المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التنظيمات السياسية والادارية عند الاباضية في مرحلة الكتمان



على
08-22-2005, 10:46 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

نظرة خاصة الى بلاد المغرب العربي

تأليف / د/ عوض خليفات

أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية


تعود نشأة الفرق والأحزاب الإسلامية إلى فترة مبكرة من عمر الدولة الإسلامية ، وترتبط باختلاف المسلمين حول منصب الخليفة ، رئيس الدولة ونسبه والكفايات التي يجب أن تتوافر في الشخص المرشح لهذا المنصب الرفيع ، ولم يكد القرن الأول الهجري يشارف على نهايته حتى تبلورت ثلاثة تيارات سياسية فكرية تمحور حولها ما دعى في التاريخ باسم الفرق الإسلامية . وهذه التيارات هي :

1- التيار الأول : وهو ما يمكن أن نسميه بالتيار الوراثي المقدس . ومثله الحزب الشيعي الذي قال بأحقية آل البيت بالخلافة ونادى أتباعه بمبدأ النص والوصية لرئيس الدولة الإمام ، و اعتبروه معصوماً من الخطأ منزهاً عن الشبهات ، طاعته واجبة ، والانقياد له ركن من أركان الدين وأصل ثابت من أصوله . وخالفوا بذلك مبدأ الشورى في انتخاب الخليفة ، رئيس الدولة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وفي اختيار رئيسها ومحاسبته أن أخطأ أو حاد عن الطريق القويم .

2- التيار الثاني :وهو ما يمكن أن نسميه التيار الوراثي القبلي . ومثل هذا التيار الخلفاء الأمويون الذين اغتصبوا السلطة وجعلوها امتياز خاصاً بالبيت الأموي دون سواه. وخالفوا التيار الأول في النص والوصية والعصمة . ولكنهم اتفقوا معه في حرمان الأمة من حقها في انتخاب خليفتها . وحاولوا تبرير سلوكهم السياسي بعقائد دينية فسروها طبقاً لهواهم وحسب مصالحهم و اتخذوا من مبدأ الجبر درعاً يحمي سلطانهم ويبرر سطوتهم وجعلوا طاعة الخليفة من طاعة الله حتى أن بعضهم أتخذ لقب خليفة الله تعبيراً عن نظرتهم لمدى سلطتهم وسيادتهم على جماهير المسلمين .

3- أما التيار الثالث : فهو يعارض التيارين السابقين وينادى بالشورى في الحكم . وهو أقدم زمناً في التيارين السابقين وأقرب المبادئ لروح الإسلام وتعاليمه . وقد مثل هذا المبدأ في البداية الصحابة الأوائل الذين نادوا بانتخاب الخليفة بالشورى من قبل أهل الحل والعقد. واستنادا إلى الظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية فقد جعلوا الخلافة في المهاجرين الأوائل من قريش طبقاً لما أسفرت عنه مناقشات السقيفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .



ولم يمض زمن طويل حتى مرت الدولة الإسلامية بتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية أدت إلى إعادة النظر في الشورى الخاصة. ونادى فريق من المسلمين بوجوب انتخاب الخليفة الكفء من بين جميع المسلمين دون اعتبار للنسب القبلي أو العرقي . ومثل هذا المبدأ جماعة المحكمة الذين انشقوا على علي بن أبي طالب بعد قبوله فكرة التحكيم مع معاوية بن أبي سفيان .

سمى المحكمة بهذا الاسم نسبة إلى الشعار الذي رفعوه ضد التحكيم وهو " لا حكم إلا الله " وقد فسر مخالفوهم هذه العبارة على أنها دعوة لعدم تنصيب إمام أو رئيس للدولة . ووافق الكتاب المحدثون أسلافهم القدامى في هذا التفسير ولكنهم جميعاً قد جانبوا الصواب . فالمحكمة الذين رفعوا هذا الشعار لم يجعلوه شعاراً مطلقا في كل الأحوال بل قصدوا منه تبيان رأيهم في حدث معين في زمن معين وهو إنكار التحكيم بين علي ومعاوية مادام حكم الله فيه واضحاً صريحا طبقاً للآية الكريمة التي تقول :

" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين ".

