المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذابح الأبرياء في العراق: تكفي لتصنيف «البعث» إرهابيا



فاتن
08-24-2005, 06:39 AM
رشيد الخيون


بات العراقيون يميزون هوية الجاني في مسلسل الموت إرهابياً من شراة الجنة، أو بعثياً من شراة السلطة. الأول ينتحر وينحر، بينما الثاني ينحر ويهرب. وما يجمع بين الاثنين هو عدم تقيد النحر بشروط، لا يهم عندهما جنس المقتولين ولا مسؤولياتهم. فالعراقيون، بعرف هؤلاء، خصماء حلال دماؤهم ما قاموا ببلاد لا تنوي تطبيق شريعة الأزارقة، ورغبت عن البعث وممارسته. وكيف لا ترغب بلاد عن تلك الأيام وقد شهدت التصفيات البدنية بأهلها، بسبب رؤيا نائم أو همسة معترض! وها هي تعيش حلاوة الاختلاف السياسي والفكري، والشغب البرلماني الحر.

أيزيدي يقف وسط حشد مسلم، بين معمم وأفندي، ويحاول منع رئيس الوزراء من التعوذ لفلسفة دينية لا صلة لها بعبادة إبليس. ونساء يعتصمن أمام الجمعية الوطنية ينادين ضد سنِّ قوانين تميزهنَّ عن شركائهنَ بالوطن. وأول مرة يرفع العراقي صوته ويطالب بسد عوزه، ويشير إلى السارق والجائر من أرباب الدولة باسمه وجنايته. ويحتدم الصراع الفكري عبر مناظرات وملاسنات، تجري بين قوى تحاول تثبيت دولة قانون وبين أخرى تحاول تحجيم الديمقراطية على مقاسات المذهب أو العشيرة.

مذابح الأبرياء تسر الضمائر التي لا تميز بين الدم والماء، ولا يعنيها العراق بشيء بقدر ما يعنيها أمر الدفاع عن صدام حسين وبطولاته، وتلفيق حكاية إلقاء القبض عليه وهو يرتل القرآن، شأنه شأن النساك والصالحين! وإشاعة حزنه الملفق على حال الفلسطينيين والعرب. ليس أنشط اليوم من منظمات البعث بالسودان والأردن واليمن ولبنان في إصدار البيانات، وعقد المؤتمرات لتجميل صورة حقبة البعث المطوية.

ما زال البعثيون ينشطون ويخططون لمذابح الأبرياء، وكل واحدة منها تكفي أن يوصم هذا الحزب دولياً بالإرهاب، ويستوجب وتقييد نشاطه في المقاومة المزعومة، شأنه شأن النازية بعد سقوطها. ومبررات ذلك ارتباطه بدوائر الإرهاب، فالدولة الأردنية أفصحت عن مطالبتها بأبي مصعب الزرقاوي، ولم تستجب سلطة بغداد البعثية لطلبها، وأن أيمن الظواهري كان ضيفاً ببغداد في إحدى المؤتمرات القومية. إن التركيز على صدام حسين ودائرة المقربين له، وإعفاء حزب البعث من ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية، داخل العراق وخارجه، أمر يهون من فظاعة تلك المرحلة، ويقلل من شر عودتها ثانية. فمن غير الجرائم التي ارتكبت داخل العراق، أو ان السلطة و(المقاومة)، كانتا قد حولتا دبلوماسية النظام السابق عواصم العديد من دول العالم إلى مسارح للجرائم: اغتيال توفيق رشدي بعدن، ومهدي الحكيم بالخرطوم، وعبد الرزاق النايف لندن، وحردان التكريتي بالكويت، وعبد الرزاق قلق بباريس، وعادل وصفي وطالب السهيل ببيروت، والقائمة تطول.

