قمبيز
02-18-2022, 04:27 PM
https://images-na.ssl-images-amazon.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1516470855i/38109045.jpg
هكذا تكلّم "سعادة السفير" محمد جواد ظريف
نور بكري
المصدر: الميادين نت
8 شباط 2017
هل يكرّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف العمل السياسي لو كان الخيار بيده؟ يجزم أنّه كان ليختار تخصصًا حرفيًا، وليس سياسيًا، مثل الهندسة أو البناء، "فذنبها ومصائبها أقل". ولكنه في كل المناصب التي تقلّدها، لم يرَ نفسه سوى خادم بذل كل جهده لخدمة بلاده.
كتاب"سعادة السفير" لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف
بين شتاء العام 2010 وربيع العام 2012، كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على موعد مع محاوره محمد مهدي راجي، في جلسات حوارية كانت الأولى بعد امتناعه عن أي حوار أو خطاب عام منذ رجوعه من آخر مهمة سياسية له في نيويورك. على مدى أربعين ساعة، روى ظريف لمحاوره فصولًا من سني حياته شغل خلالها مناصب متعددة، جُمعت في كتاب شكَّل مثار جدل في إيران تراوح "بين التأييد المطلق والنقد اللاذع حد الاتهام بالخيانة"، ومنع من النشر حتى شهر آب/ أغسطس من العام 2013؛ نهاية دورة رئاسة أحمدي نجاد.
يقدم "سعادة السفير"، الصادر عن مركز أوال للدراسات (الطبعة الأولى، 2017)، صورة عن السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ضوء تجربة محمد جواد ظريف السياسية. طبع الكتاب سبع مرات في إيران، ورشحته صحيفة الأخبار اللبنانية ضمن 15 كتابًا للقارئ العربي في معرض الكتاب الدولي في بيروت.
يتطرق ظريف خلال الحوار إلى تفاصيل من عمله لربع قرن في أروقة الأمم المتحدة، ممثلًا لبلاده في الخارج، وشريكًا في صناعة القرار في الداخل. يحزن لبعض الأحداث، ويفرح لبعضها الآخر، يغضب عند الحديث عن تجارب لم تستثمر بالشكل المناسب، يناقش محطات من سيرته ومن عمل الجهاز الدبلوماسي وينقدها بلا حرج.
ينقل المحاور انطباعاته عنه، ويقدم لنا صورة عن شخصيته كما عرفها. عطوف مؤدب بسيط ومتواضع، يصفه راجي على الصعيد الشخصي، ثم ينتقل إلى مجال تخصصه الحرفي، فيخبرنا أنه جاد، متابع، منظم، وملتزم بالقيم والأصول التي يعتقد بها، والكلام بعدها لظريف.
يعيدنا "سعادة السفير" بالزمن إلى فترة السيتينيات من القرن العشرين. في العام 1960، ولد ظريف في طهران لأبوين ينتميان إلى فئة التجار. نشأ في كنف عائلة متدينة تقليدية ومحافظة بشدة من كل النواحي. لم يكن في البيت تلفاز، "انطلاقًا من العقائد التي كنّا نؤمن بها"، يشرح ظريف. وكان جهاز الراديو يستخدم للاستماع إلى دعاء السَّحر في شهر رمضان فقط، ويحفظ في الخزانة في باقي الفترات من السّنة، ولم تكن الصحف تتواجد في المنزل.
عاش طفولة منعزلة عن المجتمع، ولم يكن والداه يسمحان له بالتنقّل مع أي شخص. قلق عائلته عليه كان مردّه إلى الظروف الاجتماعية بشكل أساس، ثمّ أصبح سببه سياسيًا، وهو ما دفعهم إلى إرساله إلى أميركا. أمضى دراسته الإعدادية بين أصفهان وطهران. وفي تلك الأيام، نال اقتراح بعض المقربين بإرساله إلى الحوزة العلمية في قمّ، إيمانًا منهم بقدرته على التصدي للمرجعية الدينية، ترحيب والده، لرغبته الشديدة في تلقي ابنه العلوم الدينية، لكن والدته لم توافقه الرأي، فجرى الاتفاق على متابعته الدروس الحوزوية صباحًا قبل الذهاب إلى المدرسة.
إقباله على القراءة بشكل كبير منذ طفولته، أدى إلى إصابته بألم في العين وبمرض الشقيقة. اهتم بالسياسة منذ ذلك الوقت، وكان ينتهز أيَّ فرصة للحصول على الكتب من الطلاب الناشطين في هذا المجال. قرأ الكتب التّقليديّة والثوريّة معًا، وكان يشتري الكثير منها. بعضها كان ممنوعًا، فكان يضطر إلى إخفائها. يروي أن والدته أتلفت مجموعة من الكتب الدينية في خزان المياه، بداعي الخوف عليه، إثر موجة اعتقالات طالت أصدقاءه.
علاقته بالشعر والآداب كانت جيدة، بخلاف علاقته بالموسيقى، "لأنّهم كانوا يرونها حرامًا"، فلم يستمع إليها حتى بلغ سن الـ15-16 عامًا.
وعندما كانت تُبثّ في سيارات الأجرة، كان يطلب إخفات الصوت، ولكنه تغير قبل الثورة وبعدها. هذا الأمر لم ينسحب على أبنائه، فقد كانت ابنته تجيد عزف الموسيقى على البيانو، فيما كان ابنه يعزف على آلة القانون.
