الناصر
08-31-2005, 05:29 PM
كيف اختلف شكل الدولة الإيرانية عن تصور منظريها؟ من شريعتي إلى أغاجاري
جاء حكم الإعدام الذي صدر في حق هاشم أغاجاري. المفكر البارز وعضو منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية اليسارية، ليطرح عددا من القضايا الهامة الشاغلة للعقل الإيراني والعقل المسلم منذ أن دان الحكم للثوار في عام 1979 وحتى الآن.
لم يكن لينهي النقاش في تلك القضايا الهامة تدخل مرشد الثورة ولا حتى تطورات القضية التي انتهت بإلغاء المحكمة الإيرانية العليا حكم الإعدام ثم الإفراج عن أغاجاري بعد أن وجهت له تهم " الإساءة إلى التعاليم الدينية المقدسة والإسلام " و " التشهير بالنظام الإسلامي " ونشر معلومات خاطئة لإثارة الرأي العام "، وكذا تهمة " الردة " التي أسقطها مدعي طهران عنه لاحقا . وذلك إثر هجوم أغاجاري على رجال الدين في خطبته في الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد الدكتور على شريعتي، عقل الثورة الإيرانية، وملهم الثوار سنوات الثورة ، والشخصية الأبرز في مواجهة الشاه والسافاك من مثقفي إيران من خارج الحوزة الدينية.
خطبه أغاجاري كانت تصريحا بمخاوف قطاع كبير من مثقفي إيران على مستقبل الحريات فيها، لاسيما بعد حدوث تدخلات متكررة من المؤسسة الدينية في الشأن العام ضد تيار الإصلاح الذي يلقي تأييداً شعبياً واسعاً في السنوات الأخيرة، وتنضوي تحته قوى ومؤسسات متعددة في المجتمع منها منظمة " مجاهدي الثورة الإسلامية " التي ينتمي لها أغاجاري . كان أقصى تعبير عن تلك التدخلات اعتقال أغاجاري . كان أقصى تعبير عن تلك التدخلات اعتقال أغاجاري نفسه وهو الأستاذ الجامعي وابن الثورة وصاحب الخلفية النضالية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية.
استغل أغاجاري ذكرى شريعتي ليعرب عن خوفه على حركة الإصلاح مذكراً الجمهور بطروحات صاحب الذكرى ، فقد قام الدكتور على شريعتي بالتعرض لدور المثقف ، في سنوات الكفاح ضد الشاه عبر محاضراته في حسينية إرشاد التي كان يلتقي فيها بالشباب المعجب بفكره ، وكذا من خلال كتبه التي حملت عناوين معبرة عن توجهه الإصلاحي النقدي ككتاب " بناء الذات الثورية " وكتابه " دين ضد الدين " وغيرهما قدم فيهم علماء الدين بوصفهم بشر لم يهبطوا من السماء.
شريعتي يصف رجال الدين بأنهم " معاصرون وطالما لم يتغيّر هؤلاء القادة ـ يقصد الدينيين ـ فسيظلّ الشعب الذي يتبع تفسيرهم للدين على قناعته بأن الإسلام الشيعي لا يمكن أن يصبح ديناً حديثاً ، وسيظلّ الإسلام الشيعي مطيّة للمضللين . وبدل أن يكون قوة دافعة لصالح التقدّم والتطوّر ، فسيغدو سبباً للتأخر المستديم".
وردت ذات الفكرة عن رجل الدين في معرض تعامل شريعتي مع التاريخ الإسلامي حيث فرق بين التشيع العلوي ـ نسبة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ والتشيع الصفوي كما خبرته إيران في الفترة الصفوية والتي تحول خلالها رجل الدين لرجل سلطة يطوع الدين لصالح السلطة الشاهنشاهية ، مرجعا سوء الوضع في إيران الخمسينيات والستينيات إلى أن المجتمع قد ورث روح التشيع الصفوي ، مما أدى لتكلس رجل الدين على ذاته فلم يطور نفسه ولا المؤسسة الدينية رافضاً كل نقد.
بتعبير آخر دأب شريعتي في كتبه ومقالاته التأكيد على أن العلاقة بين العلماء ( رجال الدين ) والشعب ينبغي أن تكون على غرار علاقة الأستاذ والتلميذ ، وليس على غرار علاقة القائد والتابع ، أو علاقة الأيقونة والمقلّد، وهو بالضبط ما قاله أغاجاري في الخطبة التي أدين بسببها فقد قال أغاجاري فيها : " الناس ليس قروداً ليكتفوا بالتقليد ، والتلاميذ يفهمون ويتفاعلون ، ويسعون لتوسيع فهمهم ، بحيث يتم لهم الاستغناء عن الأستاذ في يوم من الأيام ، أما العلاقة التي يرغب المتديّنون الأصوليون فيها فهى علاقة السيّد والتابع. فالسيّد يظلّ أبداً سيّداً ، والتابع يظلّ أبداً تابعاً . وهذا ما يشبه الأغلال التي تكبّل العنق ، أي العبودية الأبدية".
كانت خطبة أغاجاري أشبه بمن يذكَّر بما اتفق عليه الآباء المؤسسون وهم يبشرون بنظام حكم إسلامي من أهمية أن يكون الإسلام مرتبطاً بالحياة، وكيف أن هذا المبدأ ينتهك اليوم ،معلناً أنه في ذكرى شريعتي إنما يستحضر معه الروح التي سرت في كتاباته وكتابات غيره ممن عبَّدوا طريق الثورة وأكدوا أنه لا يمكن أن يكون غير مبال بتطوّر المجتمع وبحق الأفراد في المشاركة في العملية السياسية وفي أن تحترم قناعتهم حتى لو بدت ساذجة بالنسبة لرجل الدين لأنها في النهاية قناعات الأفراد ورغباتهم.
فتح أغاجاري في خطبته الصراع بين المحافظين والإصلاحيين في إيران الذي بدأ بعد ما حدث مع أغاجاري لا ينحصر في حدود القضاء ولا السياسة ، وإنما يمتد إلى ساحة الفكر والثقافة ، فقد كان أول تعليق لرئيس السلطة القضائية السيد محمود هاشمي شارهودي على خطاب الدكتور هاشم أغاجاري هو:" إن المعارضة للمرجعية الدينية ونظرية ولاية الفقيه تبدأ من الساحة الثقافية والفكرية ، وإن الذين يحاولون فصل الدين عن السياسة أو الحكومة عن رجال الدين يشكلون امتداداً لحركة النفاق في بداية الثورة" . بحيث يمكن تفسير الرد العنيف ـ ممثلاً في حكم الإعدام ـ من المؤسسة الدينية على أغاجاري أنه تنفيس عن شعور المحافظين بخطورة الثقافة حينما تكون ناقدة على النظام السياسي الذي يستند إلى مقولات ثقافية هو الآخر ، فأغاجاري لم يرفع السلاح ولم يعلن العصيان المدني ، وإنما ألقى محاضرة وصف فيها رجال الدين برجال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ، وقال أن فسادهم يستدعي القيام بثورة بروتستانيية إصلاحية .
