دولار و90 مليون يورو ورزمها في 180 صندوقاً حديدياً محكماً، ونقلت بعيدا بثلاث شاحنات.
ووزع قسم من المبالغ على وزارات عدة، وخبئ جزء كبير منها في مدافن منتشرة في بعض البنوك وفي جدران بعض البيوت المحصنة.
والعملية كانت في جزء منها عملية «انقاذ» على الطريقة البعثية، كرد فعل على بدء الهجمات الجوية في ساعاتها الاولى, ومثل هذه العملية عادة ما تمارس في تشتيت الاشخاص القياديين وكذلك المعدات والوثائق، وهذه المرة شملت النقد بالعملة الصعبة.
وفي شكل عام، يبدو ان كل هذه الاموال بقيت في العراق واستغلت لتمويل عمليات التمرد المسلح، لكن كمية منها، وهي بحدود 132 مليون دولار، تمت استعادتها من مخابئ مختلفة، في الوقت الذي تم فيه اعتقال صدام في ديسمبر 2003.
وفي 15 يناير 2004، وعندما تم استبدال العملة العراقية باخرى جديدة، شكل هذا الاجراء تخفيضاً في امكانات رجال النظام السابق الذين كانوا ما زالوا طلقاء لكنهم قيد المطاردة، ولاسيما من حيث النقد العراقي الذي كان بحوزتهم او المخبأ بمعرفتهم.
كما أعلنت اللولايات المتحدة، من خلال التحقيقات التي قامت بها في الأصول النقدية العراقية التي كانت لا تزال موجودة في البنوك السورية بعد سقوط النظام السابق، أن مبلغاً يراوح حول 600 مليون دولار، سحبت بعد ذلك من البنك التجاري السوري، وبقي نحو 242 مليونا في الحساب، ولم يعرف كيف حصل ذلك ولمصلحة من تم إنفاق هذه الأموال.
وهذا على الاقل ما أعلنه أمام لجان الكونغرس، جان كارلوس زريتا، مساعد الرئيس السابق للخزينة الأميركية، الذي أشرف على التحقيقات في هذا الموضوع, وطبقاً لمعلومات القيادة المركزية، فان عزة الدوري، نائب صدام لفترة طويلة، هو الذي يشرف على صرف الأموال العراقية بواسطة بقايا البعثيين الذين كونوا شبكة في مدينة دير الزور السورية.
ويختلف الأمر بالنسبة الى تمويل الجماعات السلفية، إذ إن تمويلها يتخذ طريقاً آخر غير ما كان عليه الحال بالنسبة الى تمويل البعثيين، فهنالك مصادر عدة تكون الثروة التي تغذي عمليات المتمردين، ويمسك أبو مصعب الزرقاوي، باعتباره الرقم الأهم، بمحور النفقات المرسلة للمجاهدين السلفيين ولاسيما الذين يأتون للعراق.
وهنالك قنوات متعددة التي تغذي عمل رجال «القاعدة» في العراق، شغلت كثيراً الملاحقات التي قام بها موظفو الخزينة الأميركية ولاسيما ما يتعلق منها بشبكة الزرقاوي التي تتداخل امتداداتها في التمويل إلى مصادر عدة.
وفي 25 يناير، أعلنت إدارة الخزينة الأميركية أن السوري سليمان خالد درويش، يعد واحداً من أهم الإرهابيين المنظمين، والذي يرسل مبالغ إلى العراق تراوح بين 10 آلاف إلى 12 ألف دولار، كل 20 إلى 25 يوما، كما أن محسن الفضلي، وهو من مواليد عام 1981، فهو متهم بتمويل عمليات عدة؛ منها مقتل كل من عبد العزيز الحكيم وعز الدين سليم في العراق، وتدمير المدمرتين الأميركية والفرنسية «كول» و«ليبمورغ»، في اليمن، كما أنه من الممولين لأنشطة «القاعدة»، وسبق له القتال في افغانستان والشيشان, كما أشارت معلومات الخزينة، الى أنه بواسطة دعم ومساعدات الفضلي، تم تنفيذ هجمات ناجحة في العراق, وفي 13 أبريل 2005 أعتبر الأردني بلال منصور الحائري، واحداً من ممولي شبكة الزرقاوي، ولهذا السبب، دين من قبل محكمة أمن الدولة الأردنية في اكتوبر 2004.
