المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الادارة الذاتية عند أتباع المذهب الإباضي في بني ميزاب في الجزائر



زوربا
08-28-2005, 01:04 AM
عزالدين مصطفى جلولي


لم تكن عودتي إلى الجزائر هذا العام مملة رتيبة، كما تعودت في سنين غربتي الأولى، فانقطاعي المتواصل عن موطني الأم طيلة سبع سنوات جعلني أتطلع إليه بعقل متزن متوازن، وبعين فاحصة ناقدة، شحذتها أعوام من التجارب وأنضجتها خبرات كثيرة متراكمة، وغذتها دراسات متخصصة في الدين والعمران، حملت إليّ انطباعاً وأنا أجوب الفيافي والقفار بأن الجزائر بلد ثري ثراء لا يزال على أصل الخلقة، وأن هذا البلد معطاء لو قيّض له بنون عاملون شاكرون.

تناهت إلى مسامعي بعيد وصولي إلى بلدتي البيرين، التي تبعد مئة وثمانين كيلومتراً جنوب العاصمة الجزائرية، وفاة علَم من أعلام الإباضية في غرداية، إحدى ولايات الجنوب الجزائري، هو الشيخ حمّو بن عمر فخار، تغمده الله تعالى بواسع رحمته؛ فوجدت في هذه المناسبة المحزنة فرصة سانحة لتحقيق حلم طالما هفت نفسي إليه، وشوقني إليه ما قرأته عن مآثر هذا الوادي العظيم، خاصة في ما يختص بدوره الريادي في التربية والتثقيف. وقد بدت لي دياره – بعدما وصلت إليه معزياً- كما قيل لي عنه وقرأته، موفور الفضل على بنيه وواديه، ما دعاني مجدداً إلى عقد النية تارة أخرى لزيارة تكون الإقامة فيها أطول، واللقاءات مع فضلائها أكثر.

كنت قبل سماعي خبر الوفاة أتنقل بين ولايات الجنوب واصلاً للرحم وسائحاً، ولما عزمت على شد الرّحل إلى غرداية كنت قد وصلت مع عائلتي إلى عاصمة الواحات الأغواط؛ فاستقلّيت من محطة العابرين مقعداً في حافلة متوسطة الحجم، اعتادت على قطع المسافة بين هذه المدينة وغرداية في غضون ثلاث ساعات ونيّف، هي طول الفترة الزمنية التي يستغرقها اجتياز مئتي كيلومتر في مثل هذه المراكب المتثاقلة.

تقع ولاية غرداية شمال الصحراء الجزائرية، ومقرها يبعد مسافة 600كلم جنوب العاصمة، ومساحتها الإجمالية تقدر بنحو 86105 كلم مربع (أي ثمانية أضعاف مساحة لبنان)، امتدادها الطولي من الشمال إلى الجنوب يقدر بـ 450 كلم، والعرضي من الغرب إلى الشرق يقدر بـ 200 إلى 250 كلم، ومستوى ارتفاعها عن البحر 468 متراً. كما قُدر سكانها، بحسب إحصاءات 2003، بـ 334754 نسمة، النصف منهم يقطن سهل وادي ميزاب.

«في مطلع الفترة الإسلامية (القرن 5 هـ/ 11) كان يعمر المنطقة بنو ميزاب بن بادين من بني واسين، أحد فروع قبيلة زناتة الأمازيغية، الذين كانوا شبه رحّل يعتمدون في حياتهم على الزراعة وتربية الماشية، ثم التأموا في تجمعات سكانية وبنوا لهم قصوراً تذكر الروايات أن عددها بلغ عشرين قصراً، اندثر معظمها وبقيت منها بعض الشواهد والأطلال»، منها القصور السبعة المشهورة: العطف وبنورة وغرداية وبنو يزقن ومليكة وبريان والقرارة، وهي اليوم أسماء مدن وحواضر، حباها الله تعالى بألي النهى يديرون شؤونها إدارة حكيمة مستوحاة من نظام الحكم في الإسلام، توارثت أمانتها الأجيال كابراً عن كابر، وامتد حبلها بتهرت حاضرة الدولة الرستمية الإباضية المذهب؛ فتعتقت صلاتهم بتلك العوائد والقيم، فغدت تقاليد راسخة، تنوء عن اجتثاثها العاديات والأيام.

