الراي السديد
09-23-2022, 12:04 PM
إيمان بشير (https://www.al-akhbar.com/Author/895)
الجمعة 23 أيلول 2022
بدأ ذلك قبل أكثر من أربعين عاماً، لم يكن انخراط «حزب الله» في بيئته حدثاً مستجداً. نضجت أولى معالمه بعدما خَطَّ شابٌ في مقتبل العمر، عام 1979، شعار الثورة الإسلامية الإيرانية على حائط في برج البراجنة، في ضاحية بيروت الجنوبية. ما كان يجمع بين الشعار والحزب فِعل الثورة ومقاومة الأعداء. الاتصال الجماهيري بين حزب الله وجمهوره، كان ولا يزال مختلفاً من نوعه. رسخت الكثير من الأيقونات والرموز والعبارات والمفردات في الذاكرة الشعبيّة لتلك البيئة. لعب الإعلام في هذا الصدد دوراً هاماً في صون التضحيات والانتصارات. ولعلّ مفاعيل ورشة التوثيق وكتابة الذاكرة الشفوية، التي انطلقت منذ مدّة داخل «حزب الله» بدأت تؤتي ثمارها.
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/2022922205614502637994769745028750.jpg
الشهيد حسن حدرج
اختزل الكتاب الصوري الذي أصدره موقع «العهد» الإخباري في مناسبة «الأربعون ربيعاً»، والواقع في 600 صفحة إلكترونية، أربعين عاماً من تاريخ المقاومة وكفاح مجتمعها. ما بين سطور الكتاب أبعد بكثير من مجرّد أحداث وتواريخ وwatermark.
إنّه توثيق من نوع آخر لمجتمع المقاومة وتضحياته، قبل تضحيات قيادييه واستشهادييه، لا سيما في السنوات الأولى للانطلاقة. اعتمد الإيرانيون في أكثر من مناسبة هذا النوع من التوثيق. بعث الكتاب برسائل عدّة.
عمل على تحفيز ذاكرة الجمهور في العودة إلى الأحداث والحقبات المفصلية، ليحمّله شيئاً من «المسؤولية» في القراءة والبحث والاطلاع.
لم ينتقِ فريق العمل أي صورة بشكل عشوائي، بل بناء على ثلاثة معايير أساسية: التوجيه السياسي، القيمة التاريخية والمفاضلة. فوراء كل صورة وشخصية قصّة وحدث له دلالاته ومعانيه وأبعاده. ركّز الكتاب على عدد من الأيقونات والشهداء الذين ظُلموا إعلاميّاً وتاريخيّاً، من جنسيات مختلفة لبنانية وإيرانية وفلسطينية.
كان لافتاً الإضاءة على هذه الشخصيات التي تؤكد أن ما يجمع، رغم الاختلاف الطائفي في بعض الأحيان، العداء لـ«إسرائيل». أراد الكتاب أن يُجيب، ولو بشكل غير مباشر، على كل المحاولات التاريخيّة لكسر روح المقاومة لدى الناس. وثّق الكتاب دور المرأة في المجتمع المقاوم والقيم الأخلاقية والعقائدية للمقاومين منذ السنوات الأولى.
هم كانوا، بوضوح، لا ينفكّون يرفعون رايات الثورة الإيرانية التي عُرفت آنذاك بالرايات «الإسلامية». خلّدت اللافتات والشعارات التي كانت تُرفع في الضاحية والبقاع والجنوب عبارات رافقت هذه البيئة سنوات. يُظهر الكتاب أن لهذا الحزب وبيئته رؤية ثابتة لم تحد يوماً، أوضحها لافتة كُتب عليها «سنلاحقكم حتى بيت المقدس»، وأخرى للسيّد موسى الصدر «كل نصر دون القدس هزيمة»، ولافتات حملت إشارات إلى ناحية طريق المطار، أي جنوب لبنان، باتجاه فلسطين المحتلة. لم تختبئ هذه البيئة يوماً خلف معتقداتها. نشأت على هذه البوسترات والشعارات الواضحة، وبنت معها وعياً سياسياً خاصاً.
