المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإمارات في عيدها الخمسين: حظّاً سعيداً... دولةَ الوشاية والحاكم الملهم الذي تفر منه زوجاته وبناته



سيف مجرب
12-03-2021, 11:51 AM
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/202112302142215637740877022157969.jpg


دعاء سويدان - الأحبار

الجمعة 3 كانون الأول 2021

«دبي ليست صدفة... دبي اليوم دانةُ الدنيا وستبقى بإذن الله». هكذا أخبرَت سماءُ مكّة، محمد بن راشد، عندما كان يرقب نجومها مسائلاً إيّاها عن المستقبل.

هناك، «تحت نجوم مكّة، بدأت رؤيتي».

يكاد المستمع إلى تلك القصة الشاعرية يخال ابن راشد نبيّاً من الأنبياء، ودولته التي تحتفل اليوم بعيدها الخمسين، «المدينة الفاضلة» التي أخبرنا عنها فلاسفة اليونان، وكُتبه التي تؤرّخ «نضالاته» وأترابه وأسلافهم، ينبوع «الحكمة» الذي يُغترف منه لتلمّس طريق النجاة.

لكن مهلاً؛ ليس ما تَقدّم إلّا نموذجاً من وساوس ابن راشد في مخطوطاته (كتاب «قصّتي» تحديداً) التي أودعها قليلاً من أصالة («حكمة» بتعبيره)، وكثيراً من تكلّف («محبّة» بلَفْظه)، مجتهداً في تطويع اللغة لتمويه حقيقة «الحاكم الملهَم»، الذي تفرّ منه زوجاته وبناته فرارَ الفريسة من قاتلها.

هذا الشيخ المهووس بالثرثرة، هو الإبن الثالث للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي تأسّس على يدَيه ويدَي «رفيقه» الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الاتحاد الحالي المُسمّى «الإمارات العربية المتحدة».

صحيحٌ أن حاكم دبي، الذي تولّى الإمارة في 4 كانون الثاني 2006، قد لا يحتاج إلى مَن يعرّف عنه في ظلّ كثرة الطبّالين والمزمّرين على امتداد مساحة الأمّة، لكن استحضاره هنا مردّه طبيعة المناسبة التي يقدّم ابن راشد شهادات «مفيدة» في شأنها.

يتوجّس الإماراتيون من توجّه السعوديين لإجبار الشركات المتعاملة معهم على نقل مقارّها الإقليمية إلى المملكة(أ ف ب )

يريد منّا المُنظّر لـ«فكر دبي وفلسفتها»، أن نبتعد عن «ضوضاء السياسة وتشابكاتها ومعاركها الصِفرية»؛ ذلك أنها «لم تصنع لنا نحن العرب شيئاً».

بتعبير آخر، أن نقفل أذهاننا، ونصمّ آذاننا، ونكمّ أفواهنا، ونَنْعم بالجَهالة وفق ما يفعل بعض أصحاب «الإقامة الذهبية»، الذين يَبدون أشدّ الناس حرصاً على حياة، أيِّ حياة، ولو في زنزانة يتوهّم صاحبها أنه اختار «المعركة الصحيحة»، تماماً كما خُيّل لابن راشد أن «مباهاة الغليون» ما بين أبيه ورئيس الوزراء البريطاني الراحل، هارولد ويلسون، في صيف عام 1969، إنّما انتهت رمزياً لصالح المستعمَر، بقول راشد لابنه:

«قُل لويلسون إنّني متّفق معه بأن غليونه أكبر، ولكن بالرغم من أن غليوني صغير، إلّا أن التبغ المستخدَم فيه قوي وثقيل للغاية».

يجبّ الراوي الحقائق بأحاديث مختزَلة تستهدف إقناعنا بعظَمة متخيَّلة، إلّا في ما يتّصل منها بِفِعل «العقارب» (التي يمقتها ابن راشد)، حيث تَظهر الإمارات، بالفعل، أعظم دولة وشاية ونميمة على الإطلاق، فضلاً عن براعتها في تحويل الصحراء، لا إلى «آيات جمال» رأسمالية، بل إلى مقابر جماعية للبشر، ليس سجن الوثبة القائم على بُعد عشرات الكيلومترات فقط من «أطول بُرج»، سوى نموذج منها.

«استجابةً لرغبة شعبنا العربي، فقد قرّرنا، نحن حكّام إمارات أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة، إقامة دولة اتحادية باسم الإمارات العربية المتحدة».