سبق مرتضى مطهري أحد أبرزعقول الثورة الإيرانية أغاجاري إلى وضع المقارنة بين النظامين الإسلامي والكنسي للدولة فمطهري يرى أنه :"في تاريخ الفلسفة السياسية عندما طرحت المفاهيم الاجتماعية ـ السياسية في الغرب ، ودار النقاش حول مسألة الحقوق الطبيعية، وخصوصاً حق الحاكمية الشعبية، وانحازت جماعة إلى الاستبداد السياسي ونفوا أيّ حق للناس مقابل الحكام ، ولم يعترفوا لهم بأي شيء إلا أداء الواجبات ، تشبّث هؤلاء في تبريرهم لنظرياتهم الاستبدادية السياسية بمسألة الله ، وادعوا أنّ الحكام مسئولون أمام الله فقط ،في حين أن الناس مسئولون أمام الحكام وعليهم أداء الطاعة، ولا حق للناس أن يسائلوا الحكام كيف ولماذا فعلتم كذا ؟ أو أن يأمروهم بفعل معين باعتبار أن لله وحده حق مساءلة الحاكم ومحاكمته، ولا حق للناس على الحاكم ، هكذا نشأت أجواء مفتعلة أدت إلى أفكار متطرفة ، سواء من ناحية التلازم بين الإيمان بالله والإيمان بوجوب الخضوع للحاكم ، وإلغاء أي حق في المداخلة في شئون من عينّة الله لرعاية الناس وحفظهم من ناحية أنّ الحاكم مسئول فقط من قبله ، وهكذا ولد التلازم الحتمي بين الإيمان بالحاكمية الشعبية من جهة ، والكفر بالله من جهة أخرى ، ولكن في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية لا يؤدي الإيمان بالله إلى قبول الحكومة المطلقة للأفراد ، فالحاكم مسئول أمام الناس ، والإيمان بالله يضع الحاكم في موقع المسئولية أمام الناس، إذ يجب عليه أن يؤدي حقوقهم".
كتبت هذه الفقرة في فترة التنظير للثورة الإسلامية ، إلا أنها تبدو كرسالة ضمنية للثوار حال وصولهم للحكم ، يعرب فيها مطهري عن قلقه المستقبلي من أن يتحول النظام الإسلامي حال نشأته إلى شبيه للكنسي الأوروبي يستقوى.. بالدين على شعبه على حد تعبير ابن خلدون ، بما يعني أن آيه الله مطهري المفكر والمناضل الذي تدين الدولة الإسلامية ومن خلفها الثورة لأفكاره الاجتهادية بشرعية وجودها، لو امتد به العمر لقال ما قاله أغاجاري أو أشد، لاسيما بعد تصاعد النقد للمؤسسة الدينية في السنوات الأخيرة ، فهل كان الأمر سيؤول بمطهري لمواجهة حكم بالإعدام؟.
دلالات القضية:
للقضية دلالات تخرج بها من حيز السياسة " كفن السلطة " إلى السياسة " كقلب التفاعل الإنساني وكإحدى العلوم الاجتماعية " ، ولهذا فهى تفتح موضوع المقارنة بين الدولة الدينية الإسلامية عموماً ، والدولة الإسلامية كما تحققت في إيران ، أي السلطة الدينية والزمنية حين اندمجتا في سلطة واحدة بعد عام 1979 .
الدولة في الوعي الإسلامي العام هي كيان جغرافي مفتوح ، حدوده تتعين وفق معيار ديني وليس سياسي ، ويكون الانتماء للدولة نابعاً من الإيمان بقيم الإسلام وشريعته ،وتكون بالتالي الدولة الإسلامية قائمة بالمؤمنين بالله وبها وليس بإطارها الجيوبوليتيكي ، وبالتالي هذا التفسير يعني أن الدولة الوطنية ـ كما يرى شريعتي مثلاً ـ هي أيديولوجية وليست مفهوماً إقليمياً.
وداخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحالية يبدو أن هناك تأويلات متعددة لشكل تلك " الأيديولوجية" المكونة للدولة وأن ثمة إجماعاً بين أطراف فكرية مختلفة على إسلامية الدولة مع احتفاظ كل طرف بتأويل " إسلامية " ومن ثم تحقيقه ، من هذا المدخل حدث نقد فلسفي للنظام الإسلامي في إيران كان أغاجاري نفسه طرفاً أصيلاً فيه.
وكذا عبد الكريم سروش المفكر الإيراني الذي يرى دعامتين للدولة الإسلامية ، كما يجب أن تكون لا كما تحققت في إيران ، الدعامة الأولى : هي أنه لكي يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً، يجب أن يكون حراً ، أما من يؤمن تحت ضغط أو إكراه ،فلن يكون إيمانه حقيقياً وهذه الحرية هي أساس الديمقراطية ،والدعامة الثانية للديمقراطية الإسلامية : هي أن تفسير النصوص الدينية هو دائماً متجدد ، حيث أن التفسيرات تتأثر دائماً بالعصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فأنت لا تستطيع أبداً أن تعطي تفسيراً ثابتاً ، ولكن من حق كل شخص أن يفسر الدين انطلاقاً من مساواة الجميع أمام الله ،وبالتالي فإن ممارسات الحكومة الإيرانية التي تمارس رقابة صارمة على المجتمع والتي بدت مشكلاتها بوضوح مع تصاعد الإصلاحيين تكون كمن يفرض الإيمان على طريقتها على الناس فرضاً ، وهي في ذلك لا تنتهك الدعامة الأولى التي يقر فيها سروش بالحرية كشرط للإيمان فقط ، بل أيضاً تنتهك الدعامة الثانية لأنها تحتكر تفسير الدين لنفسها معتقدة في صحة تأويلها رافضة لتفسيرات جديدة من خارج المؤسسة التي تواتر الناس في إيران على أن تتحدث باسم الله، فالثورة الإسلامية الإيرانية في وجه من وجوهها ثورة المرجعية الدينية ضد نظام الشاه ، حيث كان الإمام الخميني واحدا من أهم مراجع الدين الفقهاء لدى الشيعة ، وكان إلى جانبه مجموعة كبيرة منهم كشريعتمداري ومرعشي النجفي وكلبايكاني والسيد عبد الله شيرازي الذين كانوا يؤيدون الإمام في حركته المعارضة ويصدرون البيانات المحرضة للجماهير بما لهم من قوة المرجعية الدينية التي تحتل موقعاً مقدسا في العقل الشيعي ، وكان من الطبيعي والتلقائي أن يصطبغ النظام الإسلامي بنظرية المرجعية وولاية الفقيه ،وأن يمثل المرجع الأعلى السلطة العليا في النظام ويهيمن حتى على رئيس الجمهورية كنائب للإمام الغائب فذلك كان مصدر شرعية الثورة ورموزها ، فكان أن احتكرت تلك المؤسسة الدينية العمل الديني وسيطرت على العمل السياسي وتعاملت بحساسية مفرطة مع النقد الذي يوجه لها كحالة أغاجاري.