كانت تلك اللافتات تعلو الضاحية الجنوبية في أوائل الثمانينيات. وهي ذاتها تُرفع اليوم في عدد من المناسبات. بدأ العالم، وقتذاك، في اكتشاف حزب الله ومجتمعه، وبدأت معه المحاولات المرهقة لفهمهما. أخطأ العدو الإسرائيلي، أكثر من مرّة، في تقديراته تجاه المقاومة وصمود شعبها. تكتشف أن أوّل شعار رفعه حزب الله هو «ألا إن حزب الله هم المفلحون». تجد أن «الرسالة المفتوحة» أصبحت «الوثيقة السياسيّة»، وهذا بالمناسبة يُسبّب إرباكاً في الوعي المبنيّ بالمصطلحات.
مع مرور الزمن، وتعرّض الصور القديمة الـnegative للتفاعل والتحلّل، كان من الضروري أن يقوم «العهد» بمعالجة الأرشيف وحفظ نسخة رقمية. استخدم الموقع مختبراً عالي التقنيات لمعالجة الصور، بمساعدة متخصّصين وخبراء في المجال. واستغرق العمل على معالجة الأرشيف 4000 ساعة عمل لـ76 ألف صورة نيغاتيف وسلايد، والعمل مستمر على 50 ألف صورة حالياً، وصولاً إلى 150 ألف صورة في نهاية المشروع. تمّ تصحيح الصور قدر الإمكان في المختبر بقوّة الضوء.
جرى غسيلها وإزالة الشحنات الإلكترونية الموجودة فيها، ثم إدخالها إلى ملفات خاصة ضدّ العفونة والفطريات، وعزلها في مكان مناسب من حيث الحرارة والرطوبة، واستخدام ماسحة ضوئية احترافية متطوّرة، ثم ترميم الصور الرقميّة، وصولاً للأرشفة. حمل المشروع، على تعقيداته المختلفة، معاناة في التدقيق التاريخي، إذ إن الظروف الصعبة التي كانت سائدة آنذاك، لم تسمح للعاملين في «اللجنة الفنيّة الإسلامية» ثم «العهد» بأرشفة دقيقة للمواد.
كانت المواد الإعلاميّة تؤرشف بدون تفصيل دقيق أو شرح، ما جعل من عملية البحث عن توصيف الحدث مساراً معقداً ومُجهداً، يحتاج إلى أكثر من مصدر وتقاطع للمعلومات، واضطرار إلى قراءة أعداد هائلة من الصحف، والبحث عن الأفراد لمقابلة الأحياء منهم، ومحاولة معرفة بعضهم بعد تغيّر ملامحهم مع مرور السنوات، قبل الانتقال من الظنّ إلى اليقين ونشر توصيف بسطرين للصورة وتاريخها.
برز دور المرأة المقاومة في حزب الله مع بداية عام 1985. تظهر في صفحات الكتاب الأسيرة المحرّرة زهرة شعيب، التي كانت تنام في سيارتها مع أولادها إبان الاحتلال الإسرائيلي، وتساعد في نقل السلاح الخفيف للمقاومة. كانت المرأة الصلبة أيقونة في المقاومة، وشريكة الشيخ راغب حرب في مسار العمل المقاوم. أسهمت في الدعوة والحشد والتعبئة للقاءات، وفي تنظيم اعتصامات ضدّ العدو الإسرائيلي. وكانت جزءاً لافتاً في مواجهة التطبيع من خلال الدعوة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، منذ تلك الحقبة، حيث كانت تتجوّل في أزقّة النبطية داعية النساء إلى استبدال المنتجات العبرية بأخرى كنوع من المقاومة المجتمعية. إلى جانب الأيقونة شعيب، ظهرت والدة أمّ الشهيد فارس حاوي وهي تحمل سلاحاً في تشييع ابنها الشهيد. كان إبراز هذا الدور مقصوداً في الكتاب.
