المهدى
08-31-2005, 12:28 AM
عبدالرحمن حللي
لا يزال الجدل حول التعليم الديني وصلته بالارهاب موضوع الساعة شأنه شأن كل ما له صلة بالارهاب، وهو واحد من بين ملفات كثيرة فتحت للنقاش في العالم العربي والاسلامي، وصادفت خللاً حقيقياً يستحق المعالجة، ومما أجج الجدل حول الموضوع ما اتخذ من قرارات في هذا الشأن في وزارات التربية في دول عدة، لا سيما في مغرب الوطن العربي وخليجه، فتم تقليص ساعات مقرر التربية الدينية أو الغاؤها في بعض المراحل أو دمجها بمواد أخرى.
لكن ما يلفت في هذا الشأن ما يكتبه الكثير من المثقفين العرب – لا سيما من ممتهني الكتابة السلطانية أو الشمولية الموروثة عن أنماط التفكير الاقصائي الذي ينظر الى الأمور بحسب ما تمليه بنية التفكير المغلقة – اذ استغلوا الموضوع ليطرحوا رؤى هي من التطرف بما يكفل صناعة ارهاب جديد، ومن ذلك الدعوة الصريحة لالغاء مقرر التربية الدينية من المدارس أو دمجه ضمن مقررات أخرى وتقليص حصصه أو تغيير مضمونه ليكون أشبه بدراسة أفكار عامة تتناسب مع كل الديان. فالاصلاح الديني المنشود – بحسب أولئك – أصبح اعادة النظر في الظاهرة الدينية من منطلق تاريخي سوسيولوجي يعتمد الأدوات المعرفية الحديثة (بهذا الاطلاق) حتى أصبحت أفكار فرويد وأينشتاين وغاليلو... من الأسس في تطوير التعليم الديني، وتعود التجربة الغربية لتُطرح من جانب أولئك نموذجاً يقتدى في قضية الاصلاح الديني بغض النظر عن الملابسات التاريخية والفوارق الجوهرية في طبيعة الأديان، بل أصبح فهم القرآن متوقفاً على معرفة اليهودية والنصرانية، بل لا يمكن فهم لغة القرآن (والحديث في اطار اصلاح التعليم) من دون الرجوع الى الفيلولوجيا ومعرفة اللغة الآرامية، فتخصيب القرآن بالأدوات وبالمناهج الحديثة هو الحل الأمثل الذي يمكننا من قراءته قراءة تاريخية هي الوحيدة المعول عليها في بداية الألفية الثالثة.
هذه الرؤية التي تطرحها كاتبة مغاربية هي أستاذة في جامعة اسلامية تعتبر في
نظرها حلاً لمشكلة التعليم الديني، وتحول دون كونه محرضاً على التطرف، لكن الغريب ان الكاتبة المشار اليها تنتمي الى دولة هي الأكثر تحديثاً وتسييساً للتعليم الديني ومنذ عقود، حتى ان قضية تعديل المناهج لم تكن مطروحة فيها، بينما متابعة جنسيات المتطرفين من الاسلاميين تشير الى عدد لا بأس به من المنتمين الى هذا البلد وممن تلقوا تعليماً دينياً محدثاً ومحصناً ضد التطرف، بل ان عدداً من المتطرفين هم ممن تلقوا تعليماً غربياً ولم يتلقوا تعليماً دينياً على طريقة المناهج المنتقدة، حتى ان دولاً أنشأت اختصاصات اسلامية في كليات غير اسلامية لتخرّج مدرسين للتعليم الديني من غير المؤسسات التقليدية ممن تلقوا تعليماً موجهاً يحض على التسامح ونبذ العنف، فإذا بخريجي تلك الكليات أشد تطرفاً في أفكارهم من خريجي الجامعات التقليدية، وذلك بحسب المقاييس التي وضعت لهذه الكليات.
الظاهرة الأهم التي تسترعي الانتباه هي أن الذاكرة لا تسجل من أسماء قادة المنظمات الاسلامية الممارسة للعنف أي اسم لقيادي تخرج في جامعة اسلامية أو تلقى تعليماً اسلامياً تقليدياً داخل مؤسساته التقليدية باستثناء المصري الشيخ عمر عبدالرحمن الذي لم يكن الأشد تطرفاً ضمن الجماعة التي انتمى اليها، فمعظم قادة التنظيمات العنفية لم يدرسوا العلوم الشرعية في مؤسساتها المختصة، وعلى العكس من ذلك، فإن من ينشط من خريجي المؤسسات التقليدية في العمل السياسي، يرفض العنف.
