المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يهود اليمن بين الجذور والتاريخ



yasmeen
09-03-2005, 08:07 AM
زيد بن علي الفضيل


النشأة والتكوين
بالرغم من طول استمرار الوجود اليهودي في جنوب غرب الجزيرة العربية (اليمن) منذ ما قبل الإسلام وحتى الوقت الراهن، إلا أن الباحثين لم يحددوا بدقة بدايات ذلك الوجود، ولم تتضح هوية معتنقي الديانة اليهودية فيما إذا كانوا من الأقوام العبرية المهاجرة أم أنهم من السكان الأصليين، ولم نعرف بشكل واضح الأسباب الداعية

http://elaph.com/elaphweb/Resources/Images/Reports/2005/9/Thumbnails/T_a1a797b0-90e4-4ea2-bd8b-abc6e2d18265.jpg
طلاب يهود من اليمن

الى انتشار العقيدة اليهودية في تلك البقعة النائية التي تفصلها البراري والقفار، والقلاع والوهاد عن أرض الميعاد ؛ ولعل السبب راجع إلى إغفال النقوش المسندية المكتشفة، والآثار اليمنية القديمة إلى ما يشير إلى ذلك، كما أن المصادر اليونانية، واليهودية، والنصرانية، والعربية قد اختلفت في روايتها حول البدايات للنشأة والتكوين اليهودي في اليمن، الأمر الذي يترك للباحث خيار الترجيح بين مختلف تلك الروايات التاريخية.

تعود أبكر تلك الروايات بالوجود اليهودي في اليمن إلى القرن العاشر قبل الميلاد، عندما أرسل النبي سليمان عليه السلام مرافقين مع ملكة سبأ حال عودتها إلى مملكتها بعد زيارتها له في عاصمته واعتناقها لدينه، في حين تُرجع الرواية الثانية الوجود اليهودي إلى مرحلة الأسر البابلي على يد نبو خذ نصر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حيث تمكن كما تشير الرواية عدد من اليهود من النجاة بأنفسهم وأموالهم وأولادهم إلى شمال الجزيرة العربية وصولا إلى جنوبها حيث اليمن، أما الرواية الثالثة فتشير إلى أن وصول اليهود إلى اليمن كان في القرن الأول الميلادي بعد تدمير الإمبراطور الروماني تيتوس لمدينة القدس، وبالنسبة للرواية العربية التي رواها ابن هشام فتذكر أن الملك الحميري تبان أسعد أبو كرب تعرف على حبرين يهوديين حال مروره بيثرب بعد عودته من حرب في المشرق، فاصطحبهما معه إلى اليمن، وكانا قد تمكنا من ثنيه عن تدمير الكعبة حال مروره بمكة، وخلال مسيرهما معه إلى اليمن، تمكن الإعجاب بهما من قلبه، فاعتنق دينهما وحض شعبه على ذلك.

وهكذا فإن مجمل الروايات قد تباينت زمنيا، فمن القرن العاشر قبل الميلاد وحتى أواخر القرن الرابع الميلادي تقريبا، وتباينت سببيا فمن الإيمان طواعية من قبل الشعب اليمني الممثل بسبأ وحمير بعدئذ، إلى الهجرة القسرية التي مارسها الشعب اليهودي هربا بنفسه وماله، وهو ما يصعب التسليم به جزافا، فاليمن لم تكن بالأرض المجاورة لمنطقة الهلال الخصيب، كما أن المسافة بينها وبين المواقع الحضرية في شمال الجزيرة يصعب قطعها على ابن الصحراء، فكيف بالغريب عنها، عوضا عن بعدها الجغرافي عن نقاط محاور التنزيل الرباني، والوجود الديني للشعب اليهودي في بلاد الشام، وهو ما يحيل القيام بالهجرة الجماعية التي توحي بها مجمل الروايتين السابقتين، دون أن يتعارض ذلك مع هجرة أفراد من الشعب اليهودي إلى وسط الجزيرة العربية لأسباب خاصة دينية كانت، أو سياسية، أو غير ذلك، حيث تؤكد الرواية العربية أن الملك اليمني الحميري قد تقابل مع حبرين يهوديين بيثرب (المدينة المنورة) والذين كان لهما الأثر في اعتناقه لديانتهما، ولعلها هي البداية الحقيقية للوجود اليهودي في اليمن كما تشير إلى ذلك مجمل الدلائل الأثرية والتاريخية التي لم تقطع علميا بتبعية ملكة سبأ الوارد ذكرها في القرآن الكريم إلى اليمن، لخلو النقوش واللقى الأثرية المكتشفة حتى الوقت الراهن من ذكر لها ولغيرها في التاريخ اليمني القديم، علاوة على أن شعب سبأ قد جاء ذكره في السجلات الآشورية مما يدل على وجودهم في شمال الجزيرة العربية خلال تلك الحقبة.

ولقد أرجع بعض المؤرخين اليمنيين اعتناق الشعب اليمني لليهودية دون المسيحية إلى أنه كان بهدف إيجاد عقيدة سماوية يمكن من خلالها مقاومة الدولة البيزنطية المسيحية التي عملت على السيطرة على اليمن من خلال مملكة الأحباش المسيحية، وعبر إرسال المبشرين لتنصير الشعب اليمني، وبالتالي فقد كان لزاما على ملوك اليمن الحميريين إيجاد عقيدة قوية ومعادية يمكنهم من خلالها مواجهة الغزو المسيحي، كما فسر البعض اعتناق حكومة اليمن الحميرية للدين اليهودي بدافع من الكراهية للوجود المسيحي الحبشي المحتلين لبعض المناطق الساحلية اليمنية على البحر الأحمر.

وأيا ما كان الأمر وما هي دوافعه فإن من المرجح أن يهود اليمن لم يكونوا من الأقوام العبرية المهاجرة، بل كانوا من الأرومة اليمنية التي وكغيرها من الشعوب القديمة آمنت باليهودية استجابة لحركة التبشير اليهودي آنذاك والذي ليس بالضرورة أن يكون قد تم على أيدي الموسويين من بني إسرائيل، بل على أيدي غيرهم ممن اعتنق الديانة اليهودية، ومما يؤكد ذلك ما وصلت إليه نتائج الدراسة العلمية التي أجرتها جامعة تل أبيب حول الجينات الوراثية ليهود اليمن، التي تبين أنها لا تختلف عن جينات القبائل العربية، بالرغم من انفصال اليهود عن غيرهم حياتيا ومعيشيا طوال هذه المدة.


أوضاع اليهود الدينية في اليمن إبان الحكم الإسلامي
لم تمض مدة طويلة على هجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة حتى كان معظم اليمن قد دخل في الإسلام محبة ورغبة، فكان أن تلاشت مختلف المذاهب والأديان الوثنية، وانحسر نطاق الأديان السماوية الأخرى، دون أن يواجهوا معارضة من الدين الجديد، إذ لا إكراه في الدين كما جاء في الذكر الحكيم، ولذلك فقد أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أنه :

من أقام (من الملل السماوية) على دينه، وأقر بالجزية، تُرك ودينه، وله ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين، لا يُقتل، ولا يُسبى، ولا يُكلف إلا طاقته، ولا يُفتتن لترك دينه، ولم يختلف النهج الراشدي عن المنهج النبوي في كيفية التعامل مع المخالفين من اليهود والنصارى، فهذا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوصي عامله الأشتر النخعي حين ولاه على مصر بحسن معاملة أهلها الذين لا يخرج كونهم على : " إما أخ في الدين، أو نظير في الخلق " كما جاء في العهد المشهور.