هكذا، اجتمع زعماء القبائل المتناحرة على القُطعان والقوافل ومصادر المياه واللآلئ، في حقبة كانت فيها الإمبراطورية البريطانية تعيش آخر أيامها، لتشكيل الاتحاد الذي لا تزال الخلافات التاريخية تدبّ في ما بين أطرافه، وإن لم تتّخذ إلى الآن أيّ شكلٍ دراماتيكي.

هذا الرِباط الهشّ، وإن بدا شديد التماسك في ظاهره، هو ما تُفسَّر به، أساساً، السياسات الداخلية القائمة على ديكتاتورية فريدة من نوعها، وتلك الخارجية المرتكزة على اللهاث الدائم وراء مكانة مستحيلة، في ما يُسمّي أنور قرقاش آخر تجلّياته، المتجسّد في انتهاء الفصْل الأكثر مأساوية من تمثيلية «أسبرطة العرب»، بـ«الحكمة والحنكة وطول النفَس».

أدرك، محمد بن زايد، الشيخ الذي «لا يريد أن يكون في الصورة» كما سبق أن نقل عنه أحد أصدقائه - لا تواضعاً على ما يبدو، إنّما سعياً لاصطناع هالة يصعب رسمها واقعاً نظراً لغياب الكاريزما -، مبكراً، أن إماتة بذور التمرّد الموروثة من زمن «ساحل القراصنة»، لن يكون ممكناً من دون فرْض حُكم الفرد المستبدّ، الذي حوّل «المجلس الأعلى للاتحاد»، الذي يضمّ حكّام الإمارات السبع ويُفترض به هو، وفق الدستور، أن يتّخذ القرارات المصيرية مِن مِثل الانخراط في الحرب على اليمن أو التطبيع مع إسرائيل، إلى هيكل عظمي بلا حوْل ولا قوّة.

ولا يُستثنى من ذلك إلّا الهامش (المحدود) الممنوح لآل مكتوم، بوصْف إمارتهم «أيقونة» البلاد، التي تَفقد الأخيرة بفقدانها «وظيفتها العظيمة»، كما يسمّيها ابن راشد، والمتمثّلة في «تغيير حياة الملايين نحو الأفضل»، أي بتعبير أوضح، حَشْرهم في «مستعمرة عبيد كبرى» هي «أجمل (إقرأ: أقبح) ما في حياتنا».

تستعجل الإمارات استثمار اللحظة في خلْع ثوب البلطجة وتدثّر عباءة «تعزيز الجسور وتصفير المشاكل»

على أن هؤلاء الملايين العشرة، الذين يتفاخر قرقاش بوصول التعداد السكّاني الإماراتي إلى عتبتهم، بعدما لم يكن يتجاوز في عام 1968 حاجز الـ180 ألف نسمة، ليس سوادُهم الأعظم، أي ما لا يقلّ عن 85% منهم، إلّا مهاجرين تجمعهم بالمشائخ رابطة المال، لا اللُّحمة الوطنية الموهومة التي يحاول فيلم «الكمين» الإماراتي المنتَج حديثاً بمناسبة «اليوم الوطني» للبلاد، نسْج خيوطها بمِغزل بطولة متخيّلة في بطون أودية اليمن.

ولعلّ تلك الحقيقة لا تفتأ تَطرُق أذهان حكّام الإمارات، كلّما صفَت وخرجت لبُرهة من كيس العَمْلقة المصنوعة بالأموال، ليَلفوا أنفسهم أمام تحدٍّ وجودي متقادم: البُنية القومية للسكّان.

تحدٍّ هو ما يجعلهم يسعون منذ عشرات العقود إلى «تأمين قاعدة اجتماعية قوية لهم بين السكّان الأصليين»، عبر «تقديم مختلف التسهيلات المادية» لهؤلاء، وفي الوقت نفسه «اتّخاذ كلّ الإجراءات الممكنة لتفادي حدوث أيّ شكل من أشكال الصدام الاجتماعي»، وذلك بهدف «الحفاظ على البنية السياسية الاجتماعية القائمة»، وفق ما يورده ف. أ. لوتسكييفيتش، ور. ف. كليوكوفسكي، في كتابهما «الإمارات العربية المتحدة»، الصادر عام 1979، إنّما الصالح لتفسير الكثير من الظواهر الراهنة.