هذه الظاهرة لا يقصد بها تبرئة مناهج التعليم الديني من الأخطاء، كما لا تنفي العلم الشرعي عمن لم يدرسوه في مؤسساته، لكنها تؤكد فك الارتباط المدعى بين التعليم الديني التقليدي والتطرف، بل تؤكد العكس، وهو أن قلة التعليم الديني أو تسييسه هي العامل الأساس في انتشار التطرف، فعندما يضعف التعليم الديني ستكون المعلومة مشوهة ومختزلة وغير مقنعة لدى الطالب والقارئ إما لضعف أدلتها أو لسوء طريقة ايصالها أو لتشويهها فضلاً عن انفصامها عن الواقع والثقافة الاسلامية التي يتلقاها الفرد في المجتمع، عند ذلك سيبحث الشاب عن المعلومة بنفسه وسيجد من يقنعه بالمعلومة المضادة أكثر وبالتالي سيكون التطرف أكثر انسجاماً في ذهنه من معلومة مجتزأة تفرضها عليه سلطة تعليمية متهمة بالانحياز ولم تعطه المعلومة بحياد وإقناع.
ان حال مقرر التربية الدينية في المدارس العربية لا يحتاج الى تعليق، فهو الأقل أهمية واعتباراً، ومدرسوه هم الأقل كفاية واحتراماً، وذاكرة الطالب عن حصص ذلك المقرر قلما تحمل معلومة بقدر ما تحمل طرفاً يتندر بها الطلاب، فهو مقرر ممتهن رسمياً في معظم الدول العربية، ولا ينتظر والحال هذه أن يتخرج طالب من المدارس وهو يحمل حصانة علمية ضد أي تيار يمكن أن يجرفه الى ممارسة العنف ضد الآخرين (الارهاب) باسم الجهاد، أو ضد نفسه (الرهبنة) باسم التصوف.
ان حمى الحديث عن اصلاح التعليم الديني انما انبثقت من المشروع الأميركي لاصلاح العالم الاسلامي، وقد سبقت التيارات اليسارية المتطرفة في العالم العربي الى الدعوة الى استئصال التعليم الديني، والتعمق في تحليل تلك الدعوة يشير الى انها مقدمة أميركية لنتيجة لاحقة وهي التلازم بين الاسلام والارهاب، وبالتالي الدعوة الى اعادة النظر في القرآن وآيات الجهاد.
لكن دعاة اصلاح التعليم الديني (السياسي) لا يقدمون جديداً في دعوتهم سوى التهمة المبطنة بالتحريض على الارهاب، فالدعوة الى اصلاح التعليم لصيقة بالدعوة الى الاصلاح والنهضة، وقد بدأت قبل أكثر من قرن سواء في مصر (محمد عبده) أو في تونس (محمد الطاهر بن عاشور) أو في بلاد الشام (محمد راغب الطباخ)، وما كتبه أولئك حول التعليم الديني شاهد على ذلك، ولا تزال الدعوة مستمرة لاصلاح التعليم الديني من جانب المشتغلين به، نظراً لما أصابه من ضعف وفساد هو جزء من فساد التعليم عموماً، والذي يرجع في الأساس الى تسييسه. فالعلاقة عضوية بين التعليم والدولة العربية منذ الاستقلال، وقد استمر التعليم على نمطية واحدة وإن تم تطويره فإن ذلك يستند الى رؤية أحادية مع تأخر في المراجعة. ان مقارنة بسيطة بين ما كان يتلقاه دارسو العلوم الشرعية في المدارس التقليدية منتصف القرن العشرين (في سورية مثلاً) مع الحصيلة العلمية لخريجي الجامعات الاسلامية اليوم يشير الى الانحدار العلمي كماً وكيفاً، لقد كانت تلك المناهج أكثر عمقاً من حيث تنوع العلوم وشموليتها لما يحتاجه الباحث في العلوم الشرعية من علوم، لا سيما المنهجي والأداتي منها، كما كانت منفتحة على أكثر من تيار ومستوعبة لما يطرح من أفكار في عصرها، حتى ان بعض المقررات كان يتم تعديله سنوياً بحسب المستجدات ليكون الطالب مواكباً لقضايا عصره، بينما اليوم يتلقى الطالب الجامعي في العلوم الشرعية وغيرها مقررات مضت عقود على تأليفها ومنها ما هو زمني لم يعد له صلة بالعصر الحاضر، فضلاً عن الضخامة والتكرار في ما لا ضرورة له والنقص الفادح في ما هو أساس، والحديث عن طريقة ايصال المعلومة وعقلية الشيخ والمريد تحتاج الى تفصيل خاص حول دورها في تردي التعليم.