من ناحية أخرى ، تطرح قضية أغاجاري نقاشاً أوسع حول العلمنة كمقابل للدولة الدينية / الإسلامية تحديداً وهو منحى المثقفين العرب في التعرض لتطور الأحداث في إيران وكذا عدد من المثقفين الإيرانيين في المهجر ، بحيث يمكن تفسير موقف المحافظين من أغاجاري في جانب منه كرفض للمقارنة بين الدولة الإسلامية وبين الثيوقراطية أو العلمانية ، فالدولة الإسلامية " دولة دينية " ولكنها تختلف عن دينية "المسيحية والكنيسة"، فكونها دينية لا يعني بالضرورة أنها صورة طبق الأصل من الإمبراطورية الرومانية مثلاً ، كما أن نفي التشابه مع الدولة الدينية المسيحية ( الثيوقراطية ) لا يعني حتماً أن الدولة الإسلامية التاريخية مدنية بالمعنى المعاصر أوعلى الأقل غير دينية ، إذا تجنبنا مصطلح مدنية الذي قد يفسر بالعلمانية ، فهي في النهاية دولة دينية بطريقتها الخاصة ، وهي بالفعل متميزة في " دينيتها " التي قد تنشأ في ظروف معقدة مختلفة عن مثيلتها الأوروبية ، من جانب آخر ظهر تفسير آخر لموقف المؤسسة الدينية من أغاجاري كان أكثر رواجاً ـ وربما لا يخلو من الصحة إذ تدلل عليه الأحداث ـ يتمثل في سيطرة مجلس صيانة الدستور وتشخيص مصلحة النظام ومن ورائهم الحوزة الدينية على العملية السياسية كما أشير، وكما حدث في استبعاد العديد ممن لهم وجهات إصلاحية منفتحة ومعهم تيار من التكنوقراط في الانتخابات الأخيرة ، فتكون خطبة أغاجاري تجسيداً لتيار كبير يرفض هذه الهيمنة، وفي المقابل، يكون موقف آيات الله من أغاجاري مقاومة ضمنية لمحاولة إضاعة النفوذ السياسي لهم لصالح الجبهة الأخرى ومن معها من مدنيين ، كما يحمل موقفهم منه مخاوف من انفلات الأمر إذا ما ترك هذا التيار لينمو ومن أن تفقد الدولة هويتها : " الدينية " على المدى الطويل ، حتى أن بعضهم عبر عن ذلك بتشبيه خاتمي ومن معه بالرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف.
ذكر أغاجاري في الخطبة التي اعتقل على إثرها أن الحوزة تسير على خطى الكنيسة في العصور الوسطى من حيث اختراعها تراتبية وهيراركية داخلها لمأسسة نفوذها السياسي لكل منها قداستها التي تجعلها فوق النقد، فقد قال :
في الإسلام ، لم تكن هناك طبقة من العلماء ، وقد نشأت بعض الألقاب الدينية منذ مدة لا تزيد على 80 أو 60 سنة . أين نجد طبقة من العلماء في عهد السلالة الصفوية ؟ إن الألقاب الحالية للعلماء تماثل قمة الكنيسة : أساقفة ، وكاردينالات ،وكهنة . إن هذا النوع من المراتب في الإسلام الشيعي المعاصر يمثل محاكاة للكنيسة .ويرأس هذه السلطة الدينية في عصرنا ما يسمّى آية الله العظمى ،وتحته مباشرة يوجد آية الإسلام وحجّة الإسلام ، وثقات الإسلام ، وما إلى ذلك ، لقد تحوّلت المؤسسات الدينية ،في غضون السنوات القليلة الأخيرة إلى نوع من المؤسسة الحكومية ، وباتت القضية أكثر حساسيًة . هل يفهم أحد في مجتمعنا الفارق بين حجة الإسلام وآية الله ؟ لقد قال شريعتي أنه لا توجد طبقة زعماء دينيين في الإسلام. إن هذا ليس جوهر الإسلام . إنه حصيلة تطوّر الإسلام التاريخي ، ولحسن الحظ فلم نشهد في إيران نشوء جهاز مركزي وحيد يقوم على مراتب الألقاب الدينية ،ولسنوات عديدة ، كان هناك عدد من المراجع التقليدية المتوازية ،وكان لكل مرجع تقليد " آية الله العظمى " هيكليته الخاصة .وترغب طبقة العلماء الحاكمين في إيران اليوم في توحيد كل هيئات " أيات الله العظمى " في حكم واحد ، ولكن شريعتي قال أننا ، في إيران ، لم يكن لدينا يوماً طبقة علماء حقيقية، وهذا بالضبط ما يريدون أن يفعلوه في بلادنا ، وأنا أشك في نجاحهم بسبب استقلالنا ،وبسبب عناصر الإسلام الشيعي نفسه ،إن التقسيمات والمراتب السلطوية التي يريدون إقامتها هي تقسيمات ومراتب كاثوليكية ( وليست إسلامية ) إن عدداً من رجال الدين باتوا منغمسين فيما يقومون به إلى درجة أنهم بدأو يحسبون أنفهسم أيقونات".
ما سبق يمثل إشارة مضرة من أغاجاري إلى الخطر الذي يواجه النظام الإسلامي إذا ما استمر الوضع كما هو وأن على الجميع إدراك أن وضع الكنيسة بالشكل الذي كان في العصور الوسطى أدى للخروج عليها والكفر بها وبدورها وتحجيم فعالياتها وعلى آيات الله في إيران استيعاب الدرس.
ثمة دلالة ثالثة يحملها الجدل حول القضية الذي اتسع ليشمل مدى ديمقراطية ولاية الفقيه ، وهل يمكن القول إن مجلس دراسة وإعداد الدستور الذي تشكل في سنة 1979 في إيران قد قام بطرح نظريتي ولاية الفقهاء التعيينية وولاية الفقية الانتخابية بصورة متصادمة؟
فحسب الإمام الخميني :
" ولو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين ( العلم بالقانون والعدالة ) بتأسيس الحكومة ، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم ( ص ) ويجب على جميع الناس إطاعته " .
جاء النظام ليطبق ذلك بعد نجاح الثورة بما يفارق الخبرة الإسلامية على مدى قرون التاريخ الإسلامي ، التي كان فيها الحاكم السياسي خلال هذا التاريخ المؤهل لترجمة القوانين الإسلامية وتطبيقها في المجتمع الإسلامي لابدّ أن يحظى بإقرار وتأييد الولي الفقيه دون أن يحلّ هذا الأخير مكانه.
شهدت إيران بعد وفاه الإمام الخميني جدلاً مماثلاً ، لكنه سرعان ما خفت بعد أن احتل الحديث عن خلافة الإمام الصدارة ،وبروز اسم منتظري في مواجهة السيد خامنئي ، وتعرض السيد خامنئي لنقد عدد من الفقهاء كالشيخ الآري القمي ، الأمر الذي دفع مجلس الخبراء الإيراني الذي يتألف من 82 فقيها ويرأسه الشيخ مشكيني والذي يمتلك صلاحية انتخاب أو تنحية المرشد، إلىأن يعقد جلسة طارئة ويصدر بعدها بيانا أكد فيه على صلاحية المرشد وقال إنه الأنسب لتولي المنصب.