مجالس ثلاثة تدير شؤون العباد في هذا البطن الأمازيغي الأصيل: مجلس عمّي سعيد، ومجلس العشيرة، ومجلس الأعيان. أنيط بكل مجلس منها دور خاص به لا يتعداه، لتتكامل جميعها في خدمة المجتمع وإدارة شؤونه الدينية والزمنية. وقرارات هذه المجالس ملزمة للجميع إلا من ندّ عن العشيرة وشرد عن الجماعة، ولهذا الشارد من الروادع ما يقيه عواقب فعله إن هو خالف سبيل المؤمنين.



مجلس عمي سعيد، أو مجلس الأمة الميزابية كما يسميه البعض، أعلى هيئة دينية في عشائر بني ميزاب، وهو مجلس يحظى باحترام معنوي كبير، يمكنه من بسط سلطته على الناس ويلقى ما يصدره من قرارات به قبولاً واسعاً. يُعنى المجلس بمسائل الدين والروح، ويفصل في قضايا الأوقاف. يتشكل المجلس من أعضاء ينتدبهم مجلس العزّابة في كل قصر (مدينة). والعزّابة لفظ مشتق من العزوب، ومعناه العزوب عن الدنيا والزهد فيها. ويتم اختيار أعضاء مجلس عمي سعيد ممن تنتدبهم مجالس العزّابة في كل منطقة، شريطة أن تتوافر فيهم الاستقامة الخلقية وأن يكون كل فرد منهم رجل إجماع بين أهله وذويه.

ولكل عشيرة من بني ميزاب نسبة من الممثلين داخل المجلس بحسب كثرتها. وينتخب مجلس الأمة هذا رئيسه (شيخ العزابة) من بين هؤلاء الأعضاء، شريطة أن يكون أعلم الأعضاء. ويتولى الرئيس مهمة الوعظ والإرشاد، ويدير جلسات المجلس، كما كان الشأن مع الشيخ عدّون سعيد شريفي ومن قبله الشيخ بكلّي عبدالرحمن ومن قبلهما الإمام إبراهيم بن عمر بيوض عليهم رحمة الله أجمعين.

يتولى مجلس العزابة في كل مدينة إدارة شؤون البلدة الموكل بها، وما استعصي على أعضائه يُرفع إلى مجلس عمي سعيد، الذي يجتمع كل شهر لينظر في ما رُفع إليه من قضايا. ومن مهمات العزابة -الذين لا يتميزون شكلاً عن الناس إلا في أوقات الصلاة حيث يلبسون عند دخولهم المساجد لباساً مميزاً يعرفهم به المصلون والغرباء ومن له حاجة - فمن مهام هؤلاء تعيين أئمة المساجد والمؤذنين ووكلاء الأوقاف ومعلمي القرآن الكريم (معلمي المحاضر) والغسّالة الذين يتكفلون تجهيز الموتى وتكفينهم.

للمسجد في بني ميزاب دور يذكر بدوره الريادي إبان الحكم الإسلامي، يشرف على أنشطته العزّابة. ومن وظائف المسجد في مدن الوادي تنظيم العسّة، وهو نظام متوارث منذ القدم، ربما أملاه ذلك التطاحن بين الدويلات التي حكمت المسلمين في بلاد المغرب، الأمر الذي دفع إباضية الرستميين إلى العزلة في وادٍ شمال الصحراء الجزائرية، ألجأتهم إليه ضرورات أمنية وسجايا خلقية.

بقي نظام العسّة هذا معمولاً به في غرداية على الخصوص، وله شروط ومعايير معلومة لدى الأهالي؛ فهو عمل تبرعي غير ملزم لأحد بعينه، يقوم به المتأهلون من دون غيرهم من العزّاب، نصيب كل حارس منهم ليلة واحدة كل ثمانية أيام مداورة، بحيث تتنقل دالة كل فرد على كل أيام الأسبوع، بدل بقائها يوماً معلوماً كل سبعة أيام. يقوم العاسّ بالسهر على حفظ أموال الناس وصون أعراضهم، فيمنع المعتدين على الدكاكين والحوانيت، وينهى الفساق في الشوارع عما يغضب الله، ويضرب على أياديهم إن هم أساؤوا الأدب. ولا يخفى ما في هذه المهمة من تربية للنشء على الرجولة والشجاعة وتحمل الصعاب ومواجهة المخاطر، ولا يخفى أن هذه الخلق الاجتماعي الرفيع مرتبط أساساً بما عرف عن المذهب الإباضي من تشدد في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ينتظم الشباب الميزابي في جمعيات تربوية وتعليمية، تعمل تحت إشراف مجلس العزّابة، وتسير وفق قانون خاص، تستهدف تحفيظ القرآن الكريم وتنظيم حفل الاختتام. ومن هذه الجمعيات منظمة (إروان)، التي يتولى أفرادها عمارة المساجد بالذكر وتلاوة القرآن الكريم، وعمل هذه المنظمة رديف لعمل العزابة، ولأعضائها المرتبة الأولى في الصلاة بعد العزابة، امتثالا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ليليني منكم أولو النهى والأحلام».