ونتيجة لذلك فقد حفظ المسلمون عبر مختلف الفترات الزمنية للطائفة اليهودية في اليمن حقوقهم المادية والمعنوية، فتحسنت أوضاعهم الاجتماعية والحياتية في ظل الأمن الذي كفله الإسلام لهم، وتحققت حريتهم الدينية عبر ممارستهم لطقوسهم الشعائرية في العديد من بيوت العبادة، التي لم تتعرض للإهانة أو الهدم خلال فترات الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية في اليمن، وهو ما أكده حاخام مدينة صنعاء يحيى بن إسحاق في معرض حديثه مع نزيه العظم الذي زار اليمن في أوائل القرن العشرين الميلادي، حيث أشار إلى أنه توجد في صنعاء 15 مدرسة دينية، و 19 كنيسة، وشدد على مدى حريتهم في ممارسة الطقوس الدينية، وتطبيق قواعد الشريعة اليهودية، دون أن يعترضهم معترض.

وليس ذلك فحسب، بل فقد عمدت الدولة العثمانية خلال حكمها اليمن على تعيين شخص على رأس الطائفة اليهودية عرف بالحاخام باشا والذي منح حق إصدار الأحكام على أبناء الطائفة، وقد استمر المنصب قائما في عهد الأئمة وبخاصة الإمام يحيى حميد الدين، الذي تعززت على عهده سلطة الحاخام على الطائفة، بحيث لم يكن لأحد دون الإمام نقض ما أبرمه من حكم، بل إنه كان للحاخام يحيى الأبيض، ومن بعده الحاخام سالم سعيد الجمل الحق في الدخول على الإمام يحيى في أي وقت ليعرضوا عليه شكواهم، أو ليحلوا مشكلة بين يهودي ومسلم، كما لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه ليصل إلى طلب بعض اليمنيين المسلمين من الحاخام التدخل لدى الإمام لحل بعض مشاكلهم لديه.

وإضافة إلى حريتهم في ممارستهم لطقوسهم الدينية المختلفة فقد تمتعوا بالاحتفال بأعيادهم المتعددة مثل عيد الفصح، وعيد الكيبور (الغفران)، وعيد رأس السنة ويسمونه عيد (العوشة)، فيرقصون ويحتفلون بمشاركة المسلمين الذين لم يتحرجوا في إبداء فرحتهم والرقص معهم.

أما فيما يتعلق بأحوالهم الاقتصادية فإنها لم تتضرر بما هو مقرر عليهم من جزية ضئيلة سنوية، عوضا على أنهم وكأقلية اجتماعية ودينية لم يشملهم مجمل قواعد الأعراف القبلية المنصوص عليها داخل المجتمع اليمني، مما مكنهم من العيش بحرية واطمئنان بين جموع القبائل اليمنية، وهو ما لاحظه العالم الإنجليزي هيو سكوت الذي كتب في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادي قائلا : إن اليهود في اليمن كانوا مرتاحين من وضعهم، وأن الناس تعاملوا معهم حسب العادات المحلية.


أوضاع اليهود الاجتماعية في اليمن خلال الحكم الإسلامي
لم يكن على اليهود من التزام تجاه المجتمع المسلم في اليمن والعالم الإسلامي قاطبة سوى دفع الجزية المقررة، وعدم ممارسة الربا أو القيام بأي عمل يسيء للإسلام والمسلمين، وعليه فقد تمتع المجتمع اليهودي في اليمن بممارسة حياتهم بالكيفية التي تتواءم مع معتقداتهم الدينية، وتشريعاتهم الحياتية، فعمدوا إلى التزاوج فيما بينهم، وحرصوا على استمرارية تعليمهم الديني، وحافظوا على مجمل عاداتهم وأعرافهم الدينية والحياتية الخاصة.

وقد انقسموا مجتمعيا بحسب العرف الديني إلى قسمين هما أولا : هارونيين وهم من ذرية أوائل من قدم مع الملك الحميري السابق الذكر بحسب الرواية العربية للنشأة اليهودية، ولا يشكلون سوى 10% من مجمل عدد يهود اليمن، ويتولون تنفيذ الطقوس والشعائر الدينية، وعقد الأنكحة، كما يقومون بالذبح والختان وغير ذلك، وثانيا : غير هارونيين وهم المعتنقون للديانة اليهودية من عامة أفراد الناس.

