زوربا
09-05-2005, 07:47 AM
بغداد: أنتوني شديد *
في مارس (آذار) 2003 وصلت الحرب التي طال انتظارها إلى بغداد وكانت شقة أمل سلمان، الفتاة الحيوية التي لم يتجاوز عمرها 14 عاما، هادئة. وفيها جلست أمل مع أمها كريمة وأخواتها الأربع مفضلات عدم مغادرة بيتهن الآمن نسبيا والواقع في منطقة شعبية هي الكرادة. وتطل شقتهن ذات الغرف الثلاث على رصيف بأحجار رخوة. وداخل العمارة كانت الفئران تتقافز بين أثاث مرمي حيث علقت أسلاك هابطة من السقف. داخل شقتهن كانت أخبار الحرب تحدد إيقاع حياتهن، وسادت شائعات بين الجيران عن تقدم الجيش الأميركي عابرا نهري دجلة والفرات.
وخلال ساعات الليل بقين يسعين للوصول إلى محطة راديو بالعربية هي «مونت كارلو» التي يعتبرنها غير منحازة في تقاريرها حول الحرب. وأي ذكر لمدن مثل أم قصر والناصرية والبصرة والنجف يجلب الخوف لأولئك الذين أقاربهم كانوا جنودا أو مقيمين في تلك المناطق. وفي صمت كن يبحثن عن أي تفاصيل عبر الراديو عن المعارك الدائرة بالقرب من الموصل حيث يخدم الابن ضمن وحدة مضادة للطائرات. قالت فاطمة التي تبلغ السادسة عشرة وهي أكبر البنات بفخر «لم يكن خائفا». لكن الأم صاحت غاضبة «بالتأكيد كان خائفا. كان قلقا ونحن قلقون من أجله. لكن الله موجود».
خلال أوقات ما من تلك الليلة كانت أمل وأخواتها ينفجرن ضاحكات وهن يرددن أغنية مديح للرئيس صدام حسين. ويبدو كأنهن يقمن بذلك بدافع الخوف أكثر من أي شيء آخر. وخلف ترديدهن لتلك الأغنية، التي تبدأ بـ «يحفظ الله الرئيس» الذي كان ناجما عن قسر أكثر منه عن قناعة، قناع يغطي وراءه قدرا من حالة التشوش. ومثلما هو الحال غالبا في العراق، فالناس هم متفرجون أكثر منهم طرفا في صياغة الأحداث.
كانت أمل هي الأكثر تحمسا وهي مثل الكثيرين في سنها عضو في اتحاد الشباب التابع لحزب البعث. وقالت أكثر مما كان متوقعا منها وبلغتها «إذا كان هناك أجنبي يريد أن يدخل إلى بغداد بسلام نحن جميعا سنرحب به، لكن إذا أراد أن يدخل كعدو فنحن جميعا سنواجهه حتى لو كان بالحجارة وإذا لم يكن هناك حجر فسنرمي عليه الطين».
البكاء على كل شيء ثمين
* قبل الحرب احتفظت أمل بدفتر يوميات يتضمن تفاصيل عن الحرب التي يتم تلمسها من خلال عيني فتاة ذكية لكنها معزولة عن العالم الخارجي. وغالبا ما كانت تكتب وهي مضطجعة على الأرضية. وكانت كلماتها تضاء بمصابيح ضعيفة أو بفوانيس تعمل على الجاز أو الشموع. ولم تكن رسالتها في تلك اليوميات سياسية فهي لم تكتب اسم صدام حسين ولا مرة واحدة. وفي مدخلها قدمت الحرب بطرق أكثر بساطة وأكثر إنسانية باعتبارها صراعا من أجل البقاء. فهي خافت من أحكام الحرب العشوائية وغير المقبولة.
وبدأت بالبسملة أولا. ثم أتبعتها بـ «اسمي أمل. لدي عائلة سعيدة تتكون من تسعة أفراد. ثلاثة إخوة: علي، الجندي في الموصل; ومحمد الذي يعمل نقاشا; ومحمود الذي ما زال طالبا. وهناك خمس أخوات: فاطمة التي تساعد أمي في البيت، وزينب; وأمل; وأختيّ التوأمان، دعاء وهبة. أنا فخورة بأمي لأنها امرأة عظيمة تعمل من أجل جلب الطعام لنا لأن أبي توفي حينما كنا صغارا».
ومثل الكثير من أهالي بغداد استغرقت أمل في التهيؤ قبل وصول الحرب إلى بغداد. فأسرتها كانت لديها القليل من المال. فلسنوات ظلت أمها تبيع «العلك» على بساط في الشارع وهي الآن تعد الخبز للجيران، ووالدها المعوق أصيب ست مرات خلال الحربين مع إيران والولايات المتحدة وتوفي خلال شهر رمضان عام 1996 حينما تعطلت فرأمل سيارته. والآن أصبح التضخم الذي سبق الحرب يأكل حصة كبيرة من ميزانية الأسرة المتواضعة. فسعر طبق من 24 بيضة تضاعف ثلاث مرات. ومحلات الخبز أغلقت وأصبح توفره نادرا. وفي تلك الأيام قام أفراد الأسرة بالذهاب إلى السوق لكنهم لم يجدوا شيئا يستطيعون أن يشتروه، وكان الكثير من جيرانهم من ذوي الحالة المعيشية الأفضل قد تركوا البناية سعيا للوصول إلى مكان أكثر أمنا في الريف.
كتبت أمل في دفتر يومياتها «نحن نوفر بأنفسنا الماء وهو نادر، والكهرباء ستقطع. دعاء وهبة تصليان كل الوقت لتجنب الحرب. أما فاطمة فتشعر بأن الحرب لن تحدث». وأضافت «الحمد لله على كل شيء. لكنني أمل ألا تقع الحرب».
تدريجيا ومع اقتراب بدء الغزو بدأت كل قطع الحياة اليومية لأمل تتفكك واحدة بعد الأخرى فحينما ذهبت مع اختها زينب، 15 سنة، إلى المدرسة لم تجد هناك سوى عدد قليل من الفتيات. لذلك عادتا إلى البيت.
ومع تقهقر الحياة راحت الأم تبكي بشكل خارج عن سيطرتها وهذا ما كان يدفع البنات إلى البكاء أيضا. كان ضعف الأم مصدر خوف لهن. كانت هبة ودعاء اللتان يبلغ عمراهما الحادية عشرة تقضيان الوقت في قراءة القرآن، أما أمل فظلت تسجل في يومياتها تفاصيل الحياة اليومية «الأعين تبكي لأي شيء ثمين» تكتب في فقرة من يومياتها.
ويوم 20 مارس عند الساعة الخامسة وأربع وثلاثين دقيقة وتحت وطأة عتمة كأملة نجمت عن انقطاع الكهرباء، سمعن بوصول الحرب المتوقعة. إذ سقط 40 صاروخا من نوع كروز على مخبأ في أطراف بغداد، وراحت صافرات الإنذار تزعق. كتبت أمل في يومياتها «يا الله أنقذنا... قلوبنا مملوءة بالخوف»، ثم تحول تفكيرها صوب أخيها علي «يا الله احم أخي».
اعطنا سلاما وأمانا
* لم يكن الإيمان بالنسبة لعائلة أمل ناجما عن مشاعر دينية متطرفة. بل حتى أنه ليس ناجما عن إفراط بالتقوى والورع، بل هو يعطي حياتهن إيقاعا منتظما. ومثلما هو دعوة المسلم للصلاة عبر الأذان الذي يتردد خمس مرات كل يوم من فوق المنابرت ابتداء من الفجر فإن الدين ينظم إيقاع اليوم. فهو يتكلم بوضوح ويقدم عزاء ودعما في الأوقات الصعبة. في يوميات أمل نجد قراءة القرآن سائدة بين الكثير من الجيران وكانت أختاها التوأمان تكرران دعاء بوقف الحرب مثلما هي الحال مع الكثير المقيمين في نفس العمارة.
تكتب أمل «ربنا، أعطنا سلاما وأمانا». وفي الكثير من الصفحات الحميمة ظلت أمل تكرر هذه العبارة.
وظلت أسرة أمل مع الكثير من سكان بغداد يتابعون عبر شاشات التلفزيون أغاني وطنية ومشاهد من جنود يتقدمون في ساحات التدريب مع صورة صدام حسين وهو يطلق النار من بندقيته في الهواء. وعلى الرغم من أن السلاح الجوي الأميركي واجه القليل من المقاومة في العاصمة فإن «البروباغاندا» ظلت مستمرة لتلحق إيلاما بمخططي الحرب الأميركيين. مع ذلك فإن يوميات أمل تتظاهر بالشجاعة. وحينما كانت القنابل تسقط كان أسرة أمل مع الجيران الآخرين في العمارة يختبئون تحت السلالم حيث يضع الكل حداً لأي خلافات قد تتصاعد نتيجة ازدحام عدد كبير من الناس في مكان ضيق. كان الناس يرددون الشائعات التي تكون في الغالب مخيفة، مما كان يرعب أسرة أمل.