على أن هذه المساعي لا تحجب الاشتغال المتواصل على إدامة ركيزة إغراء المغتربين وتطويرها، خصوصاً في وقت يَكثر فيه المنافسون في مجال العولمة والنيوليبرالية، وعلى رأسهم السعودية التي لا تُخفي تطلّعها إلى انتزاع موقع دُبي في المنطقة، من خلال مشاريع مدنٍ عالمية مِن مِثل «نيوم» و«ذا لاين».

وهي مشاريع، على تعثّرها، تكاد تمثّل مصدر قلق دائم بالنسبة إلى أبو ظبي، لاسيما في ظلّ تَوجّه المملكة لإجبار الشركات المتعاملة معها على نقل مقارّها الإقليمية من الإمارات إلى السعودية، تحت طائلة حرمانها من العقود في حال فشلها في إتمام هذه المَهمّة بحلول عام 2024.

وفي مواجهة ما تَقدّم، بدأ الإماراتيون سلسلة خطوات احترازية، من بينها أخيراً تعديل قوانين الأحوال الشخصية بما يمكّن الأجانب من اتّباع قوانين بلدانهم في ما يتعلّق بالطلاق والميراث - الأمر الذي لا يبدو منفصلاً البتّة عن «اتفاقيات آبراهام» التي أعقبها إنشاء «رابطة المجتمعات اليهودية في الخليج» بهدف تثبيت قواعد عيْش لليهود في الدول الخليجية وعلى رأسها الإمارات والبحرين؛ فالخلْق كلّهم «عيال الله» كما أوصى زايد ابنه في ثمانينيات القرن الماضي -، فضلاً عن إلغاء تجريم الكحول، والسماح لغير المتزوّجين بالإقامة معاً، وقبْل ذلك منْح المقيمين فرصة للبحث عن وظائف جديدة في حال تعطّلهم عن العمل بدلاً من ترحيلهم مباشرة.

والظاهر أن هذا المسار التحوّطي لن ينتهي قبل أن يصل بالإمارات إلى حيث ستجد نفسها مُجبرةً على تطوير برامج منْح الجنسية، وجعْلها أكثر تساهلاً، بعدما ظلّت منحصرة - حتى الآن - بدائرة شراء العقارات.

على أيّ حال، وعلى رغم كونهم «جيران سُوء»، إلّا أن «أيّ شخص يحلّ محلّ آل سعود سيكون كابوساً... علينا أن نساعدهم على مساعدة أنفسهم»، وفق ما قاله ولي عهد أبو ظبي للدبلوماسي الأميركي، جيمس جيفري، في عام 2005 («ويكيليكس»).

لكن «معروف» ابن زايد هذا، والذي لعب دوراً مشهوداً في تصعيد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى سدّة الحُكم، يبدو أنه بدأ ينقلب على أصحابه، شأنه شأن المغامرات العسكرية المتنقّلة من سوريا إلى اليمن وليبيا وغيرهما، والتي لم يَعُد بإمكان أبو ظبي المُضيّ فيها من دون المخاطرة بـ«مسافة الأمان» التي لا تزال تحرس الهيكل.

ومن هنا، يغدو مفهوماً ما يقوم به الإماراتيون منذ مدّة من إعادة جدولة لأولوياتهم، وعملية تصفية لخسائرهم، وخطوات تهدئة تجاه خصومهم، مستعجلين استثمار اللحظة الإقليمية والدولية في خلْع ثوب البلطجة وتدثّر عباءة «تعزيز الجسور وتصفير المشاكل»، وفق ما يحاجج به قرقاش أيضاً.

أمّا الثابت في كلتا المرحلتَين، فهو السعْي إلى البقاء دائماً تحت المظلّة الأميركية، وحديثاً الإسرائيلية، ولو جرى، من وقت إلى آخر، التلويح بشراكات مضادّة لا تزال عاجزة عن المنافَسة والصمود. ذلك أن الهدف الرئيس المتمثّل في جعْل ابن زايد «مهووساً» بالمنتَج الغربي، تَحقّق منذ عام 1995 عندما استدُعي الرجل إلى معسكر «ليجون» الأميركي، حيث حضر مناورة حيّة لـ«المارينز».