تبعاً لذلك فإن المحكمة أوجبوا نصب إمام و اعتبروا إنكار الإمامة تعطيلاً لحدود الله وتضييعا لحقوق المسلمين . وقد اثبت المحكمة بالفعل صدق هذا القول وحرصوا على انتخاب إمام لهم في كل الظروف. ولم يكادوا يعلمون بنتيجة التحكيم حتى انتخبوا واحد منهم إماما عليهم وهو عبدالله بن وهب الراسبي ودعوا بقية المسلمين للانضمام إليهم. وهذه أول مرة في التاريخ الإسلامي ينتخب جماعة من المسلمين إماماً لهم من غير قريش، وبذلك حققوا حلم كثير من القبائل العربية التي نظرت إلى قريش نظرة حسد لأنها- حسب اعتقادهم- احتكرت السلطة دون بقية المسلمين . وبهذا الانتخاب أصبح هناك ثلاثة خلفاء في دار الإسلام : علي بن أبي طالب ومركزه الكوفة ، ومعاوية بن أبى سفيان في الشام ، وعبدالله بن وهب الراسبي إمام المحكمة الذين انعزلوا وعسكروا في النهروان . وأصبح كل إمام عدوا للاثنين الآخرين ، واعتبروا كل واحد منهم نفسه الإمام الشرعي للمسلمين ورأى أن من واجبة إعادة توحيد الأمة تحت زعامته .



وحدث الاشتباك بين علي والمحكمة في النهروان سنة 38م و انتهى بهزيمة المحكمة . ولكن النصر الذي أحرزه على لم يكن حاسماً إذ أنه لم يقض على المحكمة كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام . وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة ، كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام. وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة تشبه إلى حد كبير حادثة كربلاء ومقتل الحسين بن علي بالنسبة للشيعة . فقد أعتبر المحكمة ما حل بهم في النهروان أمرا جللا لا يجوز نسيانه ولا السكوت عليه وجعلوا من تلك المعركة ذكرى أليمة تحفزهم للثأر من معارضيهم وتجدد فيهم العزم لتحقيق الهدف الذي ثاروا من أجله وهو محاربة مغتصبي السلطة وإعادة حق الأمة في انتخاب رئيسها عن طريق الاختيار والشورى لا طريق النص والتعيين . ولكن المحكمة لم يسلكوا طريقاً واحدا لبلوغ هذا الهدف ، فقد تطرف فريق منهم ورأى وجوب الثورة في كل الأحوال بغض النظر عن عددهم وعدتهم ودون اعتبار الحرمة دماء المسلمين وأرواحهم. واعتبروا مخالفيهم مشركين تحل دماؤهم ويجوز سبي نسائهم وقتل أطفالهم وسلب أموالهم . وبهذا التصرف أفسدوا معقتدهم وضاعوا الهدف الذي ثاروا من أجله والذي بدأ في الظاهر نبيلا براقً يتوق لتحقيقه معظم المسلمين.



بالمقابل تكون فريق آخر معتدل صمم على تحقيق الهدف بطرق أكثر اتزانا وأقل نعتاً وعنفا من تلك التي تبناها المتطرفون . وتزعم هذا الفريق المعتدل أبو بلال مرداس بن أدية ( بن حدير ) التميمي الذي أعتزل مع بعض أصحابه ويمم شطر البصرة حيث اتخذها مقرا له ولدعوته .

وتحول هذا الفريق من حزب علني معارض إلى حزب سري يتطلع إلى الوصول إلى السلطة لأن أتباعه هم وحدهم – حسب اعتقادهم – الذين يمثلون تعاليم الإسلام الصحيحة ومبادئه السمحة . ودعا أبو بلال أصحابه إلى عدم استعراض بقية المسلمين لأنهم موحدون لا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا بعدوان . ولكنه في الوقت نفسه اعتبرهم كفارا بنعمة الله ، غير جديرين بتولي أمور المسلمين . وقد سلك دعوته أسلوباً جذابا يتجاوب مع رغبات كثير من المسلمين مركزاً في ذلك على مبدأ الشورى في اختيار الخليفة ومطالباً المسلمين بالوقوف في وجه الحكام الأمويين الذين اغتصبوا السلطة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وانتخاب رئيسها، وقد سمى الخوارج المتطرفون هذه الجماعة باسم " القعدة " أي الذين قعدوا عن الجهاد ومحاربة المخالفين . ولكن أبا بلال وأصحابه أنكروا هذه التسمية بهذا المعنى ولم يعترفوا بها وأطلقوا على أنفسهم اسم " جماعة المسلمين ".