وكتبت أمل «جاء جارنا. وقال انهم قصفوا مقر قيادة الدفاع المدني، الواقع على بعد عشرين دقيقة منا. وقصفوه مرة ثانية في الساعة 10.45 ومرة أخرى وأخرى. وفتحت الراديو. وقالت التقارير ان اميركا قصفت قصرين رئيسيين على نهر دجلة في الساعة 10.50. جلست في مدخل الشقة مع أم حيدر وأم سيف، وتحدثنا عن الحرب. ثم انتهت الغارة في الساعة 11.10 وقالت أمي «شكرا لله». وقالت أم حيدر «سيأتون لقصفنا مرة أخرى خلال 10 دقائق».
في الأيام الأولى للحرب، كانت الحياة عبارة عن انقطاع للتيار الكهربائي وأصوات صفارات الإنذار وأصوت الانفجارات التي كانت تهز المباني القديمة وتولد الخوف. وكتبت تقول «الآن الساعة 9.25، بدأت أصوات الانفجارات تعلو وتعلو». وتعود مرة أخرى لاستكمال الكتابة التي اصبحت اقل اضطرابا «نستمع للراديو، ولكن لا يقولون لنا كل الحقيقة. الساعة الآن 11.35 وتعتقد فاطمة انه سواء متنا أم لم نمت فلن نتغير».
ومع مرور الأيام، تكررت أسئلة أسرة أمل «متى سيتوقف القصف ومتى سيبدأ مرة اخرى». كانت الليالي تمر بلا نوم، ومع استمرار الحرب، اصبحت اصوات صفارات الانذار مثار تشوش: هل تعني صفارة الانذار بداية ام نهاية غارة؟ واصبح من الصعب متابعة صفارات الانذار. وفي الخارج كانت العواصف الرملية التي لم يواجهوا مثلها من قبل، تحجب ضوء الشمس، بظلال حمراء وبنية وصفراء.
وكتب أمل «الطقس مثل غضب السماء على الأرض والناس».
لماذا وقعت الحرب؟
لم تكن شبكة كهرباء بغداد المتهالكة قادرة على مواجهة الحرب، وكانت تتعطل يوميا. وكان مسكن أمل، لعدة ساعات يوميا، يسوده الظلام الدامس. وفي بعض الأحيان كانت الأسرة تستخدم الشموع، واضواء المصابيح غير الكهربائية حيث كان يسود الشقة ضوء ناعم. ومرة بعد المرة كانت الكهرباء تعود مرة اخرى.
الا انه في 3 ابريل ( نيسان)، لم تعد الكهرباء مرة اخرى، واستمرت الظلال والحرب تقترب من ذروتها. وكتبت أمل «نحن نعيش في الظلام، لقد اختفى الضوء ولا نستطيع رؤية أي شيء، حتى السلالم خارج الشقة. لا يستطيع احد الرؤية بسبب الظلام. يا رب أنر العراق بنورك العظيم».
وفي اليوم التالي اندفعت المياه من صنبور المياه في المطبخ ودورة المياه لعدة دقائق ثم توقفت. وقالت أمل في يومياتها ذلك اليوم «ذهبنا بحثا عن المياه وكانت كل الصنابير جافة. ذهبت أمي لخبز بعض الخبر في الساعة 3.30 وقالت «يا رب حتى المياه مقطوعة».
وكان انقطاع الكهرباء يعني بداية فصل جديد في الحرب التي كانت قصيرة، على الاقل بالنسبة للعراقيين، الذين توقعوا (وخشوا) الكثير من صدام حسين. والآن أصبح هناك أكثر من مجرد القصف. ففي الأسبوع الأخير للغزو، حاصر جيش أجنبي بغداد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وحاولت أسرة أمل متابعة تقدم الحرب عبر الصوت والمشاهد والكلمات العابرة في الإذاعة، التي كانت كلها مبهمة. وكان الجيران يقفون على عتبات شققهم يتكهنون، لأي شخص يود الاستماع لهم، عن مدى تقدم القوات الأميركية ـ المطار، معسكر الرشيد، حي الكرادة الذي يعيشون فيه. وتكهن ابو سيف، وهو واحد من الجيران، بأن الجنود سيبدأون في الهبوط بالمظلات في المدينة التي يخيم عليها الظلام.