وهناك نوعان من المقاتلين الذين يفدون إلى العراق للقيام بما يُسمى بـ «العمليات الجهادية»، يأتي في المقدمة منهم السعوديون الذين يعبرون إلى العراق من خلال سورية بسبب الصعوبات الكثيرة التي تحول دون دخولهم عبر الحدود العراقية ـ السعودية, وهؤلاء يصطحبون معهم عادة مبالغ نقدية كبيرة متأتية من مدخراتهم أو من ما تقدمه مصادر عديدة من أقربائهم أو معارفهم تحت غطاء دعم إخوانهم المجاهدين في العراق.
وبالنسبة الى المتبرعين الأجانب ومنهم السوريون، رغم إمكاناتهم المُتواضعة، إلا أن شبكة المؤيدين للجهاد تعمل بالفعل بمعزل عن الدعم الذي يُقدم من قبل رجال النظام العراقي السابق، ويُفضل السلفيون الجهاديون الاحتفاظ بنظام يدر عليهم بمساعدات مالية وفوائد أُخرى تُقدم إلى عوائل المحاربين الأجانب وعناصر الاحتراف التفجيريين كما إنهم يُشجعون هؤلاء بدفعات شهرية مُقدرة بين 1500 دولار و3000 دولار.
ومثل هذه الدفعات لا تكفي لوحدها لأن تجذب المتطوعين، لكن مع دفعات نظامية بين 80 ـ100 دولار، تكون سورية القاعدة الحاسمة لتجميع مثل هذه الشبكات، والمفتاح الجغرافي لمثل هؤلاء هو الشعبية التي تولدها العواطف الدينية عند السنة العرب في مناطق شمال دمشق، ولاسيما في مناطق يشكل فيها التآخي الإسلامي درجة كبيرة مثل حماة وحلب، إضافة إلى مناطق سنية في لبنان كطرابلس ومُخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل من سورية ولبنان.
ويُساعد في نقل الأموال إلى العراق، قصور النظام المصرفي العراقي وضآلة حجم التعامل المالي بواسطة المصارف، واعتماد الأفراد والتجارة في شكل عام على ما يُسمى بنظام «الحوالة» التي يتم بواسطتها وبسهولة تحويل الأموال في شكل سريع وسهل.
وعلى عكس ما هو حاصل في إطار التحويل عبر النظام المصرفي المعقد، فإن نظام «الحوالة» النقدية المعتمد في العراق لا يبين أسباب التحويل ولا اين تستقر المبالغ المحولة.
وقد استفاد التمرد المسلح من خصائص النظام المالي العراقي القائم على نظام التعامل النقدي حيث ضعف الثقة بالمصارف واحتفاظ الناس بأموالهم في شكل نقدي، وكُل هذا يساعد على سهولة نقل الأموال إلى المُتمردين.
وقد سهل تدفق الاموال الى العراق، اعتماد مُعظم حركة النقل في العراق على النقل البري بواسطة السيارات التي يُمكن من خلالها وتحت الغطاء التجاري حمل كميات كبيرة من النقد وإدخاله إلى العراق من دون مشاكل ومن دون امكانية معرفة المستقر الذي ستنتهي إليه الأموال.
كما أن هناك طريقة أُخرى، إذ قام التجار العراقيون باستيراد عشرات الالاف من السيارات القديمة من انحاء العالم وتم ادخالها عبر الاردن وسورية؛ وتواترت شكوك عن تمويل استيراد هذه السيارات عبر الاموال المخصصة لدعم التفجيرات والعمليات المفخخة, وعبر هذا الاسلوب يتم تخصيص اثمان هذه السيارات بعد بيعها إلى الجماعات المسلحة, وعلى هذا النحو، تختفي تماماً أي إمكانية للسيطرة على كيفية وصول الأموال إلى المتمردين في العراق.
أثناء قيادته للفرقة 101 المحمولة جواً في العراق، ذكر الجنرال ديفيد بيتريوس، ان «المال هنا هو ذخيرة القتال»,,, والمتتبع لنشاط الجماعات المسلحة من حيث بدايتها وتوجهاتها وما وصلت اليه الان بعد مضي اكثر من 29 شهرا من اجتياح العراق في مارس 2003، سيكتشف ان السياسة والأيديولوجيا والتحريض العرقي والقومي والديني، كلها شكلت روافع للعب دور في استمرار الصراع.
