yasmeen
09-03-2005, 08:07 AM
زيد بن علي الفضيل
النشأة والتكوين
بالرغم من طول استمرار الوجود اليهودي في جنوب غرب الجزيرة العربية (اليمن) منذ ما قبل الإسلام وحتى الوقت الراهن، إلا أن الباحثين لم يحددوا بدقة بدايات ذلك الوجود، ولم تتضح هوية معتنقي الديانة اليهودية فيما إذا كانوا من الأقوام العبرية المهاجرة أم أنهم من السكان الأصليين، ولم نعرف بشكل واضح الأسباب الداعية
http://elaph.com/elaphweb/Resources/Images/Reports/2005/9/Thumbnails/T_a1a797b0-90e4-4ea2-bd8b-abc6e2d18265.jpg
طلاب يهود من اليمن
الى انتشار العقيدة اليهودية في تلك البقعة النائية التي تفصلها البراري والقفار، والقلاع والوهاد عن أرض الميعاد ؛ ولعل السبب راجع إلى إغفال النقوش المسندية المكتشفة، والآثار اليمنية القديمة إلى ما يشير إلى ذلك، كما أن المصادر اليونانية، واليهودية، والنصرانية، والعربية قد اختلفت في روايتها حول البدايات للنشأة والتكوين اليهودي في اليمن، الأمر الذي يترك للباحث خيار الترجيح بين مختلف تلك الروايات التاريخية.
تعود أبكر تلك الروايات بالوجود اليهودي في اليمن إلى القرن العاشر قبل الميلاد، عندما أرسل النبي سليمان عليه السلام مرافقين مع ملكة سبأ حال عودتها إلى مملكتها بعد زيارتها له في عاصمته واعتناقها لدينه، في حين تُرجع الرواية الثانية الوجود اليهودي إلى مرحلة الأسر البابلي على يد نبو خذ نصر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حيث تمكن كما تشير الرواية عدد من اليهود من النجاة بأنفسهم وأموالهم وأولادهم إلى شمال الجزيرة العربية وصولا إلى جنوبها حيث اليمن، أما الرواية الثالثة فتشير إلى أن وصول اليهود إلى اليمن كان في القرن الأول الميلادي بعد تدمير الإمبراطور الروماني تيتوس لمدينة القدس، وبالنسبة للرواية العربية التي رواها ابن هشام فتذكر أن الملك الحميري تبان أسعد أبو كرب تعرف على حبرين يهوديين حال مروره بيثرب بعد عودته من حرب في المشرق، فاصطحبهما معه إلى اليمن، وكانا قد تمكنا من ثنيه عن تدمير الكعبة حال مروره بمكة، وخلال مسيرهما معه إلى اليمن، تمكن الإعجاب بهما من قلبه، فاعتنق دينهما وحض شعبه على ذلك.
وهكذا فإن مجمل الروايات قد تباينت زمنيا، فمن القرن العاشر قبل الميلاد وحتى أواخر القرن الرابع الميلادي تقريبا، وتباينت سببيا فمن الإيمان طواعية من قبل الشعب اليمني الممثل بسبأ وحمير بعدئذ، إلى الهجرة القسرية التي مارسها الشعب اليهودي هربا بنفسه وماله، وهو ما يصعب التسليم به جزافا، فاليمن لم تكن بالأرض المجاورة لمنطقة الهلال الخصيب، كما أن المسافة بينها وبين المواقع الحضرية في شمال الجزيرة يصعب قطعها على ابن الصحراء، فكيف بالغريب عنها، عوضا عن بعدها الجغرافي عن نقاط محاور التنزيل الرباني، والوجود الديني للشعب اليهودي في بلاد الشام، وهو ما يحيل القيام بالهجرة الجماعية التي توحي بها مجمل الروايتين السابقتين، دون أن يتعارض ذلك مع هجرة أفراد من الشعب اليهودي إلى وسط الجزيرة العربية لأسباب خاصة دينية كانت، أو سياسية، أو غير ذلك، حيث تؤكد الرواية العربية أن الملك اليمني الحميري قد تقابل مع حبرين يهوديين بيثرب (المدينة المنورة) والذين كان لهما الأثر في اعتناقه لديانتهما، ولعلها هي البداية الحقيقية للوجود اليهودي في اليمن كما تشير إلى ذلك مجمل الدلائل الأثرية والتاريخية التي لم تقطع علميا بتبعية ملكة سبأ الوارد ذكرها في القرآن الكريم إلى اليمن، لخلو النقوش واللقى الأثرية المكتشفة حتى الوقت الراهن من ذكر لها ولغيرها في التاريخ اليمني القديم، علاوة على أن شعب سبأ قد جاء ذكره في السجلات الآشورية مما يدل على وجودهم في شمال الجزيرة العربية خلال تلك الحقبة.
