هاشم
09-01-2005, 04:19 PM
عرفان الجميل
الأُمّة الراشدة إنّما تنهض بعقائدها وقيمها السامية، وبرجالها الذين ينهضون بها إلى معالي المبادئ ومكارم الأخلاق.. يترجمون لها ذلك على صعيد الواقع الحياتيّ.
وعرفاناً بجميل هؤلاء الرجال.. لابدّ أن نتعرّف على خواصّ شؤونهم، ونعرّف بها، ونفتخر بهم؛ إذ هم منار الهدى، وأعلام الحقّ والتُّقى.
وعندنا أنّ هؤلاء هم: الأنبياء والمرسلون، والأوصياء والأئمّة الهادون عليهم أفضل الصلاة والسّلام. ومنهم: الإمام موسى بن جعفر الكاظم سلام الله عليه.
تاريخ المولد وموقعه
وُلد الإمام موسى الكاظم عليه السّلام بـ « الأبواء ».. قيل: هي منزل بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة. وعُرفت الأبواء بأنّها قرية من أعمال القُرع من المدينة، بينها وبين الجُحفة ممّا يلي المدينةَ ثلاثة وثلاثون ميلاً. وفيها دُفنت آمنة بنت وهب أمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله (1).
وكان مولده الأغر صلوات الله عليه يوم الأحد أو يوم الثلاثاء، في السابع من شهر صفر الخير، سنة 128 من الهجرة المباركة(2).
الواقعة
ينقلها لنا التاريخ من طرق عديدة.. منها:
• قال المنهال القصّاب: خرجتُ من مكّة أُريد المدينة، فمررتُ بالأبواء وقد وُلد لأبي عبدالله الصادق موسى عليه السّلام، فسبقتُه إلى المدينة ودخل بعدي بيوم فأطعمَ الناسَ ثلاثاً، فكنت آكلُ فيمن يأكل، فما آكلُ شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل(3).
وهذه الرواية يطويها الإيجاز، فلا تبيّن لنا حال الإمام الصادق عليه السّلام وقد رُزق بولده الطيّب موسى عليه السّلام، وكيف غمرته الفرحة باستقباله، وبدا عليه السرور والبهجة صلوات الله عليه.
يبسط لنا ذلك أبو بصير في روايته هذه، حيث يقول:
• كنت مع أبي عبدالله عليه السّلام في السنة التي وُلِد فيها ابنه موسى عليه السّلام، فلمّا نزلنا بالأبواء وضع لنا أبو عبدالله عليه السّلام الغَداءَ ولأصحابه وأكثَرَه وأطابه.. فبينا نحن نتغدّى إذ أتاه رسول حميدة [ وحميدة زوجته رضوان الله عليها ] أنّ الطلق قد ضربني، وقد أمرتَني ألاّ أسبقك بابنك هذا.
فقام أبو عبدالله فرِحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعَيه ضاحكاً سِنُّه، فقلنا [ والحديث ما زال لأبي بصير ]: أضحَكَ اللهُ سنَّك، وأقرّ عينك، ما صنعَتْ حميدة ؟ فقال: وهب الله لي غلاماً، وهو خيرُ مَن برأ الله، ولقد خبَّرَتني عنه بأمرٍ كنت أعلم به منها. قلت: جُعلتُ فداك، وما خبّرتْك عنه حميدة ؟ قال: ذكرَتْ أنّه لمّا وقع من بطنها وقع واضعاً يدَيْه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتُها أنّ تلك أمارة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمارة الإمام من بعده.
ثمّ سُئل عليه السّلام عن علامة الإمام فأجاب مفصِّلاً خِلْقةَ كلّ إمام حتّى بلغ إلى ولده موسى سلام الله عليه فخاطب الحاضرين عنده بالقول: فدونَكم، فهو واللهِ صاحبُكم من بعدي(4).