«يقول من عمِل في حصد هذا الغرس المبارك إنه كان يسمع أصوات الهاتفين في المسيرات، وشمّ تراب المعسكر في كلية العلوم». كلمات تقرأها في مقدمة الكتاب وكأنها حصلت للتوّ. خصّ الإهداء الشهيدين حسن حدرج وأحمد أحمد (باقر) اللذيْن وثّقا بعدستهما في «العهد» الكثير من صور الكتاب. ولأن حسن، هو نجل مريم طباجة، أول أمّ لأكثر من شهيد في حزب الله، هما يوسف ومحمد حدرج، التي وأثناء عزاء ولدها لبست زيّاً عادياً.
استقبلت المعزّين وهي تقول لهم «باركوا لي»، خرجوا من منزلها يردّدون إنها جُنّت! ثم بعد أربعين يوماً، لحقهما حسن العسكري المقاتل، بعدما خلع عنه هيئة الإعلامي مصوّر الجريدة، واغتيل بعبوة في سيارته مع شهيد آخر.
أظهر الكتاب تنامي أنشطة المجتمع المقاوم من إحياءات في عاشوراء والمضافات التي كانت تقتصر على أعداد متواضعة، إلى الحشود التي تضجّ بها شوارع اليوم. ذكّر كيف وضَعَ «جهاد البناء» الحجر الأول لبيئة الحزب بعد تفجير بئر العبد عام 1985، بينما عرفه الجمهور للمرة الأولى، بشكل جدّي، بعد عدوان تموز 1993 ثم 2006. رافق الكتاب تطوّر الأداء الفنّي لهذا المجتمع من فرقة بمنشديْن اثنين، إلى وحدة أنشطة تضجّ بالفعاليات الثقافية للمقاومة، وهي واحدة اليوم، من أكبر الوحدات المعنية في هذا المجال في لبنان. لفريق العهد الرياضي حلمه أيضاً.
حجز مكانه، قبل كل هذه السنوات، بصورة فتيّة وحلم صغير ارتداه الصغار شعاراً على ستراتهم. وها هو اليوم يحصد بطولات عدّة. يعيدنا الكتاب إلى جولات قادة الحزب في المناطق المستضعفة، التي أرادوا عزلها، مُذاك، بقرار متعمّد. كان لافتاً أن السيّد حسن نصر الله ألقى خطابات الحزب منذ بداياته، في غالبية المناسبات، مهما كانت صفته على مرّ السنوات.
ركّز الكتاب على شهداء ظُلموا إعلاميّاً وتاريخيّاً
صحيح أن الكتاب لا يمكن أن يختصر 40 عاماً، وأن هنالك صوراً وأحداثاً لم تروَ، إذ لا كتاب يتّسع لكل ذلك. لكنه، بالحدّ الأدنى، اختصر أحداثاً وثّقتها عدسة «العهد» منفردة، وأرادت من خلالها تنشيط الذاكرة، فالمطلوب أن يسأل القارئ نفسه في كل صورة لماذا هذا المشهد؟ ولماذا فلان؟ ليكون شريكاً في حفظ التاريخ. يدرس المعنيون حالياً تجهيز الكتاب بقالب رقمي تفاعلي، أي تحويله إلى صور مع قصص تفاعلية، وخاصية قراءة التفاصيل وربطها بالحدث وتتبع المسير الزمني. إضافة إلى الإنكليزية، يسعى المعنيون لترجمة الكتاب إلى لغتين هما الفارسية والإسبانية.
التاريخ الذي اختصره الكتاب في 600 مشهدية، «يستفز» المهتمين لصناعة مواد إعلامية هائلة عن شريحة واسعة من اللبنانيين. فتح الكتاب أمام العاملين في المجالات الإعلامية والثقافية والفنية والأدبية الكثير من النوافذ لأعمال قادمة. التاريخ يسبقهم، وعلى المهتمين اللحاق به.
أضاء الكتاب على فترة كانت «صامتة» إعلامياً بين العامين 82-85. تلك مرحلة لم تفرد للعمليات التي قام بها حزب الله، إلى حين الإعلان عنها لاحقاً، صفحات في الجرائد، ولا سيما عمليات خط الساحل من صيدا إلى صور.
كشف الكتاب النقاب عن مقاومة مجتمع. كانت المواجهة آنذاك ضدّ مواطنين لا مقاتلين. ليست الأحداث التي ذكّرت بالرفض المدني ضدّ أشكال الاعتقال التعسفي الذي كان ينفذه جيش العدو، والتضييق على أهالي الشهداء، وحدها، دليلاً دامغاً استذكره الكتاب. كان العدو يتعمّد اختيار النماذج التي تُكسر فيها روح المقاومة، لتحطيمها.
من الحلوسية، والتأسيس وانطلاق التشكيلات في الجنوب وبناء هيئة دعم المقاومة، إلى الصواريخ السامّة التي كانت تُلقى بدمٍ بارد، إلى لباس الحماية من المواد الكيمياوية التي مدّت إيران بها المقاومين. للاستشهادي أحمد قصير، الذي مذ كان فتياً، يُفكّك لافتات الطرقات في الجنوب، ويضعها في بيك آب لتضليل جيش العدو.
للجنين الذي انتفض شهيداً في بئر العبد وهو لم يُكمل أشهره التسعة. كان هذا المجتمع يُقتل، منذ عقود، في عقر داره. وكانت المقاومة التي قاتلت أعتى جيوش العالم منذ الثمانينيات تُبصر النور حتى أصبحت اليوم قوّة إقليميّة.
مع كل ما حمله ذلك من تضحيات جمّة وصعوبات، وقتذاك، من تهمة الانتماء إليها. لكلّ من أراد أن يطمس حقيقة العدو ويُجمّلها، ويفرض على لبنان أن تكون خياره الوحيد للخلاص، كانَ هذا الكتاب.
https://www.al-akhbar.com/Literature_Arts/345691/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A7-%D9%8A%D9%88%D8%AB-%D9%82-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%88%D9%83%D9%81%D8%A7%D8%AD-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%87
الجمعة 23 أيلول 2022
بدأ ذلك قبل أكثر من أربعين عاماً، لم يكن انخراط «حزب الله» في بيئته حدثاً مستجداً. نضجت أولى معالمه بعدما خَطَّ شابٌ في مقتبل العمر، عام 1979، شعار الثورة الإسلامية الإيرانية على حائط في برج البراجنة، في ضاحية بيروت الجنوبية. ما كان يجمع بين الشعار والحزب فِعل الثورة ومقاومة الأعداء. الاتصال الجماهيري بين حزب الله وجمهوره، كان ولا يزال مختلفاً من نوعه. رسخت الكثير من الأيقونات والرموز والعبارات والمفردات في الذاكرة الشعبيّة لتلك البيئة. لعب الإعلام في هذا الصدد دوراً هاماً في صون التضحيات والانتصارات. ولعلّ مفاعيل ورشة التوثيق وكتابة الذاكرة الشفوية، التي انطلقت منذ مدّة داخل «حزب الله» بدأت تؤتي ثمارها.
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/2022922205614502637994769745028750.jpg
الشهيد حسن حدرج
اختزل الكتاب الصوري الذي أصدره موقع «العهد» الإخباري في مناسبة «الأربعون ربيعاً»، والواقع في 600 صفحة إلكترونية، أربعين عاماً من تاريخ المقاومة وكفاح مجتمعها. ما بين سطور الكتاب أبعد بكثير من مجرّد أحداث وتواريخ وwatermark.
إنّه توثيق من نوع آخر لمجتمع المقاومة وتضحياته، قبل تضحيات قيادييه واستشهادييه، لا سيما في السنوات الأولى للانطلاقة. اعتمد الإيرانيون في أكثر من مناسبة هذا النوع من التوثيق. بعث الكتاب برسائل عدّة.
عمل على تحفيز ذاكرة الجمهور في العودة إلى الأحداث والحقبات المفصلية، ليحمّله شيئاً من «المسؤولية» في القراءة والبحث والاطلاع.
لم ينتقِ فريق العمل أي صورة بشكل عشوائي، بل بناء على ثلاثة معايير أساسية: التوجيه السياسي، القيمة التاريخية والمفاضلة. فوراء كل صورة وشخصية قصّة وحدث له دلالاته ومعانيه وأبعاده. ركّز الكتاب على عدد من الأيقونات والشهداء الذين ظُلموا إعلاميّاً وتاريخيّاً، من جنسيات مختلفة لبنانية وإيرانية وفلسطينية.
كان لافتاً الإضاءة على هذه الشخصيات التي تؤكد أن ما يجمع، رغم الاختلاف الطائفي في بعض الأحيان، العداء لـ«إسرائيل». أراد الكتاب أن يُجيب، ولو بشكل غير مباشر، على كل المحاولات التاريخيّة لكسر روح المقاومة لدى الناس. وثّق الكتاب دور المرأة في المجتمع المقاوم والقيم الأخلاقية والعقائدية للمقاومين منذ السنوات الأولى.
هم كانوا، بوضوح، لا ينفكّون يرفعون رايات الثورة الإيرانية التي عُرفت آنذاك بالرايات «الإسلامية». خلّدت اللافتات والشعارات التي كانت تُرفع في الضاحية والبقاع والجنوب عبارات رافقت هذه البيئة سنوات. يُظهر الكتاب أن لهذا الحزب وبيئته رؤية ثابتة لم تحد يوماً، أوضحها لافتة كُتب عليها «سنلاحقكم حتى بيت المقدس»، وأخرى للسيّد موسى الصدر «كل نصر دون القدس هزيمة»، ولافتات حملت إشارات إلى ناحية طريق المطار، أي جنوب لبنان، باتجاه فلسطين المحتلة. لم تختبئ هذه البيئة يوماً خلف معتقداتها. نشأت على هذه البوسترات والشعارات الواضحة، وبنت معها وعياً سياسياً خاصاً.
كانت تلك اللافتات تعلو الضاحية الجنوبية في أوائل الثمانينيات. وهي ذاتها تُرفع اليوم في عدد من المناسبات. بدأ العالم، وقتذاك، في اكتشاف حزب الله ومجتمعه، وبدأت معه المحاولات المرهقة لفهمهما. أخطأ العدو الإسرائيلي، أكثر من مرّة، في تقديراته تجاه المقاومة وصمود شعبها. تكتشف أن أوّل شعار رفعه حزب الله هو «ألا إن حزب الله هم المفلحون». تجد أن «الرسالة المفتوحة» أصبحت «الوثيقة السياسيّة»، وهذا بالمناسبة يُسبّب إرباكاً في الوعي المبنيّ بالمصطلحات.
مع مرور الزمن، وتعرّض الصور القديمة الـnegative للتفاعل والتحلّل، كان من الضروري أن يقوم «العهد» بمعالجة الأرشيف وحفظ نسخة رقمية. استخدم الموقع مختبراً عالي التقنيات لمعالجة الصور، بمساعدة متخصّصين وخبراء في المجال. واستغرق العمل على معالجة الأرشيف 4000 ساعة عمل لـ76 ألف صورة نيغاتيف وسلايد، والعمل مستمر على 50 ألف صورة حالياً، وصولاً إلى 150 ألف صورة في نهاية المشروع. تمّ تصحيح الصور قدر الإمكان في المختبر بقوّة الضوء.
جرى غسيلها وإزالة الشحنات الإلكترونية الموجودة فيها، ثم إدخالها إلى ملفات خاصة ضدّ العفونة والفطريات، وعزلها في مكان مناسب من حيث الحرارة والرطوبة، واستخدام ماسحة ضوئية احترافية متطوّرة، ثم ترميم الصور الرقميّة، وصولاً للأرشفة. حمل المشروع، على تعقيداته المختلفة، معاناة في التدقيق التاريخي، إذ إن الظروف الصعبة التي كانت سائدة آنذاك، لم تسمح للعاملين في «اللجنة الفنيّة الإسلامية» ثم «العهد» بأرشفة دقيقة للمواد.
كانت المواد الإعلاميّة تؤرشف بدون تفصيل دقيق أو شرح، ما جعل من عملية البحث عن توصيف الحدث مساراً معقداً ومُجهداً، يحتاج إلى أكثر من مصدر وتقاطع للمعلومات، واضطرار إلى قراءة أعداد هائلة من الصحف، والبحث عن الأفراد لمقابلة الأحياء منهم، ومحاولة معرفة بعضهم بعد تغيّر ملامحهم مع مرور السنوات، قبل الانتقال من الظنّ إلى اليقين ونشر توصيف بسطرين للصورة وتاريخها.
برز دور المرأة المقاومة في حزب الله مع بداية عام 1985. تظهر في صفحات الكتاب الأسيرة المحرّرة زهرة شعيب، التي كانت تنام في سيارتها مع أولادها إبان الاحتلال الإسرائيلي، وتساعد في نقل السلاح الخفيف للمقاومة. كانت المرأة الصلبة أيقونة في المقاومة، وشريكة الشيخ راغب حرب في مسار العمل المقاوم. أسهمت في الدعوة والحشد والتعبئة للقاءات، وفي تنظيم اعتصامات ضدّ العدو الإسرائيلي. وكانت جزءاً لافتاً في مواجهة التطبيع من خلال الدعوة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، منذ تلك الحقبة، حيث كانت تتجوّل في أزقّة النبطية داعية النساء إلى استبدال المنتجات العبرية بأخرى كنوع من المقاومة المجتمعية. إلى جانب الأيقونة شعيب، ظهرت والدة أمّ الشهيد فارس حاوي وهي تحمل سلاحاً في تشييع ابنها الشهيد. كان إبراز هذا الدور مقصوداً في الكتاب.
«يقول من عمِل في حصد هذا الغرس المبارك إنه كان يسمع أصوات الهاتفين في المسيرات، وشمّ تراب المعسكر في كلية العلوم». كلمات تقرأها في مقدمة الكتاب وكأنها حصلت للتوّ. خصّ الإهداء الشهيدين حسن حدرج وأحمد أحمد (باقر) اللذيْن وثّقا بعدستهما في «العهد» الكثير من صور الكتاب. ولأن حسن، هو نجل مريم طباجة، أول أمّ لأكثر من شهيد في حزب الله، هما يوسف ومحمد حدرج، التي وأثناء عزاء ولدها لبست زيّاً عادياً.
استقبلت المعزّين وهي تقول لهم «باركوا لي»، خرجوا من منزلها يردّدون إنها جُنّت! ثم بعد أربعين يوماً، لحقهما حسن العسكري المقاتل، بعدما خلع عنه هيئة الإعلامي مصوّر الجريدة، واغتيل بعبوة في سيارته مع شهيد آخر.
أظهر الكتاب تنامي أنشطة المجتمع المقاوم من إحياءات في عاشوراء والمضافات التي كانت تقتصر على أعداد متواضعة، إلى الحشود التي تضجّ بها شوارع اليوم. ذكّر كيف وضَعَ «جهاد البناء» الحجر الأول لبيئة الحزب بعد تفجير بئر العبد عام 1985، بينما عرفه الجمهور للمرة الأولى، بشكل جدّي، بعد عدوان تموز 1993 ثم 2006. رافق الكتاب تطوّر الأداء الفنّي لهذا المجتمع من فرقة بمنشديْن اثنين، إلى وحدة أنشطة تضجّ بالفعاليات الثقافية للمقاومة، وهي واحدة اليوم، من أكبر الوحدات المعنية في هذا المجال في لبنان. لفريق العهد الرياضي حلمه أيضاً.
