موالى
09-03-2005, 02:17 PM
أحمد شهاب
من حق الشيعي ان يفتخر بانتمائه الى التراث الشيعي، فهو يثق بأن تراثه يحتوي على كل اسباب العزة والفخر، كما يحق للانسان السني ان يفتخر بانتمائه للتراث السني، فهو يعتقد ان تاريخه يضم الكثير من الصور والافكار الجديرة بالاحترام، والحق ان كل امة تحمل في داخلها جوانب مضيئة تستحق ان يشاد بها، ان ما يسمى بالتراث الاسلامي - سواء كان شيعيا أو سنيا أو غير ذلك - لا يخلو من عناصر القوة، لكنه في ذات الوقت لا يخلو من موارد الضعف.
بالنسبة للامم المتقدمة فإن علاقتها مع التراث هي علاقة تفاعلية، تقوم على الاستقصاء والنقد والتقويم، ان الاساس في هذه العلاقة يقوم على قناعة تامة بأن التاريخ ما هو الا تجربة مضت لكنها تحتوي جملة من العناصر الايجابية التي يمكن ان تستثمر لصالح تطوير الواقع المعاش، كما انها تحتوي في ذات الوقت على اخفاقات لا يمكن ان تستثمر لصالح تطوير الواقع المعاش، كما انها تحتوي في ذات الوقت على اخفاقات لا يمكن النهوض دون تجنبها وعزلها، ان الحاضر عند الامم المتقدمة هو الاساس والهدف، اما التراث فهو الدرس الذي تستفيد منه لاستمرار حركة التقدم الى الامام وتجنب السقوط الحضاري ومسبباته، ولذلك فإن الاهتمام بالتاريخ كعلم إنما يتكثف باعتباره احد مستلزمات النهضة.
وكلما تقدمت الامة كلما تضاعف اهتمامها بالتاريخ الانساني بصورة عامة، فلا فرق في كون هذا التاريخ هو تاريخها الذاتي، أو تاريخ انساني مشترك، اذ انها لا تبحث عن ستار تحتمي به، أو مشجب تعلق عليه اخطائها، وانما تبحث عن تجارب وفنون وقوانين وسنن كونية تستثمرها لصالح الحاضر وبناء المستقبل، ومثاله ما صنعه ماكس فيبر من اكتشافه لتأثير الاخلاق البروتستانتية على تطور النظام الرأسمالي في اوروبا.
من هنا وجدنا الاهتمام الاوروبي المبكر بالتاريخ العربي، وبالتراث العلمي والسياسي الاسلامي، لكنهم لم ينقلوا هذه التجربة على علاتها، وانما مخضوها بمنهجية علمية مكنتهم من استخلاص الكثير من مفردات القوة في الحضارة الاسلامية، واقصاء موارد الضعف والتعثر، هكذا استفادوا من النهضة العلمية والادبية في عصور الخلافة ابان الدولة العباسية، وكشفوا عن التجربة السياسية الاسلامية التي احتوت الكثير من اوجه الخلل، ومن خلال قراءتهم الممنهجة للتاريخ الاسلامي، استطاعوا ان يكتشفوا مفردات تكوين التاريخ الاسلامي في جوانبه المختلفة، فيما عجز المسلمون عن فعل ذلك، ومن امثلة تلك التوثيقات التاريخية المهمة كتاب «الدولة العربية وسقوطها» للمستشرق الالماني يوليوس فلهوزن.
اما الامم الضعيفة فإن علاقتها مع تراثها لا تتجاوز العلاقة النقلية، والتي يتم استرجاعها بين فترة واخرى للفخر بها وتمجيدها، انها تستحضر الرجال والافكار باعتبارهم حكايات مجالس، وقصصا وروايات للخطب الدينية واستمالة المستمعين نحو توجه معين، تتحول مع تفشي القهر السياسي والاجتماعي الى ملجأ للاحتماء، والى ميدان لاستعراض بطولات السلف وافضليتهم على الخلف، فتكون مادة ثرية للصراع والجدل بدلا من ان تكون مادة للتدبر والتفكر، ويبدو ذلك جليا في المجتمعات الاسلامية، التي تحول التاريخ لديهم الى مادة للتخاصم والتباعد، واصبحت مجتمعاتنا اسيرة للماضي الذي صنعه السابقون بحلوه ومره.