انتباهة
كانت السعادة تملأ الكون، حيث وُلد حفيد رسول الله صلّى الله عليه وآله.. نبعةً طيّبةً من أطهر سلالة وأشرفها، وثمرة مقدّسة من شجرة المصطفى صلّى الله عليه وآله. وكانت المسؤوليّة تعمّ الناس، إذ وُلد إمامٌ واجبٌ طاعته والإقرار بوصايته وبخلافته لجدّه النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، فيُعتَقَد به ويُؤخذ بأمره وبما جاء به من أسباب السعادة والخير والصلاح.
مَلامح.. مِنْ شخصيّةِ الإمام الكاظم عليه السّلام
شاء الله تعالى أن يُعرف، فخلَقَ الخَلْق.. وأراد جلّ وعلا أن يُستخلَف، فخلَقَ آدمَ والأنبياء عليهم السّلام.. وأراد أن يتجلّى نوراً أسمى ووجهاً أجلى، فخلَقَ محمّداً وآل محمّد صلّى الله عليه وعليهم.
ومن مظاهر رحمة الله تعالى أن بعث الأنبياء والرُّسلَ هداةً للبشرية إلى سبيل طاعته ومرضاته، ثمّ شفعهم بالأوصياء والأئمّة؛ إكمالاً للمسيرة النبويّة، وترجمةً واقعيّة للنصوص والسنن الشريفة.
وكان أئمّة أهل بيت الوحي والرسالة عليهم السّلام مثالاً كاملاً لمعرفة القرآن الكريم وتطبيقه، ولفهم سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسُننه المباركة والعمل بها.. فاتّسموا بسماته وشابهت خصالُهم خصالَه، فأحيَوا دِينه الحنيف، وترجموا كتاب الوحي، إلى واقعٍ حيّ، وتخلّقوا بأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبثّوا معارفه.
ومن أُولئك الأئمّة الهداة.. الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام.. هذه بعض خصائصه.
صفته
وصَفَ رواة الأثر ملامحَ صورة الإمام الكاظم عليه السّلام فقالوا: كان أسمرَ شديد السُّمرة (5)، وقيل: كان أزهر اللون، ربع القامة، كث اللحية(6). ووصفه شقيق البلخي فقال: كان حسَنَ الوجه، شديد السمرة، نحيف الجسم.
هيبته ووقاره
حاكى الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في هيبته هيبة الأنبياء، وبدت في ملامح شكله سيماء الأئمّة الطاهرين من آبائه، فما رآه أحد إلاّ هابه وأكبَرَه. وقد صوّر مدى هيبته ووقاره أبو نؤاس الشاعر حينما التقى به في الطريق، فاندفع يقول:
إذا أبصرَتْك العينُ مـــِن غير رِيبةٍ ....... وعارَضَ فيك الشكُّ أثبتَكَ القلبُ
ولو أنّ ركباً أمّموك لقادَهم ......... نسيمُك حتّى يُستَدّلَ بك الرَّكبُ
جعلتُك حَسْبي في أموريَ كلِّها ......... وما خاب مَن أضحى وأنت له حَسْبُ(7)
لقد كانت هذه الابيات دَفعةً من دفعات الروح، ويقظة من يقظات الضمير الحيّ، فقد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان مَن يمدح فيه أهل البيت عليه السّلام ينال العقوبة والسخط، لكنّ أبا نؤاس دفعته إلى ذلك واقعيّة الإمام ومثاليّته التي لا ندّ لها في عصره ولا نظير.
وبَهرت أنوارُ الإمام الكاظم عليه السّلام شاعرَ المعرة أبا العلاء، فانطلق في قصيدته التي رثى بها أبا أحمد حفيد الإمام، يقول:
ويُخالُ موسى جَدُّكم لِجَلالهِ في النَّفْس صاحبَ سُورة الأعرافِ(8)
ولم يكن أبو العلاء يظن بأحد خيراً أو يمدح انساناً إلاّ أن يختبره ويقف على واقع أمره، وقد انتهت إليه أنباء الإمام موسى الكاظم عليه السّلام فعرف أنه لا ثاني لها؛ فلذا انطلق مع المادحين والواصفين.
نقش خاتمه
أما نقش خاتَمه فيدلّ على مدى تعلقه بالله تعالى، وانقطاعه إليه، فقد كانت صورته: « المُلْكُ للهِ وحدَه »(9).