ولقد أرجع بعض المؤرخين اليمنيين اعتناق الشعب اليمني لليهودية دون المسيحية إلى أنه كان بهدف إيجاد عقيدة سماوية يمكن من خلالها مقاومة الدولة البيزنطية المسيحية التي عملت على السيطرة على اليمن من خلال مملكة الأحباش المسيحية، وعبر إرسال المبشرين لتنصير الشعب اليمني، وبالتالي فقد كان لزاما على ملوك اليمن الحميريين إيجاد عقيدة قوية ومعادية يمكنهم من خلالها مواجهة الغزو المسيحي، كما فسر البعض اعتناق حكومة اليمن الحميرية للدين اليهودي بدافع من الكراهية للوجود المسيحي الحبشي المحتلين لبعض المناطق الساحلية اليمنية على البحر الأحمر.
وأيا ما كان الأمر وما هي دوافعه فإن من المرجح أن يهود اليمن لم يكونوا من الأقوام العبرية المهاجرة، بل كانوا من الأرومة اليمنية التي وكغيرها من الشعوب القديمة آمنت باليهودية استجابة لحركة التبشير اليهودي آنذاك والذي ليس بالضرورة أن يكون قد تم على أيدي الموسويين من بني إسرائيل، بل على أيدي غيرهم ممن اعتنق الديانة اليهودية، ومما يؤكد ذلك ما وصلت إليه نتائج الدراسة العلمية التي أجرتها جامعة تل أبيب حول الجينات الوراثية ليهود اليمن، التي تبين أنها لا تختلف عن جينات القبائل العربية، بالرغم من انفصال اليهود عن غيرهم حياتيا ومعيشيا طوال هذه المدة.
أوضاع اليهود الدينية في اليمن إبان الحكم الإسلامي
لم تمض مدة طويلة على هجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة حتى كان معظم اليمن قد دخل في الإسلام محبة ورغبة، فكان أن تلاشت مختلف المذاهب والأديان الوثنية، وانحسر نطاق الأديان السماوية الأخرى، دون أن يواجهوا معارضة من الدين الجديد، إذ لا إكراه في الدين كما جاء في الذكر الحكيم، ولذلك فقد أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أنه :
من أقام (من الملل السماوية) على دينه، وأقر بالجزية، تُرك ودينه، وله ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين، لا يُقتل، ولا يُسبى، ولا يُكلف إلا طاقته، ولا يُفتتن لترك دينه، ولم يختلف النهج الراشدي عن المنهج النبوي في كيفية التعامل مع المخالفين من اليهود والنصارى، فهذا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوصي عامله الأشتر النخعي حين ولاه على مصر بحسن معاملة أهلها الذين لا يخرج كونهم على : " إما أخ في الدين، أو نظير في الخلق " كما جاء في العهد المشهور.
ونتيجة لذلك فقد حفظ المسلمون عبر مختلف الفترات الزمنية للطائفة اليهودية في اليمن حقوقهم المادية والمعنوية، فتحسنت أوضاعهم الاجتماعية والحياتية في ظل الأمن الذي كفله الإسلام لهم، وتحققت حريتهم الدينية عبر ممارستهم لطقوسهم الشعائرية في العديد من بيوت العبادة، التي لم تتعرض للإهانة أو الهدم خلال فترات الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية في اليمن، وهو ما أكده حاخام مدينة صنعاء يحيى بن إسحاق في معرض حديثه مع نزيه العظم الذي زار اليمن في أوائل القرن العشرين الميلادي، حيث أشار إلى أنه توجد في صنعاء 15 مدرسة دينية، و 19 كنيسة، وشدد على مدى حريتهم في ممارسة الطقوس الدينية، وتطبيق قواعد الشريعة اليهودية، دون أن يعترضهم معترض.