ثاني تلك المجالس التي تدير الشؤون الاجتماعية لإباضية بني ميزاب مجلس العشيرة، وهو مجلس يتكفل بالأرامل واليتامى وينظم الأعراس والمآتم ويرعى شؤون الشابات والشباب.

ففي غرداية مثلا ثلاث وعشرون عشيرة، «تسع عشرة للإباضية وثلاث للمالكية: فريق المذابيح، واحد لمختلف النازحين إليها تجمع شتاتهم، أما فريق المرازيق من المالكية الأصلاء في البلد فمدمجون في العشائر التسع عشرة، ولكل فخذ في العشيرة مجلس عائلي لشؤونه الخاصة، له رئيسه. ومن رؤساء الأفخاذ يتشكل المجلس الأعلى للعشيرة، ومن بينهم ينتخب رئيسها المعتمد لدى السلطات الزمنية ولدى الهيئة الدينية في البلد. أما النازح الإباضي من عشائر القرى فيلحق عادة بإحدى العشائر الإباضية ويسمى نزيلها».(3)

يتألف مجلس إدارة العشيرة من الشيوخ والشباب، والأصل في دور هذه الهيئة العمل على تحقيق صلة الأرحام بين العائلات. يحدث اجتماع المجلس كل خمسة عشر يوماً دورياً أو كلما جد في الحياة جديد؛ فيستعرض الأولاد في هذا اللقاء مواهبهم وينشدون أمام أولياء أمورهم وأمام من حضر من أعيان العشيرة، ويتداول الكبار شؤون المحتاجين والفقراء، ويشرفون على تزويج الأرامل والمعوزين، ويصلحون ذات البين، ويفكّون المنازعات بين الناس مهما عظمت، ويتفقدون المرضى والمعسرين، ومن له حاجة إلى دار أو سكنى. ويدخل ضمن مهماتهم الاعتناء بالبطالين والباحثين عن عمل، فيعرض شأنهم على رجال الأعمال وأصحاب المعامل والورش لتوظيفهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. كل ذلك يتم تحقيقه في إطار من التعاون والتكافل، مستفيدين مما تدره الزكاة من أموال توظّف وغيرها من العبادات المالية في صالح الجماعة والعشيرة؛ ولهذا يندر أن تجد بين بني ميزاب بطّالاً أو متسولاً أو متسكعاً. ولكل عشيرة دار خاصة بها، تقيم فيها أعراسها وأفراحها، كالعقيقة (وهي الوليمة التي تقام بمناسبة المولود الجديد)، والوكيرة (الوليمة التي تقام بمناسبة بناء بيت أو فتح محل تجاري).

بقي مجلس ثالث هو مجلس الأعيان، وهو مجلس ينسب إلى الشيخ باعبدالرحمن الكرثي، ويختص بالشؤون السياسية، على شاكلة الانتخابات العامة أو متابعة الأمور التي لها علاقة مع الولاية (المحافظة) أو الوزارة أو الرئاسة. ويتألف أعضاء هذا المجلس من أعيان كل بلدة من أهالي بني ميزاب، كالنوّاب في البرلمان وإطارات الدولة ورؤساء البلديات ورجال المال والأعمال.

تلكم هي أهم تشكيلات الإدارة غير الرسمية لدى إباضية بني ميزاب، وهي تشكيلات فاعلة جداً في واقع الناس، كاد أن يستغني بها سكان الوادي عن السلطات الرسمية، بل لقد كان في انضباطهم بإدارة حكمائهم إراحة للمسؤولين التابعين للدولة الجزائرية؛ لذلك اكتسب الميزابيون احترام السلطة وثقتها، وكثيراً ما كانت ترخي صرامتها في تطبيق القوانين إذا لمست منهم معارضة، كما حدث في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين عندما أصدر قانون التأميم، الذي بموجبه أممت الدولة قطاعات واسعة من أملاك الناس الموروثة من عهد الاستعمار، ومنها المدارس الحرة التي كانت ولا تزال يحتضنها وادي ميزاب.


كاتب جزائري.