كُناه
أبو الحسن الأوّل، وأبو الحسن الماضي، وأبو إبراهيم، وأبو علي، وأبو إسماعيل.
ألقابه
أما ألقابه فتدلّ على مظاهر شخصيته ونواحي عظمته، وهي كما يلي: الصابر؛ لأنّه صبر على الآلام والخطوب التي عاناها من حكام الجور. الزاهر؛ لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء الذي مثّل به خُلُق جدِّه الرسول صلّى الله عليه وآله.
العبد الصالح؛ لُقِّب بذلك لعبادته، واجتهاده في الطاعة، حتّى صار مضرب المثل في عبادته على مرّ العصور والأجيال، وقد عُرف بهذا اللقب عند رواة الحديث، فكان الراوي عنه يقول: حدثني العبد الصالح.
السيد؛ لأنّه من سادات المسلمين، وإمام من أئمّتهم، وقد ذكره بهذا اللقب الشاعر الشهير أبو الفتح بقوله:
أنا للسيّد الشريف غلامٌ ........ حيثما كنتُ، فلْيُبلَّغْ سلامي
وإذا كنتُ للشريف غلاماً........ فأنا الحرّ والزمانُ غلامي(10)
الوفي؛ لأنّه أوفى إنسان خُلق في عصره، فقد كان وفياً باراً بإخوانه وشيعته، وباراً حتّى باعدائه والحاقدين عليه.
الأمين؛ وكلّ ما لِلفظ الأمانة من معنى قد مُثِّل في شخصيته العظيمة، فقد كان أميناً على شؤون الدين وأحكامه، وأميناً على أمور المسلمين، وقد حاز هذا اللقب كما حازه جدّه الرسول الاعظم من قبل، ونال به ثقة الناس جميعاً.
الكاظم، وقد لُقِّب عليه السّلام بذلك واشتهر لِما كظمه من الغيظ عمّا فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق، حتّى قضى شهيداً مسموماً في ظلمات السجون لم يُبدِ لاحدٍ آلامه وأشجانه، بل قابل ذلك بالشكر لله والثناء عليه. يقول ابن الأثير: « إنه عُرف بهذا اللقب لصبره؛ ودماثة خلُقه، ومقابلتهِ الشرَّ بالإحسان »(11).
ذو النفس الزكية؛ وذلك لصفاء ذاته، التي لم تتلوث بمآثم الحياة.. حتّى سَمَت وانبتلت عن النظير.
باب الحوائج، وهذا مِن أكثر ألقابه ذِكراً، وأشهرها ذيوعاً وانتشاراً، فقد اشتهر بين العام والخاص أنه ما قصده مكروبٌ أو حزين إلاّ فرّج الله آلامه وأحزانه، وما استجار أحد بضريحه المقدّس إلاّ قُضيت حوائجه، ورجع إلى أهله مثلوج القلب مستريح الفكر مما ألمّ به من طوارق الزمن وفجائع الأيام. وقد آمن بذلك جمهور شيعته، بل عموم المسلمين على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم، فهذا شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي أبو علي الخلاّل يقول:
« ما همنّي أمرٌ فقصدت قبرَ موسى بن جعفر إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أُحبّ(12). وقال الشافعيّ: « قبر موسى الكاظم الترياقُ المُجرَّب »(13).