وإذا كان الأمر كما تَقدّم، فإن ابن زايد «سيشتري أيّ شيء ننتجه» - بحسب المنقول عن وزير الدفاع الأميركي السابق ويليام بيري -، ولو أنه «مسبارٌ» يلهو الإماراتيون ومريدوهم بالتقاط صُور إلى جانبه.

https://www.al-akhbar.com/Arab_Island/325114/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%85%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D8%AD%D8%B8-%D8%A7-%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A7--%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B4%D8%A7%D9%8A

سيف مجرب
12-03-2021, 11:58 AM
من زايد إلى محمد: يوبيل ذهبي للخوف

حسين إبراهيم - الأخبار

الجمعة 3 كانون الأول 2021


https://s.yimg.com/ny/api/res/1.2/xle5xXm_iWODo1.f6dzCuA--/YXBwaWQ9aGlnaGxhbmRlcjt3PTY0MDtoPTQyNw--/https://s.yimg.com/uu/api/res/1.2/RS7thAHdVGx38ph8iuIpBw--~B/aD0xOTI0O3c9Mjg4NjthcHBpZD15dGFjaHlvbg--/https://media.zenfs.com/en/afprelaxnews.com/0ddede1ee26a335e1bb20770df3e7fc6

ما ورثه ابن زايد عن أبيه وطبّقه بأمانة، هو العداء للإسلام السياسي (أ ف ب )

منذ تأسيسها قبل خمسين عاماً، لا تزال الإمارات تعيش قلقاً دائماً على مصيرها. فليس سهلاً على دولة فتيّة مُكوّنة من سبع إمارات كانت متحاربة، ثمّ أصبحت مهادِنة، ثم متّحدة، تحت عين الاستعمار البريطاني الذي غادرها لاحقاً، أن تطمئنّ إلى تماسكها واستمرارها في مثل هذه المنطقة المضطربة التي كادت دول كبيرة وراسخة فيها تفقد أجزاء منها قبل وقت ليس ببعيد، كما حصل عند إقامة خلافة «داعش» على أجزاء من العراق وسوريا

ليست الظروف عند تأسيس دولة الإمارات في الثاني من كانون الأول 1971، مماثلةً لما هي عليه اليوم. وليس حُكم المؤسّس زايد بن سلطان آل نهيان، مشابهاً لحُكم ابنه محمد الذي يتولّى إدارة الدولة فعلياً، والمُعَدّ أميركياً منذ زمن طويل لهذه المهمّة، حتى قبل وفاة المؤسّس، وإن في الظلّ، خلْف أخيه غير الشقيق خليفة الذي أقعدته جلطة دماغية عام 2014. فأبناء زايد الستّة من زوجته الثالثة فاطمة الكتبي، يهيمنون على الحُكم فعلياً عبر إمساكهم بالمفاصل الأساسية للدولة، وهم إضافة إلى محمد، حمدان وهزاع ومنصور وطحنون وعبد الله.

قامت الدولة على معادلة ثبّتها زايد، وهي أن الإمارات السبع، مهما تصارعت في الماضي، لا بديل أمامها إلّا الاتحاد، لأن لا فرصة لأيّ منها للنجاة بغير ذلك. لكن هذا الواقع لم يُعفِ زايد من الحاجة إلى توظيف كلّ مهاراته للحفاظ على لُحمتها، على رغم أنه ما كان ليستطيع أن يفعل لولا النفط، وهو سلاح أبو ظبي الرئيس، حتى اليوم، لإخضاع الإمارات الأخرى، وخاصة دبي، نظراً إلى التنافس التاريخي بين آل نهيان وآل مكتوم. فاحتياط دبي النفطي، مثلاً، لا يساوي أكثر من خمسة في المئة من احتياط أبو ظبي. ولذا، منحت الأخيرة الأولى عشرة مليارات دولار لإنقاذ اقتصادها بعد أزمة 2008 الاقتصادية العالمية.

كذلك، حرص رئيس الدولة الراحل على علاقات جيّدة بالجوار الخليجي، على رغم الخلافات الضاربة في التاريخ على الحدود والموارد. إذ استضاف قمّة تأسيس «مجلس التعاون الخليجي» عام 1981. كما انتهج سياسة عربية ودولية متناسقة، ترتكز على إيلاء اهتمام رسمي خاص لفلسطين، سابِقاً السعودية إلى فرض حظر نفطي على الغرب خلال حرب تشرين الأول 1973، وإن علم أن رعاية الغرب لسلطته تتضارب مع هذه السياسة، وأنه سيكون عليه في اللحظات الحرجة اختيار مصلحة النظام، وهو ما فعله في مناسبات كثيرة، منها حروب الخليج والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان.

وهكذا، فإن العلاقة مع الغرب ظلّت دائماً محدّداً رئيساً، منذ تأسيس النظام حين استعان زايد بالدعم البريطاني في 1966 للإطاحة بشقيقه الأكبر شخبوط الذي حَكم أبو ظبي 38 عاماً، ثمّ في مفاوضات الاتحاد بين الإمارات، التي جرت وفق قوانين وضعتها بريطانيا.

لكن الفارق الأساسي بين زايد وابنه، يبقى شخصياً؛ فالأوّل يبدو للإماراتيّين وكأنه نبَعَ من الأرض، بينما الثاني يحاول أن يظهر بمظهر مَن يكمل مسيرة الأوّل، لحاجته إلى شرعيّته كحاكم لأبو ظبي، والتي استمدّها من رضى قبلي واسع بحُكمه قبل قيام الدولة، ثمّ مصلحةٍ مثّلها النظام الوحدوي للإمارات الأخرى بعد تأسيس الاتّحاد، إلّا أن الابن يفعل العكس، أو على الأصحّ يصل إلى نتيجة معاكسة تماماً.

ففي أيام زايد، ظلّت الإمارات نسبياً خارج الصراعات العربية، وكان هذا عاملاً حاسماً في تطوّرها اقتصادياً. ثمّ تَغيّر كلّ شيء فجأة بعد «الربيع العربي»، وصعود الإسلام السياسي لملء الفراغ الذي أحدثه سقوط عدد من الحكّام العرب، ثمّ تزايُد نفوذ إيران، عندما حقّق محور المقاومة تقدّماً كبيراً ضدّ ما استهدفه من ذلك «الربيع»، من خلال هزيمة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، وكسْر المعارضات السورية المسلّحة بأطيافها كافة، والوقوف إلى جانب اليمن في تصدّيه للعدوان السعودي - الإماراتي - الغربي.

المنبع الحقيقي لسياسة ابن زايد هو الخوف، ليس من الإسلام السياسي ولا من إيران فقط، بل من كلّ الآخرين

ما ورثه ابن زايد عن أبيه وطَبّقه بأمانة، هو العداء للإسلام السياسي، وخاصة لجماعة «الإخوان المسلمين». هذا العداء بنيوي في النظام، وإقصائي لا يحتمل أنصاف الحلول، باعتبار أن زايد ورث عن أجداده الحُكم بفعل انتمائه القبلي، بينما الجماعة تدعو إلى ممارسة السياسة على أساس ديني، ما يلغي عملياً أيّ ميزة للانتماء القبلي. الكثير من إسلاميّي الإمارات ينتمون إلى حركة «الإصلاح» الإخوانية، وهي منظّمة تأسّست في سبعينيات القرن الماضي، وكان من بين أعضائها الآلاف من المقيمين الأجانب، وخاصة المصريين، ممّن وصلوا إلى الدولة لسَدّ حاجتها إلى موظّفين وعمّال وأساتذة.

في البداية، قبلت العائلات الحاكمة بوجود «الإصلاح» بوصفها حركة دعوية لا سياسية، لكن مع تَحوُّل وزارتَي التربية والعدل إلى معقلَين للإسلاميّين، سرى القلق في دوائر الحُكم. وقام أبناء زايد، بقيادة محمد، بحملة «تطهير» للدولة من الموظفين الإسلاميين، وغيّروا المناهج التربوية والقوانين، وأقاموا نظاماً صارماً للمراقبة يضع جميع الأنشطة تحت عين الدولة، ويشمل عمليات التحويل المالي، بحثاً عن أيّ أثر للميول الإسلامية مهما كان طفيفاً. وبالنتيجة أصبح «إخوان» الإمارات وإسلاميّوها موزّعين بين السجون والمنافي.

اللحظات الأصعب لأبناء زايد كانت عندما بدا أن الولايات المتحدة نظرت إلى «الإخوان المسلمين» بصفتهم أحد العوارض الجانبية الحتمية للديموقراطية. وهو ما مثّل سبباً رئيساً لخلاف وليّ عهد أبو ظبي مع باراك أوباما الذي رفض الاستماع إلى نصائح الأوّل، وبدا عازماً على الخروج من الشرق الأوسط.

ولذا، عندما وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في 2016، سارع ابن زايد إلى إرسال موفديه إليه بعروض يسيل لها اللعاب، فقام التحالف غير المُعلَن الذي ضمّ أيضاً محمد بن سلمان وبنيامين نتنياهو، وأخذت مغامرات ولي عهد أبو ظبي مداها الكامل، ليتورّط في أزمات لا سبيل لديه لمعرفة كيفية الخروج منها. هنا، كان الانحراف الكبير عن نهج الوالد، فلم يُبقِ ابن زايد لبلده صديقاً، ثمّ انتهى به المطاف متحالفاً مع إسرائيل، بحماسة غير مفهومة، ومحاوِلاً فرض هذا التحالف بالقوّة على شعبه المتمنّع والخَجِل ممّا فعَله حكامه، خاصة بعد أن صار كثيرون يصفون الإمارات بأنها «إسرائيل الخليج».

تجاوَز وليّ عهد أبو ظبي بذلك، ما فعله أنور السادات بزيارته إلى القدس، حتى بمعايير الزمن الحالي، على رغم أن التجارب الماثلة أمامه للدول التي سبقت إلى التطبيع مع العدو، سواءً كانت راغبة أو ادّعت الإكراه، أظهرت أن هذا طريق مسدود بالنسبة إلى الأطراف العربية، على اعتبار أن إسرائيل تأخذ ولا تعطي.

المنبع الحقيقي لسياسة ابن زايد هو الخوف، ليس من الإسلام السياسي، ولا من إيران، فقط، بل من كلّ الآخرين، وخاصة من الحلفاء، الأمر الذي يفسّر جزئياً، ربّما، التصاقه بإسرائيل. فهو حَذِر من الأميركيّين، وعلاقته بحكّام الإمارات الأخرى الذين لم يَعُد خافياً أن عدداً منهم، ليس موافقاً على سياسته المغامرة، لا في ما يتعلّق بالتطبيع مع العدو فحسب، وإنّما أيضاً في كلّ الورطات التي أدخل البلاد فيها، من حرب اليمن التي جعلت قصف الإمارات نفسها وارداً، إلى ليبيا، إلى مقاطعة قطر والعداء لتركيا، وأخيراً إلى الخلاف المستجدّ والمتصاعد مع ابن سلمان.

لكن ذُعْر ابن زايد من الآتي، وهو يرى رعاته الأميركيّين يخفّفون وجودهم في هذه المنطقة، ليس جديداً على الإمارات. فقد سبق لوالده أن خبِر ظرفاً مماثلاً عندما انتهى فجأة الحُكم البريطاني للمنطقة بعد 150 عاماً من الاستعمار، وغادر الجنود البريطانيون ميناء عدن عام 1967، وفقدت أبو ظبي الحماية البريطانية، وبدا أنها تُركت لمصيرها نظراً لوقوعها بين دول أكبر منها بكثير، مثل إيران أيام الشاه والعراق وسلطنة عُمان والسعودية.

أمّا الخوف الأكبر لابن زايد فيبقى هشاشة الدولة، على رغم تقديمها كقصّة نجاح اقتصادية، وهي فعلاً كذلك، لكن مَن يضمن استمرار هذا النجاح إذا طرأ تحوّل كبير مِن مِثل تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، أو تحوّل أساسي في قطاع الطاقة يضرب وظيفتها، أو بقاء حاكم مثل ابن سلمان الذي يريد سلب دبي دورها كمركز تجاري عالمي؟

والهشاشة ليست حكراً على الإمارات، لكنها الدولة الأصغر عمراً بين الدول العربية، وخلافاتها مع جيرانها قديمة، ويمكن إذا ما هبّت رياح غير مواتية أن تُرجع الأمور إلى الوراء، خاصة أن وتيرة توالُد الأزمات وتبدّل التحالفات سريعة جداً، ولا تُقارَب من قِبَل مؤسسات ديموقراطية في البلدان المختلفة، بل تخضع لأمزجة شخصية لحكّام مطلقين، فيصبح عدو الأمس حليف اليوم، والعكس بالعكس. قد يكون وليّ عهد أبو ظبي أفاق متأخّراً على مخاطر الخيارات المتطرّفة التي اتّخذها، فنفّذ تراجعات تجلّت خاصة في الانسحابات من اليمن، وفي المصالحة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والسعي إلى تحسين العلاقات مع إيران التي سيرسل إليها وفداً قريباً، لكنه متأرجح وحائر، وهو ما لم يكن عليه زايد في يوم من الأيام.

https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/202112222573418637740826540182039.jpg