وقد نشط أبو بلال في البصرة لنشر هذه الأفكار وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه ، فانضم إليه عدد كبير من الناس من بينهم الفقيه المعروف جابر بن زيد الأزدي الذي أنضم إلى " القعدة " في بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري ولم يلبث أن أصبح رئيس الجماعة والمؤسس الحقيقي للحركة وانضوى الجميع تحت أمرته . ولكن أصحابه آثروا أن لا يبوحوا باسمه حتى لا يبطش به الولاة الأمويون . ومنذ ذلك الوقت اصبح للمحكمة القعدة زعيمان أحدهما جابر بن زيد وهو الإمام غير المعلن أو إمام الكتمان ، وأبو بلال مرداس بن ادية وهو الزعيم المعروف الذي كان يناظر الأعداء باسم الحركة حتى نقم عليه الولاة وهموا بالتنكيل به. وتبعاً لذلك آثر أبو بلال الشراء وترك البصرة مرتحلاً إلى مكان آخر أملاً أن يأمن من شر ابن زياد والي العراق آنذاك ( 56 هـ - 64هـ ) وأعلن الثورة في منطقة آسك فندب إليه ابن زياد جيوش وقتل مع جميع أصحابه في عام 61هـ وتولى المناظرة بعده بإسم الحركة شخص آخر ينتمي إلى قبيلة تميم هو عبدالله بن إباض الذي سميت الفرقة نسبة إليه .

وتعتبره المصادر غير الإباضية مؤسس الفرقة أما العلماء الأباضيون فينسبون إلى عبدالله بن إباض دوراً ثانوياً بالمقارنة مع جابر بن زيد الذي يعتبرونه امامهم الحقيقي ومؤسس ذهبهم . ولما كان جابر قد أخفى معتقده وأستعمل التقية الدينية فلم يخطر على بال أحد أنه زعيم الأباضية . لذلك نسبوا الفرقة إلى إبن أباض وهو الشخص الذي قدمه أتباعه ليناظر أعداءهم ويتكلم باسمهم علنا. وكان بذلك هو المعروف لدى عامة الناس فغلب أسمه على من أتفق معه في الرأي ولكن الأباضية ظلوا يقاومون هذه التسمية التي سموا بها من قبل مخالفيهم وكانوا بدلا من ذلك يسمون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين أو أهل الاستقامة والحق . وإذا تصفح الباحث المؤلفات التي كتبها مشايخ الأباضية الأوائل فإنه لا يعثر فيها على كلمة أباضية ويبدوا أنهم مع مرور الزمن – وإصرار مخالفيهم على تسميتهم بهذا الاسم قد قبلوا به وخاصة أنهم لم يجدوا فيه ما يؤذيهم أو يسيء إلى سمعتهم . وقد ظهر لأول مرة في المؤلفات الأباضية المغربية في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري .



بعد اختفاء ابن أباض في الربع الأخير من القرن الأول الهجري أقلع الأباضية عن المناقشة العلنية والجدل الكلامي مع مخالفيهم ولجأوا إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم . وكان لجابر بن زيد دور كبير في هذا الشأن . ولما كان جابر بن زيد ينتمي إلى قبيلة الأزد العُمانية فقد وجد عنايته إلى قبيلته وأنضم عدد كبير من أفرادها وأصبح بعضهم من دعاة الفرقة المتحمسين وحماتها البارزين . كما أنضم إليه أعداد كبيرة من عرب الجنوب ومن الموالى . ولم يمت جابر بن زيد عام 93هـ إلا وقد غدت الدعوة الإباضية حركة سياسية شاملة اجتذبت عناصر من قبائل وأجناس متعددة.



وكان عمله في هذا الشان أرهاصا لما قام به خليفته أبو عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي تزعم الحركة بعد خروجه من سجن الحجاج عام 95هـ أي بعد وفاة جابر بن زيد بعامين .

استمر أبو عبيده في أداء المهمة التي أضطلع بها سلفة وأوجد مجتمعا أباضيا سريا متماسكاً تسوده الألفة والمحبة والتعاون . وخلق حكومة ثورية سرية في البصرة كان هو زعيمها ومنظم عملها ، ومستعيناً في ذلك بكبار مشايخ دعوته وعلمائها البارزين .

قام أبو عبيده بتطوير تنظيمات المجالس السرية وأعمالها. وعلى الرغم من أن بعض هذه المجالس كان موجوداً منذ الأيام الأولى لقيام حركة القعدة فإن الفضل يعود إلى الإمام أبي عبيده في توضيح معالم هذه المجالس وتصنيف وظائفها وترتيب طبقاتها. ويمكن أن نميز بين ثلاثة أنواع من المجالس السرية الإباضي كانت موجودة زمن أبي عبيده التميمي .

النوع الأول : المجالس العامة وهي التي لم تكن مقتصرة على جماعة معينة بل أن دخولها مباح لأي شخص من أهل الدعوة الإباضية . وكانت هذه المجالس تعقد سراً في بيت أحد المشايخ وفي سراديب أرضية خاصة أعدت لهذا الغرض . وفي بعض الأحيان كانوا يعقدون المجالس في بيوت العجائز أو في بيوت الكرائين تجنباً للشبهات وإمعاناً في الحيطة والحذر. وكان الأعضاء يتنكرون وهم في طريقهم إلى مكان الاجتماع، فنراهم أحياناً يتشبهون بالنساء في اللباس ، كما ينتحل بعضهم صفة الباعة المتجولين حتى يصلوا مقصدهم .

ويجتمع الأباضيون في هذه المجالس على شكل حلقة يتلقون فيها دروساً في العقيدة كما يستمعون إلى نصائح من كبار المشايخ الذين كانوا يقومون بإلقاء الخطب الواحد منهم تلو الآخر حول موضوع معين. وقد يتلقى المجتمعون من امامهم ومشايخ دعوتهم أوامر يجب التقيد بها . وكان المتحدثون يتكلمون بصوت منخفض حتى لا يسمعهم أحد من الجيران أو المارة ، وكانوا يعينون أشخاصاً منهم لمراقبة الأحياء والطرق المؤدية إلى مكان الاجتماع حتى لا تداهمهم الشرطة على غفلة أو يعلم باجتماعهم أحد من المخالفين المناوئين لدعوتهم. وكان مشايخ الأباضية يحذرون أتباعهم من العيون والجواسيس ويوصونهم بطرد أي شخص يشكون في أمره ، أما إذا قام أحد منهم بترك الجماعة وطعن في دعوتهم وكشف أسرارهم فإنهم يهدرون دمه ويغتالونه . وبذلك أصبح الاغتيال السري لكل من يؤذيهم أمرا معمولا به منذ بداية حركتهم.

النوع الثاني : مجالس المشايخ ويحضرها زعماء الدعوة فقط .وفي هذا المجلس تقرر السياسة التي يجب على إتباعهم الالتزام بها . وكان هذا المجلس أشبه ما يكون بمجلس تخطيط وتنظيم لحركة ثورية سرية ، ويشبه ما يعرفه اليوم باسم اللجنة التنفيذية أو اللجنة المركزية التي ترسم سياسة بعض الأحزاب أو الحركات الثورية.

النوع الثالث : وهو مجالس أو مدارس حملة العلم وكانت تقام في سراديب أرضية عميقة لها منافذ عديدة لا يعرفها الا الإمام وشيوخ الإباضية البارزون الموثوقون .وفي هذه المدارس كان الدعاة يتلقون العلم وأصول الدعوة وتعاليمها مباشرة من الإمام أبي عبيده . وكان أبو عبيده يتظاهر صنع القفاف حتى لايخطر ببال أحد أنه زعيم حركة مناهضة للحكم وأشتهر تبعا لذلك بلقب القفاف ، وبينما كان يلقى دروسه على تلاميذه كان هناك حارس يجلس عند الباب الخارجي للسرداب يصنع القفاف أيضاً ويمسك بسلسلة حديدية أولها عنده وآخره عند الإمام وتلاميذه فإذ مر أحد حرك الحارس السلسلة فيتوقف أبو عبيده عن إلقاء دروسه ومحاضراته ويخفى أوراقه وكتبه ويشتغل بصنع القفاف . وإذا أمن الحارس وأيقن عدم وجود خطر حرك السلسلة مرة أخرى فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدروس والتحصيل . ومن السرداب المدرسة تخرج فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدرس والتحصيل . ومن هذا السرادب المدرسة تخرج دعاة الأباضية في الأمصار الذين عرفوا باسم حملة العلم .

وكانت بلاد المغرب من بين الأمصار التي أتجه إليها حملة العلم منذ فترة مبكرة وفي عهد الإمام أبي عبيده أرسل بعض الدعاة لاستطلاع أحوال الناس في المغرب ومعرفة اتجاهاتهم ودراسة عاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم ومقدار تطورهم الفكري والحضاري ودرجة ولائهم للسلطة الحاكمة حتى يسهل على الإمام اختيار الأشخاص المناسبين القادرين على مخاطبة الناس طبقاً لاستعدادهم الفكري وتبعاً لطموحاتهم وآمالهم في تحقيق العدل والمساواة بين الناس دون اعتبار للنسب أو الدين حسب فهمهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ".