هذا التردي في حال التعليم الديني المتخصص ينعكس سلباً على قدرة دارس العلوم الشرعية في معالجة قضايا العصر المستجدة وتحسين صلته بالمجتمع ليكون قادراً على الاقناع بالرؤية الصحيحة لعلاقة المسلم بغير المسلم وعلاقة المسلم بالعالم، تلك الرؤية التقليدية لم تورث عبر التاريخ الاسلامي عنفاً تجاه غير المسلمين لأسباب دينية، ولم يُحترم غير المسلمين في العالم كما احترموا في حصانة هذه الرؤية التقليدية، فلما ضعف التعليم الديني في مؤسساته وتسلطت عليه الدول بسياساتها التعليمية، زادته تردياً، فأصبح المجتمع فقيراً من العلماء الذي يبينون الحكم الشرعي للناس ويقنعون به، وتصدى للإفتاء من لا يمتلك أدواته، وأخذ الوعاظ على أبواب السلاطين دور العلماء، فلم يعد أمام الشباب المسلم الثائر من يستطيع تغيير قناعاته، فدعاة التطرف هم في نظره والحال هذه أكثر نزاهة واقناعاً.
في ضوء هذه الرؤية هل يمكن القول ان التعليم الديني هو المحرض على الارهاب أم هو الحصن الأول للوقاية منه؟ وبما انه محتاج للاصلاح ضرورة، فهل اصلاحه السياسي في ضوء هاجس الارهاب سيعالج الارهاب أم سيزيده؟ أم لا بد من اصلاحه لأسباب معرفية تعيد له دوره العلمي الذي يقي من التفسيرات المرتجلة للدين والتي تقود الى التطرف أو السذاجة في توظيف الدين؟ أسئلة ينبغي على المسؤولين عن اصلاح التعليم أن يفكروا بها ملياً إن كانوا يمتلكون القرار.
كاتب سوري.
لا يزال الجدل حول التعليم الديني وصلته بالارهاب موضوع الساعة شأنه شأن كل ما له صلة بالارهاب، وهو واحد من بين ملفات كثيرة فتحت للنقاش في العالم العربي والاسلامي، وصادفت خللاً حقيقياً يستحق المعالجة، ومما أجج الجدل حول الموضوع ما اتخذ من قرارات في هذا الشأن في وزارات التربية في دول عدة، لا سيما في مغرب الوطن العربي وخليجه، فتم تقليص ساعات مقرر التربية الدينية أو الغاؤها في بعض المراحل أو دمجها بمواد أخرى.
لكن ما يلفت في هذا الشأن ما يكتبه الكثير من المثقفين العرب – لا سيما من ممتهني الكتابة السلطانية أو الشمولية الموروثة عن أنماط التفكير الاقصائي الذي ينظر الى الأمور بحسب ما تمليه بنية التفكير المغلقة – اذ استغلوا الموضوع ليطرحوا رؤى هي من التطرف بما يكفل صناعة ارهاب جديد، ومن ذلك الدعوة الصريحة لالغاء مقرر التربية الدينية من المدارس أو دمجه ضمن مقررات أخرى وتقليص حصصه أو تغيير مضمونه ليكون أشبه بدراسة أفكار عامة تتناسب مع كل الديان. فالاصلاح الديني المنشود – بحسب أولئك – أصبح اعادة النظر في الظاهرة الدينية من منطلق تاريخي سوسيولوجي يعتمد الأدوات المعرفية الحديثة (بهذا الاطلاق) حتى أصبحت أفكار فرويد وأينشتاين وغاليلو... من الأسس في تطوير التعليم الديني، وتعود التجربة الغربية لتُطرح من جانب أولئك نموذجاً يقتدى في قضية الاصلاح الديني بغض النظر عن الملابسات التاريخية والفوارق الجوهرية في طبيعة الأديان، بل أصبح فهم القرآن متوقفاً على معرفة اليهودية والنصرانية، بل لا يمكن فهم لغة القرآن (والحديث في اطار اصلاح التعليم) من دون الرجوع الى الفيلولوجيا ومعرفة اللغة الآرامية، فتخصيب القرآن بالأدوات وبالمناهج الحديثة هو الحل الأمثل الذي يمكننا من قراءته قراءة تاريخية هي الوحيدة المعول عليها في بداية الألفية الثالثة.