قبل التخرّج من الثانوية، انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن عندها قد بلغ السابعة عشرة من عمره. الخوف من الاعتقال في إيران كان السبب الأول لهجرته التي شكّلت طوق نجاة له. في إيران، كانت آخر مراحل الطفولة، وفي بلاد الاغتراب بدأ فصل جديد من حياة ظريف. بعد التخرّج من الثانوية، كان مجبرًا على التسجيل في الجامعة بشكلٍ فوري، لئلا تنتهي تأشيرته الدراسية. وبين جامعتي نيويورك وسان فرانسيسكو، كانت الأخيرة سباقة في قبول طلب التلميذ الذي تميّز بمعدلاته الدراسية المرتفعة.
قبل الثورة بنحو ستة أشهر، انضم إلى الجمعية الإسلامية للطلاب في أميركا وكندا، وكان أصغر المنتسبين إليها سنًا. وفي هذه الأثناء، كان يدرس علوم الكمبيوتر في الجامعة، ولكنه كان يمضي معظم الوقت في الاجتماعات والتظاهرات، منشغلًا بالتنقل بين المدن ووضع الإعلانات على الجدران. كان معنيًا دومًا بالثورة، بخلاف والده الذي كان مخالفًا للثّوريين وللجمهوريّة الإسلاميّة قبل الثورة، وبقى مخالفًا لها حتى وفاته.
في سنوات لم تتجاوز تسعة عشر عامًا، شغل منصب مندوب عن الجمعية، ثم أصبح مسؤول العلاقات العامة، ذلك أن لغته الإنجليزية كانت جيدة. في تلك الفترة، وُصم بالليبرالية، للاختلاف بينه وبينه أعضاء الجمعية: "كان معظم أعضاء الجمعية يتصرفون بشكل حاد، وكان سلوكهم ثوريًا بحدة، بخلاف ما كنت عليه".
في العام 1979، عاد إلى إيران بقصد الزواج. أجواء المنزل رافقته في حياته الزوجية، فعلى الرغم من الموازنة الجيدة التي كان يتمتع بها، كان يعيش أجواء من التقشّف، وكانت زوجته تشدد على عدم الإسراف، انطلاقًا من العقائد الثورية التي كانت تحملها. "في بداية الزواج، كانت ثورية جدًا وغير مرنة نوعًا ما، فلم يكن لدينا تلفاز في أميركا، نظرًا إلى اعتراضها على هذا الأمر. وبعد مدة، وبإصرار منّي، اشتريت تلفازًا مكسورًا لمتابعة الأخبار فقط"، يقول ظريف. تركت زوجته أثرًا كبيرًا فيه وفي عائلته. وفي الولايات المتحدة الأميركية، استطاعت الحضور بشكل بارز في الكثير من مجالس الفئات العليا في المجتمع.
بعد انتصار الثورة، حدث تغير في مسار ظريف الجامعي: "يستطيع الجميع التخصص في علوم الحاسوب، ولكنَّهم لا يستطيعون جميعًا أن يصبحوا سياسيين جيّدين للجمهورية الإسلامية". هذا التوجيه كان المحفز لتغيير مسار دراسته الجامعيّة ومسيرة حياته.
بين العلوم السّياسية والعلاقات الدّوليّة، اختار الأخيرة. "كان من واجبي معرفة الحاجة إليه في إيران. ولهذا، واصلت دراسة العلاقات الدولية"، يعلّل اختياره. كانت رسالة الماجستير تتمحور حول العقوبات في العلاقات الدولية، فيما كانت أطروحته للدكتوراه تتناول الدفاع الشرعي في الحقوق الدولية، للمساعدة في إبراز نظرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى موضوع الاعتداء العراقي آنذاك.
في العام 1982، انضم ظريف إلى البعثة الإيرانية كموظف محلي. وفي الجمعية العامة، طُلب منه الاشتراك في لجانٍ عدة، وكان موضوع حقوق الإنسان في إيران قد طُرح حديثًا في إحداها، فأصبح مسؤولًا عنها. في هذا العمل تجربة "مرة"، بحسب وصف ظريف. يعترف الرجل بأخطائه خلاله، ويدعو إلى الاعتبار منها: "تعلَّمنا منها، ولكنّ الثمن كان باهظًا، ولا يرغب الأصدقاء الجُدد في التصديق أنّنا غيَّرنا أسلوبنا، لا لضعف العقيدة والغيرة، بل بسبب التجارب والخبرات التي صقلت عملنا، وعليهم عدم تكرار هذه الأمور".
في عمله في المفوضية، يروي "سعادة السفير" تفاصيل ما يسميه "عجائب تاريخ الدبلوماسية"، وهي اختيار موظف محليّ لا يحمل صفة رسميَّة، قائمًا بالأعمال ورئيسًا للمفوضية في غياب المندوب. عندها، كانت بطاقة دخوله إلى الأمم المتحدة هي بطاقة سائق، وكان يتقاضى أجرًا أدنى من كل الموظفين، بمن فيهم السائق.
يقول ظريف: "في إحدى المناسبات، كنت أريد إلقاء كلمة في الجمعية العامة كقائم بالأعمال، ولم يتعرف إليّ الحارس عند رؤية البطاقة. وفي الأمم المتحدة، كنّا نخفي بطاقاتنا في جيوبنا خجلًا، بسبب قيمتها البخسة".
وكانت العزلة والقيود وعدم توافر موظفين لأداء الأعمال والأجور المتدنية، من الأسباب التي أدت إلى وقوع موظفي المفوضية في المشاكل عندها، ولكنهم عملوا بإصرار على إنجاز كل الأعمال، ما جعل البعثة الإيرانية في الطليعة.