واستطاع الدعاة الأوائل إقناع بعض الأشخاص ممن اعتنقوا المذهب الأباضي بالذهاب إلى المشرق ليأخذوا العلم ويتفقهوا في أصول الدعوة الأباضية على يد زعيم الحركة في البصرة – الإمام أبو عبيدة التميمي – وفي عام 135هـ أتجهت صوب البصرة أول بعثة علمية منظمة ، اختير رجالها من قبائل ومناطق مختلفة حتى يسهل عليهم بعد عودتهم الدعوة في مناطقهم وبين قبائلهم وتألفت البعثة من أربعة أشخاص هم : أبو درار إسماعيل بن درار الغدامس بن غدامس جنوب طرابلس ، وعبدالرحمن بن رستم من القيروان ، وعاصم السدراتي من سدراته غربي أوراس ، وابو درار القبلي النفزاوي من نفزاوة جنوب تونس . وأنضم إليهم في البصرة أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ،وهو عربي من اليمن . ودعى هؤلاء في المصادر الأباضية " حملة العلم إلى المغرب " . ومكثوا في البصرة خمس سنوات يأخذون العلم ومبادئ الدعوة في مدرسة أبو عبيده السرية .



وبعد أن اطمأن الإمام أبو عبيده إلى تمكن تلاميذه من مبادئ الدعوة الأباضية وقدرتهم على نقل أفكارهم إلى مواطنيهم ، أمرهم بالعودة إلى بلادهم ليبشروا بمذهبهم . وزودهم بنصائحه وإرشاداته والرجوع إليه فيما يشكل عليهم من أمور تكون وليدة الظروف التي قد تصادفهم في أماكن استقرارهم . وقد نشط هؤلاء الدعاة لتحقيق أهدافهم مستغلين معرفتهم بأبناء مناطقهم وخبرتهم التامة بعاداتهم وتقاليدهم وبالتالي بالأساليب التي تؤثر في إقناعهم وكسبهم إلى حركتهم . وقاموا بتأسيس المدارس السرية على غرار مدرسة البصرة ، وتخرج على أيديهم عدد من الدعاة الأباضية المغاربة تسميهم المصادر تلاميذ حملة العلم وجدّ الأساتذة والتلاميذ في تنظيم أنفسهم ونشر مبادئهم وركزوا في دعوتهم على المبادئ العامة البسيطة التي يفهمها عامة الناس وتتجاوب مع آمالهم ومشاعرهم مثل المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وأحقية كل مسلم في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة وإن هذا الأمر ليس مقصورا على قريش ولا على العرب. كما أعلنوا أنهم سيطبقون العدل والحق و أهابوا بالناس للانضمام إليهم يثوروا ضد الولاة والأمراء الذين ساموهم الخسف والعذاب وأنهكوهم بالضرائب غير المشروعة ولقيت هذه الشعارات تجاوباً سريعاً لدى البربر الذين اشتكوا طويلاً من ظلم الولاة ومن فقدان العدالة والمساواة مع أقرانهم من العرب المسلمين .

على
08-22-2005, 10:47 PM
ولم يمض وقت طويل حتى أنضم إلى الحركة أعداد كبيرة من القبائل البربرية في المغرب الأدنى. وبعد مصادمات عنيفة مع الولاة العباسيين استطاع الأباضيون كسب انتصارات مهمة أعلنوا على أثرها إمامة الظهور سنة 140هـ وبايعوا أحد حملة العلم وهو أبو الخطاب عبد الأعلى بن سماح المعافري أمام عليهم. وتمكن الأباضية بقيادته من الاستيلاء على طرابلس ، كما أستولوا في العام نفسه على جزيرة جربة وجبل دمر وقابس ، ودانت لأبي الخطاب معظم بلاد المغرب الأدنى . وفي الأدنى .وفي العام التالي استطاع الاستيلاء على القيروان ، قصبة إفريقية .

استمرت الأباضية في صراعهم مع الولاة العباسيين طيلة خمس سنوات وانتهى بمقتل الإمام أبي الخطاب المعافري في معركة تاورغا عام 144هـ على يد الوالي العباسي محد بن الأشعث الخزاعي.