وقد أثقلت كوارث الدهر ومصائب الأيام كوكبة من الشعراء والأدباء، ففزعوا إلى باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، ولاذوا بضريحه متوسّلين به إلى الله في رفع محنهم وكشف ما ألمّ بهم من البلاء والمكروه، ففرّج الله عنهم ذلك. وقد قرأنا لهم الشيءَ الكثير من بليغ النظم، ولو أردنا أن نذكر ما أُثِر عنهم في ذلك لبلغ مجلَّداً ضخما، ولكنّا نذكر بعضهم، فمنهم الحاج محمّد جَواد البغدادي الذي سعى إلى مثوى الإمام الكاظم عليه السّلام في حاجة يطلب قضاءها وهو يقول:
يا سميَّ الكليم جِئتُكَ أسعى ........ نحوَ مَغناك قاصداً من بلادي
ليس تُقضى لنا الحوائجُ إلاّ .......... عندَ بابِ الرجاءِ جَدِّ الجوادِ
وقد شطّرهما العالم الفاضل السيّد محمّد مهدي آل بحر العلوم نورّ الله مثواه بقوله:
يا سميَّ الكليمِ جئتُك أسعى........ والهوى مَركبي وحبُّك زادي
مسّني الضُّرُّ وانتحى بيَ فقري....... نحوَ مَغناك قاصداً من بلادي
ليس تُقضى لنا الحوائجُ إلاّ ....... عندَ بابِ الحوائج المُعتادِ
عند بحر الندى ابنِ جعفرَ موسى....... عند باب الرجاءِ جَدِّ الجواد(14)
وخمّسها الخطيب عباس البغداديّ بقوله:
لم تزلْ للأنام تُحسِن صُنْعا ....... وتُجير الذي أتاك وتَرعى
وإذا ضاقتِ الفضا بيَ ذَرعا ........ يا سَميَّ الكليم جئتُك أسعى
والهوى مَركبي وحبُّك زادي ....... أنت غيثٌ للمُجْدبين ولولا
فيضُ جَدواكمُ الوجودُ اضمَحلاّ ....... قَسَماً بالذي تعالى وجَلاّ
ليس تُقضى الحوائجُ إلاّ ......... عندَ بابِ الرجاءِ جدِّ الجوادِ
وممن نظم في ذلك شاعر النبوغ المرحوم السيد عبدالباقي العُمَري بقوله:
لذْ واستجرْ مُتوسِّلاً ....... إن ضاق أمرُك أو تعسّرْ
بأبي الرضا جَدِّ الجوادِ .........محمدٍ موسى بنِ جعفرْ(15)
لقد كان الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في حياته مفزعاً وملجأ لعموم المسلمين، وكذلك كان بعد وفاته حِصناً منيعاً لمن استجار به؛ لأن الله عز اسمه قد منحه قضاء حوائج المستجيرين بضريحه.
لقد اعتقد أغلب المسلمين أن الله يكشف البلاء، ويدفع الضر بالالتجاء إلى ضريح الإمام الكاظم عليه السّلام.. روى الخطيب البغدادي قصّة كان فيها شاهدَ عيان، فقد رأى امرأةً مذهولةً فقدت رُشْدَها، حيّرتْها الهواجس والهموم؛ لأنها أُخبرت أنّ ولدَها قد ألقت عليه السلطة المحلية القبض وأودعته في السجن، فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام الكاظم عليه السّلام مستجيرةً به، فرآها مَن لا يؤمن بالإمام فقال لها:
ـ إلى أين ؟
ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبس ابني.
فقال لها بسخرية واستهزاء:
ـ إنه قد مات في الحبس!
ـ اللهمّ بحقّ المقتول في الحبس، أن تريَتني القُدرة.
فاستجاب الله دعاءها، فأُطلق سراح ولدها، وأودع ابنُ المستهزئ في ظلمات السجون بجرم ذلك الشخص(16). وهكذا أراد الله أن يريها القدرة، ويُريَ ذلك الشخص كرامة الإمام عنده.
نعم.. لقد آمن المسلمون بذلك منذ فجر تاريخهم، واعتقدوا اعتقاداً لا يخامره أدنى شك في أن أهل البيت عليهم السّلام لهم المقام الكريم والجاه العظيم عند الله، وأنّه يُستدفع بهم البلاء، وتُستمطَر السماء ـ كما قال جابر بن عبدالله الأنصاريّ في حديثه مع الإمام علي بن الحسين عليه السّلام، أو كما قال الفرزدق في قصيدته العصماء التي مدح بها الإمام زين العابدين:
مِن مَعشرٍ حبُّهم دِينٌ وبغضُهمُ كفرٌ..... وقربُهمُ مَنجى ومُعتصَمُ
يُستدفَعُ السوءُ والبلوى بحبِّهمُ ...... ويُستراب بهِ الإحسانُ والنِّعَمُ
الأُمّة الراشدة إنّما تنهض بعقائدها وقيمها السامية، وبرجالها الذين ينهضون بها إلى معالي المبادئ ومكارم الأخلاق.. يترجمون لها ذلك على صعيد الواقع الحياتيّ.
وعرفاناً بجميل هؤلاء الرجال.. لابدّ أن نتعرّف على خواصّ شؤونهم، ونعرّف بها، ونفتخر بهم؛ إذ هم منار الهدى، وأعلام الحقّ والتُّقى.
وعندنا أنّ هؤلاء هم: الأنبياء والمرسلون، والأوصياء والأئمّة الهادون عليهم أفضل الصلاة والسّلام. ومنهم: الإمام موسى بن جعفر الكاظم سلام الله عليه.
تاريخ المولد وموقعه
وُلد الإمام موسى الكاظم عليه السّلام بـ « الأبواء ».. قيل: هي منزل بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة. وعُرفت الأبواء بأنّها قرية من أعمال القُرع من المدينة، بينها وبين الجُحفة ممّا يلي المدينةَ ثلاثة وثلاثون ميلاً. وفيها دُفنت آمنة بنت وهب أمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله (1).
وكان مولده الأغر صلوات الله عليه يوم الأحد أو يوم الثلاثاء، في السابع من شهر صفر الخير، سنة 128 من الهجرة المباركة(2).
الواقعة
ينقلها لنا التاريخ من طرق عديدة.. منها:
• قال المنهال القصّاب: خرجتُ من مكّة أُريد المدينة، فمررتُ بالأبواء وقد وُلد لأبي عبدالله الصادق موسى عليه السّلام، فسبقتُه إلى المدينة ودخل بعدي بيوم فأطعمَ الناسَ ثلاثاً، فكنت آكلُ فيمن يأكل، فما آكلُ شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل(3).
وهذه الرواية يطويها الإيجاز، فلا تبيّن لنا حال الإمام الصادق عليه السّلام وقد رُزق بولده الطيّب موسى عليه السّلام، وكيف غمرته الفرحة باستقباله، وبدا عليه السرور والبهجة صلوات الله عليه.
يبسط لنا ذلك أبو بصير في روايته هذه، حيث يقول:
• كنت مع أبي عبدالله عليه السّلام في السنة التي وُلِد فيها ابنه موسى عليه السّلام، فلمّا نزلنا بالأبواء وضع لنا أبو عبدالله عليه السّلام الغَداءَ ولأصحابه وأكثَرَه وأطابه.. فبينا نحن نتغدّى إذ أتاه رسول حميدة [ وحميدة زوجته رضوان الله عليها ] أنّ الطلق قد ضربني، وقد أمرتَني ألاّ أسبقك بابنك هذا.
فقام أبو عبدالله فرِحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعَيه ضاحكاً سِنُّه، فقلنا [ والحديث ما زال لأبي بصير ]: أضحَكَ اللهُ سنَّك، وأقرّ عينك، ما صنعَتْ حميدة ؟ فقال: وهب الله لي غلاماً، وهو خيرُ مَن برأ الله، ولقد خبَّرَتني عنه بأمرٍ كنت أعلم به منها. قلت: جُعلتُ فداك، وما خبّرتْك عنه حميدة ؟ قال: ذكرَتْ أنّه لمّا وقع من بطنها وقع واضعاً يدَيْه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتُها أنّ تلك أمارة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمارة الإمام من بعده.
ثمّ سُئل عليه السّلام عن علامة الإمام فأجاب مفصِّلاً خِلْقةَ كلّ إمام حتّى بلغ إلى ولده موسى سلام الله عليه فخاطب الحاضرين عنده بالقول: فدونَكم، فهو واللهِ صاحبُكم من بعدي(4).
انتباهة
كانت السعادة تملأ الكون، حيث وُلد حفيد رسول الله صلّى الله عليه وآله.. نبعةً طيّبةً من أطهر سلالة وأشرفها، وثمرة مقدّسة من شجرة المصطفى صلّى الله عليه وآله. وكانت المسؤوليّة تعمّ الناس، إذ وُلد إمامٌ واجبٌ طاعته والإقرار بوصايته وبخلافته لجدّه النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، فيُعتَقَد به ويُؤخذ بأمره وبما جاء به من أسباب السعادة والخير والصلاح.
مَلامح.. مِنْ شخصيّةِ الإمام الكاظم عليه السّلام
شاء الله تعالى أن يُعرف، فخلَقَ الخَلْق.. وأراد جلّ وعلا أن يُستخلَف، فخلَقَ آدمَ والأنبياء عليهم السّلام.. وأراد أن يتجلّى نوراً أسمى ووجهاً أجلى، فخلَقَ محمّداً وآل محمّد صلّى الله عليه وعليهم.
ومن مظاهر رحمة الله تعالى أن بعث الأنبياء والرُّسلَ هداةً للبشرية إلى سبيل طاعته ومرضاته، ثمّ شفعهم بالأوصياء والأئمّة؛ إكمالاً للمسيرة النبويّة، وترجمةً واقعيّة للنصوص والسنن الشريفة.
وكان أئمّة أهل بيت الوحي والرسالة عليهم السّلام مثالاً كاملاً لمعرفة القرآن الكريم وتطبيقه، ولفهم سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسُننه المباركة والعمل بها.. فاتّسموا بسماته وشابهت خصالُهم خصالَه، فأحيَوا دِينه الحنيف، وترجموا كتاب الوحي، إلى واقعٍ حيّ، وتخلّقوا بأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبثّوا معارفه.
ومن أُولئك الأئمّة الهداة.. الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام.. هذه بعض خصائصه.
صفته
وصَفَ رواة الأثر ملامحَ صورة الإمام الكاظم عليه السّلام فقالوا: كان أسمرَ شديد السُّمرة (5)، وقيل: كان أزهر اللون، ربع القامة، كث اللحية(6). ووصفه شقيق البلخي فقال: كان حسَنَ الوجه، شديد السمرة، نحيف الجسم.
هيبته ووقاره
حاكى الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في هيبته هيبة الأنبياء، وبدت في ملامح شكله سيماء الأئمّة الطاهرين من آبائه، فما رآه أحد إلاّ هابه وأكبَرَه. وقد صوّر مدى هيبته ووقاره أبو نؤاس الشاعر حينما التقى به في الطريق، فاندفع يقول:
إذا أبصرَتْك العينُ مـــِن غير رِيبةٍ ....... وعارَضَ فيك الشكُّ أثبتَكَ القلبُ
ولو أنّ ركباً أمّموك لقادَهم ......... نسيمُك حتّى يُستَدّلَ بك الرَّكبُ
جعلتُك حَسْبي في أموريَ كلِّها ......... وما خاب مَن أضحى وأنت له حَسْبُ(7)
لقد كانت هذه الابيات دَفعةً من دفعات الروح، ويقظة من يقظات الضمير الحيّ، فقد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان مَن يمدح فيه أهل البيت عليه السّلام ينال العقوبة والسخط، لكنّ أبا نؤاس دفعته إلى ذلك واقعيّة الإمام ومثاليّته التي لا ندّ لها في عصره ولا نظير.
وبَهرت أنوارُ الإمام الكاظم عليه السّلام شاعرَ المعرة أبا العلاء، فانطلق في قصيدته التي رثى بها أبا أحمد حفيد الإمام، يقول:
ويُخالُ موسى جَدُّكم لِجَلالهِ في النَّفْس صاحبَ سُورة الأعرافِ(8)
ولم يكن أبو العلاء يظن بأحد خيراً أو يمدح انساناً إلاّ أن يختبره ويقف على واقع أمره، وقد انتهت إليه أنباء الإمام موسى الكاظم عليه السّلام فعرف أنه لا ثاني لها؛ فلذا انطلق مع المادحين والواصفين.
نقش خاتمه
أما نقش خاتَمه فيدلّ على مدى تعلقه بالله تعالى، وانقطاعه إليه، فقد كانت صورته: « المُلْكُ للهِ وحدَه »(9).
