هاشم
09-01-2005, 04:41 PM
صالح القلاب
بقي الحوار والتحاور مع مجموعات العنف والإرهاب، التي انطلقت في هذا النهج المدمر بالاستناد الى فهم فقهي وشرعي مشوه، يعتبر ضرورياً ومطلوباً. فالحديث النبوي الشريف يقول بصيغة الأمر: «اُنصر أخاك ظالماً أومظلوماً»، ولذلك ولأن هذه المجموعات هي الأخ «الظالم»، فإنه لا بد من ردعها عن ظلمها بالنقاش وبالكلمة الطيبة، وإفهامها بأن الطريق الذي تسير عليه مظلم وعاقبته وخيمة.
وحقيقة أن بعض الدول العربية التي اكتوت بنيران الإرهاب وجمره، ومن بينها مصر والجزائر والسعودية.. والأردن بحدود معينة، قد أخذت بنصيحة الذين نصحوها بأن الرَّد على العنف بالعنف لا يمكن ان يؤدي الى نتيجة، وان الأسلم والأصح والأجدى هو اللجوء الى الحوار الهادف البنّاء، ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، ووضع الكلمة الطيبة والحسنة في موضع الرصاص والبندقية.
كانت مصر سبّاقة الى الحوار والتحاور مع المجموعات «الخارجة»، التي كفَّرت المجتمع المصري وهجرته الى معسكرات ومراكز تدريب أقامتها في أحشاء الصحارى البعيدة وفي أقبية ودهاليز الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى، وعادت إليه بالعنف والقنابل والمتفجرات، والمعروف بالإضافة الى الحملات الإعلامية الموجهة عبر كل وسائل الإعلام، أن السجون المصرية وعلى مدى نحو عقدين من الأعوام قد شهدت حوارات هادفة وحلقات فكر ونقاش، شارك فيه فلاسفة وعلماء نفس ومعممون من رجال الدين والشريعة.
ولكن النتيجة كانت ان الخلايا الإرهابية النائمة ما لبثت بعد هدوء مؤقت، ان نهضت من تحت الرماد وباشرت سلسلة من العمليات الهمجية الدامية، أولاً في القاهرة ثم في طابا وشرم الشيخ وسيناء، وهذا معناه ان الكلمة الطيبة التي لجأت إليها السلطات المصرية لم تجد آذاناً صاغية وأنه صحيح: «..إن انت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تَمرّدَ».
والمعروف ان الجزائر وبخاصة في عهد رئيسها الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الذي هو أحد رموز الرعيل الأول من أبطال الثورة الجزائرية المظفرة، قد فتحت ذراعيها لأبنائها الضالين وأصدرت العفو العام بعد العفو العام، وأقرَّت قوانين فتحت الابواب واسعة أمام المخطئين ليعودوا عن أخطائهم وخطاياهم.. لكن ومع ذلك فإن المجموعات الأكثر تطرفاً والأكثر ولوغاً في دماء الجزائريين أصرت على إقفال آذانها أمام الكلمة الحسنة والطيبة، وبقيت متمسكة بعزلتها وبالسلاح الذي ارتكبت به جرائمها، وبقيت تشن غارات وحشية دامية على الفلاحين والرعاة، وواصلت عمليات قطع الطرق وبقيت تضرب وتهرب وتعتدي على النساء والأطفال وتبيد الضرع وتحرق الزرع.
لا شك في ان السياسة الحكيمة التي اتبعها عبد العزيز بوتفليقة، والتي لوَّح من خلالها بأغصان الزيتون لهذه المجموعات التي تمادت كثيراً في غيِّها وفي سفك دماء الجزائريين، قد أفلحت مع «جيش الإنقاذ» الذي هو وليد حزب سياسي برامجه واضحة ومحددة هو حزب «جبهة الإنقاذ الاسلامي»، لكنها لم تفلح مع الزُّمر والمجموعات الضالة المـُضللة الناقمة على مجتمعها، والحاقدة على البشرية كلها والتي غدا هدفها القتل من أجل القتل.