على الرغم من هذه النكسة التي أصابت الأباضية في شمال أفريقية فإن جذوة الحماس لم تخب عندهم وقاموا بثورات متعددة ضد السلطات العباسية كثيراً ما تجرعوا فيها مرارة الهزيمة كما ذاقوا في أحيان أخرى حلاوة النصر . وتمكنوا بعد كفاح مرير وجهد شاق من التغلب على اعدائهم وتأسيس الدولة الرستمية الأباضية في المغرب الأوسط عام 162هـ و انتخبوا عبدالرحمن بن رستم أمام ظهور لهم ، وأتخذوا تاهرت عاصمة للدولة الجديدة.

وبقيام الدولة الرسيمة أخذ الأباضيون في مختلف أصقاع المغرب العربي يؤدون الولاء للدولة الجديدة التي عملوا طويلاً في تأسيسها ، وبذلوا دماءهم وأرواحهم في سبيلها . ولم يكد إعلان الإمامة يصل إلى إسماع الأباضية حتى سارعت القبائل البربرية الأباضية تتقاطر إلى تاهرت من مختلف أنحاء المغرب وخاصة من منطقة طرابلس وما جاورها .



وأجتمع إلى الإمام عبدالرحمن بن رستم علماء الأباضية وفقاؤها من كل حدب وصوب معلنين نصرتهم له وتصميمهم على بذل كل جهد للمحافظة على دولتهم التي تمثل دولة الحق والإسلام الصحيح حسب اعتقادهم . وبارك أئمة الإباضية في البصرة هذه الخطوة ، وبعثوا للإمام الجديد بالأموال والمساعدات المختلفة ليتسنى له القيام بواجباته على أكمل وجه . كما أمطروه بالرسل والرسائل التي تحمل النصائح والإرشادات ليستنير بها في حل ما يشكل عليه من أمور الدين والدنيا . وتبعاً لذلك ونظراً لما تحلى به الإباضية آنذاك من صبر وعزم وتصميم فقد استطاع الرستميون خلال نحو نصف قرن ( 162- 224هـ ) أثناء فترة حكم عبد الرحمن بن رستم وكل من أبنه عبدالوهاب وحفيده أفلح بن عبد الوهاب ) ان يجمعوا شمل الإباضية في كل بلاد المغرب . وأتسعت ممتلكات دولتهم بحيث شملت معظم المغرب الأوسط وجنوب تونس ومنطقة طرابلس ( باستثناء طرابلس نفسها ) وجبل نفوسة . وطوقوا الأمارة الغلبية من جميع الجهات باستثناء الجهة الشمالية مم اجعل الأغالبة يلتمسون الصلح معهم . وعقد الطرفان اتفاق سلام بينهما دام نحو نصف قرن ولكن عوامل الإنقسام والضعف ما لبثت أن أخذت تدب في الدولة الرستمية ، وتحفز أعادوهم للوثوب عليهم . ونكث الأغالبة الصلح عام 224هـ وأغاروا على بعض ممتلكاتهم وهزموهم في معركة قاسية جنوب تونس بين قفصة وقسطيلية وفقد الرستميون سلطانهم على الجنوب التونسي وقسمت دولتهم إلى شطرين دون أن يكون بينهما إتصال جغرافي مباشر مما شجع أباضية طرابس على المطالبة بالاستقلال عن الإمام الرستمي في تاهرت . وكانت هذه الهزيمة بداية لمشاكل ومتاعب كثيرة عانت منها الدولة الرستمية وأدت بالتالي إلى سقوطها . ومن أهمل العوامل التي ساعدت على إنحلال عقد الإباضية في المغرب وسقوط الدولة الرستمية :

1- الصراعات المذهبية والسياسية بين رعايا الدولة الأباضية التي تطورت إلى انقسام الأباضية في المغرب إلى فرق مختلفة متنازعة فيما بينها. وبعد أن كانوا جميعاً يدا واحدة ضد العدو المشترك أصبحوا شيعاً وأحزاباً يقاتل بعضها بعضا ، وتمهد الطريق بالتالي إلى إنقضاض أعدائهم عليهم وهدم دولتهم التي أشادوها بالدم والعرق.

2- وساعدت المنازعات بين الإباضية وبين أتباع المذاهب الأخرى على انحلال عقد الدولة الرستمية ودخلت في منازعات مستمرة مع كل الأدارسة العلويين والأغالبة السنيين والخوارج الصفريين في سجلماسة .

3- ولم يكن الراع القبلي بين البربر الأباضيين من رعايا الدولة الرستمية أقل خطراً ، فقد أدى التناحر بين هذه القبائل إلى إرتداد كثير عن المذهب الأباضي واعتناقها لمذاهب أخرى مثل المالكية والمعتزلة وأصبحوا أعداء للدولة بعد أن كانوا أنصاراً لها وتابعين .