وليس ذلك فحسب، بل فقد عمدت الدولة العثمانية خلال حكمها اليمن على تعيين شخص على رأس الطائفة اليهودية عرف بالحاخام باشا والذي منح حق إصدار الأحكام على أبناء الطائفة، وقد استمر المنصب قائما في عهد الأئمة وبخاصة الإمام يحيى حميد الدين، الذي تعززت على عهده سلطة الحاخام على الطائفة، بحيث لم يكن لأحد دون الإمام نقض ما أبرمه من حكم، بل إنه كان للحاخام يحيى الأبيض، ومن بعده الحاخام سالم سعيد الجمل الحق في الدخول على الإمام يحيى في أي وقت ليعرضوا عليه شكواهم، أو ليحلوا مشكلة بين يهودي ومسلم، كما لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه ليصل إلى طلب بعض اليمنيين المسلمين من الحاخام التدخل لدى الإمام لحل بعض مشاكلهم لديه.
وإضافة إلى حريتهم في ممارستهم لطقوسهم الدينية المختلفة فقد تمتعوا بالاحتفال بأعيادهم المتعددة مثل عيد الفصح، وعيد الكيبور (الغفران)، وعيد رأس السنة ويسمونه عيد (العوشة)، فيرقصون ويحتفلون بمشاركة المسلمين الذين لم يتحرجوا في إبداء فرحتهم والرقص معهم.
أما فيما يتعلق بأحوالهم الاقتصادية فإنها لم تتضرر بما هو مقرر عليهم من جزية ضئيلة سنوية، عوضا على أنهم وكأقلية اجتماعية ودينية لم يشملهم مجمل قواعد الأعراف القبلية المنصوص عليها داخل المجتمع اليمني، مما مكنهم من العيش بحرية واطمئنان بين جموع القبائل اليمنية، وهو ما لاحظه العالم الإنجليزي هيو سكوت الذي كتب في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادي قائلا : إن اليهود في اليمن كانوا مرتاحين من وضعهم، وأن الناس تعاملوا معهم حسب العادات المحلية.
أوضاع اليهود الاجتماعية في اليمن خلال الحكم الإسلامي
لم يكن على اليهود من التزام تجاه المجتمع المسلم في اليمن والعالم الإسلامي قاطبة سوى دفع الجزية المقررة، وعدم ممارسة الربا أو القيام بأي عمل يسيء للإسلام والمسلمين، وعليه فقد تمتع المجتمع اليهودي في اليمن بممارسة حياتهم بالكيفية التي تتواءم مع معتقداتهم الدينية، وتشريعاتهم الحياتية، فعمدوا إلى التزاوج فيما بينهم، وحرصوا على استمرارية تعليمهم الديني، وحافظوا على مجمل عاداتهم وأعرافهم الدينية والحياتية الخاصة.
وقد انقسموا مجتمعيا بحسب العرف الديني إلى قسمين هما أولا : هارونيين وهم من ذرية أوائل من قدم مع الملك الحميري السابق الذكر بحسب الرواية العربية للنشأة اليهودية، ولا يشكلون سوى 10% من مجمل عدد يهود اليمن، ويتولون تنفيذ الطقوس والشعائر الدينية، وعقد الأنكحة، كما يقومون بالذبح والختان وغير ذلك، وثانيا : غير هارونيين وهم المعتنقون للديانة اليهودية من عامة أفراد الناس.
كما تميز مجتمع اليهود عن غيرهم في اليمن بعادة احتفاظهم بالزنانير المسدلة كذؤابتين متدليتين من على شعور رؤوسهم، وقد فرضت في العهد الحميري على عهد الملك اليهودي العقيدة ذي نواس لتمييزهم عن باقي اليمنيين، وتجدر الإشارة إلى أن هذه العادة لم تنقطع خلال مختلف القرون وحتى الوقت الراهن، إذ لا تزال موجودة عند اليهود اليمنيين المتدينين المهاجرين إلى فلسطين المحتلة، كما أنها قد شكلت العلامة الفارقة بين الإنسان اليهودي وغيره من عامة الناس المسلمين في اليمن، ذلك أن لا فوارق لغوية وثقافية بين اليهود وغيرهم داخل إطار المجتمع القبلي والمدني بصفة عامة.
وبالنسبة للمسكن فقد انتشر اليهود في مختلف أرجاء اليمن ريفا وحضرا، وإن كان تمركزهم في المدن أكثر لطبيعة حياتهم المهنية، وقد كان اليهود في اليمن مثل بقية مناطق العالم يميلون إلى السكنى في أحياء خاصة بهم تحمل أسماءهم، ففي مدينة صنعاء مثلا، حُدد لهم حي مستديم عرف بقاع اليهود الواقع في الغرب من المدينة، والمنقسم إلى 20 حارة، يحوي ما يقرب من 10 آلاف نفس تقريبا، وفي مدينة عدن الصغيرة تقاسم اليهود السكنى مع السكان المحليين المسلمين، بل إن عددهم في بعض الفترات قد فاق عدد المسلمين وبخاصة بعد احتلال بريطانيا للمدينة عام 1839م، كما لم يختلف الأمر في عدن عن صنعاء من حيث انزواء اليهود في أحياء خاصة بهم، وهو ما ساد مختلف التجمعات السكانية اليهودية في مختلف مدن اليمن وقراها، الأمر الذي وفر لهم الحماية خلال فترات الفوضى والاضطرابات، إذ كان الاعتداء عليهم وهم ليسوا طرفا في النزاع يعتبر عملا ممقوتا اجتماعيا.
وقد اشتغل اليهود في اليمن بالمهن الحرفية والأنشطة اليدوية مستغلين عزوف فئات المجتمع اليمني عن العمل بها فكان أن سيطر اليهود على مقدرات الحياة الاقتصادية بمجمل تفاصيلها، ولم يعد للفرد اليمني وصولا لصانع القرار الرئيسي من قدرة على الاستغناء عن مختلف الخدمات التي يقدمها الفرد اليهودي المحتكر لصناعة الحلي، وصناعة الأسلحة التقليدية (الخناجر والسيوف)، وكل ما هو متعلق بها، والصناعات الجلدية، وأعمال النجارة والزخرفة، وأعمال الحياكة والتطريز، وأعمال البناء، وغيرها من الحرف اليدوية.
كما اشتغل البعض الأخر منهم بالتجارة مستفيدين من خاصية حرية التنقل التي كفلتها لهم الأعراف القبلية في اليمن، الأمر الذي حدا بعدد من الرحالة الغربيين على التنكر بزي اليهود حال تجوالهم في بقاع اليمن، إضافة إلى ذلك فقد سهل المحتل البريطاني في عدن والمحميات الجنوبية لهم إجراء وتنفيذ الكثير من العمليات التجارية بحرية ودون قيد، مما أدى إلى احتكارهم للكثير من الصناعات اليدوية، والعديد من الوكالات التجارية، كتجارة البن اليمني، وريش النعام وغيرها.
تجدر الإشارة إلى أن عددا منهم قد شغل مناصب عالية في الدولة خلال مختلف الحقب التاريخية وبخاصة في الأعمال التي تتعلق بالخدمات، ومنها ما كان على عهد الإمام القاسم بن الحسين المتوفى سنة 1726م/1139هـ الذي قلد زعيم الطائفة اليهودية في عهده وظيفة المسؤول الأول عن الجمارك، والقصور، والبساتين في اليمن ؛ وما كان أيضا في زمن الإمام يحيى حميد الدين المتوفى سنة 1948م/1367هـ الذي أسند مهمة سك العملة النحاسية إلى بعض منهم، واعتمد في العديد من صفقاته الخارجية عليهم، كما حدث مع التاجر اليهودي إسحاق سبيري، علاوة على ذلك فلم يمنعهم من المساهمة المالية في الشركة اليمنية للتجارة والصناعة والزراعة حال إنشاءها، وكان من جراء ذلك أن انتعشت الحركة الاقتصادية بين الجالية اليهودية، واشتهرت بعض البيوت فيها بالتجارة مثل أسرة حبشوش وغيرها.
أوضاع اليهود السياسية خلال الحكم الإسلامي في اليمن
لم تستمر سلطة اليهود السياسية في اليمن لمدة طويلة، إذ أخذت دولتهم إن جاز لنا القول في الاضمحلال بصورة متسارعة تحت وطأة الاحتلال المسيحي بقيادة مملكة الأحباش في أواخر القرن السادس الميلادي، الذي بدوره لم يستمر طويلا حيث تمكن سيف بن ذي يزن الحميري من تحرير اليمن بمساعدة الفرس الوثنيين من ربقة ذلك الاحتلال، فعاشت اليمن في فراغ ديني بعدها حتى كان دخولها في الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع الميلادي السنة التاسعة للهجرة، ليتربع الإسلام في أفئدة ذلك الشعب تلبية لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الأثر، ومن حينه انضوت اليمن أرضا وشعبا تحت لواء الدولة الإسلامية خلال مختلف الحقب التاريخية، وعاش اليهود فيها أقلية دينية لها حقوقها، وعليها واجباتها تجاه الدولة، بحسب ما تقرره التعاليم الدينية تجاه ما تعارف عليه المسلمون بأهل الذمة.