ولعل ما ينطبق على مصر والجزائر، والأردن، ينطبق أوَّل ما ينطبق على المملكة العربية السعودية، فهذه الدولة العربية التي تحكم بالشريعة الاسلامية، والتي يحمل ملكها لقب «خادم الحرمين الشريفين» انطلقت من ان الذين اختاروا هذا الطريق المظلم، والذين ضربوا وقتلوا الابرياء بدون حق، هم فئة من الابناء الذين ضلوا سواء السبيل، ولذلك فقد فتحت أبواب الحوار والكلمة السواء مع هؤلاء وأصدرت أكثر من عفو عام عنهم، ولكن النتيجة جاءت متواضعة جداً بل ومحبطة وعلى عكس ما كان متوقعاً.
وكان حصل مع الاردن ما حصل مع الجزائر ومصر والمملكة العربية السعودية، فالحكومة الاردنية كانت قد أصدرت عفواً عاماً شمل، بالإضافة الى عدد من المتورطين بالعنف والإرهاب، «أبو مصعب الزرقاوي» الذي كان ينفذ حكماً بالسجن مدته خمسة عشر عاماً، وكانت النتيجة ان هؤلاء كلهم لم يُفِدْ معهم الحوار، وأنهم ردوا على الحسنة بألف سيئة، وأنهم اعتبروا المرونة ضعفاً وواصلوا استهداف بلدهم والشعب الذي من المفترض أنهم ينتمون إليه، وكانت آخر جرائمهم عملية «العقبة» الأخيرة. إن السؤال الذي يمكن استنتاجه من كل هذه التجارب المحبطة وغير المشجعة هو: لماذا يا ترى لم ينفع الحوار والعفو العام مع هؤلاء.. ولماذا تتصرف هذه المجموعات الخارجة بهذه الطريقة..؟!.
لقد سبق وعرفت المجتمعات الاسلامية أكثر من ظاهرةٍ مثل هذه الظاهرة، التي ولدت في الحاضنة الأفغانية، ثم انتشرت في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالم كله انتشار النار في الهشيم، وأخطر هذه الظواهر هي ظاهـرة الحسن الصباح و«قلعة الموت» وظاهرة الحشاشين.. وظاهرة «القرامطة» قبل ذلك.
والمشكلة بالنسبة لظاهرة الإرهاب الحالية التي تضرب الدول العربية والإسلامية والعالم بأسره، ان هذه المجموعات تبدأ بتصيّد المراهقين الذين لم يبلغوا سن الرشد، وتخضعهم لعمليات غسل أدمغة، على غرار ما كان يفعله «الحشاشون»، وتقوم بحقنهم بالمزيد من الأحقاد والضغائن وتعزلهم فكرياً وذهنياً وجسدياً عن مجتمعاتهم، وتعطيهم ألقاب القادة و«الأمراء»!! ثم تضع في أيديهم الأسلحة والمتفجرات وترسلهم لينتقموا من هذه المجتمعات.
ولقد ثبت بالأدلة القاطعة والساطعة ان هؤلاء بصورة عامة، لا يعرفون ولا يفهمون إلا معادلة «إمـَّا قاتل أو مقتول» وأن التسامح معهم لا يجدي وان العفو عنهم يعطيهم المزيد من الفرص كي يتهيأوا من جديد ويزاولوا مهنة القتل بصورة أكثر شراسة وأكثر دموية.
إن تجفيف منابع هذه المجموعات يقتضي أول ما يقتضي الاهتمام برياض الاطفال والمدارس الابتدائية، فالمعالجة الصحيحة لا يمكن ان تكون إلا هناك، وحماية الأجيال من هذه الآفة الخطيرة تقتضي ثقافة متسامحة منفتحة ومرنة، وبعيدة عن التزمت والعداء للغير، أما العفو العام والحوار فإنهما كما أثبتت التجارب لم ينفعا إلا مع عدد محدود من الذين لم يذهبوا بعيداً في التوغُّل في هذه الطرق المظلمة.
* نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية
بقي الحوار والتحاور مع مجموعات العنف والإرهاب، التي انطلقت في هذا النهج المدمر بالاستناد الى فهم فقهي وشرعي مشوه، يعتبر ضرورياً ومطلوباً. فالحديث النبوي الشريف يقول بصيغة الأمر: «اُنصر أخاك ظالماً أومظلوماً»، ولذلك ولأن هذه المجموعات هي الأخ «الظالم»، فإنه لا بد من ردعها عن ظلمها بالنقاش وبالكلمة الطيبة، وإفهامها بأن الطريق الذي تسير عليه مظلم وعاقبته وخيمة.
وحقيقة أن بعض الدول العربية التي اكتوت بنيران الإرهاب وجمره، ومن بينها مصر والجزائر والسعودية.. والأردن بحدود معينة، قد أخذت بنصيحة الذين نصحوها بأن الرَّد على العنف بالعنف لا يمكن ان يؤدي الى نتيجة، وان الأسلم والأصح والأجدى هو اللجوء الى الحوار الهادف البنّاء، ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، ووضع الكلمة الطيبة والحسنة في موضع الرصاص والبندقية.
كانت مصر سبّاقة الى الحوار والتحاور مع المجموعات «الخارجة»، التي كفَّرت المجتمع المصري وهجرته الى معسكرات ومراكز تدريب أقامتها في أحشاء الصحارى البعيدة وفي أقبية ودهاليز الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى، وعادت إليه بالعنف والقنابل والمتفجرات، والمعروف بالإضافة الى الحملات الإعلامية الموجهة عبر كل وسائل الإعلام، أن السجون المصرية وعلى مدى نحو عقدين من الأعوام قد شهدت حوارات هادفة وحلقات فكر ونقاش، شارك فيه فلاسفة وعلماء نفس ومعممون من رجال الدين والشريعة.
ولكن النتيجة كانت ان الخلايا الإرهابية النائمة ما لبثت بعد هدوء مؤقت، ان نهضت من تحت الرماد وباشرت سلسلة من العمليات الهمجية الدامية، أولاً في القاهرة ثم في طابا وشرم الشيخ وسيناء، وهذا معناه ان الكلمة الطيبة التي لجأت إليها السلطات المصرية لم تجد آذاناً صاغية وأنه صحيح: «..إن انت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تَمرّدَ».
والمعروف ان الجزائر وبخاصة في عهد رئيسها الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الذي هو أحد رموز الرعيل الأول من أبطال الثورة الجزائرية المظفرة، قد فتحت ذراعيها لأبنائها الضالين وأصدرت العفو العام بعد العفو العام، وأقرَّت قوانين فتحت الابواب واسعة أمام المخطئين ليعودوا عن أخطائهم وخطاياهم.. لكن ومع ذلك فإن المجموعات الأكثر تطرفاً والأكثر ولوغاً في دماء الجزائريين أصرت على إقفال آذانها أمام الكلمة الحسنة والطيبة، وبقيت متمسكة بعزلتها وبالسلاح الذي ارتكبت به جرائمها، وبقيت تشن غارات وحشية دامية على الفلاحين والرعاة، وواصلت عمليات قطع الطرق وبقيت تضرب وتهرب وتعتدي على النساء والأطفال وتبيد الضرع وتحرق الزرع.
لا شك في ان السياسة الحكيمة التي اتبعها عبد العزيز بوتفليقة، والتي لوَّح من خلالها بأغصان الزيتون لهذه المجموعات التي تمادت كثيراً في غيِّها وفي سفك دماء الجزائريين، قد أفلحت مع «جيش الإنقاذ» الذي هو وليد حزب سياسي برامجه واضحة ومحددة هو حزب «جبهة الإنقاذ الاسلامي»، لكنها لم تفلح مع الزُّمر والمجموعات الضالة المـُضللة الناقمة على مجتمعها، والحاقدة على البشرية كلها والتي غدا هدفها القتل من أجل القتل.
