جون
09-02-2005, 07:26 PM
د. كامل النجار
منذ تفجير برجي التجارة بنيويورك في سبتمبر 2001 امتلأت المواقع الإسلامية والصحف العربية بالمقالات التي تزعم أن الإسلام دينُ حبٍ ومودة، وأنه لا يشجع على الإرهاب، وعُقدت عدة مؤتمرات إسلامية لتعلن على الملأ براءة الإسلام من العمليات الاستشهادية. وعقدت بعض البلاد العربية اجتماعاتِ بين شيوخ المسلمين وقادة المسيحيين لبدء الحوار بين الديانات، كما حدث في مصر، وبين المسلمين وأحبار اليهود، كما حدث في المغرب. وكلهم كال السباب إلى الزرقاوي، زعيم القاعدة في بلاد الرافدين وإلى أتباعه الذين يفجرون أنفسهم بين المواطنين العراقيين وينسفون المدرعات الأمريكية. فهل الإسلام حقاً برئ من العمليات الاستشهادية؟
لا شك أن الزرقاوي والشباب الذين يفدون عليه من سوريا ومصر والسودان والسعودية وإيران وباكستان واليمن وغيرها يؤمنون أنهم يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وطرد جيوش الكفار الغازية من ثغور العالم الإسلامي، فهل لهم سندٌ من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد}" (السياسة الشرعية في الراعي والرعية، ص 25). فابن تيمية اعتمد على القرآن والسنة في فتواه، فالقرآن يقول:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} " (الصف)
"إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " (التوبة)
"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُون عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (التوبة)
"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً"(النساء:95)
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" (آل عمران 142).
وهناك آيات عديدة أخرى تحض على الجهاد وقتال الكفار وحماية ثغور البلاد الإسلامية. والأحاديث التي تحض على الجهاد كذلك كثيرة منها: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل - أحمد 13306 وفي صحيح البخاري عن رسول الله: " واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" - البخارى 2607.
وتعريف الجهاد من الناحية الفقهية هو: "بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم" (الجهاد في سبيل الله: فضله ومراتبه: سعيد بن وهف القحطاني). والجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ولكنه يصبح فرض عين واجب على المسلم الحر الذكر البالغ، في الحالات االآتية:
1- إذا حضر المسلم المكلف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان
2- إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب
3- إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك
فهل الزرقاوي وأمراؤه وكتائبهم وجب عليهم القدوم للعراق للذود عنه وطرد المحتل الكافر؟ والإجابة من الناحية الفقهية لا بد أن تكون بالإيجاب لأن بلداً مسلماً قد أصبح محتلاً، ولو مؤقتاً، بالكافر الأجنبي، وعليه وجب على المسلمين القادرين على حمل السلاح الذود عن حياض العراق لأن حراسة ثغور المسلمين من أعظم ما يقوم به المسلم. وقد أوجب ابن قدامة " جهاد البغاة المعتدين الذين يريدون تغيير نظام الحكم أو الحكام المسلمين " (المغني لابن قدامة: 12/264).
بل أوجب بعض الفقهاء جهاد الذين يتعاونون مع المحتل الكافر حتى وإن أبقى بلاد المسلمين على دينها، فقد قال الجصاص: "ولو أن كافراً مجاهداً غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم إلا إنه هو المالك، المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام: لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم" (أحكام القرآن للجصاص، ج3/216). فإذاً الذين يتعاونون مع المحتل الكافر من العراقيين هم كفار لتعاونهم معه. ويقول ابن قيم الجوزية عن الجهاد ضد الكفار " ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور." (زاد المعاد، ج3/ 35).
وحراسة ثغور المسلمين، مثل العراق، أجره أعظم، فقد قال المباركفوري: "حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ المبَارَكِ أخبرنا حَيْوَةَ بنُ شُرَيْحٍ، قال أبو هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ أنّ عَمْرو بنَ مَالِكٍ الْجَنْبِي أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بنَ عُبْيْدٍ يُحَدّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: "كُلّ مَيّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاّ الّذِي مَاتَ مُرَابِطاً في سبيلِ الله فإنّهُ يُنْمي لَهُ عَمَلَهُ إلى يَوْمِ القيامَةِ ويَأْمَنُ من فِتْنَة الْقَبْرِ" (تحفة الأحوذي، كتاب فضائل الجهاد، 1094).
وكذلك: "حدثنا نصرُ بنُ عليّ الجهْضَمِيّ، حدثنا بشْرُ بنُ عُمَرَ، حدثنا شَعَيْبُ بنُ زُرَيْق أبو شَيْبَةَ، حدثنا عَطَاءُ الْخُراسَانِيّ عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ عن ابنِ عباسٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عَيْنَانِ لا تَمسّهُمَا النّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحرُسُ في سبيلِ الله". (نفس المصدر/ 1104). وقد جعل الفقهاء رأي المجاهدين أصوب من رأي الفقهاء أنفسهم، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إذا اختلف دعاة الإسلام في الأمر فلأحوط أن يكون رأي المجاهدين. وقال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله عز وجل يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (بيان رابطة علماء فلسطين، 5/5/2001). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (منْ خير مَعَاش الناس لهم رجل ممسكُُ عِنَان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه..). (رواه مسلم 1889).