النشأة والتكوين
بالرغم من طول استمرار الوجود اليهودي في جنوب غرب الجزيرة العربية (اليمن) منذ ما قبل الإسلام وحتى الوقت الراهن، إلا أن الباحثين لم يحددوا بدقة بدايات ذلك الوجود، ولم تتضح هوية معتنقي الديانة اليهودية فيما إذا كانوا من الأقوام العبرية المهاجرة أم أنهم من السكان الأصليين، ولم نعرف بشكل واضح الأسباب الداعية
http://elaph.com/elaphweb/Resources/Images/Reports/2005/9/Thumbnails/T_a1a797b0-90e4-4ea2-bd8b-abc6e2d18265.jpg
طلاب يهود من اليمن
الى انتشار العقيدة اليهودية في تلك البقعة النائية التي تفصلها البراري والقفار، والقلاع والوهاد عن أرض الميعاد ؛ ولعل السبب راجع إلى إغفال النقوش المسندية المكتشفة، والآثار اليمنية القديمة إلى ما يشير إلى ذلك، كما أن المصادر اليونانية، واليهودية، والنصرانية، والعربية قد اختلفت في روايتها حول البدايات للنشأة والتكوين اليهودي في اليمن، الأمر الذي يترك للباحث خيار الترجيح بين مختلف تلك الروايات التاريخية.
تعود أبكر تلك الروايات بالوجود اليهودي في اليمن إلى القرن العاشر قبل الميلاد، عندما أرسل النبي سليمان عليه السلام مرافقين مع ملكة سبأ حال عودتها إلى مملكتها بعد زيارتها له في عاصمته واعتناقها لدينه، في حين تُرجع الرواية الثانية الوجود اليهودي إلى مرحلة الأسر البابلي على يد نبو خذ نصر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حيث تمكن كما تشير الرواية عدد من اليهود من النجاة بأنفسهم وأموالهم وأولادهم إلى شمال الجزيرة العربية وصولا إلى جنوبها حيث اليمن، أما الرواية الثالثة فتشير إلى أن وصول اليهود إلى اليمن كان في القرن الأول الميلادي بعد تدمير الإمبراطور الروماني تيتوس لمدينة القدس، وبالنسبة للرواية العربية التي رواها ابن هشام فتذكر أن الملك الحميري تبان أسعد أبو كرب تعرف على حبرين يهوديين حال مروره بيثرب بعد عودته من حرب في المشرق، فاصطحبهما معه إلى اليمن، وكانا قد تمكنا من ثنيه عن تدمير الكعبة حال مروره بمكة، وخلال مسيرهما معه إلى اليمن، تمكن الإعجاب بهما من قلبه، فاعتنق دينهما وحض شعبه على ذلك.
وهكذا فإن مجمل الروايات قد تباينت زمنيا، فمن القرن العاشر قبل الميلاد وحتى أواخر القرن الرابع الميلادي تقريبا، وتباينت سببيا فمن الإيمان طواعية من قبل الشعب اليمني الممثل بسبأ وحمير بعدئذ، إلى الهجرة القسرية التي مارسها الشعب اليهودي هربا بنفسه وماله، وهو ما يصعب التسليم به جزافا، فاليمن لم تكن بالأرض المجاورة لمنطقة الهلال الخصيب، كما أن المسافة بينها وبين المواقع الحضرية في شمال الجزيرة يصعب قطعها على ابن الصحراء، فكيف بالغريب عنها، عوضا عن بعدها الجغرافي عن نقاط محاور التنزيل الرباني، والوجود الديني للشعب اليهودي في بلاد الشام، وهو ما يحيل القيام بالهجرة الجماعية التي توحي بها مجمل الروايتين السابقتين، دون أن يتعارض ذلك مع هجرة أفراد من الشعب اليهودي إلى وسط الجزيرة العربية لأسباب خاصة دينية كانت، أو سياسية، أو غير ذلك، حيث تؤكد الرواية العربية أن الملك اليمني الحميري قد تقابل مع حبرين يهوديين بيثرب (المدينة المنورة) والذين كان لهما الأثر في اعتناقه لديانتهما، ولعلها هي البداية الحقيقية للوجود اليهودي في اليمن كما تشير إلى ذلك مجمل الدلائل الأثرية والتاريخية التي لم تقطع علميا بتبعية ملكة سبأ الوارد ذكرها في القرآن الكريم إلى اليمن، لخلو النقوش واللقى الأثرية المكتشفة حتى الوقت الراهن من ذكر لها ولغيرها في التاريخ اليمني القديم، علاوة على أن شعب سبأ قد جاء ذكره في السجلات الآشورية مما يدل على وجودهم في شمال الجزيرة العربية خلال تلك الحقبة.