في الحرب الإيرانية - العراقية، يعتقد ظريف أنّ "عمل الجهاز الدّبلوماسيّ للجمهوريَّة الإسلاميّة لم يكن سيّئًا في السَّنوات الأخيرة للحرب، ولكنّه لم يكن بالطّبع جهازًا محترفًا، وبمستوى الشَّعب". ويتطرق هنا إلى أمرين يظنهما جاذبين لمن يقرأ تاريخ إيران، الأول هو الرسالة الخاصة بالأمم المتحدة، المتعلقة بالخطة التنفيذية للقرار 598 حول الحرب بين إيران والعراق، والادعاءات التي رافقتها في الخارج حول الجهة التي قامت بتحريرها، والاتهامات التي وُجِّهت إليه بشأنها في الداخل. ويتمثل الأمر الثاني بإرسال لجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي، بعثة رسمية إلى طهران، لتخبرها أن المفوضية في نيويورك تخون البلاد، سعيًا منها إلى إقصائها داخليًا.
من جهةٍ ثانية، يرى ظريف أنّ أفضل نجاح سياسي للجمهورية الإسلامية في الحرب، هو الحصول على تقرير من الأمين العام يصف فيه العراق رسميًا بأنّه المسؤول عن الاعتداء على إيران، ويعتبر ظريف أن أحد أفضل أوسمة الشرف في حياته، هو تمكّنه من إنجاز هذا الأمر. ثم يتناول العلاقات الإيرانية - العراقية خلال الحرب، فيشير إلى أنها كانت علاقات عدائية، تتخللها مواجهات بعبارات غير لائقة بين الدبلوماسيين، يطلقونها في الاجتماعات الرسمية، وباللغة الإنجليزيّة.
نأى ظريف بنفسه عن هذه السلوكيات، ولطالما حاز تقدير السلطات العليا في إيران والسياسيين في الغرب. وعندما قام هنري كيسنجر بإهدائه كتابه "الدبلوماسية"، كتب له في الصفحة الأولى منه: "إلى عدوي المحترم محمد جواد ظريف".
بشكل عام، يشير ظريف إلى أنّ سلوك الدبلوماسيين الإيرانيين في الأمم المتحدة، وعدم إتقانهم للغة الإنجليزية، لم يعطِ صورة ناصعة عنهم، كما أن ملابسهم لم تكن ملائمة، فقد "كان البعض يأتي بمعطف الجندية. وعندما تخلّوا عن معطف الجندية، كانوا يأتون ببزّة متّسخة، وبشكل غير متناسق، كما كانوا يتركون الياقة مفتوحة". ومن المشكلات التي وقعوا فيها، عدم الإلمام بمواضيع النقاش:
"كنّا نخفي كل جهلنا باسم الاستكبار العالمي وتصدّينا له. ولهذا، منذ أن اكتسبنا تجربة، وأولينا الموضوعات العالمية أهميةً، استطعنا القيام بعمل ما. لهذا، لا أتحدث عن صديق أو عن عدو أو عن الاستمتاع بالعمل، بل أتحدّث عن الكفاءة"، يضيف.
من الأعمال الأخرى التي يتطرق إليها السفير السابق، موضوع الغزو العراقي للكويت، الذي شكَّل فرصة لإيران للتواجد في الأمم المتحدة بشكل إيجابي، حتى أصبح حضورها بارزًا:
"تغيَّرت حالتنا كثيرًا.. من بلد مُقاطِع للأمم المتحدة إلى بلد مرشح لعضوية مجلس الأمن من ناحية، ورئيس لإحدى أهم اللجان في الجمعية العامة من ناحية أخرى". ويصف الأمر بأنه أول نجاح باهر للجمهورية الإسلامية بعد الثورة.
منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، برز الدور الإيراني في المؤتمرات الدولية، رغبة في المشاركة بفعالية في مجال "صناعة الأعراف". وكان لهذا العمل أثره في مراكمة الكثير من الخبرات، ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن القسم الدولي، الذي تميّز بتخصصه، يعمل بشكل عصابة، صارت تدعى فيما بعد "عصابة نيويورك". يقول ظريف في هذا السياق: "على الرغم من أن حكومة نجاد سعت بشدة إلى تخريب الهيكل النخبوي الذي كنّا نُنتقد من أجله، فقد بقي الهيكل متخصصًا نخبويًا بسبب ضروريات العمل".
عند توقيع اتفاقية منع الأسلحة الكيميائية، يتحدث الرجل عن تحديات وعقبات تخللت الحدث، ففي تلك الفترة، عملت مجموعة من خلال "صناعة بيئة مريضة من ناحية نظرية، مثل نشر الأكاذيب في البلاد، لمنع الموافقة على الاتفاقية، لكونها تعتقد أنّ الموافقة عليها تضرنا. في النهاية، تدخّل السيد القائد (آية الله علي خامنئي) بشكل مباشر، وحُلَّ الموضوع بأمرٍ مباشر منه".
في معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في مؤتمر نزع الأسلحة في جنيف (CTBT)، أثيرت الغوغاء أيضًا، كالادعاء بالاعتراف بإسرائيل: "انتقدَنا البعض لأنّ اسم "إسرائيل" مذكور في الاتفاقية، فاتُّهمنا أنّنا اعترفنا بها!".
يعترف بأنّ رؤيته التخصّصية بشأنها كانت خاطئة، إذ كان يرى ضرورة رفضها، بناء على ملاحظات تخصصية وسيادية، ولكن "السيد القائد، السيد هاشمي(رفسنجاني)، ومجلس الأمن الوطني، صححوا خطئي ـ وأنا المختصّ ـ وبناءً على رؤيتهم الصائبة، وقّعنا الاتفاقية"، فمخالفة الاتفاقية كان يعني السعي لامتلاك السلاح النووي، بحسب ظريف.