فكانت قضية أغاجاري كاشفة لنقاش موجود وممتد حول نظرية ولاية الفقية ، وحول المقصود منها كما فهم تاريخاً وكما كتبها وطبقها الإمام الخميني ، وهل هي في الشكل الذي قدمه الخميني وانعكس في الدستور الإيراني المسئول عن ازدواج السلطات وتداخلها وتعارضها أحياناً في إيران حيث توجد سلطة مدنية ( رئيس جمهورية وبرلمان منتخبين ) وولى فقيه واسع السلطة والنفوذ ؟ أم أن المسألة روعى.. فيها عمليه توازن تحفظ الشكل الإسلامي للدولة كما تعلى.. من ديمقراطية القرار عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ، فيما يعرفه أهل السياسة بـ " الكوابح والتوازنات " ؟
ثم هل يستدعي ذلك اجتهادات معارضة أعلن عنها في أعوام الثورة الأولى لاسيما من فقهاء شيعة عرب لتملأ الفراغ الذي قد ينشأ إذا زاد الجدل وأحكمت الاتهامات الموجهة لنظرية ولاية الفقيه الخمنية ، كاجتهاد الفقيه اللبناني محمد جواد مغنية الذي يرى أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء ولهذا أقر بمبدأ الانتخاب في النظام السياسي مادام فيه مصلحة، وأنه لا بأس بالاستفادة من تجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً أو العكس ، وبالتالي يكون تحكم الفقهاء في الحالة الإيرانية مسألة خارجة ومزيدة على " الإسلامية " التي طمحت لها الحوزة أثناء السبعينات ، ومثل ما يراه محمد مهدي شمس الدين الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى بلبنان من أن ولاية الأمة نفسها ضرورة كمصدر للشرعية السياسية للنظام في غياب المعصوم ، وأن ولاية الفقيه منحصرة في القضاء والفتيا وما ماثلها ، وأن قيام الدولة منفصل عن الإمامة ومن يتسلم السلطة ليس مغتصباً لحق الإمام المهدي وبالتالي سلطاته ليست مطلقة .
عزى بعض المحللين اعتراض عدد من رجال الدين على نظرية ولاية الفقيه كما نظر لها الخميني وتقديمهم طرحاً بديلاً، لأسباب خاصة تعود لعلاقة الفقهاء بالخميني لأن الخميني لم يشرك بقية المراجع الكبار في السلطة ولم يشكل مجلسا خاصاً لهم ،وأنه واجه مرجعية السيد شريعتمداري الذي أسس حزب الشعب الجمهوري الإسلامي وأخذ ينافسه على السلطة فاتهمه بالتآمر وحل حزبه وحجزه في بيته إلى أن توفاه الله ، وهاجم كذلك السيد الخوئي لأنه استقبل زوجة الشاه في العراق أيام الثورة وأهدى لها خاتماً. أصداء قضية أغاجاري في الحوزة ترد على التحليل السابق ، فهي تثبت أن ثمة مشكلة اجتهادية حقيقية مرتبطة بولاية الفقيه، وثمة آراء هامة لرجل الدين الإيراني المعارض محسن كديور ، مثلا، في سياق الجدل حول الولاية ، حيث أقر أن التناقض في الحالة الإيرانية نابع من جعل الخميني رجل الدين ( أي الفقيه ) فوق سلطة المسائلة والقانون.
وقال في هذا السياق : " تتحدد الولاية القائمة على أساس الشرعية الإلهية المباشرة من الشارع المقدس، وليس من الناس (المولى عليهم). وهنا يبرز سؤال في منتهى الأهمية : طالما أن الدستور يستمد شرعيته من إمضاء الولي الفقيه فكيف له أن يقيد ولاية الفقيه المطلقة؟" وفيما يتعلق برؤيته لمعنى الجمهورية الإسلامية يقول كديور :
" تحدد كلمة الجمهورية شكل الحكومة المقترحة ، وتحدد كلمة الإسلامية مضمونها ... تعني الجمهورية الإسلامية الحكومة التي يُنتخب رئيسها من قبل الجماهير لفترة مؤقتة، وتقوم على أساس الإسلام . وولاية الفقيه لا تعني أن يكون الفقيه على رأس الحكومة وأن يحكم عملياً ، بل إن دور الفقيه في الدولة الإسلامية ، أي الدولة التي يقبل شعبها بالإسلام كأيديولوجية ، ويلتزم به ،أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم".
هناك آراء أخرى من داخل الحوزة العلمية تراجع نظرية الولاية وهي آراء مدعومة بإصلاحيين ومن خلفهم قاعدتهم الجماهيرية الكبيرة بما يعني أن الأيام القادمة قد تحمل تطويراً في النظرية.
لقد جاء أغاجاري ليوجه نقده اللاذع للمؤسسة الدينية في ذكرى ثائر بقامة على شريعتي الذي تقول أقلام عربية أن الثورة قدمته بكثير من التوجس لأجيال الثمانينيات والتسعينيات خشية على نفسها من نقده ،الذي يقفز على جبهة الأيام دون أن تشيخ مقولاته حول أهمية تطوير رجل الدين أو يجاوزها الواقع . ولم يكن ما قاله أغاجاري الغيور على ميراث شريعتي إلا غيض من فيض أستاذ الفلسفة الثورية.
فبعد ربع قرن من استشهاد على شريعتي وبعد أن تلاحقت التطورات ، رفعت كلماته على أكتاف المتظاهرين في عام 1979،وثأر المجتمع لاستشهاده من الشاه الذي اختفى من إيران وللأبد ،وقام تلامذته بتأسيس نظام تلمسوه في كتبه ومحاضراته ، وازدادت أطروحات شريعتي بدلالات جديدة ربما لم يدركها هو نفسه وقت أن نادى بالدولة الإسلامية ، فكانت ذكراه وخطبه.. أغاجاري مناسبة لطرح الكثير من القضايا العالقة في المجتمع والذهن الإيرانيين منذ الثورة.
طرح تلك القضايا لا يعني بالضرورة ـ أوعلى الأقل يجب ألا يعني ـ أن تلك مشلكة تهدد النظام الإسلامي في إيران ، بل قد يقرأه فقهاء الاجتماع السياسي كمظهر عافية، فالنظام يمارس النقد الذاتي عبر مؤسساته ومثقفيه ، ويكون التحدي أمام النظام أن يستوعب الجدل الثائر ضده إلى داخله.
فإذا كنا في البدء قلنا أن ما فجرته قضية هاشم أغاجاري لم يكن ليسكته الحكم بالإفراج الذي حصل عليه الرجل، لكن في ذات الوقت لا يمكن أن يتم تجاهل الحكم تماماً، فقد جاء بعد طلب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله خامنئي من رئيس السلطة القضائية إعادة النظر في الحكم، وبالتالي الإفراج عنه.
ويطرح السؤال التالي نفسه : هل هذا إقرار ضمني بأن النظام سوف يسمح للمثقفين بأن يوجهوا نقدهم للنظام دون أن يقتص منهم؟
وهل وعد ـ بعد تدخل خامنئي ـ بأن آيات الله سوف يتروون فيما يوجهونه من تهم بعد أن اعتبر القضاء وصفهم بالبشر العاديين ليس سباً؟ وهل هذا التروي يعني وعداً آخر بالمراجعة النقدية الذاتية قبل اتهام الآخرين؟
جاء حكم الإعدام الذي صدر في حق هاشم أغاجاري. المفكر البارز وعضو منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية اليسارية، ليطرح عددا من القضايا الهامة الشاغلة للعقل الإيراني والعقل المسلم منذ أن دان الحكم للثوار في عام 1979 وحتى الآن.