لكن من المؤكد ان الحافز المادي، واحد من أقوى دواعي استمرار الجماعات المسلحة في عملياتها, هذا على الاقل ما يراه بعض القادة العسكريين الاميركيين, ويقول اللفتنانت جنرال (جون فاينس)، قائد القوات البرية في القوة متعددة الجنسية في العراق، الذي عُين في فبراير العام 2005، «ان المتمردين ليس لهم أي أيديولوجية سوى القوة والعنف, وليس لديهم ما يقدمونه للشعب العراقي, ولذلك فان تلك الجهات التي تسعى إلى كسب السلطة، تكافىء وتقدم الرشوة للهجوم على قوى الأمن العراقية وقوى التحالف».
ويرد المحلل السياسي قاسم الغريري «بان الجانب المادي يعد عنصرا مهماً في العمليات المسلحة»، مشيرا إلى أن «من غير المعقول أن يتفرغ المسلحون لعملياتهم من غير أخذ المال لسد احتياجاتهم», إلا أنه أضاف «ان ذلك لا يعد دافعا بحد ذاته», وتابع: «في كل الاحوال أن قضية الحصول على الأموال ليست تهمة بحد ذاتها لأن الجنود الأميركيين والعراقيين يحصلون على المال أيضا».
ربما يساعد التعرف على السياق المالي الذي نمت عليه حركة الجماعات المسلحة في العراق في توجيه النقاش بهذا الخصوص, التقارير والتصريحات وحتى اعترافات بعض اعضاء الشبكات المسلحة، تؤكد وجود مكافآت يتلقاها المساهمون في تنفيذ هجماتهم, ففي ديسمبر 2003، ذكرت مصادر إحدى الوحدات الأميركية أن 70 ـ 80 في المئة من الهجمات «تنفذ مقابل تعويضات مالية تشجيعية».
ويؤكد مسؤول رفيع المستوى في جهاز المخابرات العراقي، أنه «وجدت دلائل وأشياء ثبوتية، بل واعترافات من بعض الذين القي القبض عليهم، أكدت على نحو غير قابل للشك، ان بضعة آلاف من عشرات الآلاف من المجرمين الذين أطلق صدام حسين سراحهم، هم الذين شاركوا في الهجمات والاعمال المسلحة المختلفة ضد قوات التحالف والجيش والشرطة العراقية، وحتى أعمال الخطف للاجانب التي أعلنت الجماعات المسلحة القيام بها».
ووفقا لما أعلنته القيادة المركزية الأميركية في تقرير حديث، فان «هناك أدلة دامغة بأن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يقومون بالعمليات المسلحة، هم من العاطلين عن العمل والذين يحصلون على مبالغ كبيرة لقاء تنفيذ العمليات الهجومية ضد قوات التحالف والقوات العراقية».
واتسع حجم البطالة في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في ابريل 2003، ولا سيما بعد تسريح أكثر من 440 ألف عسكري سابق من أفراد القوات المسلحة السابقة، فضلا عن تسريح الآلاف من منتسبي الاجهزة الامنية والدوائر الاخرى التي جرى حلها.
ويشير التقرير كاستنتاج إلى «أن هناك بالفعل ثقافة عراقية متفشية حول الارتزاق من العمل المسلح», ويتابع «هذا الاتجاه هو الذي يقود إلى تنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات التحالف», ويوضح ان «هناك تعريفات نقدية محددة بالنسبة الى شكل ومضمون كل عملية على حدة, وفيما تسري هذه التعاملات مع المسلحين العراقيين فان المنخرطين من عرب دول الجوار وغيرهم لا يتقاضون تعويضات نقدية مباشرة جراء عملياتهم، وإنما تدفع بعض الإعانات إلى أهلهم ولاسيما بالنسبة إلى الانتحاريين».
ويؤكد التقرير أن «هناك احتياجات مادية أُخرى لعمليات التمرد، فرغم أن هناك مخزوناً كبيراً من الأسلحة لدى المتمردين حصلوا عليه من بقايا النظام السابق، إلا أنهم يحتاجون إلى بعض الأجهزة والأدوات المعقدة بعض الشيء والتي تطلب مبالغ مالية كبيرة، ويبدو أنهم يشترونها من ساحات مفتوحة في سورية، على وجه التحديد, كما ان هناك احتياجات تخص توفير مصاريف اقامة وتنقل المتمردين القادمين عبر الحدود».
وبغض النظر عن دقة هذه التقارير والتصريحات، فالتجربة التاريخية كشفت اعتماد المنظمات المسلحة ـ من الناحية الاقتصادية ـ خلال مرحلتي الاستقلال والحرب الباردة بعد 1945، على الرعاة الأغنياء من القوى الاستعمارية السابقة (كما في حالة الثوار الذين دربتهم ومولتهم فرنسا في إندونيسيا) أو من القوتين العظميين (المجموعات التي ترعاها الدولة والممولة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لشن الحروب بالوكالة على أطراف مناطق نفوذهما), ونظراً لتكلفة هذه الحروب المرتفعة ولعدم شعبيتها على النطاق الداخلي، فقد اضطرت القوتان إلى التعامل مع مزيج من العائدات القانونية وغير القانونية لتمرير الأموال إلى عملائها المفضلين.
ولعل المثال الكلاسيكي الذي يمكن استحضاره في هذا الصدد، رعاية إدارة الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان، لمجموعات «الكونترا» المسلحة التي قاتلت ضد حكومة نيكاراغوا الساندينستية في الثمانينات, وحصلت الإدارة الاميركية في خضم معارضة سياسية واسعة لهذا التوجه، على موافقة الكونغرس لتقديم مساعدة مالية قدرها 42 مليون دولار (كافية لتسليح 2000 من «الكونترا»), وبدأ هذا المبلغ بالازدياد سنوياً، حتى اندلاع فضيحة «إيران ـ كونترا» في 1986، ومع ذلك بقي هذا المبلغ عاجزاً عن مواجهة التكاليف المرتفعة لتمويل هذه المجموعات.
لكن في ظل عالم أحادي القطب وهيمنة أميركية، تتصاعد ضرورة الاجابة عن اقتصادات الجماعات المسلحة في العراق، وعلى من تعتمد في تمويل انشطتها والدفع لعناصرها؟
الشيء الواضح وفق معطيات عديدة، أن هناك مبالغ كبيرة لا تزال مخبأة في العراق من قبل أشخاص تم التمويه عنهم منذ عهد النظام السابق, وكل هذه الاموال مخصصة لتمويل العمليات الهجومية للجماعات المسلحة.
وقد خضعت عملية أموال النظام السابق إلى فحص دقيق بروية وبعد نظر من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي اي اي) وهيئات من الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي وشركة تسويق النفط العراقي.
وكانت المفاتيح الأساسية للكشف عن المعلومات الخاصة بمدخرات النظام السابق المالية، جاءت من قبل برزان التكريتي، شقيق صدام حسين من أمه، وحكمت إبراهيم العزاوي، الوزير السابق للمالية في عهد صدام، اللذين كشفا الكثير في شكل معمق، مما ساعد على التعرف على كيفية إخفاء الأموال في العهد السابق لاستغلالها في تمويل عمليات المسلحين.
وحصل النظام السابق على مبالغ كبيرة من جراء بيع وتهريب النفط في إطار التحايل على قيود برنامج «الغذاء مقابل النفط»، من العديد من المصادر التي سمحت بتحرير مبالغ نقدية إلى جهات حددها النظام, وهذه المبالغ في المحصلة، زودت النظام السابق بما لا يقل عن تسعة مليارات دولار، كما خدم العراق في ظل النظام السابق العديد من المجموعات الخاصة في سورية ولبنان في تجارة غير شرعية ارتبطت بالصناعة العسكرية العراقية، انتقل جزء منها أيضاً إلى الأردن.
وقد وقع العراق مع سورية في 29 مايو العام 2000، اتفاقية غير شرعية مهدت لأن يحصل العراق على مبالغ قدرت بـ 8 ,2 مليار دولار مقابل حصول سورية عن النفط الذي استفادت من بيعه في الأسواق الخارجية بدلاً من استخدامه في الداخل.
وقد تكدست أرصدة نقدية عراقية كبيرة في كل من سورية ولبنان والأردن وتركيا، وفي شكل دوري كانت تجري على هذه الارصدة سحوبات تذهب الى بغداد لتغطية نفقات الحكومة واحتياجاتها خارج نطاق «النفط مقابل الغذاء».
ومنذ عام 2001، عمد النظام السابق الى زيادة سحوباته من ارصدته الخارجية، في اطار نوبة خوف اصابته من احتمال تعرض هذه الارصدة للاكتشاف، وبالتالي الشمول بقرار تجميد ارصدة العراق الخارجية.
وفي فبراير 2003، نجحت الشبكة التجارية للصناعة العسكرية العراقية في تفريغ الارصدة النقدية التابعة لنظام صدام في الاردن ولبنان ونقلها الى سورية والعراق, وعندما بدأت الحرب على العراق في ربيع 2003، كان تحت تصرف حكومة البعث العراقية على الاقل نحو 842 مليون دولار في سورية ونحو مليار دولار في العراق.
وبعد ساعات من الهجمات الجوية في 20 مارس 2003، سحب النظام موجوداته من العملة الصعبة من البنك المركزي العراقي ، وقد قامت مجموعة مختارة من رجال النظام السابق، ضمت قصي صدام وحكمت العزاوي، وعصام حويش، محافظ البنك المركزي، وهاني عبد اللطيف طلفاح، مدير الامن الخاص، ونحو 50 شخصا آخرين بسحب 920 مليون دولار و90 مليون يورو ورزمها في 180 صندوقاً حديدياً محكماً، ونقلت بعيدا بثلاث شاحنات.
ووزع قسم من المبالغ على وزارات عدة، وخبئ جزء كبير منها في مدافن منتشرة في بعض البنوك وفي جدران بعض البيوت المحصنة.
والعملية كانت في جزء منها عملية «انقاذ» على الطريقة البعثية، كرد فعل على بدء الهجمات الجوية في ساعاتها الاولى, ومثل هذه العملية عادة ما تمارس في تشتيت الاشخاص القياديين وكذلك المعدات والوثائق، وهذه المرة شملت النقد بالعملة الصعبة.
وفي شكل عام، يبدو ان كل هذه الاموال بقيت في العراق واستغلت لتمويل عمليات التمرد المسلح، لكن كمية منها، وهي بحدود 132 مليون دولار، تمت استعادتها من مخابئ مختلفة، في الوقت الذي تم فيه اعتقال صدام في ديسمبر 2003.
وفي 15 يناير 2004، وعندما تم استبدال العملة العراقية باخرى جديدة، شكل هذا الاجراء تخفيضاً في امكانات رجال النظام السابق الذين كانوا ما زالوا طلقاء لكنهم قيد المطاردة، ولاسيما من حيث النقد العراقي الذي كان بحوزتهم او المخبأ بمعرفتهم.
كما أعلنت اللولايات المتحدة، من خلال التحقيقات التي قامت بها في الأصول النقدية العراقية التي كانت لا تزال موجودة في البنوك السورية بعد سقوط النظام السابق، أن مبلغاً يراوح حول 600 مليون دولار، سحبت بعد ذلك من البنك التجاري السوري، وبقي نحو 242 مليونا في الحساب، ولم يعرف كيف حصل ذلك ولمصلحة من تم إنفاق هذه الأموال.
وهذا على الاقل ما أعلنه أمام لجان الكونغرس، جان كارلوس زريتا، مساعد الرئيس السابق للخزينة الأميركية، الذي أشرف على التحقيقات في هذا الموضوع, وطبقاً لمعلومات القيادة المركزية، فان عزة الدوري، نائب صدام لفترة طويلة، هو الذي يشرف على صرف الأموال العراقية بواسطة بقايا البعثيين الذين كونوا شبكة في مدينة دير الزور السورية.
ويختلف الأمر بالنسبة الى تمويل الجماعات السلفية، إذ إن تمويلها يتخذ طريقاً آخر غير ما كان عليه الحال بالنسبة الى تمويل البعثيين، فهنالك مصادر عدة تكون الثروة التي تغذي عمليات المتمردين، ويمسك أبو مصعب الزرقاوي، باعتباره الرقم الأهم، بمحور النفقات المرسلة للمجاهدين السلفيين ولاسيما الذين يأتون للعراق.
وهنالك قنوات متعددة التي تغذي عمل رجال «القاعدة» في العراق، شغلت كثيراً الملاحقات التي قام بها موظفو الخزينة الأميركية ولاسيما ما يتعلق منها بشبكة الزرقاوي التي تتداخل امتداداتها في التمويل إلى مصادر عدة.