في هذه المرحلة أيضًا، وُجِّهت الاتهامات في الداخل إليه "من الغوغائيين الجهلة أو المغرضين"، يصفهم ظريف، الذين أثاروا البلبة حول الاتفاقية، بدعوى أنها تهدد الأمن القومي الإيراني. هنا، بدأ التشكيك في أهداف إيران على المستوى الدولي، حيث كانت أميركا وغيرها توجّه التهم إلى إيران، ووجدوا الخلاف الداخلي بالنسبة إلى الاتفاقية حجة لتبرير الاتهامات.
ويضيف: "لعلّ كلمة خيانة هي الكلمة الوحيدة المناسبة لوصف حالة الغوغاء التي جرت، ولو بذلنا شيئًا من التساهل، فسنذكر كلمات مثل الجهل، الأمية، الحقد، والحسد".
على الصعيد الشخصي، لم يحدث قط أن أقام علاقة صداقة وثيقة مع مندوب دولة ما، ففي رأيه، يجب أن تكون واقعيًا في الدبلوماسية، وأن لا تعتبر أحدًا صديقًا، وأن تمثّل في الوقت نفسه دور الصديق. لا يرى إسرائيل بلدًا ذا شرعيّة، "أما العلاقة مع الأميركيين، كما يقول الفقهاء، ليست واجبة، وفي الوقت نفسه، ليست حرامًا"، يقول.
منذ العام 2002م، أصبح ظريف مندوبًا لإيران لدى الأمم المتحدة: "إنك أفضل خيار"، قال له السيد خامنئي، وذكر ملاحظات ضرورية لمهمته: "إنّ وظيفتك هي أن تطرح رؤيتك، حتى لو تيقنْتَ أنّها مخالفة لرؤيتي بنسبة 180 درجة. لا تقم بتغييب رؤاك الشخصية، بل إنّ طرحها يعدّ وظيفة شرعية".
التزم بتوجيهاته، برغم أن ذلك لم يكن من مصلحته ظاهرًا، كما يقول، ولكنّه كان متقيدًا بوظيفته من الناحية الشرعية والقانونية.
في هذه الفترة، برز اسمه في الأخبار أكثر، نظرًا إلى دوره في المفاوضات النوويّة. كان مسؤول فريق المفاوضات، وبرغم دوره في الملف، لم يُدعَ إلى زيارة المنشآت التي يتفاوض عنها. "ظننت أنّ الأمر غير ضروري، أو أن ثمة ملاحظات بهذا الخصوص"، يبرّر ظريف.
كانت نهاية عمله في وزارة الخارجية في العام 2007م. ولكن منذ انتخاب السيد أحمدي نجاد، لم يكن له أي دور في الملف النووي. يقول في هذا السياق: "عزل (نجاد) في بداية رئاسته الشّخصيات التي كان لها دور في المفاوضات، باستثنائي. سمعت أنه كان يرغب في عزلي قبل بقية السّفراء في أوّل سفر له إلى نيويورك، ولكن يبدو أنّ السيد القائد لم يوافق". أحد أسباب عزله خلال فترة عمله، كما يرى، أنه كان "مراقِبًا، ومن واجب المراقِب أن يقول ما يرى، لا أن يفكر فيما يعجب المستمعين من قول أو رؤية، وينقل ذلك فقط".
في هذه الأثناء، سعى إلى توسيع نشاطاته في مجال الدبلوماسية العامة، وتوعية الرأي العام الأميركي بخصوص البرنامج النوويّ الإيرانيّ،"كما أنّ المواقف الحادة للسيد أحمدي نجاد شكّلت بيئة معادية لإيران في المجتمع الأكاديمي، وكان من الواجب القيام بشيء من التوعية في هذا الصدد"، فقدَّم صورة جديدة عن إيران، وغيّر نوعًا ما نظرة النخب السياسية الأميركية إلى إيران.
بعد انتهاء مهمّته، أبدى الإيرانيون في أميركا والدبلوماسيون الكثير من المحبة تجاهه، وشهد حفل توديعه في الأمم المتحدة حضورًا دبلوماسيًا مهيبًا. في تلك الفترة، حلّت "استراحة ظريف"، لرغبته في التفرغ للعمل الأكاديمي، ولكنه ليس السبب الوحيد: "كنت أعلم أنّه لن يُقدَّم لي عمل تنفيذيّ، كما أنّني لم أرغب في أيّ عمل تنفيذي في هذه الحكومة، لأنّ آرائي لا تتوافق معها".
في سيرة "سعادة السفير" الكثير من الإنجازات، وفيها أيضًا الكثير من الأخطاء. لا يشعر بالحرج عند الحديث عن أي عمل قام به، بل يرى أن التجارب التي خاضها، والأخطاء التي وقع فيها، هي التي صنعت منه دبلوماسيًا مخضرمًا. يتحدث بصراحة عن بعضها، ويعكف عن الإشارة إلى بعضها الآخر، لئلا "تسبّب سوء فهم"، ولكن المهم أنه سعى طيلة عمله إلى أن يحافظ على القيم الوطنية والدينية. وما يتأسّف عليه هو عدم توافر أرضيّة للقبول بهذه التجربة، أو عدم قبول أخذ العبرة منها، وتكرار الأخطاء نفسها.
هل يكرّر وزير الخارجية الإيراني الحالي تجربته السياسية تلك لو كان الخيار بيده؟ يجزم أنّه كان ليختار تخصصًا حرفيًا، وليس سياسيًا، مثل الهندسة أو البناء، "فذنبها ومصائبها أقل". ولكنه في كل المناصب التي تقلّدها، لم يرَ نفسه سوى خادم بذل كل جهده لخدمة بلاده، واجتهد كي لا يضحّي بمصالحها من أجل مصالحه الشخصية.
يبقى للناس أن تحكم على نتائج عمله، و"الحكم النهائي لله العليم الكريم"، يختم ظريف.