لم يكن لينهي النقاش في تلك القضايا الهامة تدخل مرشد الثورة ولا حتى تطورات القضية التي انتهت بإلغاء المحكمة الإيرانية العليا حكم الإعدام ثم الإفراج عن أغاجاري بعد أن وجهت له تهم " الإساءة إلى التعاليم الدينية المقدسة والإسلام " و " التشهير بالنظام الإسلامي " ونشر معلومات خاطئة لإثارة الرأي العام "، وكذا تهمة " الردة " التي أسقطها مدعي طهران عنه لاحقا . وذلك إثر هجوم أغاجاري على رجال الدين في خطبته في الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد الدكتور على شريعتي، عقل الثورة الإيرانية، وملهم الثوار سنوات الثورة ، والشخصية الأبرز في مواجهة الشاه والسافاك من مثقفي إيران من خارج الحوزة الدينية.
خطبه أغاجاري كانت تصريحا بمخاوف قطاع كبير من مثقفي إيران على مستقبل الحريات فيها، لاسيما بعد حدوث تدخلات متكررة من المؤسسة الدينية في الشأن العام ضد تيار الإصلاح الذي يلقي تأييداً شعبياً واسعاً في السنوات الأخيرة، وتنضوي تحته قوى ومؤسسات متعددة في المجتمع منها منظمة " مجاهدي الثورة الإسلامية " التي ينتمي لها أغاجاري . كان أقصى تعبير عن تلك التدخلات اعتقال أغاجاري . كان أقصى تعبير عن تلك التدخلات اعتقال أغاجاري نفسه وهو الأستاذ الجامعي وابن الثورة وصاحب الخلفية النضالية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية.
استغل أغاجاري ذكرى شريعتي ليعرب عن خوفه على حركة الإصلاح مذكراً الجمهور بطروحات صاحب الذكرى ، فقد قام الدكتور على شريعتي بالتعرض لدور المثقف ، في سنوات الكفاح ضد الشاه عبر محاضراته في حسينية إرشاد التي كان يلتقي فيها بالشباب المعجب بفكره ، وكذا من خلال كتبه التي حملت عناوين معبرة عن توجهه الإصلاحي النقدي ككتاب " بناء الذات الثورية " وكتابه " دين ضد الدين " وغيرهما قدم فيهم علماء الدين بوصفهم بشر لم يهبطوا من السماء.
شريعتي يصف رجال الدين بأنهم " معاصرون وطالما لم يتغيّر هؤلاء القادة ـ يقصد الدينيين ـ فسيظلّ الشعب الذي يتبع تفسيرهم للدين على قناعته بأن الإسلام الشيعي لا يمكن أن يصبح ديناً حديثاً ، وسيظلّ الإسلام الشيعي مطيّة للمضللين . وبدل أن يكون قوة دافعة لصالح التقدّم والتطوّر ، فسيغدو سبباً للتأخر المستديم".
وردت ذات الفكرة عن رجل الدين في معرض تعامل شريعتي مع التاريخ الإسلامي حيث فرق بين التشيع العلوي ـ نسبة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ والتشيع الصفوي كما خبرته إيران في الفترة الصفوية والتي تحول خلالها رجل الدين لرجل سلطة يطوع الدين لصالح السلطة الشاهنشاهية ، مرجعا سوء الوضع في إيران الخمسينيات والستينيات إلى أن المجتمع قد ورث روح التشيع الصفوي ، مما أدى لتكلس رجل الدين على ذاته فلم يطور نفسه ولا المؤسسة الدينية رافضاً كل نقد.
بتعبير آخر دأب شريعتي في كتبه ومقالاته التأكيد على أن العلاقة بين العلماء ( رجال الدين ) والشعب ينبغي أن تكون على غرار علاقة الأستاذ والتلميذ ، وليس على غرار علاقة القائد والتابع ، أو علاقة الأيقونة والمقلّد، وهو بالضبط ما قاله أغاجاري في الخطبة التي أدين بسببها فقد قال أغاجاري فيها : " الناس ليس قروداً ليكتفوا بالتقليد ، والتلاميذ يفهمون ويتفاعلون ، ويسعون لتوسيع فهمهم ، بحيث يتم لهم الاستغناء عن الأستاذ في يوم من الأيام ، أما العلاقة التي يرغب المتديّنون الأصوليون فيها فهى علاقة السيّد والتابع. فالسيّد يظلّ أبداً سيّداً ، والتابع يظلّ أبداً تابعاً . وهذا ما يشبه الأغلال التي تكبّل العنق ، أي العبودية الأبدية".
كانت خطبة أغاجاري أشبه بمن يذكَّر بما اتفق عليه الآباء المؤسسون وهم يبشرون بنظام حكم إسلامي من أهمية أن يكون الإسلام مرتبطاً بالحياة، وكيف أن هذا المبدأ ينتهك اليوم ،معلناً أنه في ذكرى شريعتي إنما يستحضر معه الروح التي سرت في كتاباته وكتابات غيره ممن عبَّدوا طريق الثورة وأكدوا أنه لا يمكن أن يكون غير مبال بتطوّر المجتمع وبحق الأفراد في المشاركة في العملية السياسية وفي أن تحترم قناعتهم حتى لو بدت ساذجة بالنسبة لرجل الدين لأنها في النهاية قناعات الأفراد ورغباتهم.
فتح أغاجاري في خطبته الصراع بين المحافظين والإصلاحيين في إيران الذي بدأ بعد ما حدث مع أغاجاري لا ينحصر في حدود القضاء ولا السياسة ، وإنما يمتد إلى ساحة الفكر والثقافة ، فقد كان أول تعليق لرئيس السلطة القضائية السيد محمود هاشمي شارهودي على خطاب الدكتور هاشم أغاجاري هو:" إن المعارضة للمرجعية الدينية ونظرية ولاية الفقيه تبدأ من الساحة الثقافية والفكرية ، وإن الذين يحاولون فصل الدين عن السياسة أو الحكومة عن رجال الدين يشكلون امتداداً لحركة النفاق في بداية الثورة" . بحيث يمكن تفسير الرد العنيف ـ ممثلاً في حكم الإعدام ـ من المؤسسة الدينية على أغاجاري أنه تنفيس عن شعور المحافظين بخطورة الثقافة حينما تكون ناقدة على النظام السياسي الذي يستند إلى مقولات ثقافية هو الآخر ، فأغاجاري لم يرفع السلاح ولم يعلن العصيان المدني ، وإنما ألقى محاضرة وصف فيها رجال الدين برجال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ، وقال أن فسادهم يستدعي القيام بثورة بروتستانيية إصلاحية .