حجز مكانه، قبل كل هذه السنوات، بصورة فتيّة وحلم صغير ارتداه الصغار شعاراً على ستراتهم. وها هو اليوم يحصد بطولات عدّة. يعيدنا الكتاب إلى جولات قادة الحزب في المناطق المستضعفة، التي أرادوا عزلها، مُذاك، بقرار متعمّد. كان لافتاً أن السيّد حسن نصر الله ألقى خطابات الحزب منذ بداياته، في غالبية المناسبات، مهما كانت صفته على مرّ السنوات.
ركّز الكتاب على شهداء ظُلموا إعلاميّاً وتاريخيّاً
صحيح أن الكتاب لا يمكن أن يختصر 40 عاماً، وأن هنالك صوراً وأحداثاً لم تروَ، إذ لا كتاب يتّسع لكل ذلك. لكنه، بالحدّ الأدنى، اختصر أحداثاً وثّقتها عدسة «العهد» منفردة، وأرادت من خلالها تنشيط الذاكرة، فالمطلوب أن يسأل القارئ نفسه في كل صورة لماذا هذا المشهد؟ ولماذا فلان؟ ليكون شريكاً في حفظ التاريخ. يدرس المعنيون حالياً تجهيز الكتاب بقالب رقمي تفاعلي، أي تحويله إلى صور مع قصص تفاعلية، وخاصية قراءة التفاصيل وربطها بالحدث وتتبع المسير الزمني. إضافة إلى الإنكليزية، يسعى المعنيون لترجمة الكتاب إلى لغتين هما الفارسية والإسبانية.
التاريخ الذي اختصره الكتاب في 600 مشهدية، «يستفز» المهتمين لصناعة مواد إعلامية هائلة عن شريحة واسعة من اللبنانيين. فتح الكتاب أمام العاملين في المجالات الإعلامية والثقافية والفنية والأدبية الكثير من النوافذ لأعمال قادمة. التاريخ يسبقهم، وعلى المهتمين اللحاق به.
أضاء الكتاب على فترة كانت «صامتة» إعلامياً بين العامين 82-85. تلك مرحلة لم تفرد للعمليات التي قام بها حزب الله، إلى حين الإعلان عنها لاحقاً، صفحات في الجرائد، ولا سيما عمليات خط الساحل من صيدا إلى صور.
كشف الكتاب النقاب عن مقاومة مجتمع. كانت المواجهة آنذاك ضدّ مواطنين لا مقاتلين. ليست الأحداث التي ذكّرت بالرفض المدني ضدّ أشكال الاعتقال التعسفي الذي كان ينفذه جيش العدو، والتضييق على أهالي الشهداء، وحدها، دليلاً دامغاً استذكره الكتاب. كان العدو يتعمّد اختيار النماذج التي تُكسر فيها روح المقاومة، لتحطيمها.
من الحلوسية، والتأسيس وانطلاق التشكيلات في الجنوب وبناء هيئة دعم المقاومة، إلى الصواريخ السامّة التي كانت تُلقى بدمٍ بارد، إلى لباس الحماية من المواد الكيمياوية التي مدّت إيران بها المقاومين. للاستشهادي أحمد قصير، الذي مذ كان فتياً، يُفكّك لافتات الطرقات في الجنوب، ويضعها في بيك آب لتضليل جيش العدو.
للجنين الذي انتفض شهيداً في بئر العبد وهو لم يُكمل أشهره التسعة. كان هذا المجتمع يُقتل، منذ عقود، في عقر داره. وكانت المقاومة التي قاتلت أعتى جيوش العالم منذ الثمانينيات تُبصر النور حتى أصبحت اليوم قوّة إقليميّة.
مع كل ما حمله ذلك من تضحيات جمّة وصعوبات، وقتذاك، من تهمة الانتماء إليها. لكلّ من أراد أن يطمس حقيقة العدو ويُجمّلها، ويفرض على لبنان أن تكون خياره الوحيد للخلاص، كانَ هذا الكتاب.
https://www.al-akhbar.com/Literature_Arts/345691/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A7-%D9%8A%D9%88%D8%AB-%D9%82-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%88%D9%83%D9%81%D8%A7%D8%AD-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%87