نور بكري كاتبة لبنانية
https://www.almayadeen.net/books/779527/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85--%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1--%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF-%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D9%81
هكذا تكلّم "سعادة السفير" محمد جواد ظريف
نور بكري
المصدر: الميادين نت
8 شباط 2017
هل يكرّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف العمل السياسي لو كان الخيار بيده؟ يجزم أنّه كان ليختار تخصصًا حرفيًا، وليس سياسيًا، مثل الهندسة أو البناء، "فذنبها ومصائبها أقل". ولكنه في كل المناصب التي تقلّدها، لم يرَ نفسه سوى خادم بذل كل جهده لخدمة بلاده.
كتاب"سعادة السفير" لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف
بين شتاء العام 2010 وربيع العام 2012، كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على موعد مع محاوره محمد مهدي راجي، في جلسات حوارية كانت الأولى بعد امتناعه عن أي حوار أو خطاب عام منذ رجوعه من آخر مهمة سياسية له في نيويورك. على مدى أربعين ساعة، روى ظريف لمحاوره فصولًا من سني حياته شغل خلالها مناصب متعددة، جُمعت في كتاب شكَّل مثار جدل في إيران تراوح "بين التأييد المطلق والنقد اللاذع حد الاتهام بالخيانة"، ومنع من النشر حتى شهر آب/ أغسطس من العام 2013؛ نهاية دورة رئاسة أحمدي نجاد.
يقدم "سعادة السفير"، الصادر عن مركز أوال للدراسات (الطبعة الأولى، 2017)، صورة عن السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ضوء تجربة محمد جواد ظريف السياسية. طبع الكتاب سبع مرات في إيران، ورشحته صحيفة الأخبار اللبنانية ضمن 15 كتابًا للقارئ العربي في معرض الكتاب الدولي في بيروت.
يتطرق ظريف خلال الحوار إلى تفاصيل من عمله لربع قرن في أروقة الأمم المتحدة، ممثلًا لبلاده في الخارج، وشريكًا في صناعة القرار في الداخل. يحزن لبعض الأحداث، ويفرح لبعضها الآخر، يغضب عند الحديث عن تجارب لم تستثمر بالشكل المناسب، يناقش محطات من سيرته ومن عمل الجهاز الدبلوماسي وينقدها بلا حرج.
ينقل المحاور انطباعاته عنه، ويقدم لنا صورة عن شخصيته كما عرفها. عطوف مؤدب بسيط ومتواضع، يصفه راجي على الصعيد الشخصي، ثم ينتقل إلى مجال تخصصه الحرفي، فيخبرنا أنه جاد، متابع، منظم، وملتزم بالقيم والأصول التي يعتقد بها، والكلام بعدها لظريف.
يعيدنا "سعادة السفير" بالزمن إلى فترة السيتينيات من القرن العشرين. في العام 1960، ولد ظريف في طهران لأبوين ينتميان إلى فئة التجار. نشأ في كنف عائلة متدينة تقليدية ومحافظة بشدة من كل النواحي. لم يكن في البيت تلفاز، "انطلاقًا من العقائد التي كنّا نؤمن بها"، يشرح ظريف. وكان جهاز الراديو يستخدم للاستماع إلى دعاء السَّحر في شهر رمضان فقط، ويحفظ في الخزانة في باقي الفترات من السّنة، ولم تكن الصحف تتواجد في المنزل.
عاش طفولة منعزلة عن المجتمع، ولم يكن والداه يسمحان له بالتنقّل مع أي شخص. قلق عائلته عليه كان مردّه إلى الظروف الاجتماعية بشكل أساس، ثمّ أصبح سببه سياسيًا، وهو ما دفعهم إلى إرساله إلى أميركا. أمضى دراسته الإعدادية بين أصفهان وطهران. وفي تلك الأيام، نال اقتراح بعض المقربين بإرساله إلى الحوزة العلمية في قمّ، إيمانًا منهم بقدرته على التصدي للمرجعية الدينية، ترحيب والده، لرغبته الشديدة في تلقي ابنه العلوم الدينية، لكن والدته لم توافقه الرأي، فجرى الاتفاق على متابعته الدروس الحوزوية صباحًا قبل الذهاب إلى المدرسة.
إقباله على القراءة بشكل كبير منذ طفولته، أدى إلى إصابته بألم في العين وبمرض الشقيقة. اهتم بالسياسة منذ ذلك الوقت، وكان ينتهز أيَّ فرصة للحصول على الكتب من الطلاب الناشطين في هذا المجال. قرأ الكتب التّقليديّة والثوريّة معًا، وكان يشتري الكثير منها. بعضها كان ممنوعًا، فكان يضطر إلى إخفائها. يروي أن والدته أتلفت مجموعة من الكتب الدينية في خزان المياه، بداعي الخوف عليه، إثر موجة اعتقالات طالت أصدقاءه.
علاقته بالشعر والآداب كانت جيدة، بخلاف علاقته بالموسيقى، "لأنّهم كانوا يرونها حرامًا"، فلم يستمع إليها حتى بلغ سن الـ15-16 عامًا.
وعندما كانت تُبثّ في سيارات الأجرة، كان يطلب إخفات الصوت، ولكنه تغير قبل الثورة وبعدها. هذا الأمر لم ينسحب على أبنائه، فقد كانت ابنته تجيد عزف الموسيقى على البيانو، فيما كان ابنه يعزف على آلة القانون.
قبل التخرّج من الثانوية، انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن عندها قد بلغ السابعة عشرة من عمره. الخوف من الاعتقال في إيران كان السبب الأول لهجرته التي شكّلت طوق نجاة له. في إيران، كانت آخر مراحل الطفولة، وفي بلاد الاغتراب بدأ فصل جديد من حياة ظريف. بعد التخرّج من الثانوية، كان مجبرًا على التسجيل في الجامعة بشكلٍ فوري، لئلا تنتهي تأشيرته الدراسية. وبين جامعتي نيويورك وسان فرانسيسكو، كانت الأخيرة سباقة في قبول طلب التلميذ الذي تميّز بمعدلاته الدراسية المرتفعة.