سبق مرتضى مطهري أحد أبرزعقول الثورة الإيرانية أغاجاري إلى وضع المقارنة بين النظامين الإسلامي والكنسي للدولة فمطهري يرى أنه :"في تاريخ الفلسفة السياسية عندما طرحت المفاهيم الاجتماعية ـ السياسية في الغرب ، ودار النقاش حول مسألة الحقوق الطبيعية، وخصوصاً حق الحاكمية الشعبية، وانحازت جماعة إلى الاستبداد السياسي ونفوا أيّ حق للناس مقابل الحكام ، ولم يعترفوا لهم بأي شيء إلا أداء الواجبات ، تشبّث هؤلاء في تبريرهم لنظرياتهم الاستبدادية السياسية بمسألة الله ، وادعوا أنّ الحكام مسئولون أمام الله فقط ،في حين أن الناس مسئولون أمام الحكام وعليهم أداء الطاعة، ولا حق للناس أن يسائلوا الحكام كيف ولماذا فعلتم كذا ؟ أو أن يأمروهم بفعل معين باعتبار أن لله وحده حق مساءلة الحاكم ومحاكمته، ولا حق للناس على الحاكم ، هكذا نشأت أجواء مفتعلة أدت إلى أفكار متطرفة ، سواء من ناحية التلازم بين الإيمان بالله والإيمان بوجوب الخضوع للحاكم ، وإلغاء أي حق في المداخلة في شئون من عينّة الله لرعاية الناس وحفظهم من ناحية أنّ الحاكم مسئول فقط من قبله ، وهكذا ولد التلازم الحتمي بين الإيمان بالحاكمية الشعبية من جهة ، والكفر بالله من جهة أخرى ، ولكن في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية لا يؤدي الإيمان بالله إلى قبول الحكومة المطلقة للأفراد ، فالحاكم مسئول أمام الناس ، والإيمان بالله يضع الحاكم في موقع المسئولية أمام الناس، إذ يجب عليه أن يؤدي حقوقهم".
كتبت هذه الفقرة في فترة التنظير للثورة الإسلامية ، إلا أنها تبدو كرسالة ضمنية للثوار حال وصولهم للحكم ، يعرب فيها مطهري عن قلقه المستقبلي من أن يتحول النظام الإسلامي حال نشأته إلى شبيه للكنسي الأوروبي يستقوى.. بالدين على شعبه على حد تعبير ابن خلدون ، بما يعني أن آيه الله مطهري المفكر والمناضل الذي تدين الدولة الإسلامية ومن خلفها الثورة لأفكاره الاجتهادية بشرعية وجودها، لو امتد به العمر لقال ما قاله أغاجاري أو أشد، لاسيما بعد تصاعد النقد للمؤسسة الدينية في السنوات الأخيرة ، فهل كان الأمر سيؤول بمطهري لمواجهة حكم بالإعدام؟.
دلالات القضية:
للقضية دلالات تخرج بها من حيز السياسة " كفن السلطة " إلى السياسة " كقلب التفاعل الإنساني وكإحدى العلوم الاجتماعية " ، ولهذا فهى تفتح موضوع المقارنة بين الدولة الدينية الإسلامية عموماً ، والدولة الإسلامية كما تحققت في إيران ، أي السلطة الدينية والزمنية حين اندمجتا في سلطة واحدة بعد عام 1979 .
الدولة في الوعي الإسلامي العام هي كيان جغرافي مفتوح ، حدوده تتعين وفق معيار ديني وليس سياسي ، ويكون الانتماء للدولة نابعاً من الإيمان بقيم الإسلام وشريعته ،وتكون بالتالي الدولة الإسلامية قائمة بالمؤمنين بالله وبها وليس بإطارها الجيوبوليتيكي ، وبالتالي هذا التفسير يعني أن الدولة الوطنية ـ كما يرى شريعتي مثلاً ـ هي أيديولوجية وليست مفهوماً إقليمياً.
وداخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحالية يبدو أن هناك تأويلات متعددة لشكل تلك " الأيديولوجية" المكونة للدولة وأن ثمة إجماعاً بين أطراف فكرية مختلفة على إسلامية الدولة مع احتفاظ كل طرف بتأويل " إسلامية " ومن ثم تحقيقه ، من هذا المدخل حدث نقد فلسفي للنظام الإسلامي في إيران كان أغاجاري نفسه طرفاً أصيلاً فيه.
وكذا عبد الكريم سروش المفكر الإيراني الذي يرى دعامتين للدولة الإسلامية ، كما يجب أن تكون لا كما تحققت في إيران ، الدعامة الأولى : هي أنه لكي يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً، يجب أن يكون حراً ، أما من يؤمن تحت ضغط أو إكراه ،فلن يكون إيمانه حقيقياً وهذه الحرية هي أساس الديمقراطية ،والدعامة الثانية للديمقراطية الإسلامية : هي أن تفسير النصوص الدينية هو دائماً متجدد ، حيث أن التفسيرات تتأثر دائماً بالعصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فأنت لا تستطيع أبداً أن تعطي تفسيراً ثابتاً ، ولكن من حق كل شخص أن يفسر الدين انطلاقاً من مساواة الجميع أمام الله ،وبالتالي فإن ممارسات الحكومة الإيرانية التي تمارس رقابة صارمة على المجتمع والتي بدت مشكلاتها بوضوح مع تصاعد الإصلاحيين تكون كمن يفرض الإيمان على طريقتها على الناس فرضاً ، وهي في ذلك لا تنتهك الدعامة الأولى التي يقر فيها سروش بالحرية كشرط للإيمان فقط ، بل أيضاً تنتهك الدعامة الثانية لأنها تحتكر تفسير الدين لنفسها معتقدة في صحة تأويلها رافضة لتفسيرات جديدة من خارج المؤسسة التي تواتر الناس في إيران على أن تتحدث باسم الله، فالثورة الإسلامية الإيرانية في وجه من وجوهها ثورة المرجعية الدينية ضد نظام الشاه ، حيث كان الإمام الخميني واحدا من أهم مراجع الدين الفقهاء لدى الشيعة ، وكان إلى جانبه مجموعة كبيرة منهم كشريعتمداري ومرعشي النجفي وكلبايكاني والسيد عبد الله شيرازي الذين كانوا يؤيدون الإمام في حركته المعارضة ويصدرون البيانات المحرضة للجماهير بما لهم من قوة المرجعية الدينية التي تحتل موقعاً مقدسا في العقل الشيعي ، وكان من الطبيعي والتلقائي أن يصطبغ النظام الإسلامي بنظرية المرجعية وولاية الفقيه ،وأن يمثل المرجع الأعلى السلطة العليا في النظام ويهيمن حتى على رئيس الجمهورية كنائب للإمام الغائب فذلك كان مصدر شرعية الثورة ورموزها ، فكان أن احتكرت تلك المؤسسة الدينية العمل الديني وسيطرت على العمل السياسي وتعاملت بحساسية مفرطة مع النقد الذي يوجه لها كحالة أغاجاري.