وكتبت أمل في مذكراتها «لماذا؟ ما هو ذنب الجنود الذين قتلوا؟ ما ذنب اسر الضحايا، أو أمهاتهم، الذين يبكون على أبنائهم؟ لماذا وقعت هذه الحرب؟» ومع تقدم القوات الاميركية عبر جنوب بغداد واقترابهم من مشارف بغداد، اصبحت الانفجارات اقوى. واقترح جار ان الانفجارات ذات الدوي الضخم هي قنابل عنقودية. وكتب أمل «لم نعرف ما يعنيه ذلك. ارحمنا يا رب».
وفي 5 ابريل (نيسان)، اقتحم الاميركيون دفاعات بغداد للمرة الاولى. وكانت القافلة الاستكشافية لـ 30 دبابة من طراز ابرامز وسيارات برالي المقاتلة قصيرة ولكنها مدمرة. وظلت النيران والادخنة تتصاعد بعد فترة طويلة من الهجمات: دبابات عراقية محترقة وناقلات جنود عراقية ملقاة عبر الطريق.
وبالنسبة لأمل، اتخذت المدينة التي واجهت حربا جوية الي عاصمة مستعدة لمعركة. وتضاعف عدد افراد مليشيات حزب البعث بصورة كبيرة، وزاد على عدد السكان في الشوارع. وتجمع اعضاء منظمة فدائيي صدام وهي مليشيا ذات تدريب غير جيد ولكنها متحمسة للغاية تحت الجسور واختلطت بالجنود تحت النخيل.
وكانت الأيام الأخيرة اكثرها دموية في بغداد، بعدما بدأت القوات الأميركية في التقدم نحو ضواحي المدينة. وحركوا قوة ضخمة. وازدحمت المستشفيات بالجرحى، وامتلأت غرف الطوارئ بالذباب والروائح الكريهة للدماء والقاذورات والمواد المطهرة.
وكتبت أمل «سمعنا أصوات تبادل إطلاق النار، قريبة للغاية من المبنى. حضرت ام محمد وقالت ان الاميركيين يهبطون في بغداد».
وبحلول 7 ابريل (نيسان)، وبعد يومين من اول غارة اميركية على العاصمة، اندفعت القوات الأميركية الى قلب المدينة، وسيطرت على القصر الجمهوري. ولم تنته المعركة بعد، ولكن الشوارع التي سادها بسرعة مناخ عسكري، فقدت الروح القتالية. وبدأ الخوف الذي فرض الالتزام في التلاشى مع اقترب نهاية الحكومة. كانت هناك مشاهد متفرقة على استمرار البيروقراطية، أكثرها لفتا للانتباه الباصات العممومية الحمراء التي كانت مستمرة في العمل. ولكن الأمر الأكثر اهمية هو مدينة تتحطم. فقد اصبحت المواقع المحصنة بأكياس الرمل المتناثرة في انحاء المدينة مهجورة، لم يبق الا الشعار المكتوب عليها وهو «الموت عبر الشهادة». وفي دولة بوليسية تتفكك لم يعد احد يشاهد رجال الشرطة. وكانت علامات الطرق السريعة التي تشير الى الموصل، حيث يخدم علي، محطمة. وحتى قبل انهيارها كانت بغداد تبدو وكأنها مدينة تم غزوها.
وفي مسكن أمل، أدت المعارك الى مزيد من التشوش. فلم يعد احد يعرف الوضع الدقيق في المدينة. واستمعت الأسرة الى هيئة الإذاعة البريطانية، التي أشارت الى سقوط القصر الجمهوري في يد القوات الاميركية. ثم استمعوا الى الاذاعة العراقية، التي طالب المذيع الانضمام الى اقرب وحدة عسكرية: «ثوروا ضد الظلم والطغيان. اسحبوا سيوف الحق في مواجهة الكذب». وسألت أمل «ماذا سيحدث الآن؟ لا نعرف».
وازدحمت الساعات التالية بمشاهد لم تواجهها من قبل: فقد ذكر لهم أبو سيف مشاهدته لجثث محترقة على الجسر. وسمعت أمل صوت دبابة اميركية بالقرب منزلها. وشاهدت شقيقتها طائرة هليكوبتر اميركية. وفي ليلة 8 ابريل كانت كتاباتها قصيرة وسريعة. وكانت الطائرات تعبر فوق رأسها وهزت الانفجارات العمارة السكنية التي تعيش بها وكان يمكنها سماع اصوات طلقات النيران في الشارع. ومع اقتراب منتصف الليل، انفتحت ابواب السماء وتساقط المطر لفترة قصيرة. ولكنه غسلت بغداد.
وفي اليوم التالي، وكان مشمساً، استيقظت أمل على صوت الأخبار من راديو الجيران. كان الخبر أقصر من أي خبر آخر. وكتبت «وأخيرا سقطت بغداد في يد الأميركيين».
خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»
في مارس (آذار) 2003 وصلت الحرب التي طال انتظارها إلى بغداد وكانت شقة أمل سلمان، الفتاة الحيوية التي لم يتجاوز عمرها 14 عاما، هادئة. وفيها جلست أمل مع أمها كريمة وأخواتها الأربع مفضلات عدم مغادرة بيتهن الآمن نسبيا والواقع في منطقة شعبية هي الكرادة. وتطل شقتهن ذات الغرف الثلاث على رصيف بأحجار رخوة. وداخل العمارة كانت الفئران تتقافز بين أثاث مرمي حيث علقت أسلاك هابطة من السقف. داخل شقتهن كانت أخبار الحرب تحدد إيقاع حياتهن، وسادت شائعات بين الجيران عن تقدم الجيش الأميركي عابرا نهري دجلة والفرات.
وخلال ساعات الليل بقين يسعين للوصول إلى محطة راديو بالعربية هي «مونت كارلو» التي يعتبرنها غير منحازة في تقاريرها حول الحرب. وأي ذكر لمدن مثل أم قصر والناصرية والبصرة والنجف يجلب الخوف لأولئك الذين أقاربهم كانوا جنودا أو مقيمين في تلك المناطق. وفي صمت كن يبحثن عن أي تفاصيل عبر الراديو عن المعارك الدائرة بالقرب من الموصل حيث يخدم الابن ضمن وحدة مضادة للطائرات. قالت فاطمة التي تبلغ السادسة عشرة وهي أكبر البنات بفخر «لم يكن خائفا». لكن الأم صاحت غاضبة «بالتأكيد كان خائفا. كان قلقا ونحن قلقون من أجله. لكن الله موجود».
خلال أوقات ما من تلك الليلة كانت أمل وأخواتها ينفجرن ضاحكات وهن يرددن أغنية مديح للرئيس صدام حسين. ويبدو كأنهن يقمن بذلك بدافع الخوف أكثر من أي شيء آخر. وخلف ترديدهن لتلك الأغنية، التي تبدأ بـ «يحفظ الله الرئيس» الذي كان ناجما عن قسر أكثر منه عن قناعة، قناع يغطي وراءه قدرا من حالة التشوش. ومثلما هو الحال غالبا في العراق، فالناس هم متفرجون أكثر منهم طرفا في صياغة الأحداث.
كانت أمل هي الأكثر تحمسا وهي مثل الكثيرين في سنها عضو في اتحاد الشباب التابع لحزب البعث. وقالت أكثر مما كان متوقعا منها وبلغتها «إذا كان هناك أجنبي يريد أن يدخل إلى بغداد بسلام نحن جميعا سنرحب به، لكن إذا أراد أن يدخل كعدو فنحن جميعا سنواجهه حتى لو كان بالحجارة وإذا لم يكن هناك حجر فسنرمي عليه الطين».
البكاء على كل شيء ثمين
* قبل الحرب احتفظت أمل بدفتر يوميات يتضمن تفاصيل عن الحرب التي يتم تلمسها من خلال عيني فتاة ذكية لكنها معزولة عن العالم الخارجي. وغالبا ما كانت تكتب وهي مضطجعة على الأرضية. وكانت كلماتها تضاء بمصابيح ضعيفة أو بفوانيس تعمل على الجاز أو الشموع. ولم تكن رسالتها في تلك اليوميات سياسية فهي لم تكتب اسم صدام حسين ولا مرة واحدة. وفي مدخلها قدمت الحرب بطرق أكثر بساطة وأكثر إنسانية باعتبارها صراعا من أجل البقاء. فهي خافت من أحكام الحرب العشوائية وغير المقبولة.
وبدأت بالبسملة أولا. ثم أتبعتها بـ «اسمي أمل. لدي عائلة سعيدة تتكون من تسعة أفراد. ثلاثة إخوة: علي، الجندي في الموصل; ومحمد الذي يعمل نقاشا; ومحمود الذي ما زال طالبا. وهناك خمس أخوات: فاطمة التي تساعد أمي في البيت، وزينب; وأمل; وأختيّ التوأمان، دعاء وهبة. أنا فخورة بأمي لأنها امرأة عظيمة تعمل من أجل جلب الطعام لنا لأن أبي توفي حينما كنا صغارا».