قبل الثورة بنحو ستة أشهر، انضم إلى الجمعية الإسلامية للطلاب في أميركا وكندا، وكان أصغر المنتسبين إليها سنًا. وفي هذه الأثناء، كان يدرس علوم الكمبيوتر في الجامعة، ولكنه كان يمضي معظم الوقت في الاجتماعات والتظاهرات، منشغلًا بالتنقل بين المدن ووضع الإعلانات على الجدران. كان معنيًا دومًا بالثورة، بخلاف والده الذي كان مخالفًا للثّوريين وللجمهوريّة الإسلاميّة قبل الثورة، وبقى مخالفًا لها حتى وفاته.
في سنوات لم تتجاوز تسعة عشر عامًا، شغل منصب مندوب عن الجمعية، ثم أصبح مسؤول العلاقات العامة، ذلك أن لغته الإنجليزية كانت جيدة. في تلك الفترة، وُصم بالليبرالية، للاختلاف بينه وبينه أعضاء الجمعية: "كان معظم أعضاء الجمعية يتصرفون بشكل حاد، وكان سلوكهم ثوريًا بحدة، بخلاف ما كنت عليه".
في العام 1979، عاد إلى إيران بقصد الزواج. أجواء المنزل رافقته في حياته الزوجية، فعلى الرغم من الموازنة الجيدة التي كان يتمتع بها، كان يعيش أجواء من التقشّف، وكانت زوجته تشدد على عدم الإسراف، انطلاقًا من العقائد الثورية التي كانت تحملها. "في بداية الزواج، كانت ثورية جدًا وغير مرنة نوعًا ما، فلم يكن لدينا تلفاز في أميركا، نظرًا إلى اعتراضها على هذا الأمر. وبعد مدة، وبإصرار منّي، اشتريت تلفازًا مكسورًا لمتابعة الأخبار فقط"، يقول ظريف. تركت زوجته أثرًا كبيرًا فيه وفي عائلته. وفي الولايات المتحدة الأميركية، استطاعت الحضور بشكل بارز في الكثير من مجالس الفئات العليا في المجتمع.
بعد انتصار الثورة، حدث تغير في مسار ظريف الجامعي: "يستطيع الجميع التخصص في علوم الحاسوب، ولكنَّهم لا يستطيعون جميعًا أن يصبحوا سياسيين جيّدين للجمهورية الإسلامية". هذا التوجيه كان المحفز لتغيير مسار دراسته الجامعيّة ومسيرة حياته.
بين العلوم السّياسية والعلاقات الدّوليّة، اختار الأخيرة. "كان من واجبي معرفة الحاجة إليه في إيران. ولهذا، واصلت دراسة العلاقات الدولية"، يعلّل اختياره. كانت رسالة الماجستير تتمحور حول العقوبات في العلاقات الدولية، فيما كانت أطروحته للدكتوراه تتناول الدفاع الشرعي في الحقوق الدولية، للمساعدة في إبراز نظرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى موضوع الاعتداء العراقي آنذاك.
في العام 1982، انضم ظريف إلى البعثة الإيرانية كموظف محلي. وفي الجمعية العامة، طُلب منه الاشتراك في لجانٍ عدة، وكان موضوع حقوق الإنسان في إيران قد طُرح حديثًا في إحداها، فأصبح مسؤولًا عنها. في هذا العمل تجربة "مرة"، بحسب وصف ظريف. يعترف الرجل بأخطائه خلاله، ويدعو إلى الاعتبار منها: "تعلَّمنا منها، ولكنّ الثمن كان باهظًا، ولا يرغب الأصدقاء الجُدد في التصديق أنّنا غيَّرنا أسلوبنا، لا لضعف العقيدة والغيرة، بل بسبب التجارب والخبرات التي صقلت عملنا، وعليهم عدم تكرار هذه الأمور".
في عمله في المفوضية، يروي "سعادة السفير" تفاصيل ما يسميه "عجائب تاريخ الدبلوماسية"، وهي اختيار موظف محليّ لا يحمل صفة رسميَّة، قائمًا بالأعمال ورئيسًا للمفوضية في غياب المندوب. عندها، كانت بطاقة دخوله إلى الأمم المتحدة هي بطاقة سائق، وكان يتقاضى أجرًا أدنى من كل الموظفين، بمن فيهم السائق.
يقول ظريف: "في إحدى المناسبات، كنت أريد إلقاء كلمة في الجمعية العامة كقائم بالأعمال، ولم يتعرف إليّ الحارس عند رؤية البطاقة. وفي الأمم المتحدة، كنّا نخفي بطاقاتنا في جيوبنا خجلًا، بسبب قيمتها البخسة".
وكانت العزلة والقيود وعدم توافر موظفين لأداء الأعمال والأجور المتدنية، من الأسباب التي أدت إلى وقوع موظفي المفوضية في المشاكل عندها، ولكنهم عملوا بإصرار على إنجاز كل الأعمال، ما جعل البعثة الإيرانية في الطليعة.