من ناحية أخرى ، تطرح قضية أغاجاري نقاشاً أوسع حول العلمنة كمقابل للدولة الدينية / الإسلامية تحديداً وهو منحى المثقفين العرب في التعرض لتطور الأحداث في إيران وكذا عدد من المثقفين الإيرانيين في المهجر ، بحيث يمكن تفسير موقف المحافظين من أغاجاري في جانب منه كرفض للمقارنة بين الدولة الإسلامية وبين الثيوقراطية أو العلمانية ، فالدولة الإسلامية " دولة دينية " ولكنها تختلف عن دينية "المسيحية والكنيسة"، فكونها دينية لا يعني بالضرورة أنها صورة طبق الأصل من الإمبراطورية الرومانية مثلاً ، كما أن نفي التشابه مع الدولة الدينية المسيحية ( الثيوقراطية ) لا يعني حتماً أن الدولة الإسلامية التاريخية مدنية بالمعنى المعاصر أوعلى الأقل غير دينية ، إذا تجنبنا مصطلح مدنية الذي قد يفسر بالعلمانية ، فهي في النهاية دولة دينية بطريقتها الخاصة ، وهي بالفعل متميزة في " دينيتها " التي قد تنشأ في ظروف معقدة مختلفة عن مثيلتها الأوروبية ، من جانب آخر ظهر تفسير آخر لموقف المؤسسة الدينية من أغاجاري كان أكثر رواجاً ـ وربما لا يخلو من الصحة إذ تدلل عليه الأحداث ـ يتمثل في سيطرة مجلس صيانة الدستور وتشخيص مصلحة النظام ومن ورائهم الحوزة الدينية على العملية السياسية كما أشير، وكما حدث في استبعاد العديد ممن لهم وجهات إصلاحية منفتحة ومعهم تيار من التكنوقراط في الانتخابات الأخيرة ، فتكون خطبة أغاجاري تجسيداً لتيار كبير يرفض هذه الهيمنة، وفي المقابل، يكون موقف آيات الله من أغاجاري مقاومة ضمنية لمحاولة إضاعة النفوذ السياسي لهم لصالح الجبهة الأخرى ومن معها من مدنيين ، كما يحمل موقفهم منه مخاوف من انفلات الأمر إذا ما ترك هذا التيار لينمو ومن أن تفقد الدولة هويتها : " الدينية " على المدى الطويل ، حتى أن بعضهم عبر عن ذلك بتشبيه خاتمي ومن معه بالرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف.
ذكر أغاجاري في الخطبة التي اعتقل على إثرها أن الحوزة تسير على خطى الكنيسة في العصور الوسطى من حيث اختراعها تراتبية وهيراركية داخلها لمأسسة نفوذها السياسي لكل منها قداستها التي تجعلها فوق النقد، فقد قال :
في الإسلام ، لم تكن هناك طبقة من العلماء ، وقد نشأت بعض الألقاب الدينية منذ مدة لا تزيد على 80 أو 60 سنة . أين نجد طبقة من العلماء في عهد السلالة الصفوية ؟ إن الألقاب الحالية للعلماء تماثل قمة الكنيسة : أساقفة ، وكاردينالات ،وكهنة . إن هذا النوع من المراتب في الإسلام الشيعي المعاصر يمثل محاكاة للكنيسة .ويرأس هذه السلطة الدينية في عصرنا ما يسمّى آية الله العظمى ،وتحته مباشرة يوجد آية الإسلام وحجّة الإسلام ، وثقات الإسلام ، وما إلى ذلك ، لقد تحوّلت المؤسسات الدينية ،في غضون السنوات القليلة الأخيرة إلى نوع من المؤسسة الحكومية ، وباتت القضية أكثر حساسيًة . هل يفهم أحد في مجتمعنا الفارق بين حجة الإسلام وآية الله ؟ لقد قال شريعتي أنه لا توجد طبقة زعماء دينيين في الإسلام. إن هذا ليس جوهر الإسلام . إنه حصيلة تطوّر الإسلام التاريخي ، ولحسن الحظ فلم نشهد في إيران نشوء جهاز مركزي وحيد يقوم على مراتب الألقاب الدينية ،ولسنوات عديدة ، كان هناك عدد من المراجع التقليدية المتوازية ،وكان لكل مرجع تقليد " آية الله العظمى " هيكليته الخاصة .وترغب طبقة العلماء الحاكمين في إيران اليوم في توحيد كل هيئات " أيات الله العظمى " في حكم واحد ، ولكن شريعتي قال أننا ، في إيران ، لم يكن لدينا يوماً طبقة علماء حقيقية، وهذا بالضبط ما يريدون أن يفعلوه في بلادنا ، وأنا أشك في نجاحهم بسبب استقلالنا ،وبسبب عناصر الإسلام الشيعي نفسه ،إن التقسيمات والمراتب السلطوية التي يريدون إقامتها هي تقسيمات ومراتب كاثوليكية ( وليست إسلامية ) إن عدداً من رجال الدين باتوا منغمسين فيما يقومون به إلى درجة أنهم بدأو يحسبون أنفهسم أيقونات".
ما سبق يمثل إشارة مضرة من أغاجاري إلى الخطر الذي يواجه النظام الإسلامي إذا ما استمر الوضع كما هو وأن على الجميع إدراك أن وضع الكنيسة بالشكل الذي كان في العصور الوسطى أدى للخروج عليها والكفر بها وبدورها وتحجيم فعالياتها وعلى آيات الله في إيران استيعاب الدرس.
ثمة دلالة ثالثة يحملها الجدل حول القضية الذي اتسع ليشمل مدى ديمقراطية ولاية الفقيه ، وهل يمكن القول إن مجلس دراسة وإعداد الدستور الذي تشكل في سنة 1979 في إيران قد قام بطرح نظريتي ولاية الفقهاء التعيينية وولاية الفقية الانتخابية بصورة متصادمة؟
فحسب الإمام الخميني :
" ولو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين ( العلم بالقانون والعدالة ) بتأسيس الحكومة ، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم ( ص ) ويجب على جميع الناس إطاعته " .
جاء النظام ليطبق ذلك بعد نجاح الثورة بما يفارق الخبرة الإسلامية على مدى قرون التاريخ الإسلامي ، التي كان فيها الحاكم السياسي خلال هذا التاريخ المؤهل لترجمة القوانين الإسلامية وتطبيقها في المجتمع الإسلامي لابدّ أن يحظى بإقرار وتأييد الولي الفقيه دون أن يحلّ هذا الأخير مكانه.
شهدت إيران بعد وفاه الإمام الخميني جدلاً مماثلاً ، لكنه سرعان ما خفت بعد أن احتل الحديث عن خلافة الإمام الصدارة ،وبروز اسم منتظري في مواجهة السيد خامنئي ، وتعرض السيد خامنئي لنقد عدد من الفقهاء كالشيخ الآري القمي ، الأمر الذي دفع مجلس الخبراء الإيراني الذي يتألف من 82 فقيها ويرأسه الشيخ مشكيني والذي يمتلك صلاحية انتخاب أو تنحية المرشد، إلىأن يعقد جلسة طارئة ويصدر بعدها بيانا أكد فيه على صلاحية المرشد وقال إنه الأنسب لتولي المنصب.