فالزرقاوي وغيره يستطيع أن يدعي أنه هو ذلك الرجل الممسك عنان حصانه يطير إلى العراق وأفغانستان وغيرها عندما يسمع بأن المسلمين في خطر. ولما سئل ابن تيمية: أيهما أفضل: التطوع بالمقام في ثغور المسلمين، أم التطوع بالعبادة في أحد المساجد الثلاثة؟ أجاب: المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعاً بين أهل العلم، وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمة.(ابن تيمية، فتاوى الجهاد، ص 5).
فلا خلاف، إذاً، أن كل المسلمين الذين وفدوا إلى العراق لمقاومة الغازي يجدون السند الشرعي في القرآن والسنة لما يقومون به من أعمال ضد الكافر. ولكن قد يقول قائل: إن الزرقاوي وجماعته يفجرون أنفسهم بين المدنيين العزل من السلاح، ويقتلون الأبرياء عندما يحاولون قتل الأمريكان. فهل يجدون سنداً في الإسلام لما يقومون به؟
أولاً: الذين يفجرون أنفسهم. إذا هجم المسلم الفرد على جيش العدو وهو موقن أنهم سوف يقتلونه لكنه في نفس الوقت سوف يقتل منهم عدداً كبيراً، يموت هذا المسلم شهيداً. وقد قال الله: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد " فإن الصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك، كما قال عمر بن الخطاب وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم، (تفسير القرطبي 2 / 361). ويقول الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي: " حديث الغلام وقصته معروفة وهي في الصحيح، حيث دلهم على طريقة قتله فقتلوه شهيدا في سبيل الله، وهذا نوع من الجهاد، وحصل نفع عظيم ومصلحة للمسلمين حيث دخلت تلك البلاد في دين الله، إذ قالوا: آمنا برب الغلام، ووجه الدلالة من القصة أن هذا الغلام المجاهد غرر بنفسه وتسبب في ذهابها من أجل مصلحة المسلمين، فقد علّمهم كيف يقتلونه، بل لم يستطيعوا قتله إلا بطريقة هو دلهم عليها فكان متسبباً في قتل نفسه، لكن أُغتفر ذلك في باب الجهاد، ومثله المجاهد في العمليات الاستشهادية، فقد تسبب في ذهاب نفسه لمصلحة الجهاد، وهذا له أصل في شرعنا " (الفتاوي الندية في العمليات الاستشهادية/ ص 7).
وكذلك استشهد الفقهاء في تبرير العمليات الاستشهادية بقصة البراء بن مالك في معركة اليمامة، فإن أصحابه اُحتملوه في تُرس على الرماح والقوة على العدو داخل الحديقة التي تترس فيها مسيلمة الكذاب وجيشه، وكان البراء وحيداً وسطهم فقاتل حتى فتح الباب، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وقصته مذكورة في سنن البيهقي في كتاب السير باب التبرع بالتعرض للقتل (9 / 44) وفي تفسير القرطبي (2 / 364) ومصادر عديدة أخرى. فما فعله هذا الرجل يماثل العمليات الانتحارية الحديثة. وقد أجمع الفقهاء على جواز التغرير بالنفس في مصلحة المسلمين، وقد نقل ابن النحاس في مشارع الأشواق (1 / 588) عن المهلب قوله: قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد، ونقل عن الغزالي في إحياء علوم الدين قوله: ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل.
ونقل النووي في شرح مسلم الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد.. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: (الذين يلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى قومٍ فلا حساب عليهم. " وقال محمد بن الحسن الشيباني: "أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة؟ ثم قال: لابأس بأن يحمل الرجل وحده، وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً، فيقتل أو يجرح أويهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومدحهم على ذلك" (السير (1/163). و وذكر ابن العربي أن الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار: لأن فيه أربعة وجوه:
الأول: طلب الشهادة.
الثاني: وجود النكاية.
الثالث: تجرئة المسلمين عليهم.