في الحرب الإيرانية - العراقية، يعتقد ظريف أنّ "عمل الجهاز الدّبلوماسيّ للجمهوريَّة الإسلاميّة لم يكن سيّئًا في السَّنوات الأخيرة للحرب، ولكنّه لم يكن بالطّبع جهازًا محترفًا، وبمستوى الشَّعب". ويتطرق هنا إلى أمرين يظنهما جاذبين لمن يقرأ تاريخ إيران، الأول هو الرسالة الخاصة بالأمم المتحدة، المتعلقة بالخطة التنفيذية للقرار 598 حول الحرب بين إيران والعراق، والادعاءات التي رافقتها في الخارج حول الجهة التي قامت بتحريرها، والاتهامات التي وُجِّهت إليه بشأنها في الداخل. ويتمثل الأمر الثاني بإرسال لجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي، بعثة رسمية إلى طهران، لتخبرها أن المفوضية في نيويورك تخون البلاد، سعيًا منها إلى إقصائها داخليًا.
من جهةٍ ثانية، يرى ظريف أنّ أفضل نجاح سياسي للجمهورية الإسلامية في الحرب، هو الحصول على تقرير من الأمين العام يصف فيه العراق رسميًا بأنّه المسؤول عن الاعتداء على إيران، ويعتبر ظريف أن أحد أفضل أوسمة الشرف في حياته، هو تمكّنه من إنجاز هذا الأمر. ثم يتناول العلاقات الإيرانية - العراقية خلال الحرب، فيشير إلى أنها كانت علاقات عدائية، تتخللها مواجهات بعبارات غير لائقة بين الدبلوماسيين، يطلقونها في الاجتماعات الرسمية، وباللغة الإنجليزيّة.
نأى ظريف بنفسه عن هذه السلوكيات، ولطالما حاز تقدير السلطات العليا في إيران والسياسيين في الغرب. وعندما قام هنري كيسنجر بإهدائه كتابه "الدبلوماسية"، كتب له في الصفحة الأولى منه: "إلى عدوي المحترم محمد جواد ظريف".
بشكل عام، يشير ظريف إلى أنّ سلوك الدبلوماسيين الإيرانيين في الأمم المتحدة، وعدم إتقانهم للغة الإنجليزية، لم يعطِ صورة ناصعة عنهم، كما أن ملابسهم لم تكن ملائمة، فقد "كان البعض يأتي بمعطف الجندية. وعندما تخلّوا عن معطف الجندية، كانوا يأتون ببزّة متّسخة، وبشكل غير متناسق، كما كانوا يتركون الياقة مفتوحة". ومن المشكلات التي وقعوا فيها، عدم الإلمام بمواضيع النقاش:
"كنّا نخفي كل جهلنا باسم الاستكبار العالمي وتصدّينا له. ولهذا، منذ أن اكتسبنا تجربة، وأولينا الموضوعات العالمية أهميةً، استطعنا القيام بعمل ما. لهذا، لا أتحدث عن صديق أو عن عدو أو عن الاستمتاع بالعمل، بل أتحدّث عن الكفاءة"، يضيف.
من الأعمال الأخرى التي يتطرق إليها السفير السابق، موضوع الغزو العراقي للكويت، الذي شكَّل فرصة لإيران للتواجد في الأمم المتحدة بشكل إيجابي، حتى أصبح حضورها بارزًا:
"تغيَّرت حالتنا كثيرًا.. من بلد مُقاطِع للأمم المتحدة إلى بلد مرشح لعضوية مجلس الأمن من ناحية، ورئيس لإحدى أهم اللجان في الجمعية العامة من ناحية أخرى". ويصف الأمر بأنه أول نجاح باهر للجمهورية الإسلامية بعد الثورة.
منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، برز الدور الإيراني في المؤتمرات الدولية، رغبة في المشاركة بفعالية في مجال "صناعة الأعراف". وكان لهذا العمل أثره في مراكمة الكثير من الخبرات، ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن القسم الدولي، الذي تميّز بتخصصه، يعمل بشكل عصابة، صارت تدعى فيما بعد "عصابة نيويورك". يقول ظريف في هذا السياق: "على الرغم من أن حكومة نجاد سعت بشدة إلى تخريب الهيكل النخبوي الذي كنّا نُنتقد من أجله، فقد بقي الهيكل متخصصًا نخبويًا بسبب ضروريات العمل".
عند توقيع اتفاقية منع الأسلحة الكيميائية، يتحدث الرجل عن تحديات وعقبات تخللت الحدث، ففي تلك الفترة، عملت مجموعة من خلال "صناعة بيئة مريضة من ناحية نظرية، مثل نشر الأكاذيب في البلاد، لمنع الموافقة على الاتفاقية، لكونها تعتقد أنّ الموافقة عليها تضرنا. في النهاية، تدخّل السيد القائد (آية الله علي خامنئي) بشكل مباشر، وحُلَّ الموضوع بأمرٍ مباشر منه".
في معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في مؤتمر نزع الأسلحة في جنيف (CTBT)، أثيرت الغوغاء أيضًا، كالادعاء بالاعتراف بإسرائيل: "انتقدَنا البعض لأنّ اسم "إسرائيل" مذكور في الاتفاقية، فاتُّهمنا أنّنا اعترفنا بها!".
يعترف بأنّ رؤيته التخصّصية بشأنها كانت خاطئة، إذ كان يرى ضرورة رفضها، بناء على ملاحظات تخصصية وسيادية، ولكن "السيد القائد، السيد هاشمي(رفسنجاني)، ومجلس الأمن الوطني، صححوا خطئي ـ وأنا المختصّ ـ وبناءً على رؤيتهم الصائبة، وقّعنا الاتفاقية"، فمخالفة الاتفاقية كان يعني السعي لامتلاك السلاح النووي، بحسب ظريف.
في هذه المرحلة أيضًا، وُجِّهت الاتهامات في الداخل إليه "من الغوغائيين الجهلة أو المغرضين"، يصفهم ظريف، الذين أثاروا البلبة حول الاتفاقية، بدعوى أنها تهدد الأمن القومي الإيراني. هنا، بدأ التشكيك في أهداف إيران على المستوى الدولي، حيث كانت أميركا وغيرها توجّه التهم إلى إيران، ووجدوا الخلاف الداخلي بالنسبة إلى الاتفاقية حجة لتبرير الاتهامات.