فكانت قضية أغاجاري كاشفة لنقاش موجود وممتد حول نظرية ولاية الفقية ، وحول المقصود منها كما فهم تاريخاً وكما كتبها وطبقها الإمام الخميني ، وهل هي في الشكل الذي قدمه الخميني وانعكس في الدستور الإيراني المسئول عن ازدواج السلطات وتداخلها وتعارضها أحياناً في إيران حيث توجد سلطة مدنية ( رئيس جمهورية وبرلمان منتخبين ) وولى فقيه واسع السلطة والنفوذ ؟ أم أن المسألة روعى.. فيها عمليه توازن تحفظ الشكل الإسلامي للدولة كما تعلى.. من ديمقراطية القرار عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ، فيما يعرفه أهل السياسة بـ " الكوابح والتوازنات " ؟
ثم هل يستدعي ذلك اجتهادات معارضة أعلن عنها في أعوام الثورة الأولى لاسيما من فقهاء شيعة عرب لتملأ الفراغ الذي قد ينشأ إذا زاد الجدل وأحكمت الاتهامات الموجهة لنظرية ولاية الفقيه الخمنية ، كاجتهاد الفقيه اللبناني محمد جواد مغنية الذي يرى أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء ولهذا أقر بمبدأ الانتخاب في النظام السياسي مادام فيه مصلحة، وأنه لا بأس بالاستفادة من تجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً أو العكس ، وبالتالي يكون تحكم الفقهاء في الحالة الإيرانية مسألة خارجة ومزيدة على " الإسلامية " التي طمحت لها الحوزة أثناء السبعينات ، ومثل ما يراه محمد مهدي شمس الدين الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى بلبنان من أن ولاية الأمة نفسها ضرورة كمصدر للشرعية السياسية للنظام في غياب المعصوم ، وأن ولاية الفقيه منحصرة في القضاء والفتيا وما ماثلها ، وأن قيام الدولة منفصل عن الإمامة ومن يتسلم السلطة ليس مغتصباً لحق الإمام المهدي وبالتالي سلطاته ليست مطلقة .
عزى بعض المحللين اعتراض عدد من رجال الدين على نظرية ولاية الفقيه كما نظر لها الخميني وتقديمهم طرحاً بديلاً، لأسباب خاصة تعود لعلاقة الفقهاء بالخميني لأن الخميني لم يشرك بقية المراجع الكبار في السلطة ولم يشكل مجلسا خاصاً لهم ،وأنه واجه مرجعية السيد شريعتمداري الذي أسس حزب الشعب الجمهوري الإسلامي وأخذ ينافسه على السلطة فاتهمه بالتآمر وحل حزبه وحجزه في بيته إلى أن توفاه الله ، وهاجم كذلك السيد الخوئي لأنه استقبل زوجة الشاه في العراق أيام الثورة وأهدى لها خاتماً. أصداء قضية أغاجاري في الحوزة ترد على التحليل السابق ، فهي تثبت أن ثمة مشكلة اجتهادية حقيقية مرتبطة بولاية الفقيه، وثمة آراء هامة لرجل الدين الإيراني المعارض محسن كديور ، مثلا، في سياق الجدل حول الولاية ، حيث أقر أن التناقض في الحالة الإيرانية نابع من جعل الخميني رجل الدين ( أي الفقيه ) فوق سلطة المسائلة والقانون.
وقال في هذا السياق : " تتحدد الولاية القائمة على أساس الشرعية الإلهية المباشرة من الشارع المقدس، وليس من الناس (المولى عليهم). وهنا يبرز سؤال في منتهى الأهمية : طالما أن الدستور يستمد شرعيته من إمضاء الولي الفقيه فكيف له أن يقيد ولاية الفقيه المطلقة؟" وفيما يتعلق برؤيته لمعنى الجمهورية الإسلامية يقول كديور :
" تحدد كلمة الجمهورية شكل الحكومة المقترحة ، وتحدد كلمة الإسلامية مضمونها ... تعني الجمهورية الإسلامية الحكومة التي يُنتخب رئيسها من قبل الجماهير لفترة مؤقتة، وتقوم على أساس الإسلام . وولاية الفقيه لا تعني أن يكون الفقيه على رأس الحكومة وأن يحكم عملياً ، بل إن دور الفقيه في الدولة الإسلامية ، أي الدولة التي يقبل شعبها بالإسلام كأيديولوجية ، ويلتزم به ،أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم".
هناك آراء أخرى من داخل الحوزة العلمية تراجع نظرية الولاية وهي آراء مدعومة بإصلاحيين ومن خلفهم قاعدتهم الجماهيرية الكبيرة بما يعني أن الأيام القادمة قد تحمل تطويراً في النظرية.
لقد جاء أغاجاري ليوجه نقده اللاذع للمؤسسة الدينية في ذكرى ثائر بقامة على شريعتي الذي تقول أقلام عربية أن الثورة قدمته بكثير من التوجس لأجيال الثمانينيات والتسعينيات خشية على نفسها من نقده ،الذي يقفز على جبهة الأيام دون أن تشيخ مقولاته حول أهمية تطوير رجل الدين أو يجاوزها الواقع . ولم يكن ما قاله أغاجاري الغيور على ميراث شريعتي إلا غيض من فيض أستاذ الفلسفة الثورية.
فبعد ربع قرن من استشهاد على شريعتي وبعد أن تلاحقت التطورات ، رفعت كلماته على أكتاف المتظاهرين في عام 1979،وثأر المجتمع لاستشهاده من الشاه الذي اختفى من إيران وللأبد ،وقام تلامذته بتأسيس نظام تلمسوه في كتبه ومحاضراته ، وازدادت أطروحات شريعتي بدلالات جديدة ربما لم يدركها هو نفسه وقت أن نادى بالدولة الإسلامية ، فكانت ذكراه وخطبه.. أغاجاري مناسبة لطرح الكثير من القضايا العالقة في المجتمع والذهن الإيرانيين منذ الثورة.
طرح تلك القضايا لا يعني بالضرورة ـ أوعلى الأقل يجب ألا يعني ـ أن تلك مشلكة تهدد النظام الإسلامي في إيران ، بل قد يقرأه فقهاء الاجتماع السياسي كمظهر عافية، فالنظام يمارس النقد الذاتي عبر مؤسساته ومثقفيه ، ويكون التحدي أمام النظام أن يستوعب الجدل الثائر ضده إلى داخله.
فإذا كنا في البدء قلنا أن ما فجرته قضية هاشم أغاجاري لم يكن ليسكته الحكم بالإفراج الذي حصل عليه الرجل، لكن في ذات الوقت لا يمكن أن يتم تجاهل الحكم تماماً، فقد جاء بعد طلب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله خامنئي من رئيس السلطة القضائية إعادة النظر في الحكم، وبالتالي الإفراج عنه.
ويطرح السؤال التالي نفسه : هل هذا إقرار ضمني بأن النظام سوف يسمح للمثقفين بأن يوجهوا نقدهم للنظام دون أن يقتص منهم؟
وهل وعد ـ بعد تدخل خامنئي ـ بأن آيات الله سوف يتروون فيما يوجهونه من تهم بعد أن اعتبر القضاء وصفهم بالبشر العاديين ليس سباً؟ وهل هذا التروي يعني وعداً آخر بالمراجعة النقدية الذاتية قبل اتهام الآخرين؟