ولقد أرجع بعض المؤرخين اليمنيين اعتناق الشعب اليمني لليهودية دون المسيحية إلى أنه كان بهدف إيجاد عقيدة سماوية يمكن من خلالها مقاومة الدولة البيزنطية المسيحية التي عملت على السيطرة على اليمن من خلال مملكة الأحباش المسيحية، وعبر إرسال المبشرين لتنصير الشعب اليمني، وبالتالي فقد كان لزاما على ملوك اليمن الحميريين إيجاد عقيدة قوية ومعادية يمكنهم من خلالها مواجهة الغزو المسيحي، كما فسر البعض اعتناق حكومة اليمن الحميرية للدين اليهودي بدافع من الكراهية للوجود المسيحي الحبشي المحتلين لبعض المناطق الساحلية اليمنية على البحر الأحمر.
وأيا ما كان الأمر وما هي دوافعه فإن من المرجح أن يهود اليمن لم يكونوا من الأقوام العبرية المهاجرة، بل كانوا من الأرومة اليمنية التي وكغيرها من الشعوب القديمة آمنت باليهودية استجابة لحركة التبشير اليهودي آنذاك والذي ليس بالضرورة أن يكون قد تم على أيدي الموسويين من بني إسرائيل، بل على أيدي غيرهم ممن اعتنق الديانة اليهودية، ومما يؤكد ذلك ما وصلت إليه نتائج الدراسة العلمية التي أجرتها جامعة تل أبيب حول الجينات الوراثية ليهود اليمن، التي تبين أنها لا تختلف عن جينات القبائل العربية، بالرغم من انفصال اليهود عن غيرهم حياتيا ومعيشيا طوال هذه المدة.
أوضاع اليهود الدينية في اليمن إبان الحكم الإسلامي
لم تمض مدة طويلة على هجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة حتى كان معظم اليمن قد دخل في الإسلام محبة ورغبة، فكان أن تلاشت مختلف المذاهب والأديان الوثنية، وانحسر نطاق الأديان السماوية الأخرى، دون أن يواجهوا معارضة من الدين الجديد، إذ لا إكراه في الدين كما جاء في الذكر الحكيم، ولذلك فقد أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أنه :
من أقام (من الملل السماوية) على دينه، وأقر بالجزية، تُرك ودينه، وله ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين، لا يُقتل، ولا يُسبى، ولا يُكلف إلا طاقته، ولا يُفتتن لترك دينه، ولم يختلف النهج الراشدي عن المنهج النبوي في كيفية التعامل مع المخالفين من اليهود والنصارى، فهذا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوصي عامله الأشتر النخعي حين ولاه على مصر بحسن معاملة أهلها الذين لا يخرج كونهم على : " إما أخ في الدين، أو نظير في الخلق " كما جاء في العهد المشهور.
ونتيجة لذلك فقد حفظ المسلمون عبر مختلف الفترات الزمنية للطائفة اليهودية في اليمن حقوقهم المادية والمعنوية، فتحسنت أوضاعهم الاجتماعية والحياتية في ظل الأمن الذي كفله الإسلام لهم، وتحققت حريتهم الدينية عبر ممارستهم لطقوسهم الشعائرية في العديد من بيوت العبادة، التي لم تتعرض للإهانة أو الهدم خلال فترات الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية في اليمن، وهو ما أكده حاخام مدينة صنعاء يحيى بن إسحاق في معرض حديثه مع نزيه العظم الذي زار اليمن في أوائل القرن العشرين الميلادي، حيث أشار إلى أنه توجد في صنعاء 15 مدرسة دينية، و 19 كنيسة، وشدد على مدى حريتهم في ممارسة الطقوس الدينية، وتطبيق قواعد الشريعة اليهودية، دون أن يعترضهم معترض.