ومثل الكثير من أهالي بغداد استغرقت أمل في التهيؤ قبل وصول الحرب إلى بغداد. فأسرتها كانت لديها القليل من المال. فلسنوات ظلت أمها تبيع «العلك» على بساط في الشارع وهي الآن تعد الخبز للجيران، ووالدها المعوق أصيب ست مرات خلال الحربين مع إيران والولايات المتحدة وتوفي خلال شهر رمضان عام 1996 حينما تعطلت فرأمل سيارته. والآن أصبح التضخم الذي سبق الحرب يأكل حصة كبيرة من ميزانية الأسرة المتواضعة. فسعر طبق من 24 بيضة تضاعف ثلاث مرات. ومحلات الخبز أغلقت وأصبح توفره نادرا. وفي تلك الأيام قام أفراد الأسرة بالذهاب إلى السوق لكنهم لم يجدوا شيئا يستطيعون أن يشتروه، وكان الكثير من جيرانهم من ذوي الحالة المعيشية الأفضل قد تركوا البناية سعيا للوصول إلى مكان أكثر أمنا في الريف.
كتبت أمل في دفتر يومياتها «نحن نوفر بأنفسنا الماء وهو نادر، والكهرباء ستقطع. دعاء وهبة تصليان كل الوقت لتجنب الحرب. أما فاطمة فتشعر بأن الحرب لن تحدث». وأضافت «الحمد لله على كل شيء. لكنني أمل ألا تقع الحرب».
تدريجيا ومع اقتراب بدء الغزو بدأت كل قطع الحياة اليومية لأمل تتفكك واحدة بعد الأخرى فحينما ذهبت مع اختها زينب، 15 سنة، إلى المدرسة لم تجد هناك سوى عدد قليل من الفتيات. لذلك عادتا إلى البيت.
ومع تقهقر الحياة راحت الأم تبكي بشكل خارج عن سيطرتها وهذا ما كان يدفع البنات إلى البكاء أيضا. كان ضعف الأم مصدر خوف لهن. كانت هبة ودعاء اللتان يبلغ عمراهما الحادية عشرة تقضيان الوقت في قراءة القرآن، أما أمل فظلت تسجل في يومياتها تفاصيل الحياة اليومية «الأعين تبكي لأي شيء ثمين» تكتب في فقرة من يومياتها.
ويوم 20 مارس عند الساعة الخامسة وأربع وثلاثين دقيقة وتحت وطأة عتمة كأملة نجمت عن انقطاع الكهرباء، سمعن بوصول الحرب المتوقعة. إذ سقط 40 صاروخا من نوع كروز على مخبأ في أطراف بغداد، وراحت صافرات الإنذار تزعق. كتبت أمل في يومياتها «يا الله أنقذنا... قلوبنا مملوءة بالخوف»، ثم تحول تفكيرها صوب أخيها علي «يا الله احم أخي».
اعطنا سلاما وأمانا
* لم يكن الإيمان بالنسبة لعائلة أمل ناجما عن مشاعر دينية متطرفة. بل حتى أنه ليس ناجما عن إفراط بالتقوى والورع، بل هو يعطي حياتهن إيقاعا منتظما. ومثلما هو دعوة المسلم للصلاة عبر الأذان الذي يتردد خمس مرات كل يوم من فوق المنابرت ابتداء من الفجر فإن الدين ينظم إيقاع اليوم. فهو يتكلم بوضوح ويقدم عزاء ودعما في الأوقات الصعبة. في يوميات أمل نجد قراءة القرآن سائدة بين الكثير من الجيران وكانت أختاها التوأمان تكرران دعاء بوقف الحرب مثلما هي الحال مع الكثير المقيمين في نفس العمارة.
تكتب أمل «ربنا، أعطنا سلاما وأمانا». وفي الكثير من الصفحات الحميمة ظلت أمل تكرر هذه العبارة.
وظلت أسرة أمل مع الكثير من سكان بغداد يتابعون عبر شاشات التلفزيون أغاني وطنية ومشاهد من جنود يتقدمون في ساحات التدريب مع صورة صدام حسين وهو يطلق النار من بندقيته في الهواء. وعلى الرغم من أن السلاح الجوي الأميركي واجه القليل من المقاومة في العاصمة فإن «البروباغاندا» ظلت مستمرة لتلحق إيلاما بمخططي الحرب الأميركيين. مع ذلك فإن يوميات أمل تتظاهر بالشجاعة. وحينما كانت القنابل تسقط كان أسرة أمل مع الجيران الآخرين في العمارة يختبئون تحت السلالم حيث يضع الكل حداً لأي خلافات قد تتصاعد نتيجة ازدحام عدد كبير من الناس في مكان ضيق. كان الناس يرددون الشائعات التي تكون في الغالب مخيفة، مما كان يرعب أسرة أمل.