هذه الرؤية التي تطرحها كاتبة مغاربية هي أستاذة في جامعة اسلامية تعتبر في
نظرها حلاً لمشكلة التعليم الديني، وتحول دون كونه محرضاً على التطرف، لكن الغريب ان الكاتبة المشار اليها تنتمي الى دولة هي الأكثر تحديثاً وتسييساً للتعليم الديني ومنذ عقود، حتى ان قضية تعديل المناهج لم تكن مطروحة فيها، بينما متابعة جنسيات المتطرفين من الاسلاميين تشير الى عدد لا بأس به من المنتمين الى هذا البلد وممن تلقوا تعليماً دينياً محدثاً ومحصناً ضد التطرف، بل ان عدداً من المتطرفين هم ممن تلقوا تعليماً غربياً ولم يتلقوا تعليماً دينياً على طريقة المناهج المنتقدة، حتى ان دولاً أنشأت اختصاصات اسلامية في كليات غير اسلامية لتخرّج مدرسين للتعليم الديني من غير المؤسسات التقليدية ممن تلقوا تعليماً موجهاً يحض على التسامح ونبذ العنف، فإذا بخريجي تلك الكليات أشد تطرفاً في أفكارهم من خريجي الجامعات التقليدية، وذلك بحسب المقاييس التي وضعت لهذه الكليات.
الظاهرة الأهم التي تسترعي الانتباه هي أن الذاكرة لا تسجل من أسماء قادة المنظمات الاسلامية الممارسة للعنف أي اسم لقيادي تخرج في جامعة اسلامية أو تلقى تعليماً اسلامياً تقليدياً داخل مؤسساته التقليدية باستثناء المصري الشيخ عمر عبدالرحمن الذي لم يكن الأشد تطرفاً ضمن الجماعة التي انتمى اليها، فمعظم قادة التنظيمات العنفية لم يدرسوا العلوم الشرعية في مؤسساتها المختصة، وعلى العكس من ذلك، فإن من ينشط من خريجي المؤسسات التقليدية في العمل السياسي، يرفض العنف.
هذه الظاهرة لا يقصد بها تبرئة مناهج التعليم الديني من الأخطاء، كما لا تنفي العلم الشرعي عمن لم يدرسوه في مؤسساته، لكنها تؤكد فك الارتباط المدعى بين التعليم الديني التقليدي والتطرف، بل تؤكد العكس، وهو أن قلة التعليم الديني أو تسييسه هي العامل الأساس في انتشار التطرف، فعندما يضعف التعليم الديني ستكون المعلومة مشوهة ومختزلة وغير مقنعة لدى الطالب والقارئ إما لضعف أدلتها أو لسوء طريقة ايصالها أو لتشويهها فضلاً عن انفصامها عن الواقع والثقافة الاسلامية التي يتلقاها الفرد في المجتمع، عند ذلك سيبحث الشاب عن المعلومة بنفسه وسيجد من يقنعه بالمعلومة المضادة أكثر وبالتالي سيكون التطرف أكثر انسجاماً في ذهنه من معلومة مجتزأة تفرضها عليه سلطة تعليمية متهمة بالانحياز ولم تعطه المعلومة بحياد وإقناع.
ان حال مقرر التربية الدينية في المدارس العربية لا يحتاج الى تعليق، فهو الأقل أهمية واعتباراً، ومدرسوه هم الأقل كفاية واحتراماً، وذاكرة الطالب عن حصص ذلك المقرر قلما تحمل معلومة بقدر ما تحمل طرفاً يتندر بها الطلاب، فهو مقرر ممتهن رسمياً في معظم الدول العربية، ولا ينتظر والحال هذه أن يتخرج طالب من المدارس وهو يحمل حصانة علمية ضد أي تيار يمكن أن يجرفه الى ممارسة العنف ضد الآخرين (الارهاب) باسم الجهاد، أو ضد نفسه (الرهبنة) باسم التصوف.
ان حمى الحديث عن اصلاح التعليم الديني انما انبثقت من المشروع الأميركي لاصلاح العالم الاسلامي، وقد سبقت التيارات اليسارية المتطرفة في العالم العربي الى الدعوة الى استئصال التعليم الديني، والتعمق في تحليل تلك الدعوة يشير الى انها مقدمة أميركية لنتيجة لاحقة وهي التلازم بين الاسلام والارهاب، وبالتالي الدعوة الى اعادة النظر في القرآن وآيات الجهاد.