لقد تحول التاريخ عند المسلمين من علم الى دين، وهو بهذا التصور اصبح فوق النقد وفوق التقييم، ولم تعد لدينا قراءة موضوعية لتراثنا العريض، فإما مع أو ضد، فجل المادة التاريخية تحولت في عقل الانسان المسلم الى مسلمات غير قابلة للنقض أو النقاش، انها الذاكرة المقدسة التي لا يعتريها العور أو الدنس، وقد بذل بعض الحاذقين جهدا كبيرا لاستنباط قواعد للتضييق على حرية البحث التاريخي، واعتبار نقد الافكار أو الاشخاص اعتداء على الدين ورجاله، حتى ان حقبا تاريخية مهمة سقطت من التقييم، واصبحت
في معزل عن الدراسة والنظر، وظلت كمنقولات تاريخية يجب تصديقها واتباعها كما هي.
يرى د.ابراهيم بيضون والسيد حسن الامين وغيرهما ان مشكلة هذه القراءة المتخلفة للتاريخ الاسلامي تكمن في غياب المنهج العلمي الواضح، واعتماد الباحثين والمؤرخين على طريقة علماء الحديث في النقل والتوثيق، ورغم دقة هذه الملاحظة الا انني اميل الى ان المذهبية لعبت دورا اساسيا في ابقاء هذه القراءة المتخلفة للتاريخ، وهي في حال وجود أو اختفاء المنهج الملائم تظل طاغية بقوة على النتاج التاريخي بصورة عامة.
يمكن في هذا السياق ان نتصفح الكثير من الاوراق والكراسات التاريخية: لنلاحظ تواري الحقيقة خلف الانتماء المذهبي للكاتب، بالصورة التي تشعرك انك لست في مقام بحث عن حق أو محاولة لاكتشاف حقيقة غائبة، وانما في مقام من يبحث عن خنجر مسموم ليطعنه في ظهر من يخالفه الرأي والمذهب، وكلما كانت شفرة الخنجر ارهف.. وكلما كانت منقوعة بسم اكثر، كلما ازداد شعور الباحث بأنه اصاب هدفه بدقة اكبر، ان البحث هنا اقرب الى تسديد ضربات موجعة للخصم منه من البحث عن الحقيقة.
وحسب المنطق القرآني فإننا لن نستطيع ان نغير واقعنا اذا لم نغير ما بأنفسنا، والمصالحة مع النفس في اهم ابعادها تظهر في الاستسلام للحقيقة كما هي لا كما نحب ان تكون، أو حسب التوجيه الالهي في سورة المائدة «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون)، والمذهبية في قراءة التاريخ الاسلامي والتي هي بموازاة الحزبية تنتهي الى عدم الانصاف، ووضع النتائج التي نريدها والبحث عن الادلة لدعمها كما هي، وغض النظر عن كل الحقائق والادلة التي تعارضها، وهي بهذا تكون شهادة زور وظلم واعتداء على الحقيقة، وهو ما وجدناه ماثلا من اغماض جل المؤرخين اعينهم عن ذكر دور بعض التيارات الفاعلة في المجتمع الاسلامي بسبب توجههم الديني، رغم أن كل المؤشرات تفيد بدورهم المهم والفاعل في صناعة هذا التراث، أو اسباغ الفضائل والمناقب على شخصيات لمجرد انتمائهم الى قبيلة أو حزب معين.
ان الانتماء المذهبي مشروع ولا يحق لأحد - حسب قناعتي - ان يمنع آخر من الالتزام بما يرتضيه من قناعات وافكار، والافتخار بتراث المذهب شأن شخصي يحق لكل واحد ان يتغنى به بصورة يومية وبالطريقة التي تلائمه، لكن المذهبية في القراءة والتأويل تنتهي الى لوي عنق الحقائق في سبيل تحقيق انتصارات وهمية، انتصارات لا تتجاوز حد الانشغال الدائم بالعبث الدائر بين الفرقاء في الساحة الاسلامية، بالحجم الذي استهلك تفكيرنا وتفكير من سبقونا منذ سنوات طويلة والى الآن، واستنزف منا جهودا كان يمكن ان نستثمرها في اتجاه آخر، ارجو ان اعرض له في مقال قادم.
* نقلا عن جريدة "الوطن" الكويتية
من حق الشيعي ان يفتخر بانتمائه الى التراث الشيعي، فهو يثق بأن تراثه يحتوي على كل اسباب العزة والفخر، كما يحق للانسان السني ان يفتخر بانتمائه للتراث السني، فهو يعتقد ان تاريخه يضم الكثير من الصور والافكار الجديرة بالاحترام، والحق ان كل امة تحمل في داخلها جوانب مضيئة تستحق ان يشاد بها، ان ما يسمى بالتراث الاسلامي - سواء كان شيعيا أو سنيا أو غير ذلك - لا يخلو من عناصر القوة، لكنه في ذات الوقت لا يخلو من موارد الضعف.
بالنسبة للامم المتقدمة فإن علاقتها مع التراث هي علاقة تفاعلية، تقوم على الاستقصاء والنقد والتقويم، ان الاساس في هذه العلاقة يقوم على قناعة تامة بأن التاريخ ما هو الا تجربة مضت لكنها تحتوي جملة من العناصر الايجابية التي يمكن ان تستثمر لصالح تطوير الواقع المعاش، كما انها تحتوي في ذات الوقت على اخفاقات لا يمكن ان تستثمر لصالح تطوير الواقع المعاش، كما انها تحتوي في ذات الوقت على اخفاقات لا يمكن النهوض دون تجنبها وعزلها، ان الحاضر عند الامم المتقدمة هو الاساس والهدف، اما التراث فهو الدرس الذي تستفيد منه لاستمرار حركة التقدم الى الامام وتجنب السقوط الحضاري ومسبباته، ولذلك فإن الاهتمام بالتاريخ كعلم إنما يتكثف باعتباره احد مستلزمات النهضة.
وكلما تقدمت الامة كلما تضاعف اهتمامها بالتاريخ الانساني بصورة عامة، فلا فرق في كون هذا التاريخ هو تاريخها الذاتي، أو تاريخ انساني مشترك، اذ انها لا تبحث عن ستار تحتمي به، أو مشجب تعلق عليه اخطائها، وانما تبحث عن تجارب وفنون وقوانين وسنن كونية تستثمرها لصالح الحاضر وبناء المستقبل، ومثاله ما صنعه ماكس فيبر من اكتشافه لتأثير الاخلاق البروتستانتية على تطور النظام الرأسمالي في اوروبا.
من هنا وجدنا الاهتمام الاوروبي المبكر بالتاريخ العربي، وبالتراث العلمي والسياسي الاسلامي، لكنهم لم ينقلوا هذه التجربة على علاتها، وانما مخضوها بمنهجية علمية مكنتهم من استخلاص الكثير من مفردات القوة في الحضارة الاسلامية، واقصاء موارد الضعف والتعثر، هكذا استفادوا من النهضة العلمية والادبية في عصور الخلافة ابان الدولة العباسية، وكشفوا عن التجربة السياسية الاسلامية التي احتوت الكثير من اوجه الخلل، ومن خلال قراءتهم الممنهجة للتاريخ الاسلامي، استطاعوا ان يكتشفوا مفردات تكوين التاريخ الاسلامي في جوانبه المختلفة، فيما عجز المسلمون عن فعل ذلك، ومن امثلة تلك التوثيقات التاريخية المهمة كتاب «الدولة العربية وسقوطها» للمستشرق الالماني يوليوس فلهوزن.
اما الامم الضعيفة فإن علاقتها مع تراثها لا تتجاوز العلاقة النقلية، والتي يتم استرجاعها بين فترة واخرى للفخر بها وتمجيدها، انها تستحضر الرجال والافكار باعتبارهم حكايات مجالس، وقصصا وروايات للخطب الدينية واستمالة المستمعين نحو توجه معين، تتحول مع تفشي القهر السياسي والاجتماعي الى ملجأ للاحتماء، والى ميدان لاستعراض بطولات السلف وافضليتهم على الخلف، فتكون مادة ثرية للصراع والجدل بدلا من ان تكون مادة للتدبر والتفكر، ويبدو ذلك جليا في المجتمعات الاسلامية، التي تحول التاريخ لديهم الى مادة للتخاصم والتباعد، واصبحت مجتمعاتنا اسيرة للماضي الذي صنعه السابقون بحلوه ومره.