كما تميز مجتمع اليهود عن غيرهم في اليمن بعادة احتفاظهم بالزنانير المسدلة كذؤابتين متدليتين من على شعور رؤوسهم، وقد فرضت في العهد الحميري على عهد الملك اليهودي العقيدة ذي نواس لتمييزهم عن باقي اليمنيين، وتجدر الإشارة إلى أن هذه العادة لم تنقطع خلال مختلف القرون وحتى الوقت الراهن، إذ لا تزال موجودة عند اليهود اليمنيين المتدينين المهاجرين إلى فلسطين المحتلة، كما أنها قد شكلت العلامة الفارقة بين الإنسان اليهودي وغيره من عامة الناس المسلمين في اليمن، ذلك أن لا فوارق لغوية وثقافية بين اليهود وغيرهم داخل إطار المجتمع القبلي والمدني بصفة عامة.

وبالنسبة للمسكن فقد انتشر اليهود في مختلف أرجاء اليمن ريفا وحضرا، وإن كان تمركزهم في المدن أكثر لطبيعة حياتهم المهنية، وقد كان اليهود في اليمن مثل بقية مناطق العالم يميلون إلى السكنى في أحياء خاصة بهم تحمل أسماءهم، ففي مدينة صنعاء مثلا، حُدد لهم حي مستديم عرف بقاع اليهود الواقع في الغرب من المدينة، والمنقسم إلى 20 حارة، يحوي ما يقرب من 10 آلاف نفس تقريبا، وفي مدينة عدن الصغيرة تقاسم اليهود السكنى مع السكان المحليين المسلمين، بل إن عددهم في بعض الفترات قد فاق عدد المسلمين وبخاصة بعد احتلال بريطانيا للمدينة عام 1839م، كما لم يختلف الأمر في عدن عن صنعاء من حيث انزواء اليهود في أحياء خاصة بهم، وهو ما ساد مختلف التجمعات السكانية اليهودية في مختلف مدن اليمن وقراها، الأمر الذي وفر لهم الحماية خلال فترات الفوضى والاضطرابات، إذ كان الاعتداء عليهم وهم ليسوا طرفا في النزاع يعتبر عملا ممقوتا اجتماعيا.

وقد اشتغل اليهود في اليمن بالمهن الحرفية والأنشطة اليدوية مستغلين عزوف فئات المجتمع اليمني عن العمل بها فكان أن سيطر اليهود على مقدرات الحياة الاقتصادية بمجمل تفاصيلها، ولم يعد للفرد اليمني وصولا لصانع القرار الرئيسي من قدرة على الاستغناء عن مختلف الخدمات التي يقدمها الفرد اليهودي المحتكر لصناعة الحلي، وصناعة الأسلحة التقليدية (الخناجر والسيوف)، وكل ما هو متعلق بها، والصناعات الجلدية، وأعمال النجارة والزخرفة، وأعمال الحياكة والتطريز، وأعمال البناء، وغيرها من الحرف اليدوية.

كما اشتغل البعض الأخر منهم بالتجارة مستفيدين من خاصية حرية التنقل التي كفلتها لهم الأعراف القبلية في اليمن، الأمر الذي حدا بعدد من الرحالة الغربيين على التنكر بزي اليهود حال تجوالهم في بقاع اليمن، إضافة إلى ذلك فقد سهل المحتل البريطاني في عدن والمحميات الجنوبية لهم إجراء وتنفيذ الكثير من العمليات التجارية بحرية ودون قيد، مما أدى إلى احتكارهم للكثير من الصناعات اليدوية، والعديد من الوكالات التجارية، كتجارة البن اليمني، وريش النعام وغيرها.

تجدر الإشارة إلى أن عددا منهم قد شغل مناصب عالية في الدولة خلال مختلف الحقب التاريخية وبخاصة في الأعمال التي تتعلق بالخدمات، ومنها ما كان على عهد الإمام القاسم بن الحسين المتوفى سنة 1726م/1139هـ الذي قلد زعيم الطائفة اليهودية في عهده وظيفة المسؤول الأول عن الجمارك، والقصور، والبساتين في اليمن ؛ وما كان أيضا في زمن الإمام يحيى حميد الدين المتوفى سنة 1948م/1367هـ الذي أسند مهمة سك العملة النحاسية إلى بعض منهم، واعتمد في العديد من صفقاته الخارجية عليهم، كما حدث مع التاجر اليهودي إسحاق سبيري، علاوة على ذلك فلم يمنعهم من المساهمة المالية في الشركة اليمنية للتجارة والصناعة والزراعة حال إنشاءها، وكان من جراء ذلك أن انتعشت الحركة الاقتصادية بين الجالية اليهودية، واشتهرت بعض البيوت فيها بالتجارة مثل أسرة حبشوش وغيرها.


أوضاع اليهود السياسية خلال الحكم الإسلامي في اليمن
لم تستمر سلطة اليهود السياسية في اليمن لمدة طويلة، إذ أخذت دولتهم إن جاز لنا القول في الاضمحلال بصورة متسارعة تحت وطأة الاحتلال المسيحي بقيادة مملكة الأحباش في أواخر القرن السادس الميلادي، الذي بدوره لم يستمر طويلا حيث تمكن سيف بن ذي يزن الحميري من تحرير اليمن بمساعدة الفرس الوثنيين من ربقة ذلك الاحتلال، فعاشت اليمن في فراغ ديني بعدها حتى كان دخولها في الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع الميلادي السنة التاسعة للهجرة، ليتربع الإسلام في أفئدة ذلك الشعب تلبية لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الأثر، ومن حينه انضوت اليمن أرضا وشعبا تحت لواء الدولة الإسلامية خلال مختلف الحقب التاريخية، وعاش اليهود فيها أقلية دينية لها حقوقها، وعليها واجباتها تجاه الدولة، بحسب ما تقرره التعاليم الدينية تجاه ما تعارف عليه المسلمون بأهل الذمة.

yasmeen
09-03-2005, 08:10 AM
وقد اختلفت المصادر في عدد اليهود اليمنيين بصورة عامة، غير أن المرجح أن عددهم وصل مع مطلع القرن العشرين ما بين 75 و 100 ألف نسمة موزعين على ألف مركز داخل أرجاء اليمن، متمتعين في معظم الفترات التاريخية بالأمن والسلام إلا من بعض الفترات التي تعرضوا فيها لبعض أنواع العقاب الناتج عن ممارستهم لأمور تُعد من قبيل العصيان على الدولة والمجتمع، كالتمرد أو الخروج على التقاليد اليمنية العامة المرعية من قبل الطائفة اليهودية، أو محاولة التملص من دفع الجزية، أو التلاعب في النقد المدفوع، أو بيعهم الخمور وتعاطيهم لها علنا، أو اللجوء إلى أساليب الغش في البيع، وغير ذلك مما يعرضهم لعقاب الدولة الإسلامية في اليمن.

ولقد شغلت فكرة ظهور المسيح المخلص أذهان الكثير من أبناء الطائفة اليهودية في العديد من الفترات التاريخية، ومن ذلك ما حدث في أواخر القرن السادس الهجري حين أعلن الحبر يعقوب بن ناثانئيل أنه المسيح المخلص، داعيا إلى أنه مكلف بالعمل على دمج الديانة اليهودية بالإسلام، لكن دعوته هذه لم تلق قبولا وتأيدا واسعا بين صفوف الطائفة اليهودية آنذاك.

وفي القرن الحادي عشر الهجري انتشرت بين فئات الطائفة اليهودية في اليمن دعوة سبتاي زيفي الذي ظهر في مدينة أزمير مدعيا بأنه المسيح المخلص، وتجول داعيا لنفسه بين سالونيك والقاهرة والقدس دون أن تلقى دعوته أي قبول واسع، لكنها ولتعلق أبناء الطائفة اليهودية في اليمن بفكرة المسيح المخلص قد لاقت قبولا رائجا جعلت الكثير منهم يعمل على العودة إلى فلسطين، فأخذوا في بيع ممتلكاتهم دون إذن من الإمام المتوكل على الله إسماعيل (1054–1087هـ/1644 – 1676م) حاكم اليمن آنذاك، وأخذ بعضهم في التلاسن مع المسلمين بسوء، فكان أن حرر أحد القضاة ويدعى شهاب الدين أحمد بن سعد الدين سؤالا إلى الإمام يستفسر فيه عن موقف المسلمين من ممارسة اليهود لأعمال البيع والهجرة الجماعية دون إذن مسبق من الإمام، وكذلك عن الموقف من سلوكيات بعضهم الفاسدة تجاه المسلمين، فكان جواب الإمام يقضي بأن عدم وقوف اليهود على رسم الذمة مدعاة إلى نقض التزامات العهد تجاههم، ففهم الناس من جوابه أنه يهدر أموالهم، وانتشر ذلك في أفاق اليمن، فانتُهب اليهود في عدد من المناطق، حتى كان وقف ذلك بأمر من الإمام الذي قام بتأديب المنتهبين، وفي تلك الأثناء قام بعض يهود صنعاء بتتويج أحد رؤسائهم، وعملوا على تنصيبه وإعلاء كلمته، فما كان من الإمام إلا أن أمر بالقبض عليه وقطع عنقه، وتعزير من ساعده من اليهود بإسقاط العمائم من على رؤوسهم، وسجن بعضهم.

ولم ينته الأمر عند ذلك، بل قام بعض يهود صنعاء بالتطاول على النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى المسلمين، وإعمال الغش التجاري معهم، الأمر الذي أجبر الإمام المتوكل إسماعيل على القيام بإجلاء يهود صنعاء وتخريب كنائسهم، وتم تنفيذ ذلك في عهد خليفته الإمام المهدي أحمد بن الحسن الذي قام بتهجير يهود صنعاء إلى مدينة موزع على ساحل البحر الأحمر لمدة يسيرة، ثم سمح لهم بالرجوع ليس إلى مواقعهم القديمة في صنعاء وإنما إلى حي جديد خاص بهم، عرف باسم قاع اليهود وذلك بعد سكينتهم، وشفاعة أحد كبار الأحبار اليهود في اليمن المقيم في تعز لهم ويدعى (الشبزي).

وبحكم سيطرت فكرة إمكانية ظهور المسيح المخلص الذي به ومن خلاله ستعود الدولة اليهودية في فلسطين على أذهان أفراد المجتمع اليهودي اليمني قاطبة، فقد عرف أبناء الطائفة خلال مختلف المراحل التاريخية ظهور المدعين بمسيحيتهم (الكاذبة)، والتي لاقت إقبالا في بعض الفترات من قبل علماء وأفراد الطائفة اليهودية، نتيجة لتعلقهم الكبير بمختلف مظاهر الحياة الدينية، التي كانت تميز المجتمع اليهودي في اليمن، أسوة بفئات المجتمع اليمني المسلم، ولذلك فلم تواجه المنظمة الصهيونية الكثير من الصعوبات في إقناع أبناء الطائفة اليهودية بالهجرة إلى الأرض الموعودة (فلسطين المحتلة) وذلك مع بدايات القرن العشرين الميلادي.