لكن دعاة اصلاح التعليم الديني (السياسي) لا يقدمون جديداً في دعوتهم سوى التهمة المبطنة بالتحريض على الارهاب، فالدعوة الى اصلاح التعليم لصيقة بالدعوة الى الاصلاح والنهضة، وقد بدأت قبل أكثر من قرن سواء في مصر (محمد عبده) أو في تونس (محمد الطاهر بن عاشور) أو في بلاد الشام (محمد راغب الطباخ)، وما كتبه أولئك حول التعليم الديني شاهد على ذلك، ولا تزال الدعوة مستمرة لاصلاح التعليم الديني من جانب المشتغلين به، نظراً لما أصابه من ضعف وفساد هو جزء من فساد التعليم عموماً، والذي يرجع في الأساس الى تسييسه. فالعلاقة عضوية بين التعليم والدولة العربية منذ الاستقلال، وقد استمر التعليم على نمطية واحدة وإن تم تطويره فإن ذلك يستند الى رؤية أحادية مع تأخر في المراجعة. ان مقارنة بسيطة بين ما كان يتلقاه دارسو العلوم الشرعية في المدارس التقليدية منتصف القرن العشرين (في سورية مثلاً) مع الحصيلة العلمية لخريجي الجامعات الاسلامية اليوم يشير الى الانحدار العلمي كماً وكيفاً، لقد كانت تلك المناهج أكثر عمقاً من حيث تنوع العلوم وشموليتها لما يحتاجه الباحث في العلوم الشرعية من علوم، لا سيما المنهجي والأداتي منها، كما كانت منفتحة على أكثر من تيار ومستوعبة لما يطرح من أفكار في عصرها، حتى ان بعض المقررات كان يتم تعديله سنوياً بحسب المستجدات ليكون الطالب مواكباً لقضايا عصره، بينما اليوم يتلقى الطالب الجامعي في العلوم الشرعية وغيرها مقررات مضت عقود على تأليفها ومنها ما هو زمني لم يعد له صلة بالعصر الحاضر، فضلاً عن الضخامة والتكرار في ما لا ضرورة له والنقص الفادح في ما هو أساس، والحديث عن طريقة ايصال المعلومة وعقلية الشيخ والمريد تحتاج الى تفصيل خاص حول دورها في تردي التعليم.
هذا التردي في حال التعليم الديني المتخصص ينعكس سلباً على قدرة دارس العلوم الشرعية في معالجة قضايا العصر المستجدة وتحسين صلته بالمجتمع ليكون قادراً على الاقناع بالرؤية الصحيحة لعلاقة المسلم بغير المسلم وعلاقة المسلم بالعالم، تلك الرؤية التقليدية لم تورث عبر التاريخ الاسلامي عنفاً تجاه غير المسلمين لأسباب دينية، ولم يُحترم غير المسلمين في العالم كما احترموا في حصانة هذه الرؤية التقليدية، فلما ضعف التعليم الديني في مؤسساته وتسلطت عليه الدول بسياساتها التعليمية، زادته تردياً، فأصبح المجتمع فقيراً من العلماء الذي يبينون الحكم الشرعي للناس ويقنعون به، وتصدى للإفتاء من لا يمتلك أدواته، وأخذ الوعاظ على أبواب السلاطين دور العلماء، فلم يعد أمام الشباب المسلم الثائر من يستطيع تغيير قناعاته، فدعاة التطرف هم في نظره والحال هذه أكثر نزاهة واقناعاً.
في ضوء هذه الرؤية هل يمكن القول ان التعليم الديني هو المحرض على الارهاب أم هو الحصن الأول للوقاية منه؟ وبما انه محتاج للاصلاح ضرورة، فهل اصلاحه السياسي في ضوء هاجس الارهاب سيعالج الارهاب أم سيزيده؟ أم لا بد من اصلاحه لأسباب معرفية تعيد له دوره العلمي الذي يقي من التفسيرات المرتجلة للدين والتي تقود الى التطرف أو السذاجة في توظيف الدين؟ أسئلة ينبغي على المسؤولين عن اصلاح التعليم أن يفكروا بها ملياً إن كانوا يمتلكون القرار.
كاتب سوري.