الرابع: ضـعف نفوس الأعداء، ليروا أن هذا صنع واحد منهم، فما ظنك بالجميع؟
ثانياً: قتل النساء والأطفال في العمليات الانتحارية. اتفق الفقهاء أن جيش الكفار إذا تترس بالمسلمين، أي اتخذ منهم دروعاً بشرية، جاز رمي الكفار بالنبل حتى إذا أدى ذلك إلى قتل النساء والأطفال المسلمين الذين تترس بهم جيش العدو، فقال ابن تيمية: " فيما لو تترس جيش الكفار بمسلمين واضطر المسلمون المجاهدون حيث لم يستطيعوا القتال إلا بقتل التُرس من المسلمين جاز ذلك، (ابن تيمية في الفتاوى، 20 / 52). والهجوم على جيش العدو ليلاً يُعرف ب "البيات" وقد قال الفقهاء إنه يجوز البيات بالأعداء وإن أدى ذلك إلى قتل النساء والأطفال لأن المسلمين لا يرونهم في الضوء الخافت. و تبيت العدو ليلا القصد منه قتله والنكاية فيه وإن تضمن ذلك قتل من لا يجوز قتله من صبيان الكفار ونسائهم، قال ابن قدامة: يجوز تبييت العدو، وقال أحمد: لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات، وقال: لا نعلم أحداً كره البيات.(المغني مع الشرح الكبير،10 / 503). وقتل نساء الكفار وأطفالهم لا يعتبره الزرقاوي وجماعته مختلفاً عن قتل نساء وأطفال العراق إذ أنهم في حكم الكفار لأنهم يتعاونون مع الكفار، وكل من تعاون مع الكفار أو سكن بينهم أو ولاهم فهو كافر حسب اتفاق فقهاء الإسلام.
وكل علماء المسلمين المعاصرين أجازوا العمليات الانتحارية في فلسطين والشيشان وأفغانستان والعراق ولم يشذ عن اجماعهم إلا الشيخ محمد العثيمين، رحمه الله، حيث قال:
" فأما ما يفعله بعض الناس من الإنتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار، ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث. "بل ذهب بعضهم، مثل الشيخ سلمان العودة، إلى جواز الصرف على هذه العمليات الاستشهادية (الانتحارية) من بيت المال. بل تسابقت اللجان الشرعية من كل الأقطار العربية لمتجيد الجهاد والعمليات الاستشهادية. فعندما طبعت لجنة من الأزهر كتاب الشيخ ابن كثير" الاجتهاد في طلب الجهاد " قدمت له اللجنة بالآتي: " فقد قرر مجلس إدارة (جمعية النشر والتأليف الأزهرية) في يوم الثلاثاء غرة المحرم سنة 1347 هجرية طبع كتاب الاجتهاد في طلب الجهاد للعلامة عماد الدين بن كثير الدمشقي، وذلك لما يرى في زماننا هذا من ضلال وفساد وجحود لمشروعية الجهاد، وآراء تنشر باسم العلم والعلم منها براء، وحركات غير مباركات تتجدد باسم الرقي والرقي منها خلاء، ولما أن الأمم الإسلامية في حاجة إلى ما ينشط همتها، ويقوي عزيمتها، وقد عهدت الجمعية إلى حضرات الأساتذة (محمود حسن ربيع، وعلي حسن البولاقي، وعلي إسماعيل المسلاوي) من علماء الأزهر الشريف القيام بهذا الأمر." وقال مجمع الفقه السوداني: "الحمد لله رب العالمين … والصلاة والسلام على رسول الله الأمين إمام المتقين وقائد المجاهدين، وبعد: ففي اجتماع رؤساء ومقرري دوائر المجمع الذي انعقد في مساء يوم الثلاثاء 15 صفر 1422هـ – 8/5/2001م بمقر المجمع بالخرطوم، صدرت الفتوى الخاصة بحكم العمليات الفدائية والاستشهادية، ونصها ما يلي:
(الأصل أن كل ما يفعله المجاهد بقصد إغاظة العدو والنيل منه من الإحسان المستحب، وأن كل ما يرهب أعداء الله ورسوله والمسلمين مطلوب). فمن كان قاصدا الإثخان في العدو، والنيل منه، وإغاظته، وإرهابه، مبتغيا وجه الله تعالى ومرضاته، فهجم على عدو كثير أو ألقى بنفسه فيهم ولو غلب على ظنه أو تيقن أنه مقتول أو ميت، فهذا جهاد وعمل استشهادي مشروع قام عليه الدليل الشرعي وفهمه الصحابة والسلف (ص) وعملوا به، وفيه تتحقق مصالح عظيمة له وللأمة. " (الفتاوي الندية في العمليات الاستشهادية).
وأصدرت لجنة علماء فلسطين بياناً مشابهاً. ويقول الأصولي الكويتي حامد العلي (أفرجت عنه السلطات الكويتية، بكفالة آخر يونيو (حزيران) الماضي، بعد اتهامه بالتحريض على الإرهاب)، في فتوى له بعنوان «حكم العمليات الاستشهادية»، وبعد أن أورد عددا من النصوص والمقتطفات التراثية التي تعزز القول بجواز العمليات الانتحارية: «هذه سبعة نقول من أئمة العلم، تدل دلالة واضحة بطريق اللزوم على جواز العمليات الاستشهادية، بشرط حصول مصلحة النكاية في العدو. " (مشاري الذايدي، الشرق الأوسط 15 يوليو 2005). وقال الأصولي الأردني أبو قتادة، المقيم حالياً بلندن، والذي تأمل الحكومة البريطانية تسليمه إلى الأردن:
" إن العمليات الاستشهادية هي من أرفع أنواع الجهاد." ويقول الشيخ القرضاوي: "إن هذه العمليات، تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع." (قال هذا قبل تفجير المدرسة الإنكليزية بالدوحة). وأجازت فتوى من علماء الأردن العمليات الاستشهادية كذلك. وكان هناك بيان علماء السعودية الذي وقعه 56 عالماً بتاريخ 30 أكتوبر 2002، وقالوا فيه: " عجل الله هلاك أمريكا وأعوانها بحوله وقوته في عافية للمسلمين إنه علىكل شيء قدير. رابعا: إن الوقوف مع الشعب المسلم في العراق ومناصرتهم واجب تحتمه الشريعة الإسلامية مع البراءة من الطوائف الضالة، ومن النظام البعثي الخبيث المتسلط على رقاب المسلمين هناك. فعلى المسلمين أن يقفوا مع إخوانهم أهل السنة في العراق ويمدوا لهم يد العون والإغاثة بالغذاء والدواء وغير ذلك ويناصروهم في رد العدوان الصليبي دون الدخول تحت راية البعث الجاهلية." ولم يتخلف علماء اليمن والمغرب والجزائر وباكستان عن تأييد العمليات الاستشهادية.
ولكن بعد سبتمبر 2001 وإعلان أمريكا حربها على الإرهاب، تغير الوضع بين العلماء الإسلاميين، إما نتيجة الضغط من حكوماتهم وإما نتيجة زيارة الوفود الأمريكية مراكز القرار الديني مثل الأزهر وغيره، وإما نتيجة الخوف على الجاليات الإسلامية في البلاد الغربية التي حدثت بها تفجيرات إرهابية مثل مدريد ولندن، فأصدروا فتاوى جديدة تدين الإرهاب والعمليات التفجيرية. واعتذر بعض العلماء في السعودية عن الفتاوى التي سبق وأصدروها بجواز العمليات الإرهابية، فاعتذر الشيخ العبيكان واعتذر الشيخ بن خضير الخضير وأصدر علماء السعودية بياناً في نوفمبر 2003 يطالبون فيه بتنفيذ حد الحرابة على الإرهابيين السعوديين الذين قاموا بعدة تفجيرات في المملكة.
واما المفتي العام للسعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، فقال معلقا على طريقة قتل النفس بين الأعداء أو ما يوصف بالطرق الانتحارية «لا أعلم لها وجها شرعيا، ولا أنها من الجهاد في سبيل الله، وأخشى أن تكون من قتل النفس."
ولا شك أن الموروث من الأقوال والأفعال يجيز العمليات الانتحارية ويشجعها كما فعل كل علماء المسلمين قبل سبتمبر 2001. فماذا نفعل الآن لنتخلص من هذه الأفكار الهدامة التي أصبحت مرادفة للمسلم؟ فإن عملية التنكر لما قلنا قبل سنوات قليلة والادعاء أن الإسلام دين السلام والمحبة لا تنطلي على أحد في الشرق أو الغرب، ولذلك أرى، كخطوة أولى، أن يعترف علماء المسلمين بأن دراسة الإسلام كما ورثوه قد أدت إلى نشوء التطرف والإرهاب الذي بات مقصوراً على الإسلام والمسلمين فقط. والاعتراف بوجود المشكلة هو الخطوة الأولى في معالجتها، فالمريض الذي يصر على إنكار مرضه لن ينجح معه العلاج. والخطوة الثانية تكون باعتبار أن بعض ما جاء في القرآن والسنة كان قد جاء في ظروف معينة لم تعد موجودة الآن، وعليه تصبح كل الأحكام التي تخص تلك الفترة، مثل الجهاد ورجم الزانية وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أحكاماً معلقة لا يُعمل بها. وثالثاً يجب إغلاق المدارس والخلاوي التي ليست تحت سيطرة الدولة، كما حدث في اليمن وباكستان.
ورابعاً يجب على القائمين على أمر التعليم الإسلامي تجديد مناهجه وتأهيل المدرسين تأهيلاً يتفق ومهامهم الجديدة. ولكن إذا استمر فقهاء الإسلام في دفن رؤوسهم في الرمال حتى لا يروا ما يحدث حولهم، والادعاء أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول عند الله وأن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس وأنهم يمتلكون كل الحقيقة ولا يمتلك سواهم إلا الوهم، فإن الدائرة سوف تدور عليهم، كما يقول القرآن: " تلك الأيام نداولها بين الناس ". فالله لم يقل الأيام حكر على المسلمين.
منذ تفجير برجي التجارة بنيويورك في سبتمبر 2001 امتلأت المواقع الإسلامية والصحف العربية بالمقالات التي تزعم أن الإسلام دينُ حبٍ ومودة، وأنه لا يشجع على الإرهاب، وعُقدت عدة مؤتمرات إسلامية لتعلن على الملأ براءة الإسلام من العمليات الاستشهادية. وعقدت بعض البلاد العربية اجتماعاتِ بين شيوخ المسلمين وقادة المسيحيين لبدء الحوار بين الديانات، كما حدث في مصر، وبين المسلمين وأحبار اليهود، كما حدث في المغرب. وكلهم كال السباب إلى الزرقاوي، زعيم القاعدة في بلاد الرافدين وإلى أتباعه الذين يفجرون أنفسهم بين المواطنين العراقيين وينسفون المدرعات الأمريكية. فهل الإسلام حقاً برئ من العمليات الاستشهادية؟
لا شك أن الزرقاوي والشباب الذين يفدون عليه من سوريا ومصر والسودان والسعودية وإيران وباكستان واليمن وغيرها يؤمنون أنهم يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وطرد جيوش الكفار الغازية من ثغور العالم الإسلامي، فهل لهم سندٌ من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد}" (السياسة الشرعية في الراعي والرعية، ص 25). فابن تيمية اعتمد على القرآن والسنة في فتواه، فالقرآن يقول:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} " (الصف)
"إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " (التوبة)
"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُون عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (التوبة)
"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً"(النساء:95)
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" (آل عمران 142).
وهناك آيات عديدة أخرى تحض على الجهاد وقتال الكفار وحماية ثغور البلاد الإسلامية. والأحاديث التي تحض على الجهاد كذلك كثيرة منها: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل - أحمد 13306 وفي صحيح البخاري عن رسول الله: " واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" - البخارى 2607.
وتعريف الجهاد من الناحية الفقهية هو: "بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم" (الجهاد في سبيل الله: فضله ومراتبه: سعيد بن وهف القحطاني). والجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ولكنه يصبح فرض عين واجب على المسلم الحر الذكر البالغ، في الحالات االآتية:
1- إذا حضر المسلم المكلف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان
2- إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب
3- إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك
فهل الزرقاوي وأمراؤه وكتائبهم وجب عليهم القدوم للعراق للذود عنه وطرد المحتل الكافر؟ والإجابة من الناحية الفقهية لا بد أن تكون بالإيجاب لأن بلداً مسلماً قد أصبح محتلاً، ولو مؤقتاً، بالكافر الأجنبي، وعليه وجب على المسلمين القادرين على حمل السلاح الذود عن حياض العراق لأن حراسة ثغور المسلمين من أعظم ما يقوم به المسلم. وقد أوجب ابن قدامة " جهاد البغاة المعتدين الذين يريدون تغيير نظام الحكم أو الحكام المسلمين " (المغني لابن قدامة: 12/264).
بل أوجب بعض الفقهاء جهاد الذين يتعاونون مع المحتل الكافر حتى وإن أبقى بلاد المسلمين على دينها، فقد قال الجصاص: "ولو أن كافراً مجاهداً غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم إلا إنه هو المالك، المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام: لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم" (أحكام القرآن للجصاص، ج3/216). فإذاً الذين يتعاونون مع المحتل الكافر من العراقيين هم كفار لتعاونهم معه. ويقول ابن قيم الجوزية عن الجهاد ضد الكفار " ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور." (زاد المعاد، ج3/ 35).
وحراسة ثغور المسلمين، مثل العراق، أجره أعظم، فقد قال المباركفوري: "حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ المبَارَكِ أخبرنا حَيْوَةَ بنُ شُرَيْحٍ، قال أبو هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ أنّ عَمْرو بنَ مَالِكٍ الْجَنْبِي أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بنَ عُبْيْدٍ يُحَدّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: "كُلّ مَيّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاّ الّذِي مَاتَ مُرَابِطاً في سبيلِ الله فإنّهُ يُنْمي لَهُ عَمَلَهُ إلى يَوْمِ القيامَةِ ويَأْمَنُ من فِتْنَة الْقَبْرِ" (تحفة الأحوذي، كتاب فضائل الجهاد، 1094).
وكذلك: "حدثنا نصرُ بنُ عليّ الجهْضَمِيّ، حدثنا بشْرُ بنُ عُمَرَ، حدثنا شَعَيْبُ بنُ زُرَيْق أبو شَيْبَةَ، حدثنا عَطَاءُ الْخُراسَانِيّ عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ عن ابنِ عباسٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عَيْنَانِ لا تَمسّهُمَا النّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحرُسُ في سبيلِ الله". (نفس المصدر/ 1104). وقد جعل الفقهاء رأي المجاهدين أصوب من رأي الفقهاء أنفسهم، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إذا اختلف دعاة الإسلام في الأمر فلأحوط أن يكون رأي المجاهدين. وقال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله عز وجل يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (بيان رابطة علماء فلسطين، 5/5/2001). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (منْ خير مَعَاش الناس لهم رجل ممسكُُ عِنَان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه..). (رواه مسلم 1889).
فالزرقاوي وغيره يستطيع أن يدعي أنه هو ذلك الرجل الممسك عنان حصانه يطير إلى العراق وأفغانستان وغيرها عندما يسمع بأن المسلمين في خطر. ولما سئل ابن تيمية: أيهما أفضل: التطوع بالمقام في ثغور المسلمين، أم التطوع بالعبادة في أحد المساجد الثلاثة؟ أجاب: المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعاً بين أهل العلم، وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمة.(ابن تيمية، فتاوى الجهاد، ص 5).
فلا خلاف، إذاً، أن كل المسلمين الذين وفدوا إلى العراق لمقاومة الغازي يجدون السند الشرعي في القرآن والسنة لما يقومون به من أعمال ضد الكافر. ولكن قد يقول قائل: إن الزرقاوي وجماعته يفجرون أنفسهم بين المدنيين العزل من السلاح، ويقتلون الأبرياء عندما يحاولون قتل الأمريكان. فهل يجدون سنداً في الإسلام لما يقومون به؟
أولاً: الذين يفجرون أنفسهم. إذا هجم المسلم الفرد على جيش العدو وهو موقن أنهم سوف يقتلونه لكنه في نفس الوقت سوف يقتل منهم عدداً كبيراً، يموت هذا المسلم شهيداً. وقد قال الله: " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد " فإن الصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك، كما قال عمر بن الخطاب وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم، (تفسير القرطبي 2 / 361). ويقول الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي: " حديث الغلام وقصته معروفة وهي في الصحيح، حيث دلهم على طريقة قتله فقتلوه شهيدا في سبيل الله، وهذا نوع من الجهاد، وحصل نفع عظيم ومصلحة للمسلمين حيث دخلت تلك البلاد في دين الله، إذ قالوا: آمنا برب الغلام، ووجه الدلالة من القصة أن هذا الغلام المجاهد غرر بنفسه وتسبب في ذهابها من أجل مصلحة المسلمين، فقد علّمهم كيف يقتلونه، بل لم يستطيعوا قتله إلا بطريقة هو دلهم عليها فكان متسبباً في قتل نفسه، لكن أُغتفر ذلك في باب الجهاد، ومثله المجاهد في العمليات الاستشهادية، فقد تسبب في ذهاب نفسه لمصلحة الجهاد، وهذا له أصل في شرعنا " (الفتاوي الندية في العمليات الاستشهادية/ ص 7).
وكذلك استشهد الفقهاء في تبرير العمليات الاستشهادية بقصة البراء بن مالك في معركة اليمامة، فإن أصحابه اُحتملوه في تُرس على الرماح والقوة على العدو داخل الحديقة التي تترس فيها مسيلمة الكذاب وجيشه، وكان البراء وحيداً وسطهم فقاتل حتى فتح الباب، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وقصته مذكورة في سنن البيهقي في كتاب السير باب التبرع بالتعرض للقتل (9 / 44) وفي تفسير القرطبي (2 / 364) ومصادر عديدة أخرى. فما فعله هذا الرجل يماثل العمليات الانتحارية الحديثة. وقد أجمع الفقهاء على جواز التغرير بالنفس في مصلحة المسلمين، وقد نقل ابن النحاس في مشارع الأشواق (1 / 588) عن المهلب قوله: قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد، ونقل عن الغزالي في إحياء علوم الدين قوله: ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل.
ونقل النووي في شرح مسلم الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد.. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: (الذين يلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى قومٍ فلا حساب عليهم. " وقال محمد بن الحسن الشيباني: "أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة؟ ثم قال: لابأس بأن يحمل الرجل وحده، وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً، فيقتل أو يجرح أويهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومدحهم على ذلك" (السير (1/163). و وذكر ابن العربي أن الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار: لأن فيه أربعة وجوه:
الأول: طلب الشهادة.
الثاني: وجود النكاية.
الثالث: تجرئة المسلمين عليهم.
الرابع: ضـعف نفوس الأعداء، ليروا أن هذا صنع واحد منهم، فما ظنك بالجميع؟
ثانياً: قتل النساء والأطفال في العمليات الانتحارية. اتفق الفقهاء أن جيش الكفار إذا تترس بالمسلمين، أي اتخذ منهم دروعاً بشرية، جاز رمي الكفار بالنبل حتى إذا أدى ذلك إلى قتل النساء والأطفال المسلمين الذين تترس بهم جيش العدو، فقال ابن تيمية: " فيما لو تترس جيش الكفار بمسلمين واضطر المسلمون المجاهدون حيث لم يستطيعوا القتال إلا بقتل التُرس من المسلمين جاز ذلك، (ابن تيمية في الفتاوى، 20 / 52). والهجوم على جيش العدو ليلاً يُعرف ب "البيات" وقد قال الفقهاء إنه يجوز البيات بالأعداء وإن أدى ذلك إلى قتل النساء والأطفال لأن المسلمين لا يرونهم في الضوء الخافت. و تبيت العدو ليلا القصد منه قتله والنكاية فيه وإن تضمن ذلك قتل من لا يجوز قتله من صبيان الكفار ونسائهم، قال ابن قدامة: يجوز تبييت العدو، وقال أحمد: لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات، وقال: لا نعلم أحداً كره البيات.(المغني مع الشرح الكبير،10 / 503). وقتل نساء الكفار وأطفالهم لا يعتبره الزرقاوي وجماعته مختلفاً عن قتل نساء وأطفال العراق إذ أنهم في حكم الكفار لأنهم يتعاونون مع الكفار، وكل من تعاون مع الكفار أو سكن بينهم أو ولاهم فهو كافر حسب اتفاق فقهاء الإسلام.
وكل علماء المسلمين المعاصرين أجازوا العمليات الانتحارية في فلسطين والشيشان وأفغانستان والعراق ولم يشذ عن اجماعهم إلا الشيخ محمد العثيمين، رحمه الله، حيث قال:
" فأما ما يفعله بعض الناس من الإنتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار، ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث. "بل ذهب بعضهم، مثل الشيخ سلمان العودة، إلى جواز الصرف على هذه العمليات الاستشهادية (الانتحارية) من بيت المال. بل تسابقت اللجان الشرعية من كل الأقطار العربية لمتجيد الجهاد والعمليات الاستشهادية. فعندما طبعت لجنة من الأزهر كتاب الشيخ ابن كثير" الاجتهاد في طلب الجهاد " قدمت له اللجنة بالآتي: " فقد قرر مجلس إدارة (جمعية النشر والتأليف الأزهرية) في يوم الثلاثاء غرة المحرم سنة 1347 هجرية طبع كتاب الاجتهاد في طلب الجهاد للعلامة عماد الدين بن كثير الدمشقي، وذلك لما يرى في زماننا هذا من ضلال وفساد وجحود لمشروعية الجهاد، وآراء تنشر باسم العلم والعلم منها براء، وحركات غير مباركات تتجدد باسم الرقي والرقي منها خلاء، ولما أن الأمم الإسلامية في حاجة إلى ما ينشط همتها، ويقوي عزيمتها، وقد عهدت الجمعية إلى حضرات الأساتذة (محمود حسن ربيع، وعلي حسن البولاقي، وعلي إسماعيل المسلاوي) من علماء الأزهر الشريف القيام بهذا الأمر." وقال مجمع الفقه السوداني: "الحمد لله رب العالمين … والصلاة والسلام على رسول الله الأمين إمام المتقين وقائد المجاهدين، وبعد: ففي اجتماع رؤساء ومقرري دوائر المجمع الذي انعقد في مساء يوم الثلاثاء 15 صفر 1422هـ – 8/5/2001م بمقر المجمع بالخرطوم، صدرت الفتوى الخاصة بحكم العمليات الفدائية والاستشهادية، ونصها ما يلي:
(الأصل أن كل ما يفعله المجاهد بقصد إغاظة العدو والنيل منه من الإحسان المستحب، وأن كل ما يرهب أعداء الله ورسوله والمسلمين مطلوب). فمن كان قاصدا الإثخان في العدو، والنيل منه، وإغاظته، وإرهابه، مبتغيا وجه الله تعالى ومرضاته، فهجم على عدو كثير أو ألقى بنفسه فيهم ولو غلب على ظنه أو تيقن أنه مقتول أو ميت، فهذا جهاد وعمل استشهادي مشروع قام عليه الدليل الشرعي وفهمه الصحابة والسلف (ص) وعملوا به، وفيه تتحقق مصالح عظيمة له وللأمة. " (الفتاوي الندية في العمليات الاستشهادية).
وأصدرت لجنة علماء فلسطين بياناً مشابهاً. ويقول الأصولي الكويتي حامد العلي (أفرجت عنه السلطات الكويتية، بكفالة آخر يونيو (حزيران) الماضي، بعد اتهامه بالتحريض على الإرهاب)، في فتوى له بعنوان «حكم العمليات الاستشهادية»، وبعد أن أورد عددا من النصوص والمقتطفات التراثية التي تعزز القول بجواز العمليات الانتحارية: «هذه سبعة نقول من أئمة العلم، تدل دلالة واضحة بطريق اللزوم على جواز العمليات الاستشهادية، بشرط حصول مصلحة النكاية في العدو. " (مشاري الذايدي، الشرق الأوسط 15 يوليو 2005). وقال الأصولي الأردني أبو قتادة، المقيم حالياً بلندن، والذي تأمل الحكومة البريطانية تسليمه إلى الأردن:
" إن العمليات الاستشهادية هي من أرفع أنواع الجهاد." ويقول الشيخ القرضاوي: "إن هذه العمليات، تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع." (قال هذا قبل تفجير المدرسة الإنكليزية بالدوحة). وأجازت فتوى من علماء الأردن العمليات الاستشهادية كذلك. وكان هناك بيان علماء السعودية الذي وقعه 56 عالماً بتاريخ 30 أكتوبر 2002، وقالوا فيه: " عجل الله هلاك أمريكا وأعوانها بحوله وقوته في عافية للمسلمين إنه علىكل شيء قدير. رابعا: إن الوقوف مع الشعب المسلم في العراق ومناصرتهم واجب تحتمه الشريعة الإسلامية مع البراءة من الطوائف الضالة، ومن النظام البعثي الخبيث المتسلط على رقاب المسلمين هناك. فعلى المسلمين أن يقفوا مع إخوانهم أهل السنة في العراق ويمدوا لهم يد العون والإغاثة بالغذاء والدواء وغير ذلك ويناصروهم في رد العدوان الصليبي دون الدخول تحت راية البعث الجاهلية." ولم يتخلف علماء اليمن والمغرب والجزائر وباكستان عن تأييد العمليات الاستشهادية.
ولكن بعد سبتمبر 2001 وإعلان أمريكا حربها على الإرهاب، تغير الوضع بين العلماء الإسلاميين، إما نتيجة الضغط من حكوماتهم وإما نتيجة زيارة الوفود الأمريكية مراكز القرار الديني مثل الأزهر وغيره، وإما نتيجة الخوف على الجاليات الإسلامية في البلاد الغربية التي حدثت بها تفجيرات إرهابية مثل مدريد ولندن، فأصدروا فتاوى جديدة تدين الإرهاب والعمليات التفجيرية. واعتذر بعض العلماء في السعودية عن الفتاوى التي سبق وأصدروها بجواز العمليات الإرهابية، فاعتذر الشيخ العبيكان واعتذر الشيخ بن خضير الخضير وأصدر علماء السعودية بياناً في نوفمبر 2003 يطالبون فيه بتنفيذ حد الحرابة على الإرهابيين السعوديين الذين قاموا بعدة تفجيرات في المملكة.
واما المفتي العام للسعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، فقال معلقا على طريقة قتل النفس بين الأعداء أو ما يوصف بالطرق الانتحارية «لا أعلم لها وجها شرعيا، ولا أنها من الجهاد في سبيل الله، وأخشى أن تكون من قتل النفس."
ولا شك أن الموروث من الأقوال والأفعال يجيز العمليات الانتحارية ويشجعها كما فعل كل علماء المسلمين قبل سبتمبر 2001. فماذا نفعل الآن لنتخلص من هذه الأفكار الهدامة التي أصبحت مرادفة للمسلم؟ فإن عملية التنكر لما قلنا قبل سنوات قليلة والادعاء أن الإسلام دين السلام والمحبة لا تنطلي على أحد في الشرق أو الغرب، ولذلك أرى، كخطوة أولى، أن يعترف علماء المسلمين بأن دراسة الإسلام كما ورثوه قد أدت إلى نشوء التطرف والإرهاب الذي بات مقصوراً على الإسلام والمسلمين فقط. والاعتراف بوجود المشكلة هو الخطوة الأولى في معالجتها، فالمريض الذي يصر على إنكار مرضه لن ينجح معه العلاج. والخطوة الثانية تكون باعتبار أن بعض ما جاء في القرآن والسنة كان قد جاء في ظروف معينة لم تعد موجودة الآن، وعليه تصبح كل الأحكام التي تخص تلك الفترة، مثل الجهاد ورجم الزانية وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أحكاماً معلقة لا يُعمل بها. وثالثاً يجب إغلاق المدارس والخلاوي التي ليست تحت سيطرة الدولة، كما حدث في اليمن وباكستان.
ورابعاً يجب على القائمين على أمر التعليم الإسلامي تجديد مناهجه وتأهيل المدرسين تأهيلاً يتفق ومهامهم الجديدة. ولكن إذا استمر فقهاء الإسلام في دفن رؤوسهم في الرمال حتى لا يروا ما يحدث حولهم، والادعاء أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول عند الله وأن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس وأنهم يمتلكون كل الحقيقة ولا يمتلك سواهم إلا الوهم، فإن الدائرة سوف تدور عليهم، كما يقول القرآن: " تلك الأيام نداولها بين الناس ". فالله لم يقل الأيام حكر على المسلمين.