لقد تمكنت المنظمة الصهيونية بواسطة العديد من أفرادها الذين زاروا اليمن متخفين بلباس يهودها المسموح تنقلهم بحسب ما تقتضيه الأعراف اليمنية دون قيد أو شرط، ودون خوف أو رهبة لحصانتهم الاجتماعية وفقا لما تقرره الأعراف والعادات والتقاليد القبلية اليمنية، تمكنت، من تعزيز روح الهجرة إلى فلسطين بين أوساط المجتمع اليهودي في اليمن، وبذلت من أجل ذلك كل السبل الممكنة، ونجحت جهودهم في ذلك، لاسيما وأن يهود اليمن كانوا على معرفة بالقدس، وعلى اعتقاد كبير بأن ساعة الفرج لهم قد قربت، وهو ما يؤكده إريك ماكرو الذي زار اليمن عام 1882م بقوله :" إن اليهود القاطنين بقرية قرب صنعاء أظهروا معرفتهم بالقدس وبروتشايلد العظيم الذي كانوا يعتقدون أنه حاخام عظيم لليهود، وكانوا يتوهمون أنه يسكن القدس، وأنه اشترى أرضا لهم ليمنحهم إياها، وعلى هذه الشائعة هاجرت أكثر من مائة أسرة يهودية من صنعاء إلى القدس لتنفيذ ذلك ".

وقد توالت هجرات اليهود اليمنيين إلى فلسطين بعد ذلك بصورة كبيرة، حيث هاجر خلال عامي 1911م و 1912م حوالي خمسة عشر ألف يهودي، واستمرت الهجرات في الأعوام اللاحقة حتى كانت سنة 1948 - 1949م التي هاجر فيهما غالبية أبناء الطائفة اليهودية بعد إعلان قيام دولة إسرائيل فيما عرف بعملية "بساط الريح أو بساط سليمان"، ولم يبق في اليمن منهم سوى ما يقرب من 300 فرد آثروا البقاء داخل أرجاء اليمن.


وعليه فيتضح مما سبق أن الطائفة اليهودية اليمنية التي ينتمي غالبيتها للأرومة العربية الجنوبية قد عاشت طوال أربعة عشر قرنا من حكم المسلمين في أجواء من التسامح الديني والحياتي الذي أمكنهم من خلاله المحافظة على هويتهم الدينية، وطقوسهم الشعائرية، ومختلف عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، في ظل منطقة عرفت بتقلباتها السياسية، ومتغيراتها الاقتصادية، وتنوعها الفكري، وتباينها الاجتماعي الذي وإن كان للوهلة الأولى ميزة إيجابية لهم، لكنه وبقليل من التدبر يعتبر خاصية سلبية يمكن معها استحواذ فكرة اتحاد الأغلبية على الأقلية، والعمل على نفيه بمختلف السبل المشروعة وغير المشروعة.

ولقد عرف اليهود طبيعة العقل العربي في اليمن الذي تسيطر عليه مفاهيمه القبلية المبنية على قواعد ثابتة من الأخلاق والوفاء فحرصوا على التحرك من خلالها، ورضوا كأقلية دينية وربما عرقية تبعا لذلك، بالعيش داخل المنظومة القبلية ووفقا لسلمها الاجتماعي، متمتعين بمزاياها الاقتصادية، حيث لا يدفعون ضرائب ولا أعشارا، ولا زكاة فطرة، ولا رسوما مالية أخرى، بل يكتفون بدفع أموال زهيدة بالنسبة إلى ما يدفعه المُكلف المسلم تعرف بالجزية، تعمل على تخليصهم من حمل السلاح كما نوه بذلك نزيه العظم في معرض حديثه مع بعض أبناء الطائفة في صنعاء ؛ ومتمتعين أيضا بمزاياها الاجتماعية التي وإن شابها الدونية في بعض مظاهرها، لكنها حققت لهم الأمان والاستقرار داخل أروقة المجتمع اليمني بما يمكن تشبيهه بالحصانة الاجتماعية، وهم ليسوا بدعا أو متفردين في ذلك، بل إن القواعد القبلية تضمن لعلماء الدين المسلمين الحياة الآمنة حتى في أحلك الظروف الأمنية التي ينصاع فيها المتحاربون فيها لراية العالم البيضاء حال رفعها بينهم فيعقدون العزم على إتمام الصلح، واعتبار مكان ذلك هجرة لها حرمتها القبلية.