وفي 25 يناير، أعلنت إدارة الخزينة الأميركية أن السوري سليمان خالد درويش، يعد واحداً من أهم الإرهابيين المنظمين، والذي يرسل مبالغ إلى العراق تراوح بين 10 آلاف إلى 12 ألف دولار، كل 20 إلى 25 يوما، كما أن محسن الفضلي، وهو من مواليد عام 1981، فهو متهم بتمويل عمليات عدة؛ منها مقتل كل من عبد العزيز الحكيم وعز الدين سليم في العراق، وتدمير المدمرتين الأميركية والفرنسية «كول» و«ليبمورغ»، في اليمن، كما أنه من الممولين لأنشطة «القاعدة»، وسبق له القتال في افغانستان والشيشان, كما أشارت معلومات الخزينة، الى أنه بواسطة دعم ومساعدات الفضلي، تم تنفيذ هجمات ناجحة في العراق, وفي 13 أبريل 2005 أعتبر الأردني بلال منصور الحائري، واحداً من ممولي شبكة الزرقاوي، ولهذا السبب، دين من قبل محكمة أمن الدولة الأردنية في اكتوبر 2004.
وهناك نوعان من المقاتلين الذين يفدون إلى العراق للقيام بما يُسمى بـ «العمليات الجهادية»، يأتي في المقدمة منهم السعوديون الذين يعبرون إلى العراق من خلال سورية بسبب الصعوبات الكثيرة التي تحول دون دخولهم عبر الحدود العراقية ـ السعودية, وهؤلاء يصطحبون معهم عادة مبالغ نقدية كبيرة متأتية من مدخراتهم أو من ما تقدمه مصادر عديدة من أقربائهم أو معارفهم تحت غطاء دعم إخوانهم المجاهدين في العراق.
وبالنسبة الى المتبرعين الأجانب ومنهم السوريون، رغم إمكاناتهم المُتواضعة، إلا أن شبكة المؤيدين للجهاد تعمل بالفعل بمعزل عن الدعم الذي يُقدم من قبل رجال النظام العراقي السابق، ويُفضل السلفيون الجهاديون الاحتفاظ بنظام يدر عليهم بمساعدات مالية وفوائد أُخرى تُقدم إلى عوائل المحاربين الأجانب وعناصر الاحتراف التفجيريين كما إنهم يُشجعون هؤلاء بدفعات شهرية مُقدرة بين 1500 دولار و3000 دولار.
ومثل هذه الدفعات لا تكفي لوحدها لأن تجذب المتطوعين، لكن مع دفعات نظامية بين 80 ـ100 دولار، تكون سورية القاعدة الحاسمة لتجميع مثل هذه الشبكات، والمفتاح الجغرافي لمثل هؤلاء هو الشعبية التي تولدها العواطف الدينية عند السنة العرب في مناطق شمال دمشق، ولاسيما في مناطق يشكل فيها التآخي الإسلامي درجة كبيرة مثل حماة وحلب، إضافة إلى مناطق سنية في لبنان كطرابلس ومُخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل من سورية ولبنان.
ويُساعد في نقل الأموال إلى العراق، قصور النظام المصرفي العراقي وضآلة حجم التعامل المالي بواسطة المصارف، واعتماد الأفراد والتجارة في شكل عام على ما يُسمى بنظام «الحوالة» التي يتم بواسطتها وبسهولة تحويل الأموال في شكل سريع وسهل.
وعلى عكس ما هو حاصل في إطار التحويل عبر النظام المصرفي المعقد، فإن نظام «الحوالة» النقدية المعتمد في العراق لا يبين أسباب التحويل ولا اين تستقر المبالغ المحولة.
وقد استفاد التمرد المسلح من خصائص النظام المالي العراقي القائم على نظام التعامل النقدي حيث ضعف الثقة بالمصارف واحتفاظ الناس بأموالهم في شكل نقدي، وكُل هذا يساعد على سهولة نقل الأموال إلى المُتمردين.
وقد سهل تدفق الاموال الى العراق، اعتماد مُعظم حركة النقل في العراق على النقل البري بواسطة السيارات التي يُمكن من خلالها وتحت الغطاء التجاري حمل كميات كبيرة من النقد وإدخاله إلى العراق من دون مشاكل ومن دون امكانية معرفة المستقر الذي ستنتهي إليه الأموال.
كما أن هناك طريقة أُخرى، إذ قام التجار العراقيون باستيراد عشرات الالاف من السيارات القديمة من انحاء العالم وتم ادخالها عبر الاردن وسورية؛ وتواترت شكوك عن تمويل استيراد هذه السيارات عبر الاموال المخصصة لدعم التفجيرات والعمليات المفخخة, وعبر هذا الاسلوب يتم تخصيص اثمان هذه السيارات بعد بيعها إلى الجماعات المسلحة, وعلى هذا النحو، تختفي تماماً أي إمكانية للسيطرة على كيفية وصول الأموال إلى المتمردين في العراق.