لقد تحول التاريخ عند المسلمين من علم الى دين، وهو بهذا التصور اصبح فوق النقد وفوق التقييم، ولم تعد لدينا قراءة موضوعية لتراثنا العريض، فإما مع أو ضد، فجل المادة التاريخية تحولت في عقل الانسان المسلم الى مسلمات غير قابلة للنقض أو النقاش، انها الذاكرة المقدسة التي لا يعتريها العور أو الدنس، وقد بذل بعض الحاذقين جهدا كبيرا لاستنباط قواعد للتضييق على حرية البحث التاريخي، واعتبار نقد الافكار أو الاشخاص اعتداء على الدين ورجاله، حتى ان حقبا تاريخية مهمة سقطت من التقييم، واصبحت
في معزل عن الدراسة والنظر، وظلت كمنقولات تاريخية يجب تصديقها واتباعها كما هي.
يرى د.ابراهيم بيضون والسيد حسن الامين وغيرهما ان مشكلة هذه القراءة المتخلفة للتاريخ الاسلامي تكمن في غياب المنهج العلمي الواضح، واعتماد الباحثين والمؤرخين على طريقة علماء الحديث في النقل والتوثيق، ورغم دقة هذه الملاحظة الا انني اميل الى ان المذهبية لعبت دورا اساسيا في ابقاء هذه القراءة المتخلفة للتاريخ، وهي في حال وجود أو اختفاء المنهج الملائم تظل طاغية بقوة على النتاج التاريخي بصورة عامة.
يمكن في هذا السياق ان نتصفح الكثير من الاوراق والكراسات التاريخية: لنلاحظ تواري الحقيقة خلف الانتماء المذهبي للكاتب، بالصورة التي تشعرك انك لست في مقام بحث عن حق أو محاولة لاكتشاف حقيقة غائبة، وانما في مقام من يبحث عن خنجر مسموم ليطعنه في ظهر من يخالفه الرأي والمذهب، وكلما كانت شفرة الخنجر ارهف.. وكلما كانت منقوعة بسم اكثر، كلما ازداد شعور الباحث بأنه اصاب هدفه بدقة اكبر، ان البحث هنا اقرب الى تسديد ضربات موجعة للخصم منه من البحث عن الحقيقة.
وحسب المنطق القرآني فإننا لن نستطيع ان نغير واقعنا اذا لم نغير ما بأنفسنا، والمصالحة مع النفس في اهم ابعادها تظهر في الاستسلام للحقيقة كما هي لا كما نحب ان تكون، أو حسب التوجيه الالهي في سورة المائدة «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون)، والمذهبية في قراءة التاريخ الاسلامي والتي هي بموازاة الحزبية تنتهي الى عدم الانصاف، ووضع النتائج التي نريدها والبحث عن الادلة لدعمها كما هي، وغض النظر عن كل الحقائق والادلة التي تعارضها، وهي بهذا تكون شهادة زور وظلم واعتداء على الحقيقة، وهو ما وجدناه ماثلا من اغماض جل المؤرخين اعينهم عن ذكر دور بعض التيارات الفاعلة في المجتمع الاسلامي بسبب توجههم الديني، رغم أن كل المؤشرات تفيد بدورهم المهم والفاعل في صناعة هذا التراث، أو اسباغ الفضائل والمناقب على شخصيات لمجرد انتمائهم الى قبيلة أو حزب معين.
ان الانتماء المذهبي مشروع ولا يحق لأحد - حسب قناعتي - ان يمنع آخر من الالتزام بما يرتضيه من قناعات وافكار، والافتخار بتراث المذهب شأن شخصي يحق لكل واحد ان يتغنى به بصورة يومية وبالطريقة التي تلائمه، لكن المذهبية في القراءة والتأويل تنتهي الى لوي عنق الحقائق في سبيل تحقيق انتصارات وهمية، انتصارات لا تتجاوز حد الانشغال الدائم بالعبث الدائر بين الفرقاء في الساحة الاسلامية، بالحجم الذي استهلك تفكيرنا وتفكير من سبقونا منذ سنوات طويلة والى الآن، واستنزف منا جهودا كان يمكن ان نستثمرها في اتجاه آخر، ارجو ان اعرض له في مقال قادم.
* نقلا عن جريدة "الوطن" الكويتية