ويضيف: "لعلّ كلمة خيانة هي الكلمة الوحيدة المناسبة لوصف حالة الغوغاء التي جرت، ولو بذلنا شيئًا من التساهل، فسنذكر كلمات مثل الجهل، الأمية، الحقد، والحسد".
على الصعيد الشخصي، لم يحدث قط أن أقام علاقة صداقة وثيقة مع مندوب دولة ما، ففي رأيه، يجب أن تكون واقعيًا في الدبلوماسية، وأن لا تعتبر أحدًا صديقًا، وأن تمثّل في الوقت نفسه دور الصديق. لا يرى إسرائيل بلدًا ذا شرعيّة، "أما العلاقة مع الأميركيين، كما يقول الفقهاء، ليست واجبة، وفي الوقت نفسه، ليست حرامًا"، يقول.
منذ العام 2002م، أصبح ظريف مندوبًا لإيران لدى الأمم المتحدة: "إنك أفضل خيار"، قال له السيد خامنئي، وذكر ملاحظات ضرورية لمهمته: "إنّ وظيفتك هي أن تطرح رؤيتك، حتى لو تيقنْتَ أنّها مخالفة لرؤيتي بنسبة 180 درجة. لا تقم بتغييب رؤاك الشخصية، بل إنّ طرحها يعدّ وظيفة شرعية".
التزم بتوجيهاته، برغم أن ذلك لم يكن من مصلحته ظاهرًا، كما يقول، ولكنّه كان متقيدًا بوظيفته من الناحية الشرعية والقانونية.
في هذه الفترة، برز اسمه في الأخبار أكثر، نظرًا إلى دوره في المفاوضات النوويّة. كان مسؤول فريق المفاوضات، وبرغم دوره في الملف، لم يُدعَ إلى زيارة المنشآت التي يتفاوض عنها. "ظننت أنّ الأمر غير ضروري، أو أن ثمة ملاحظات بهذا الخصوص"، يبرّر ظريف.
كانت نهاية عمله في وزارة الخارجية في العام 2007م. ولكن منذ انتخاب السيد أحمدي نجاد، لم يكن له أي دور في الملف النووي. يقول في هذا السياق: "عزل (نجاد) في بداية رئاسته الشّخصيات التي كان لها دور في المفاوضات، باستثنائي. سمعت أنه كان يرغب في عزلي قبل بقية السّفراء في أوّل سفر له إلى نيويورك، ولكن يبدو أنّ السيد القائد لم يوافق". أحد أسباب عزله خلال فترة عمله، كما يرى، أنه كان "مراقِبًا، ومن واجب المراقِب أن يقول ما يرى، لا أن يفكر فيما يعجب المستمعين من قول أو رؤية، وينقل ذلك فقط".
في هذه الأثناء، سعى إلى توسيع نشاطاته في مجال الدبلوماسية العامة، وتوعية الرأي العام الأميركي بخصوص البرنامج النوويّ الإيرانيّ،"كما أنّ المواقف الحادة للسيد أحمدي نجاد شكّلت بيئة معادية لإيران في المجتمع الأكاديمي، وكان من الواجب القيام بشيء من التوعية في هذا الصدد"، فقدَّم صورة جديدة عن إيران، وغيّر نوعًا ما نظرة النخب السياسية الأميركية إلى إيران.
بعد انتهاء مهمّته، أبدى الإيرانيون في أميركا والدبلوماسيون الكثير من المحبة تجاهه، وشهد حفل توديعه في الأمم المتحدة حضورًا دبلوماسيًا مهيبًا. في تلك الفترة، حلّت "استراحة ظريف"، لرغبته في التفرغ للعمل الأكاديمي، ولكنه ليس السبب الوحيد: "كنت أعلم أنّه لن يُقدَّم لي عمل تنفيذيّ، كما أنّني لم أرغب في أيّ عمل تنفيذي في هذه الحكومة، لأنّ آرائي لا تتوافق معها".
في سيرة "سعادة السفير" الكثير من الإنجازات، وفيها أيضًا الكثير من الأخطاء. لا يشعر بالحرج عند الحديث عن أي عمل قام به، بل يرى أن التجارب التي خاضها، والأخطاء التي وقع فيها، هي التي صنعت منه دبلوماسيًا مخضرمًا. يتحدث بصراحة عن بعضها، ويعكف عن الإشارة إلى بعضها الآخر، لئلا "تسبّب سوء فهم"، ولكن المهم أنه سعى طيلة عمله إلى أن يحافظ على القيم الوطنية والدينية. وما يتأسّف عليه هو عدم توافر أرضيّة للقبول بهذه التجربة، أو عدم قبول أخذ العبرة منها، وتكرار الأخطاء نفسها.
هل يكرّر وزير الخارجية الإيراني الحالي تجربته السياسية تلك لو كان الخيار بيده؟ يجزم أنّه كان ليختار تخصصًا حرفيًا، وليس سياسيًا، مثل الهندسة أو البناء، "فذنبها ومصائبها أقل". ولكنه في كل المناصب التي تقلّدها، لم يرَ نفسه سوى خادم بذل كل جهده لخدمة بلاده، واجتهد كي لا يضحّي بمصالحها من أجل مصالحه الشخصية.
يبقى للناس أن تحكم على نتائج عمله، و"الحكم النهائي لله العليم الكريم"، يختم ظريف.
نور بكري كاتبة لبنانية
https://www.almayadeen.net/books/779527/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85--%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1--%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF-%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D9%81