وكتبت أمل «جاء جارنا. وقال انهم قصفوا مقر قيادة الدفاع المدني، الواقع على بعد عشرين دقيقة منا. وقصفوه مرة ثانية في الساعة 10.45 ومرة أخرى وأخرى. وفتحت الراديو. وقالت التقارير ان اميركا قصفت قصرين رئيسيين على نهر دجلة في الساعة 10.50. جلست في مدخل الشقة مع أم حيدر وأم سيف، وتحدثنا عن الحرب. ثم انتهت الغارة في الساعة 11.10 وقالت أمي «شكرا لله». وقالت أم حيدر «سيأتون لقصفنا مرة أخرى خلال 10 دقائق».
في الأيام الأولى للحرب، كانت الحياة عبارة عن انقطاع للتيار الكهربائي وأصوات صفارات الإنذار وأصوت الانفجارات التي كانت تهز المباني القديمة وتولد الخوف. وكتبت تقول «الآن الساعة 9.25، بدأت أصوات الانفجارات تعلو وتعلو». وتعود مرة أخرى لاستكمال الكتابة التي اصبحت اقل اضطرابا «نستمع للراديو، ولكن لا يقولون لنا كل الحقيقة. الساعة الآن 11.35 وتعتقد فاطمة انه سواء متنا أم لم نمت فلن نتغير».
ومع مرور الأيام، تكررت أسئلة أسرة أمل «متى سيتوقف القصف ومتى سيبدأ مرة اخرى». كانت الليالي تمر بلا نوم، ومع استمرار الحرب، اصبحت اصوات صفارات الانذار مثار تشوش: هل تعني صفارة الانذار بداية ام نهاية غارة؟ واصبح من الصعب متابعة صفارات الانذار. وفي الخارج كانت العواصف الرملية التي لم يواجهوا مثلها من قبل، تحجب ضوء الشمس، بظلال حمراء وبنية وصفراء.
وكتب أمل «الطقس مثل غضب السماء على الأرض والناس».
لماذا وقعت الحرب؟
لم تكن شبكة كهرباء بغداد المتهالكة قادرة على مواجهة الحرب، وكانت تتعطل يوميا. وكان مسكن أمل، لعدة ساعات يوميا، يسوده الظلام الدامس. وفي بعض الأحيان كانت الأسرة تستخدم الشموع، واضواء المصابيح غير الكهربائية حيث كان يسود الشقة ضوء ناعم. ومرة بعد المرة كانت الكهرباء تعود مرة اخرى.
الا انه في 3 ابريل ( نيسان)، لم تعد الكهرباء مرة اخرى، واستمرت الظلال والحرب تقترب من ذروتها. وكتبت أمل «نحن نعيش في الظلام، لقد اختفى الضوء ولا نستطيع رؤية أي شيء، حتى السلالم خارج الشقة. لا يستطيع احد الرؤية بسبب الظلام. يا رب أنر العراق بنورك العظيم».
وفي اليوم التالي اندفعت المياه من صنبور المياه في المطبخ ودورة المياه لعدة دقائق ثم توقفت. وقالت أمل في يومياتها ذلك اليوم «ذهبنا بحثا عن المياه وكانت كل الصنابير جافة. ذهبت أمي لخبز بعض الخبر في الساعة 3.30 وقالت «يا رب حتى المياه مقطوعة».
وكان انقطاع الكهرباء يعني بداية فصل جديد في الحرب التي كانت قصيرة، على الاقل بالنسبة للعراقيين، الذين توقعوا (وخشوا) الكثير من صدام حسين. والآن أصبح هناك أكثر من مجرد القصف. ففي الأسبوع الأخير للغزو، حاصر جيش أجنبي بغداد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وحاولت أسرة أمل متابعة تقدم الحرب عبر الصوت والمشاهد والكلمات العابرة في الإذاعة، التي كانت كلها مبهمة. وكان الجيران يقفون على عتبات شققهم يتكهنون، لأي شخص يود الاستماع لهم، عن مدى تقدم القوات الأميركية ـ المطار، معسكر الرشيد، حي الكرادة الذي يعيشون فيه. وتكهن ابو سيف، وهو واحد من الجيران، بأن الجنود سيبدأون في الهبوط بالمظلات في المدينة التي يخيم عليها الظلام.
وكتبت أمل في مذكراتها «لماذا؟ ما هو ذنب الجنود الذين قتلوا؟ ما ذنب اسر الضحايا، أو أمهاتهم، الذين يبكون على أبنائهم؟ لماذا وقعت هذه الحرب؟» ومع تقدم القوات الاميركية عبر جنوب بغداد واقترابهم من مشارف بغداد، اصبحت الانفجارات اقوى. واقترح جار ان الانفجارات ذات الدوي الضخم هي قنابل عنقودية. وكتب أمل «لم نعرف ما يعنيه ذلك. ارحمنا يا رب».
وفي 5 ابريل (نيسان)، اقتحم الاميركيون دفاعات بغداد للمرة الاولى. وكانت القافلة الاستكشافية لـ 30 دبابة من طراز ابرامز وسيارات برالي المقاتلة قصيرة ولكنها مدمرة. وظلت النيران والادخنة تتصاعد بعد فترة طويلة من الهجمات: دبابات عراقية محترقة وناقلات جنود عراقية ملقاة عبر الطريق.
وبالنسبة لأمل، اتخذت المدينة التي واجهت حربا جوية الي عاصمة مستعدة لمعركة. وتضاعف عدد افراد مليشيات حزب البعث بصورة كبيرة، وزاد على عدد السكان في الشوارع. وتجمع اعضاء منظمة فدائيي صدام وهي مليشيا ذات تدريب غير جيد ولكنها متحمسة للغاية تحت الجسور واختلطت بالجنود تحت النخيل.
وكانت الأيام الأخيرة اكثرها دموية في بغداد، بعدما بدأت القوات الأميركية في التقدم نحو ضواحي المدينة. وحركوا قوة ضخمة. وازدحمت المستشفيات بالجرحى، وامتلأت غرف الطوارئ بالذباب والروائح الكريهة للدماء والقاذورات والمواد المطهرة.
وكتبت أمل «سمعنا أصوات تبادل إطلاق النار، قريبة للغاية من المبنى. حضرت ام محمد وقالت ان الاميركيين يهبطون في بغداد».
وبحلول 7 ابريل (نيسان)، وبعد يومين من اول غارة اميركية على العاصمة، اندفعت القوات الأميركية الى قلب المدينة، وسيطرت على القصر الجمهوري. ولم تنته المعركة بعد، ولكن الشوارع التي سادها بسرعة مناخ عسكري، فقدت الروح القتالية. وبدأ الخوف الذي فرض الالتزام في التلاشى مع اقترب نهاية الحكومة. كانت هناك مشاهد متفرقة على استمرار البيروقراطية، أكثرها لفتا للانتباه الباصات العممومية الحمراء التي كانت مستمرة في العمل. ولكن الأمر الأكثر اهمية هو مدينة تتحطم. فقد اصبحت المواقع المحصنة بأكياس الرمل المتناثرة في انحاء المدينة مهجورة، لم يبق الا الشعار المكتوب عليها وهو «الموت عبر الشهادة». وفي دولة بوليسية تتفكك لم يعد احد يشاهد رجال الشرطة. وكانت علامات الطرق السريعة التي تشير الى الموصل، حيث يخدم علي، محطمة. وحتى قبل انهيارها كانت بغداد تبدو وكأنها مدينة تم غزوها.
وفي مسكن أمل، أدت المعارك الى مزيد من التشوش. فلم يعد احد يعرف الوضع الدقيق في المدينة. واستمعت الأسرة الى هيئة الإذاعة البريطانية، التي أشارت الى سقوط القصر الجمهوري في يد القوات الاميركية. ثم استمعوا الى الاذاعة العراقية، التي طالب المذيع الانضمام الى اقرب وحدة عسكرية: «ثوروا ضد الظلم والطغيان. اسحبوا سيوف الحق في مواجهة الكذب». وسألت أمل «ماذا سيحدث الآن؟ لا نعرف».
وازدحمت الساعات التالية بمشاهد لم تواجهها من قبل: فقد ذكر لهم أبو سيف مشاهدته لجثث محترقة على الجسر. وسمعت أمل صوت دبابة اميركية بالقرب منزلها. وشاهدت شقيقتها طائرة هليكوبتر اميركية. وفي ليلة 8 ابريل كانت كتاباتها قصيرة وسريعة. وكانت الطائرات تعبر فوق رأسها وهزت الانفجارات العمارة السكنية التي تعيش بها وكان يمكنها سماع اصوات طلقات النيران في الشارع. ومع اقتراب منتصف الليل، انفتحت ابواب السماء وتساقط المطر لفترة قصيرة. ولكنه غسلت بغداد.
وفي اليوم التالي، وكان مشمساً، استيقظت أمل على صوت الأخبار من راديو الجيران. كان الخبر أقصر من أي خبر آخر. وكتبت «وأخيرا سقطت بغداد في يد الأميركيين».
خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»