وحتى هذه الساعة لم تعلن جهة بعثية أو قومية عروبية براءتها من فعل البعث العراقي في السلطة وخارجها، بل على العكس أخذت الصحف المنحازة تنشر بيانات البعثيين، وتدبر أمر مؤتمراتهم، وآخرها كان ببيروت (28 ـ 29 تموز 2005). وتنشر كلاماً لصدام على أنه شعر «إن لم تكن رأساً فلا تكن آخره، فليس الآخر سوى الذنب». وقد عبر مثل هذا اللغو عن حقيقة الموقف البعثي من الديمقراطية والتعددية، أنهم لا يريدون غير السلطة، وتدمير مَنْ يعترضها. وتحقيق شعارهم، الذي أعلنه أحمد حسن البكر «جئنا لنبقى». وبطبيعة الحال أنهم كانوا صادقين بإطلاق هذا الشعار، وعملوا من أجله طوال خمس وثلاثين سنة. لكن، لم يدر في خلدهم تبدل الدنيا، وتحول الصديق إلى عدو، مثلما حصل بعد غزو الكويت.

تسر مذابح الأبرياء الشريحة غير القانعة بتبدل الأحوال، فتحاول جاهدة إحياء سُنَّة دعا الفقيه الحسن البصري أن لا يعيدها الله على العراق والعراقيين، يوم رفع يديه متذرعاً لحظة سماعه بموت الحجاج بن يوسف الثقفي: «اللهم أنت قتلته، فقطع سنُّته». سُنَّة لم يتأخر الخليفة عمر بن عبد العزيز عن وصفها بالقول: «لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم»!

الحلة، والمسيب، وبغداد الجديدة، والمدائن ومحطة النهضة كلها مناطق مرصودة رصداً طائفياً، القتل فيها يرضي السلفية لأن أهلها كفرة بعرفهم، ويرضي البعثيين لأنهم طلبة حق المدفونين في المقابر الجماعية، وضحايا سموم حلبجة، وعمليات الأنفال، والمغيبين في غياهب السجون، وحق ضحايا نزوات البعث في عصريه الحرس القومي وجهاز حُنين. محطة النهضة بوابة بغداد إلى شرق وجنوب العراق وكركوك وأربيل وبعقوبة، مكان مزدحم بباعة الماء صيفاً، وبباعة التمر والراشي والشلغم شتاءً. دار سفر ومسطر عمال، ويزدحم بحلاقي الأرصفة وصباغي الأحذية، وعلاوي خضار يختلط فيها خيار وطماطم الرمادي بخيار وطماطم بعقوبة والصويرة، وباعة ألبسة بالية. فمَنْ يتردد على مكان بهذه المواصفات غير اللاهثين وراء لقمة العيش. سيارتان تركتا عشرات القتلى من هؤلاء. وإمعانا بالقتل حالت سيارة موت ثالثة بين الجرحى والمستشفى.

أحزنت تلك المذابح أول ما أحزنت المكتوين بها من أمهات وآباء وأرامل وأيتام، ومَنْ لم يلوث قلمه بالدم العراقي من كتاب السياسة والثقافة والفكر العرب، وبادر إلى شجبها واستهجانها. أما المسرورون بها فبين مجاهر بالتأييد وبين صامت راضٍ. وبهذا ليس من العدل مساواة حزن الشيخ عبد الغفور السامرائي، رئيس الوقف السُنَّي، بمسرة مَنْ أيدها أو لاذ بالصمت من شيوخ هيئة علماء المسلمين عندما عرض عليه شجبها. وليس من العدل مساواة حزن حاجم الحسني، رئيس الجمعية الوطنية، بمسرة مَنْ يحاول ترويج مفاهيم القتل. إن حزن الكبار من أمثال الشيخ السامرائي والدكتور الحسني، وكل مَنْ حمل كفنه على كفه من أهل السُنَّة، وساهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو العاصم من فتنة طائفية لا منتصر فيها ولا مهزوم.

أحسب أن التاريخ سيتذكر، بعد دهور، مذابح العراق، لكبح ولادة عهد جديد خالٍ من القسوة، بما حُكي عن ممارسة الملك الروماني هيرودس الكبير، يوم وضع السيف في رقاب أطفال فلسطين حتى لا يولد المسيح، وقد أشير إلى تلك الجريمة النكراء بـ «مذبحة الأبرياء».