وليس ذلك فحسب، بل فقد عمدت الدولة العثمانية خلال حكمها اليمن على تعيين شخص على رأس الطائفة اليهودية عرف بالحاخام باشا والذي منح حق إصدار الأحكام على أبناء الطائفة، وقد استمر المنصب قائما في عهد الأئمة وبخاصة الإمام يحيى حميد الدين، الذي تعززت على عهده سلطة الحاخام على الطائفة، بحيث لم يكن لأحد دون الإمام نقض ما أبرمه من حكم، بل إنه كان للحاخام يحيى الأبيض، ومن بعده الحاخام سالم سعيد الجمل الحق في الدخول على الإمام يحيى في أي وقت ليعرضوا عليه شكواهم، أو ليحلوا مشكلة بين يهودي ومسلم، كما لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه ليصل إلى طلب بعض اليمنيين المسلمين من الحاخام التدخل لدى الإمام لحل بعض مشاكلهم لديه.
وإضافة إلى حريتهم في ممارستهم لطقوسهم الدينية المختلفة فقد تمتعوا بالاحتفال بأعيادهم المتعددة مثل عيد الفصح، وعيد الكيبور (الغفران)، وعيد رأس السنة ويسمونه عيد (العوشة)، فيرقصون ويحتفلون بمشاركة المسلمين الذين لم يتحرجوا في إبداء فرحتهم والرقص معهم.
أما فيما يتعلق بأحوالهم الاقتصادية فإنها لم تتضرر بما هو مقرر عليهم من جزية ضئيلة سنوية، عوضا على أنهم وكأقلية اجتماعية ودينية لم يشملهم مجمل قواعد الأعراف القبلية المنصوص عليها داخل المجتمع اليمني، مما مكنهم من العيش بحرية واطمئنان بين جموع القبائل اليمنية، وهو ما لاحظه العالم الإنجليزي هيو سكوت الذي كتب في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادي قائلا : إن اليهود في اليمن كانوا مرتاحين من وضعهم، وأن الناس تعاملوا معهم حسب العادات المحلية.
أوضاع اليهود الاجتماعية في اليمن خلال الحكم الإسلامي
لم يكن على اليهود من التزام تجاه المجتمع المسلم في اليمن والعالم الإسلامي قاطبة سوى دفع الجزية المقررة، وعدم ممارسة الربا أو القيام بأي عمل يسيء للإسلام والمسلمين، وعليه فقد تمتع المجتمع اليهودي في اليمن بممارسة حياتهم بالكيفية التي تتواءم مع معتقداتهم الدينية، وتشريعاتهم الحياتية، فعمدوا إلى التزاوج فيما بينهم، وحرصوا على استمرارية تعليمهم الديني، وحافظوا على مجمل عاداتهم وأعرافهم الدينية والحياتية الخاصة.
وقد انقسموا مجتمعيا بحسب العرف الديني إلى قسمين هما أولا : هارونيين وهم من ذرية أوائل من قدم مع الملك الحميري السابق الذكر بحسب الرواية العربية للنشأة اليهودية، ولا يشكلون سوى 10% من مجمل عدد يهود اليمن، ويتولون تنفيذ الطقوس والشعائر الدينية، وعقد الأنكحة، كما يقومون بالذبح والختان وغير ذلك، وثانيا : غير هارونيين وهم المعتنقون للديانة اليهودية من عامة أفراد الناس.
كما تميز مجتمع اليهود عن غيرهم في اليمن بعادة احتفاظهم بالزنانير المسدلة كذؤابتين متدليتين من على شعور رؤوسهم، وقد فرضت في العهد الحميري على عهد الملك اليهودي العقيدة ذي نواس لتمييزهم عن باقي اليمنيين، وتجدر الإشارة إلى أن هذه العادة لم تنقطع خلال مختلف القرون وحتى الوقت الراهن، إذ لا تزال موجودة عند اليهود اليمنيين المتدينين المهاجرين إلى فلسطين المحتلة، كما أنها قد شكلت العلامة الفارقة بين الإنسان اليهودي وغيره من عامة الناس المسلمين في اليمن، ذلك أن لا فوارق لغوية وثقافية بين اليهود وغيرهم داخل إطار المجتمع القبلي والمدني بصفة عامة.