4- وجاءت المنازعات الأسرية بين أفراد الأسرة الرستمية الحاكمة لتجعل بنهاية الدولة، حتى أن بعض أفراد الأسرة الطامعين في الحكم استعانوا بأعداء الأمس ضد أقربائهم من اجل الوصول إلى الحكم . وكان ذلك صدمة كبرى للأباضيين المخلصين الذي رأوا أئمتهم ينحدرون إلى شهوات الدنيا وينغمسون في ملذاتها يتصارعون على الحكم مثلهم في ذلك مثل الدول الإسلامية الأخرى التي ثأروا ضدها ، وأدى ذلك إلى انفصال بعض الجماعات الإباضية عن الدولة التي تنكرت لمبدأ الشورى ، ذلك المبدأ الذي تبلورت حوله أفكار الأباضيين السياسية منذ قيام حركتهم في النصف الأول من القرن الأول الهجري .

أدت هذه التطورات والعوامل مجتمعه إلى طمع الدول الأخرى في أملاك الدول الرستمية فقام الأدارسة باقتطاع القسم الشمالي الغربي من جسم الدولة الرستمية و احتلوا تلمسان وتوابعها ونصبوا عليها ولاة من قبلهم وتخلت القبائل البربرية الضاربة هناك عن المذهب الأباضي ودخلت في حرب ضروس مع بني رستم أسياد الأمس – ولم يستطع الرستميون تبعاً لذلك إسترداد نفوذهم في تلك المناطق . وبينما كانت الدولة الرستمية تخسر بعض ممتلكاتها في الغرب صوب الأغالبة لها ضربة قاصمة أخرى في الشرق عندما هزموا أباضية المغرب الأدنى في معركة مانوا عام 283هـ / 897م وبعد أقل من عقدين أجهز الفاطميون على بقايا الدولة الرستمية وأحتلوا عاصمتها تاهرت عام 297هـ / 91م ووضعوا نهاية أليمة لوجودها وهرب آخر الأئمة الرستيميين أبو يوسف يعقوب مع أفراد عائلته وكثير من مشايخ مذهبه جنوبا إلى سدراته في منطقة وارجلان في الصحراء الجزائرية.

على الرغم من الهزائم التي منى بها الاباضيون ، وعلى الرغم من التشاؤم الذي ساد الأوساط الأباضية، فقد صمم علماؤهم وأهل الرأي منهم على إنتهاج أسلوب يحفظ لهم مذههم ويكرس وحدة جماعتهم في الأماكن التي ألتجأوا إليها بعد انهيار دولتهم الرسمية . ووجدوا أن أفضل الطرق لبلوغ هذا الهدف هو العودة إلى طور الكتمان والدعوة سراً لوحدة مذهبهم. إلا أن الأباضية الآن موزعون في مناطق مختلفة متباعدة تفصل بينهم قوى معادية لهم تتربص بهم السوء . وتبعاً لذلك فقد صعب عليهم تعيين شخص واحد منهم ليكون إمام كتمان يدبر أمرهم وينقذهم مما هم فيه من محنة وفرقة وشدة . فأخذ علماؤهم يتبادلون الزيارات للتشاور في الوسائل التي تحفظ لهم دعوتهم من الزوال وأخذوا يرتبون المجالس السرية والحلقات ويضعون بعض التقاليد والنظم حتى توصلوا في بداية القرن الخامس الهجري إلى الاهتداء إلى ما عرف في التاريخ الإباضي المغربي باسم نظام العزابة .( ولا يزال هذا النظام معمولاً به في منطقة مزاب الأباضية في الجزائر ، أما في المناطق الأخرى مثل جبل نفوسه وجزيرة جربة وبلاد الجريد في تونس فقد أندثر فيها هذا المظالم منذ فترة ليست بالقصيرة حتى أن بض علماء الإباضية المعاصرين من جبل نفوسه يعزو انحلال عقد الإباضية في بلاده لعد تمسك أصحاب مذهبه بنظام العزابة وتقاليدها ) .