كُناه
أبو الحسن الأوّل، وأبو الحسن الماضي، وأبو إبراهيم، وأبو علي، وأبو إسماعيل.
ألقابه
أما ألقابه فتدلّ على مظاهر شخصيته ونواحي عظمته، وهي كما يلي: الصابر؛ لأنّه صبر على الآلام والخطوب التي عاناها من حكام الجور. الزاهر؛ لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء الذي مثّل به خُلُق جدِّه الرسول صلّى الله عليه وآله.
العبد الصالح؛ لُقِّب بذلك لعبادته، واجتهاده في الطاعة، حتّى صار مضرب المثل في عبادته على مرّ العصور والأجيال، وقد عُرف بهذا اللقب عند رواة الحديث، فكان الراوي عنه يقول: حدثني العبد الصالح.
السيد؛ لأنّه من سادات المسلمين، وإمام من أئمّتهم، وقد ذكره بهذا اللقب الشاعر الشهير أبو الفتح بقوله:
أنا للسيّد الشريف غلامٌ ........ حيثما كنتُ، فلْيُبلَّغْ سلامي
وإذا كنتُ للشريف غلاماً........ فأنا الحرّ والزمانُ غلامي(10)
الوفي؛ لأنّه أوفى إنسان خُلق في عصره، فقد كان وفياً باراً بإخوانه وشيعته، وباراً حتّى باعدائه والحاقدين عليه.
الأمين؛ وكلّ ما لِلفظ الأمانة من معنى قد مُثِّل في شخصيته العظيمة، فقد كان أميناً على شؤون الدين وأحكامه، وأميناً على أمور المسلمين، وقد حاز هذا اللقب كما حازه جدّه الرسول الاعظم من قبل، ونال به ثقة الناس جميعاً.
الكاظم، وقد لُقِّب عليه السّلام بذلك واشتهر لِما كظمه من الغيظ عمّا فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق، حتّى قضى شهيداً مسموماً في ظلمات السجون لم يُبدِ لاحدٍ آلامه وأشجانه، بل قابل ذلك بالشكر لله والثناء عليه. يقول ابن الأثير: « إنه عُرف بهذا اللقب لصبره؛ ودماثة خلُقه، ومقابلتهِ الشرَّ بالإحسان »(11).
ذو النفس الزكية؛ وذلك لصفاء ذاته، التي لم تتلوث بمآثم الحياة.. حتّى سَمَت وانبتلت عن النظير.
باب الحوائج، وهذا مِن أكثر ألقابه ذِكراً، وأشهرها ذيوعاً وانتشاراً، فقد اشتهر بين العام والخاص أنه ما قصده مكروبٌ أو حزين إلاّ فرّج الله آلامه وأحزانه، وما استجار أحد بضريحه المقدّس إلاّ قُضيت حوائجه، ورجع إلى أهله مثلوج القلب مستريح الفكر مما ألمّ به من طوارق الزمن وفجائع الأيام. وقد آمن بذلك جمهور شيعته، بل عموم المسلمين على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم، فهذا شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي أبو علي الخلاّل يقول:
« ما همنّي أمرٌ فقصدت قبرَ موسى بن جعفر إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أُحبّ(12). وقال الشافعيّ: « قبر موسى الكاظم الترياقُ المُجرَّب »(13).
وقد أثقلت كوارث الدهر ومصائب الأيام كوكبة من الشعراء والأدباء، ففزعوا إلى باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، ولاذوا بضريحه متوسّلين به إلى الله في رفع محنهم وكشف ما ألمّ بهم من البلاء والمكروه، ففرّج الله عنهم ذلك. وقد قرأنا لهم الشيءَ الكثير من بليغ النظم، ولو أردنا أن نذكر ما أُثِر عنهم في ذلك لبلغ مجلَّداً ضخما، ولكنّا نذكر بعضهم، فمنهم الحاج محمّد جَواد البغدادي الذي سعى إلى مثوى الإمام الكاظم عليه السّلام في حاجة يطلب قضاءها وهو يقول:
يا سميَّ الكليم جِئتُكَ أسعى ........ نحوَ مَغناك قاصداً من بلادي
ليس تُقضى لنا الحوائجُ إلاّ .......... عندَ بابِ الرجاءِ جَدِّ الجوادِ
وقد شطّرهما العالم الفاضل السيّد محمّد مهدي آل بحر العلوم نورّ الله مثواه بقوله:
يا سميَّ الكليمِ جئتُك أسعى........ والهوى مَركبي وحبُّك زادي
مسّني الضُّرُّ وانتحى بيَ فقري....... نحوَ مَغناك قاصداً من بلادي
ليس تُقضى لنا الحوائجُ إلاّ ....... عندَ بابِ الحوائج المُعتادِ
عند بحر الندى ابنِ جعفرَ موسى....... عند باب الرجاءِ جَدِّ الجواد(14)
وخمّسها الخطيب عباس البغداديّ بقوله:
لم تزلْ للأنام تُحسِن صُنْعا ....... وتُجير الذي أتاك وتَرعى
وإذا ضاقتِ الفضا بيَ ذَرعا ........ يا سَميَّ الكليم جئتُك أسعى
والهوى مَركبي وحبُّك زادي ....... أنت غيثٌ للمُجْدبين ولولا
فيضُ جَدواكمُ الوجودُ اضمَحلاّ ....... قَسَماً بالذي تعالى وجَلاّ
ليس تُقضى الحوائجُ إلاّ ......... عندَ بابِ الرجاءِ جدِّ الجوادِ
وممن نظم في ذلك شاعر النبوغ المرحوم السيد عبدالباقي العُمَري بقوله:
لذْ واستجرْ مُتوسِّلاً ....... إن ضاق أمرُك أو تعسّرْ
بأبي الرضا جَدِّ الجوادِ .........محمدٍ موسى بنِ جعفرْ(15)
لقد كان الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في حياته مفزعاً وملجأ لعموم المسلمين، وكذلك كان بعد وفاته حِصناً منيعاً لمن استجار به؛ لأن الله عز اسمه قد منحه قضاء حوائج المستجيرين بضريحه.
لقد اعتقد أغلب المسلمين أن الله يكشف البلاء، ويدفع الضر بالالتجاء إلى ضريح الإمام الكاظم عليه السّلام.. روى الخطيب البغدادي قصّة كان فيها شاهدَ عيان، فقد رأى امرأةً مذهولةً فقدت رُشْدَها، حيّرتْها الهواجس والهموم؛ لأنها أُخبرت أنّ ولدَها قد ألقت عليه السلطة المحلية القبض وأودعته في السجن، فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام الكاظم عليه السّلام مستجيرةً به، فرآها مَن لا يؤمن بالإمام فقال لها:
ـ إلى أين ؟
ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبس ابني.
فقال لها بسخرية واستهزاء:
ـ إنه قد مات في الحبس!
ـ اللهمّ بحقّ المقتول في الحبس، أن تريَتني القُدرة.
فاستجاب الله دعاءها، فأُطلق سراح ولدها، وأودع ابنُ المستهزئ في ظلمات السجون بجرم ذلك الشخص(16). وهكذا أراد الله أن يريها القدرة، ويُريَ ذلك الشخص كرامة الإمام عنده.
نعم.. لقد آمن المسلمون بذلك منذ فجر تاريخهم، واعتقدوا اعتقاداً لا يخامره أدنى شك في أن أهل البيت عليهم السّلام لهم المقام الكريم والجاه العظيم عند الله، وأنّه يُستدفع بهم البلاء، وتُستمطَر السماء ـ كما قال جابر بن عبدالله الأنصاريّ في حديثه مع الإمام علي بن الحسين عليه السّلام، أو كما قال الفرزدق في قصيدته العصماء التي مدح بها الإمام زين العابدين:
مِن مَعشرٍ حبُّهم دِينٌ وبغضُهمُ كفرٌ..... وقربُهمُ مَنجى ومُعتصَمُ
يُستدفَعُ السوءُ والبلوى بحبِّهمُ ...... ويُستراب بهِ الإحسانُ والنِّعَمُ