ولعل ما ينطبق على مصر والجزائر، والأردن، ينطبق أوَّل ما ينطبق على المملكة العربية السعودية، فهذه الدولة العربية التي تحكم بالشريعة الاسلامية، والتي يحمل ملكها لقب «خادم الحرمين الشريفين» انطلقت من ان الذين اختاروا هذا الطريق المظلم، والذين ضربوا وقتلوا الابرياء بدون حق، هم فئة من الابناء الذين ضلوا سواء السبيل، ولذلك فقد فتحت أبواب الحوار والكلمة السواء مع هؤلاء وأصدرت أكثر من عفو عام عنهم، ولكن النتيجة جاءت متواضعة جداً بل ومحبطة وعلى عكس ما كان متوقعاً.
وكان حصل مع الاردن ما حصل مع الجزائر ومصر والمملكة العربية السعودية، فالحكومة الاردنية كانت قد أصدرت عفواً عاماً شمل، بالإضافة الى عدد من المتورطين بالعنف والإرهاب، «أبو مصعب الزرقاوي» الذي كان ينفذ حكماً بالسجن مدته خمسة عشر عاماً، وكانت النتيجة ان هؤلاء كلهم لم يُفِدْ معهم الحوار، وأنهم ردوا على الحسنة بألف سيئة، وأنهم اعتبروا المرونة ضعفاً وواصلوا استهداف بلدهم والشعب الذي من المفترض أنهم ينتمون إليه، وكانت آخر جرائمهم عملية «العقبة» الأخيرة. إن السؤال الذي يمكن استنتاجه من كل هذه التجارب المحبطة وغير المشجعة هو: لماذا يا ترى لم ينفع الحوار والعفو العام مع هؤلاء.. ولماذا تتصرف هذه المجموعات الخارجة بهذه الطريقة..؟!.
لقد سبق وعرفت المجتمعات الاسلامية أكثر من ظاهرةٍ مثل هذه الظاهرة، التي ولدت في الحاضنة الأفغانية، ثم انتشرت في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالم كله انتشار النار في الهشيم، وأخطر هذه الظواهر هي ظاهـرة الحسن الصباح و«قلعة الموت» وظاهرة الحشاشين.. وظاهرة «القرامطة» قبل ذلك.
والمشكلة بالنسبة لظاهرة الإرهاب الحالية التي تضرب الدول العربية والإسلامية والعالم بأسره، ان هذه المجموعات تبدأ بتصيّد المراهقين الذين لم يبلغوا سن الرشد، وتخضعهم لعمليات غسل أدمغة، على غرار ما كان يفعله «الحشاشون»، وتقوم بحقنهم بالمزيد من الأحقاد والضغائن وتعزلهم فكرياً وذهنياً وجسدياً عن مجتمعاتهم، وتعطيهم ألقاب القادة و«الأمراء»!! ثم تضع في أيديهم الأسلحة والمتفجرات وترسلهم لينتقموا من هذه المجتمعات.
ولقد ثبت بالأدلة القاطعة والساطعة ان هؤلاء بصورة عامة، لا يعرفون ولا يفهمون إلا معادلة «إمـَّا قاتل أو مقتول» وأن التسامح معهم لا يجدي وان العفو عنهم يعطيهم المزيد من الفرص كي يتهيأوا من جديد ويزاولوا مهنة القتل بصورة أكثر شراسة وأكثر دموية.
إن تجفيف منابع هذه المجموعات يقتضي أول ما يقتضي الاهتمام برياض الاطفال والمدارس الابتدائية، فالمعالجة الصحيحة لا يمكن ان تكون إلا هناك، وحماية الأجيال من هذه الآفة الخطيرة تقتضي ثقافة متسامحة منفتحة ومرنة، وبعيدة عن التزمت والعداء للغير، أما العفو العام والحوار فإنهما كما أثبتت التجارب لم ينفعا إلا مع عدد محدود من الذين لم يذهبوا بعيداً في التوغُّل في هذه الطرق المظلمة.
* نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية