لمياء
09-02-2005, 02:49 PM
محمد سعيد الطريحي
(رئيس البرلمان الشيعي الهولندي OSV)
السيستاني.. ثالث عمائم الشيعة الكبرى في عالم اليوم بعد موسى الصدر وروح الله الخميني، وميزة السيستاني انه بزَّهم في الزعامة وثنيت له الوسادة في المرجعية العالمية حتى بلغ من يأتمر بأمره ويرجع اليه في الفتيا والتقليد قرابة 200 مليون من الشيعة الذين يوجد اكثرهم في آسيا وافريقيا واوروبا، ولهم جاليات نشطة في اكثر عواصم القرية الكونية المتمدنة، وبمعنى آخر فان نفوذه يمتد الى كل تلك الامكنة التي يقطن فيها اتباعه، ولم يتفق لمرجع شيعي قبله ان بلغ رتبته في الشهرة، كما بلغها السيستاني نظرا لتقدم نظام الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، اضافة الى الظروف السياسية التي أحاطت بشخصيته بعد سقوط النظام الصدامي في 9/4/2003 فقبل هذا التاريخ لم يكن أحد من خارج الشيعيين مَنْ يعرف باسم السيستاني، ولما قام كاتب هذه السطور بنشر أول صورة للسيستاني على غلاف مجلته (الموسم) اوائل عام 1993 قُوبل بحنق من المعممين الذين توهموا بان مدرسة (النجف) الفكرية قد انتهى دورها بوفاة ابي القاسم الخوئي استاذ السيستاني ومحل ثقته، ورأوا في نشر صورة السيستاني دعاية مضادّة لدور مدينة (قم) الايرانية ومراجع ولاية الفقيه وما دروا أن هذا ديدن المرجعيات التقليدية الكبرى لدى الشيعة تزحف لمن لا يتشبث بها طيّعة منقادة، وحال السيستاني في ذلك كما يقول القائل:
اتته الزعامة منقادة
اليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلحُ إلاّ له
ولم يكُ يصلحُ إلاّ لها
نعم.. لقد تعزز دور (قم) فعلا طيلة ربع قرن من الزمان، وازدهرت حوزاتها الدينية ازدهاراً كبيرا لم تشهد (النجف) نفسها عبر تاريخها المعاصر، لكن أعين الشيعة بقيت شاخصة الى مثوى اول الائمة صاحب السيف والبيان في (النجف) منتظرة اللحظة المناسبة لانفكاكها من طاغوت البعث الذي ارهقها وقتل وشرَّد خيرة علمائها وتسلط على مقدراتها طيلة 35 من السنين العجاف.
وهكذا حان الوقت لانطلاقتها من جديد بعد سقوط صدام، فهبَّ الشيعة من كل حدب وصوب نحو مدينتهم (الاقدس) والتفوا حول السيستاني قائدا روحيا ونائبا عن الإمام المهدي المنتظر وبلغ مؤيدوه في ايران نفسها نسبة تجاوزت 70% وتنامى تأثير السيستاني حتى ان نواباً في مجلس الشورى الايراني طلبوا رأيه في بعض ما اختلفوا فيه على مرأى ومسمع من حكومة ولاية الفقيه!
فأوقعوا (المرشدية) الايرانية في احراج لم تكن تتوقعه.
ولم يكن يمر يوم حتى يُذكر السيستاني في أهم وسائل الاعلام العالمية وبهذا تفخمت شهرته وكبر دوره وقوي مركزه، فعقد غالبية الشيعة على وجوده مستقبلهم (الغامض) وخاصة في العراق، حيث تعيش المجموعة العربية الشيعية الأهم تاريخياً فهم بقايا الاسلاف الذين انطلق منهم التشيع الى رحاب الله الواسعة ببساطته العربية وتركيبته العلوية المثالية الاولى.
وبهذا راهن شيعة العراق وبجميع اطيافهم ومنذ بداية سقوط النظام على وجود السيستاني كصمام أمان يقيهم شر الازمات التي باتت تعصف بعراق اليوم عصف الرياح الهوج بالهشيم المتناثر، وصاروا ينظرون اليه بصورة المنقذ الاعظم لكل ما ينتابهم من قلق حقيقي حول المستقبل (المجهول)، ومنذ بداية السقوط تحركت جحافل القبائل الشيعية في الفرات الاوسط فأحاطت بداره في نيسان 2003 احاطة السوار بالمعصم لحمايته واشعاره بالتفافه حوله فصرفها بسلام مؤثرا بقاءه في داره المتواضعة دون حرس او جرس، فزاد في نظرهم هيبة وقوة وألمعية، ولم تكن تجرؤ حتى قوات مقتدى الصدر الضاربة في (النجف) حينذاك الاقتراب منه، بل كان موقفها التهيب والانتظار، لا سيما بعد مقتل عبدالمجيد الخوئي على بُعد عشرات الامتار من منزله وما تبع ذلك من إحنٍ تجددت وفتن تلا قحت، وفي غفلة من الزمن فارق السيستاني مدينة النجف للمرة الاولى بعد حوالي نصف قرن من اقامته فيها قاصداً جاليات لندن للعلاج، وما ان حطت قدماه خارج اسوار النجف حتى شبّت معركة شرسة بين حكومة اياد علاوي وبين جيش المهدي في صيف 2004 وبعد نحو ثلاثة اسابيع عاد السيستاني من مشفاه اللندني (عودة دراماتيكية بدأها بالكويت فالبصرة فالنجف بمسيرة مليونية حاشدة) فانطفأت بعودته حرائق تلك الحرب الضروس وهدأت الفتنة التي كادت تعصف بالمدينة المقدسة.
وبعد ايام قليلة من عودته جدد دعوته لانتخابات حرة ونزيهة، وكان هو السبب المباشر لقيام الائتلاف الشيعي بأطرافه المختلفة ايديولوجيا وفكريا وكانت تلك فرصة نادرة لجميع الاحزاب والقوى الشيعية للملمة صفوفها والالتفاف أو (اللف) حول السيستاني باستغلال اسمه ومركزه الروحي، ولولا ذلك لما ربحت بعض الاحزاب الحاكمة اليوم الا نسبة ضئيلة من المقاعد، والمعتقد في الشارع العراقي كافة ان اسم السيستاني بات منذ ذلك اليوم ماركة (غير مسجلة) اذْ استغلتها بعض الزعامات الشيعية بمناسبة او بغيرها من اجل كسب الجماهير المسحوقة في المحن والازمات، وهنا مكمن الداء فالسيستاني كما هو شأن رموز المرجعية التقليدية من اسلافه كأبي الحسن الاصفهاني، وحسين البروجردي، ومحسن الحكيم الطباطبائي، وامثالهم يختزلون في شخوصهم كل شيء يتعلق بمهام المرجعية ويقومون بها دفعة واحدة، واذا كان من اليسير في الماضي القيام بهذا الدور، حيث انه يقتصر على الجانب الفتوائي فيجب اعادة النظر في ذلك بحيث يجب ان يتزامن تنفيذ تلك المهام على لجان متخصصة ترتبط بالمرجع وتعمل وفقا للتطور الذي يشهده زماننا المتغير بين لحظة واخرى، اذ تعدَّت مهام المرجع الى واجبات كبرى لها صلة بالسياسة والاقتصاد والاعلام.. إلخ، وكان يجب عليه ان يعتمد ناطقا باسمه له حنكة الشيوخ ومكر الساسة ودربة رجال الاعلام يُعلن عن آرائه ويفصح عن افكاره ومواقفه، وبهذا يقطع الفرصة على (البعض) ممن هب ودبّ ممن يحملون صفة (الوكيل) عنه وهم بالمئات من المعممين الذين يصولون ويجولون، ويصرحون بما يشتهون، «واكثرهم للحق كارهون».
وهذه احدى النقاط التي عالجناها في مشروع «النجف» الطموح الذي قدمناه كاقتراح الى الامين العام للامم المتحدة ويهدف لاقامة مؤسسة شيعية داخل كيان الدولة العراقية، لها خصوصية «الفاتيكان» في الجانب القانوني والسلطة المعنوية.
وكان لي شرف عرض المشروع ذاته على الامام السيستاني في يوم الجمعة الثاني عشر من اغسطس الجاري سنة 2005 بمنزله في «النجف الاشرف» ففاجأني باطلاعه عليه في نسخة استُخرجت بداره في شبكة الانترنت، وكان رده ايجابيا على ما ورد في المشروع من افكار، وأوعدني بقراءة النص ثانية واوعز الى السيد حامد الخفاف (ممثله في لبنان) الذي حضر اجتماعنا بأن يضع كتابنا «دولة النجف» على رفّ قريب منه ليتسنى له قراءته بتمعن كما قال.
لقد كان لقائي بالمرجع الأعلى فرصة تاريخية فقد أعدت التعرف عليه بعد لقاءات متفرقة قصيرة في بدايات سنة 1971 عندما كان يقوم برياضة المشي على الضفة اليمنى من فرات الكوفة، حيث اعتاد ان يسير على ضفاف الفرات تحت افياء أشجار النخيل و(الكالبتوس) الممتدة من جسر الكوفة حتى آخر الكورنيش، وقد ذكّرته بذلك فصحح لي انه كان يقوم بذلك للتأمل والتفكير.
وقد تنقلنا في الحديث من الهم العراقي الى وضع المسلمين في اوروبا، وفي هولندا خاصة فقدمت له عرضا عن عملنا في مجموعة الاتصال الاسلامية (CGI) وهي من اكبر المجموعات الاسلامية المعترف بها داخل كيان المملكة الهولندية وتطرق بنا الحديث لتعاوننا كشيعة هولنديين مع السنّة الهولنديين من اجل قضايا المسلمين المشتركة في بلادنا فبارك هذا التعاون وشدد على ضرورة الالتزام المطلق بجميع القوانين والانظمة الهولندية، وان يستمر تعاوننا مع السنّة مؤازرا خطوتنا بقول فحواه «ان اهل السنّة اخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، واشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو» وأوصانا بأن يبحث الجميع عن مواطن الاتفاق والمصلحة المشتركة.
ثم تقدمت اليه بآخر كتبي المطبوعة الموسوم بـ«ملوك حيدر آباد» وهنا انبرى للحديث عن حال المسلمين في الهند وتطرق لتاريخهم ومآثرهم في الماضي واسترسل في الحديث مطولا ليشعر محدثه بالاطلاع على أدق التفاصيل، وقد أبدى فعلا معرفة ممتازة بالنظام السياسي الحالي في الهند ثم تكلم عن المملكة المغولية وجهود الامبراطور اكبر في بنائها، وبحث في موضوع (الدين الالهي) المنسوب اليه، ولم يكن يخلو حديثه من اقتناص أمور ظريفة يرويها بلهجة تنمّ عن الصراحة المنبئة بالثقة والاطمئنان بضيوفه، وكنت استمع له اكثر مما استمع اليّ، وفيما هو في غمرة الحديث كنت ألمح مرافقه وحامل ختمه محمد حسن الانصاري، وهو جالس بجانبه، ملازماً للصمت طيلة الوقت وفيما نحن في نهاية الحديث دخل ولده السيد محمد رضا وبقى واقفا طيلة ما تبقى من الاربعين دقيقة في مقابلة والده، التي غمرتني بالسعادة وملأتني اعجابا بالرجل وبساطته وزهده وعلمه وسعة اطلاعه وتفتحه على قضايا عصره.
وعلى ما يبدو لي بأن المرض (اللندني) قد أخذ مأخذه من مضيفي وترك في سيماه امارات التعب، وهذا ما يثير في نفسي كوامن الخوف من المستقبل (المجهول) الذي سيخلفه غياب السيستاني (بعد عمر طويل) فالفراغ الذي سيحدث لا يمكن ان يُسدّ مسده وسيطول أمده اذ لا يمكن ان يقاس غيابه (لا سمح الله) بغياب المراجع الذين سبقوه، حيث لا أحد من المراجع الحاليين قادر على سدّ هذه الثلمة لو حصلت، سواء الموجود في (النجف الاشرف) منهم اليوم على قلتهم ومحدودية امكاناتهم وتدني، ولا من هو في (قم) وفي مقدمتهم الميرزا جواد التبريزي، وهذا مع امتلاكه عددا من المقلدين في دول الخليج فلا هو ولا غيره لديه الكاريزما السيستانية، ومن يدري لعل الحظ يحالف أحد فضلاء النجف الكبار من خريجي قم كالشيخ محمد هادي آل الشيخ راضي والشيخ مرتضى الايرواني والشيخ حسن الجواهري.
فيكون لأحدهم شأن أي شأن، ولكن حتى يتبلور مشروع أحدهم فهم بحاجة الى مزيد من الوقت، بل حتى يجمع رأي الشيعة على زعامة جديدة فالامر يحتاج الى سنوات، واخطر ما في سنوات الفراغ هذه ان يفلت زمام الامور في العراق فالشيعة هنا خرجوا من القمقم ولن يعودوا اليه، وقد جمعتهم زعامة السيستاني في وقت محظوظ من الزمن، والزمن لا يعود الى الوراء والدنيا تتطور وسفينة العراق تتقاذفها أمواه مختلفة ألوانها، وهوية الشيعة في مهبّ الريح وزعاماتهم السياسية اليوم على المحكّ ومن فاز منهم في الانتخابات لم يحقق لهم ما كانوا يرجونه من الاستقرار والرفاه، فالنقمة عامة على الحكومة، ونواب قائمة الائتلاف «المؤمنون جدا» ائتلفوا مع القوائم الاخرى في الجمعية الوطنية وشرعوا لأنفسهم منحة قدرها 50 ألف دولار وصوتوا عليها بالاجماع واستلموها رغم تحريم السيستاني لذلك فخالفوا بذلك رأيه في حياته واستهوتهم الدنيا وغرّتهم الاموال، في الوقت الذي يعيش الشعب في ضنك وضيق ويدعى عليه بالويل والثبور، ويعاني من الارهاب والتقتيل فلا هم وفوا للشعب بما وعدوا به ولا السيستاني ولا ربّ السيستاني راضٍ عنهم.
السيستاني لم يمت بعد حتى استأثر من قاموا باسمه بالزعامة والمال، فكيف اذا غاب السيستاني وخابت الاماني؟.. فالله اللّه في العراق وفي دماء العراقيين.
انها الفوضى المرتقبة ـ لا سمح الله ـ اللهم احفظ العراق، اللهم احفظ العراق.
بغداد
ZTouraihi@yahoo.com
(رئيس البرلمان الشيعي الهولندي OSV)
السيستاني.. ثالث عمائم الشيعة الكبرى في عالم اليوم بعد موسى الصدر وروح الله الخميني، وميزة السيستاني انه بزَّهم في الزعامة وثنيت له الوسادة في المرجعية العالمية حتى بلغ من يأتمر بأمره ويرجع اليه في الفتيا والتقليد قرابة 200 مليون من الشيعة الذين يوجد اكثرهم في آسيا وافريقيا واوروبا، ولهم جاليات نشطة في اكثر عواصم القرية الكونية المتمدنة، وبمعنى آخر فان نفوذه يمتد الى كل تلك الامكنة التي يقطن فيها اتباعه، ولم يتفق لمرجع شيعي قبله ان بلغ رتبته في الشهرة، كما بلغها السيستاني نظرا لتقدم نظام الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، اضافة الى الظروف السياسية التي أحاطت بشخصيته بعد سقوط النظام الصدامي في 9/4/2003 فقبل هذا التاريخ لم يكن أحد من خارج الشيعيين مَنْ يعرف باسم السيستاني، ولما قام كاتب هذه السطور بنشر أول صورة للسيستاني على غلاف مجلته (الموسم) اوائل عام 1993 قُوبل بحنق من المعممين الذين توهموا بان مدرسة (النجف) الفكرية قد انتهى دورها بوفاة ابي القاسم الخوئي استاذ السيستاني ومحل ثقته، ورأوا في نشر صورة السيستاني دعاية مضادّة لدور مدينة (قم) الايرانية ومراجع ولاية الفقيه وما دروا أن هذا ديدن المرجعيات التقليدية الكبرى لدى الشيعة تزحف لمن لا يتشبث بها طيّعة منقادة، وحال السيستاني في ذلك كما يقول القائل:
اتته الزعامة منقادة
اليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلحُ إلاّ له
ولم يكُ يصلحُ إلاّ لها
نعم.. لقد تعزز دور (قم) فعلا طيلة ربع قرن من الزمان، وازدهرت حوزاتها الدينية ازدهاراً كبيرا لم تشهد (النجف) نفسها عبر تاريخها المعاصر، لكن أعين الشيعة بقيت شاخصة الى مثوى اول الائمة صاحب السيف والبيان في (النجف) منتظرة اللحظة المناسبة لانفكاكها من طاغوت البعث الذي ارهقها وقتل وشرَّد خيرة علمائها وتسلط على مقدراتها طيلة 35 من السنين العجاف.
وهكذا حان الوقت لانطلاقتها من جديد بعد سقوط صدام، فهبَّ الشيعة من كل حدب وصوب نحو مدينتهم (الاقدس) والتفوا حول السيستاني قائدا روحيا ونائبا عن الإمام المهدي المنتظر وبلغ مؤيدوه في ايران نفسها نسبة تجاوزت 70% وتنامى تأثير السيستاني حتى ان نواباً في مجلس الشورى الايراني طلبوا رأيه في بعض ما اختلفوا فيه على مرأى ومسمع من حكومة ولاية الفقيه!
فأوقعوا (المرشدية) الايرانية في احراج لم تكن تتوقعه.
ولم يكن يمر يوم حتى يُذكر السيستاني في أهم وسائل الاعلام العالمية وبهذا تفخمت شهرته وكبر دوره وقوي مركزه، فعقد غالبية الشيعة على وجوده مستقبلهم (الغامض) وخاصة في العراق، حيث تعيش المجموعة العربية الشيعية الأهم تاريخياً فهم بقايا الاسلاف الذين انطلق منهم التشيع الى رحاب الله الواسعة ببساطته العربية وتركيبته العلوية المثالية الاولى.
وبهذا راهن شيعة العراق وبجميع اطيافهم ومنذ بداية سقوط النظام على وجود السيستاني كصمام أمان يقيهم شر الازمات التي باتت تعصف بعراق اليوم عصف الرياح الهوج بالهشيم المتناثر، وصاروا ينظرون اليه بصورة المنقذ الاعظم لكل ما ينتابهم من قلق حقيقي حول المستقبل (المجهول)، ومنذ بداية السقوط تحركت جحافل القبائل الشيعية في الفرات الاوسط فأحاطت بداره في نيسان 2003 احاطة السوار بالمعصم لحمايته واشعاره بالتفافه حوله فصرفها بسلام مؤثرا بقاءه في داره المتواضعة دون حرس او جرس، فزاد في نظرهم هيبة وقوة وألمعية، ولم تكن تجرؤ حتى قوات مقتدى الصدر الضاربة في (النجف) حينذاك الاقتراب منه، بل كان موقفها التهيب والانتظار، لا سيما بعد مقتل عبدالمجيد الخوئي على بُعد عشرات الامتار من منزله وما تبع ذلك من إحنٍ تجددت وفتن تلا قحت، وفي غفلة من الزمن فارق السيستاني مدينة النجف للمرة الاولى بعد حوالي نصف قرن من اقامته فيها قاصداً جاليات لندن للعلاج، وما ان حطت قدماه خارج اسوار النجف حتى شبّت معركة شرسة بين حكومة اياد علاوي وبين جيش المهدي في صيف 2004 وبعد نحو ثلاثة اسابيع عاد السيستاني من مشفاه اللندني (عودة دراماتيكية بدأها بالكويت فالبصرة فالنجف بمسيرة مليونية حاشدة) فانطفأت بعودته حرائق تلك الحرب الضروس وهدأت الفتنة التي كادت تعصف بالمدينة المقدسة.
وبعد ايام قليلة من عودته جدد دعوته لانتخابات حرة ونزيهة، وكان هو السبب المباشر لقيام الائتلاف الشيعي بأطرافه المختلفة ايديولوجيا وفكريا وكانت تلك فرصة نادرة لجميع الاحزاب والقوى الشيعية للملمة صفوفها والالتفاف أو (اللف) حول السيستاني باستغلال اسمه ومركزه الروحي، ولولا ذلك لما ربحت بعض الاحزاب الحاكمة اليوم الا نسبة ضئيلة من المقاعد، والمعتقد في الشارع العراقي كافة ان اسم السيستاني بات منذ ذلك اليوم ماركة (غير مسجلة) اذْ استغلتها بعض الزعامات الشيعية بمناسبة او بغيرها من اجل كسب الجماهير المسحوقة في المحن والازمات، وهنا مكمن الداء فالسيستاني كما هو شأن رموز المرجعية التقليدية من اسلافه كأبي الحسن الاصفهاني، وحسين البروجردي، ومحسن الحكيم الطباطبائي، وامثالهم يختزلون في شخوصهم كل شيء يتعلق بمهام المرجعية ويقومون بها دفعة واحدة، واذا كان من اليسير في الماضي القيام بهذا الدور، حيث انه يقتصر على الجانب الفتوائي فيجب اعادة النظر في ذلك بحيث يجب ان يتزامن تنفيذ تلك المهام على لجان متخصصة ترتبط بالمرجع وتعمل وفقا للتطور الذي يشهده زماننا المتغير بين لحظة واخرى، اذ تعدَّت مهام المرجع الى واجبات كبرى لها صلة بالسياسة والاقتصاد والاعلام.. إلخ، وكان يجب عليه ان يعتمد ناطقا باسمه له حنكة الشيوخ ومكر الساسة ودربة رجال الاعلام يُعلن عن آرائه ويفصح عن افكاره ومواقفه، وبهذا يقطع الفرصة على (البعض) ممن هب ودبّ ممن يحملون صفة (الوكيل) عنه وهم بالمئات من المعممين الذين يصولون ويجولون، ويصرحون بما يشتهون، «واكثرهم للحق كارهون».
وهذه احدى النقاط التي عالجناها في مشروع «النجف» الطموح الذي قدمناه كاقتراح الى الامين العام للامم المتحدة ويهدف لاقامة مؤسسة شيعية داخل كيان الدولة العراقية، لها خصوصية «الفاتيكان» في الجانب القانوني والسلطة المعنوية.
وكان لي شرف عرض المشروع ذاته على الامام السيستاني في يوم الجمعة الثاني عشر من اغسطس الجاري سنة 2005 بمنزله في «النجف الاشرف» ففاجأني باطلاعه عليه في نسخة استُخرجت بداره في شبكة الانترنت، وكان رده ايجابيا على ما ورد في المشروع من افكار، وأوعدني بقراءة النص ثانية واوعز الى السيد حامد الخفاف (ممثله في لبنان) الذي حضر اجتماعنا بأن يضع كتابنا «دولة النجف» على رفّ قريب منه ليتسنى له قراءته بتمعن كما قال.
لقد كان لقائي بالمرجع الأعلى فرصة تاريخية فقد أعدت التعرف عليه بعد لقاءات متفرقة قصيرة في بدايات سنة 1971 عندما كان يقوم برياضة المشي على الضفة اليمنى من فرات الكوفة، حيث اعتاد ان يسير على ضفاف الفرات تحت افياء أشجار النخيل و(الكالبتوس) الممتدة من جسر الكوفة حتى آخر الكورنيش، وقد ذكّرته بذلك فصحح لي انه كان يقوم بذلك للتأمل والتفكير.
وقد تنقلنا في الحديث من الهم العراقي الى وضع المسلمين في اوروبا، وفي هولندا خاصة فقدمت له عرضا عن عملنا في مجموعة الاتصال الاسلامية (CGI) وهي من اكبر المجموعات الاسلامية المعترف بها داخل كيان المملكة الهولندية وتطرق بنا الحديث لتعاوننا كشيعة هولنديين مع السنّة الهولنديين من اجل قضايا المسلمين المشتركة في بلادنا فبارك هذا التعاون وشدد على ضرورة الالتزام المطلق بجميع القوانين والانظمة الهولندية، وان يستمر تعاوننا مع السنّة مؤازرا خطوتنا بقول فحواه «ان اهل السنّة اخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، واشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو» وأوصانا بأن يبحث الجميع عن مواطن الاتفاق والمصلحة المشتركة.
ثم تقدمت اليه بآخر كتبي المطبوعة الموسوم بـ«ملوك حيدر آباد» وهنا انبرى للحديث عن حال المسلمين في الهند وتطرق لتاريخهم ومآثرهم في الماضي واسترسل في الحديث مطولا ليشعر محدثه بالاطلاع على أدق التفاصيل، وقد أبدى فعلا معرفة ممتازة بالنظام السياسي الحالي في الهند ثم تكلم عن المملكة المغولية وجهود الامبراطور اكبر في بنائها، وبحث في موضوع (الدين الالهي) المنسوب اليه، ولم يكن يخلو حديثه من اقتناص أمور ظريفة يرويها بلهجة تنمّ عن الصراحة المنبئة بالثقة والاطمئنان بضيوفه، وكنت استمع له اكثر مما استمع اليّ، وفيما هو في غمرة الحديث كنت ألمح مرافقه وحامل ختمه محمد حسن الانصاري، وهو جالس بجانبه، ملازماً للصمت طيلة الوقت وفيما نحن في نهاية الحديث دخل ولده السيد محمد رضا وبقى واقفا طيلة ما تبقى من الاربعين دقيقة في مقابلة والده، التي غمرتني بالسعادة وملأتني اعجابا بالرجل وبساطته وزهده وعلمه وسعة اطلاعه وتفتحه على قضايا عصره.
وعلى ما يبدو لي بأن المرض (اللندني) قد أخذ مأخذه من مضيفي وترك في سيماه امارات التعب، وهذا ما يثير في نفسي كوامن الخوف من المستقبل (المجهول) الذي سيخلفه غياب السيستاني (بعد عمر طويل) فالفراغ الذي سيحدث لا يمكن ان يُسدّ مسده وسيطول أمده اذ لا يمكن ان يقاس غيابه (لا سمح الله) بغياب المراجع الذين سبقوه، حيث لا أحد من المراجع الحاليين قادر على سدّ هذه الثلمة لو حصلت، سواء الموجود في (النجف الاشرف) منهم اليوم على قلتهم ومحدودية امكاناتهم وتدني، ولا من هو في (قم) وفي مقدمتهم الميرزا جواد التبريزي، وهذا مع امتلاكه عددا من المقلدين في دول الخليج فلا هو ولا غيره لديه الكاريزما السيستانية، ومن يدري لعل الحظ يحالف أحد فضلاء النجف الكبار من خريجي قم كالشيخ محمد هادي آل الشيخ راضي والشيخ مرتضى الايرواني والشيخ حسن الجواهري.
فيكون لأحدهم شأن أي شأن، ولكن حتى يتبلور مشروع أحدهم فهم بحاجة الى مزيد من الوقت، بل حتى يجمع رأي الشيعة على زعامة جديدة فالامر يحتاج الى سنوات، واخطر ما في سنوات الفراغ هذه ان يفلت زمام الامور في العراق فالشيعة هنا خرجوا من القمقم ولن يعودوا اليه، وقد جمعتهم زعامة السيستاني في وقت محظوظ من الزمن، والزمن لا يعود الى الوراء والدنيا تتطور وسفينة العراق تتقاذفها أمواه مختلفة ألوانها، وهوية الشيعة في مهبّ الريح وزعاماتهم السياسية اليوم على المحكّ ومن فاز منهم في الانتخابات لم يحقق لهم ما كانوا يرجونه من الاستقرار والرفاه، فالنقمة عامة على الحكومة، ونواب قائمة الائتلاف «المؤمنون جدا» ائتلفوا مع القوائم الاخرى في الجمعية الوطنية وشرعوا لأنفسهم منحة قدرها 50 ألف دولار وصوتوا عليها بالاجماع واستلموها رغم تحريم السيستاني لذلك فخالفوا بذلك رأيه في حياته واستهوتهم الدنيا وغرّتهم الاموال، في الوقت الذي يعيش الشعب في ضنك وضيق ويدعى عليه بالويل والثبور، ويعاني من الارهاب والتقتيل فلا هم وفوا للشعب بما وعدوا به ولا السيستاني ولا ربّ السيستاني راضٍ عنهم.
السيستاني لم يمت بعد حتى استأثر من قاموا باسمه بالزعامة والمال، فكيف اذا غاب السيستاني وخابت الاماني؟.. فالله اللّه في العراق وفي دماء العراقيين.
انها الفوضى المرتقبة ـ لا سمح الله ـ اللهم احفظ العراق، اللهم احفظ العراق.
بغداد
ZTouraihi@yahoo.com