وبالنسبة للمسكن فقد انتشر اليهود في مختلف أرجاء اليمن ريفا وحضرا، وإن كان تمركزهم في المدن أكثر لطبيعة حياتهم المهنية، وقد كان اليهود في اليمن مثل بقية مناطق العالم يميلون إلى السكنى في أحياء خاصة بهم تحمل أسماءهم، ففي مدينة صنعاء مثلا، حُدد لهم حي مستديم عرف بقاع اليهود الواقع في الغرب من المدينة، والمنقسم إلى 20 حارة، يحوي ما يقرب من 10 آلاف نفس تقريبا، وفي مدينة عدن الصغيرة تقاسم اليهود السكنى مع السكان المحليين المسلمين، بل إن عددهم في بعض الفترات قد فاق عدد المسلمين وبخاصة بعد احتلال بريطانيا للمدينة عام 1839م، كما لم يختلف الأمر في عدن عن صنعاء من حيث انزواء اليهود في أحياء خاصة بهم، وهو ما ساد مختلف التجمعات السكانية اليهودية في مختلف مدن اليمن وقراها، الأمر الذي وفر لهم الحماية خلال فترات الفوضى والاضطرابات، إذ كان الاعتداء عليهم وهم ليسوا طرفا في النزاع يعتبر عملا ممقوتا اجتماعيا.
وقد اشتغل اليهود في اليمن بالمهن الحرفية والأنشطة اليدوية مستغلين عزوف فئات المجتمع اليمني عن العمل بها فكان أن سيطر اليهود على مقدرات الحياة الاقتصادية بمجمل تفاصيلها، ولم يعد للفرد اليمني وصولا لصانع القرار الرئيسي من قدرة على الاستغناء عن مختلف الخدمات التي يقدمها الفرد اليهودي المحتكر لصناعة الحلي، وصناعة الأسلحة التقليدية (الخناجر والسيوف)، وكل ما هو متعلق بها، والصناعات الجلدية، وأعمال النجارة والزخرفة، وأعمال الحياكة والتطريز، وأعمال البناء، وغيرها من الحرف اليدوية.
كما اشتغل البعض الأخر منهم بالتجارة مستفيدين من خاصية حرية التنقل التي كفلتها لهم الأعراف القبلية في اليمن، الأمر الذي حدا بعدد من الرحالة الغربيين على التنكر بزي اليهود حال تجوالهم في بقاع اليمن، إضافة إلى ذلك فقد سهل المحتل البريطاني في عدن والمحميات الجنوبية لهم إجراء وتنفيذ الكثير من العمليات التجارية بحرية ودون قيد، مما أدى إلى احتكارهم للكثير من الصناعات اليدوية، والعديد من الوكالات التجارية، كتجارة البن اليمني، وريش النعام وغيرها.
تجدر الإشارة إلى أن عددا منهم قد شغل مناصب عالية في الدولة خلال مختلف الحقب التاريخية وبخاصة في الأعمال التي تتعلق بالخدمات، ومنها ما كان على عهد الإمام القاسم بن الحسين المتوفى سنة 1726م/1139هـ الذي قلد زعيم الطائفة اليهودية في عهده وظيفة المسؤول الأول عن الجمارك، والقصور، والبساتين في اليمن ؛ وما كان أيضا في زمن الإمام يحيى حميد الدين المتوفى سنة 1948م/1367هـ الذي أسند مهمة سك العملة النحاسية إلى بعض منهم، واعتمد في العديد من صفقاته الخارجية عليهم، كما حدث مع التاجر اليهودي إسحاق سبيري، علاوة على ذلك فلم يمنعهم من المساهمة المالية في الشركة اليمنية للتجارة والصناعة والزراعة حال إنشاءها، وكان من جراء ذلك أن انتعشت الحركة الاقتصادية بين الجالية اليهودية، واشتهرت بعض البيوت فيها بالتجارة مثل أسرة حبشوش وغيرها.
أوضاع اليهود السياسية خلال الحكم الإسلامي في اليمن
لم تستمر سلطة اليهود السياسية في اليمن لمدة طويلة، إذ أخذت دولتهم إن جاز لنا القول في الاضمحلال بصورة متسارعة تحت وطأة الاحتلال المسيحي بقيادة مملكة الأحباش في أواخر القرن السادس الميلادي، الذي بدوره لم يستمر طويلا حيث تمكن سيف بن ذي يزن الحميري من تحرير اليمن بمساعدة الفرس الوثنيين من ربقة ذلك الاحتلال، فعاشت اليمن في فراغ ديني بعدها حتى كان دخولها في الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع الميلادي السنة التاسعة للهجرة، ليتربع الإسلام في أفئدة ذلك الشعب تلبية لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الأثر، ومن حينه انضوت اليمن أرضا وشعبا تحت لواء الدولة الإسلامية خلال مختلف الحقب التاريخية، وعاش اليهود فيها أقلية دينية لها حقوقها، وعليها واجباتها تجاه الدولة، بحسب ما تقرره التعاليم الدينية تجاه ما تعارف عليه المسلمون بأهل الذمة.