لقد كان لإدراكهم الفعلي لحيثيات ذلك العقل القبلي اليمني أثره الإيجابي عليهم، فهم لم يكتفوا بالخلاص من مجمل الالتزامات المالية التي يدفعها غيرهم من أفراد المجتمع اليمني المسلم، بل إنهم استغلوا ولربما كرسوا بطريقة مباشرة وغير مباشرة أيضا عزوف أفراد المجتمع اليمني قاطبة عن العمل اليدوي ليتولوا القيام بذلك، محققين خاصية الاحتكار والسيطرة التجارية المرتبطة بالحياة اليومية، مما أكسبهم مكانة خاصة، وأهمية بالغة في نفوس جل اليمنيين من أعلاهم إلى أدناهم المحتاجين لخدماتهم المهنية، فكان أن تنفذوا بأسلوب غير مباشر.

كما أدرك العديد من موظفي المنظمة الصهيونية أهمية تلك الميزة الإيجابية ليهود اليمن، فعمدوا على استغلالها، وأخذوا التجول متنكرين بالزي اليهودي بحرية واطمئنان، محرضين أبناء الطائفة على الهجرة إلى أرض فلسطين، وفي مقابل ذلك فقد أدركت القوى السياسية في عهد المملكة المتوكلية اليمنية أهمية هذه الميزة التي تمكن اليهودي من التنقل بين أرجاء القبائل دون اعتراض من أحد، فعملت على الاستفادة منها بالشكل الذي يصب في خدمة مصالحها، وهو ما يبرر سماح الإمام يحيى حميد الدين على سبيل المثال لحاخام اليهود بالدخول عليه في أي وقت يشاء، وإن كان لا يخلوا ذلك من إحساس بالمسؤولية الدينية تجاه اليهود كأهل ذمة مستضعفين.

الجدير بالذكر، فإنه بالرغم من التوافق الثقافي بصفة عامة، والتشابه الجيني كما أكدت ذلك مختبرات جامعة تل أبيب بين المجتمع اليهودي واليمني، إلا أن الطائفة اليهودية قد آثرت الانعزال في أحياء خاصة أشبه ما تكون بالمستوطنات، بعيدين عن أنماط حياة المجتمع اليمني الريفي منه والمدني، ويعود ذلك إلى الإحساس بالأقلية الفكرية التي تشكل هاجسا سيطر على مناحي الحياة اليهودية، مما سرب الخوف إلى نفوسهم موحيا لهم بحتمية التلاشي في حال الاندماج مع المجتمع اليمني المسلم، هذا عوضا عن مظاهر العبادة اليهودية التي تفرض نوعا من الصرامة الدينية في الحياة حتى على مستوى أكل الإنسان، لذلك فقد حرص اليهود على التجمع بقدر المستطاع دون أن يمنع ذلك أحدهم من الاختلاط الحياتي مع أفراد المجتمع المسلم، لهذا فقد كانت فكرة الانعزال عن باقي مناحي المجتمع في اليمن نابعة من داخل أروقة المجتمع اليهودي، وليس كما يعتقد البعض من أن منشأها التفرقة العنصرية التي عاشها اليهود في مختلف أرجاء العالم الغربي.

ذلك أن الفرق بَـيِّن بين العالمين الغربي المسيحي، والشرقي الإسلامي على وجه الخصوص، فالمسيحية تعيش عداءها الأيدلوجي التاريخي مع اليهودية لاتهامها بقتل المسيح عيسى عليه السلام، أما المسلمون فلا يملكون في أنفسهم أية بذرة للعداوة الأيدلوجية مع اليهود كطائفة دينية، فهم بداية، من أهل الكتاب الذين فرض الله على المسلمين مراعاة حقوقهم، وليس ذلك فحسب، بل وأجازت الشريعة الإسلامية الزواج منهم، والأكل من مأكلهم، وغير ذلك من مدلولات المعاملات الأخوية، وهو ما ينفي نظرية العداء الأيدلوجي العنصري السلبي بين المسلمين جماعات وأفراد مع اليهود بالرغم من حقيقة الخلاف الأيدلوجي معهم.