ويؤسس مجلس العزابة في كل مدينة أو منطقة يكون سكانها من اتباع المذهب الإباضي . وفي بداية تأسيس هذا النظام أتخذ العزابة مقراً سرياً لهم بعيداً عن المدينة حفاظاً على سرية قراراتهم وخوفاً من بطش مخليفهم . وغالباً ما كن العزابة يستقرون في كهف أو غار سري حيث يجتمعون فيه ويتخذون فيه قراراتهم ويعلمون فيه تلاميذهم ودعاتهم . وقد بقيت مجالس العزابة تعقد في هذه الأماكن السرية حتى النصف الأول من القرن السادس الهجري عندما أصبح المسجد المقر الرئيسي لحلقة العزابة وقد أتخذ العزابة مبنى خاصاً لهم ملاصقاً للمسجد ، وله باب يؤدي إليه يدخل منه أعضاء العزابة للصلاة أو لإعلان قرار أو إصدار أمر إلى الناس لتنفيذه. وفي هذا المبنى يعقد مجلس العزابة اجتماعاته التي لا يحضرها أحد غير أعضائه، وتكون قراراته سرية لا يعلن منها إلا ما يجب على الناس الالتزام به وتطبيقه . وفي المبنى يحتفظ المجلس بوثائقه التي لا يطلع عليها سوى أعضائه ، كما يضع العزابة ملابسهم الرسمية ، ويحتفظ شيخ العزابة بمفاتيح الخزائن المخصصة لملفات القرارات والوثائق السرية . ويسمى المبني الذي يعقد فيه العزابة اجتماعاتهم ( تمنايت ) وهي كلمة بربرية تعني لغوياً مكان الفرسان . ومن الناحية الفنية تعني مقر فرسان الدين، أي مشايخ العزابة.

وقد حدثني أحد أبناء مليكة الميزابية خلال مقابله معه في تونس بتاريخ 27/4/1979 أن أعضاء هيئة العزابة يستعملون في قراراتهم الرسمية ألفاظاً سرية لا يعرفها أحد غيرهم. كما يستعملون كلمات اصطلحوا عليها وتفيد أكثر من معنى حتى يستطيعوا تفسيرها كيفما شاءوا في حالة كشفها من قبل مخالفيهم . وأثناء وجودهم خارج المقر الرسمي فغالباً ما يستعملون ألفاظاً معينة غير مفهومة في حالة وجود شخص غريب . وتشبه هذه الألفاظ في العصر الحديث " كلمة السر " أو " الشيفرة " وتكون الألفاظ باللغة البربرية . وأحياناً يستعملون حركات معينة غير ملفته لنظر الغريب للدلالة على شيء معين . ويتفق العزابة على هذه الحركات وأوقات استعمالها ودلالاتها.



أما اجتماع مجلس العزابة فيتم في المقر الرسمي فقط ولا ينعقد المجلس إلا بحضور شيخ العزابة ولا يجوز لأحد من زملائه الجلوس قبله . وبعد أن يأخذ مكانه يجلس بقية الأعضاء على هيئة حلقة عن يمين الشيخ وعن يساره طبقاً كل عضو في المجلس ، حيث يجلس أقدم الأعضاء عن يمين الشيخ بينما مجلس العزابي الذي يليه في الأقدمية عن يسارة ثم يلتحق بقية الأعضاء من اليمين إلى اليسار وطبقاً لأقدميتهم . أما إذا وصل أحد الأعضاء متأخراً فإنه يجلس خارج الحلقة . ويفتتح شيخ العزابة الجلسة بعبارة " لا إله إلا الله " مكرراً إياها ثلاث مرات. وبعد ذلك يبدأ المجلس بمناقشة القضايا المطروحة أمامه بسرية مطلقة.

أما عدد أعضاء مجلس العزابة فيبلغ في العادة 12 عضواً وقد يصل في بعض الأحيان إلى أربعة وعشرين . وجميع الحالات نجد أن خمسة من بين أعضاء المجلس يعتبرون أكبر أهمية من زملائهم وهم الشيخ والمستشارون أو الأعوان وعددهم أربعة ، أما البقية فهم أعضاء مساعدون يقومون بما يكله لهم شيخ العزابة وأعوانه .



ويشترط في شيخ العزابة أن يكون ذكياً ، لبقا ورعاً لطيفاً مع أصحابه. وهو المرجع الأول في كل ما يهم الأباضية في منطقته . فهو الغوث الكبير – حسب تعبيرهم – الذي يستغاث برأيه و نصائحة في كل المشاكل والملمات . ويبقى الشيخ في منصبه مدى الحياة أما الأعوان الأربعة في فيندرجون في المرتبة الثانية من حيث العلم والصلاح والتقوى . وهم كالشيخ يحتفظون بمناصبهم مدى الحياة . ويكون أحد هؤلاء الأعوان نائباً للشيخ يقوم بمهامه إذا مرض أو تعذر قيامه بواجباته لأي سبب من الأسباب . ويقوم هؤلاء العوان برئاسة شيخ العزابة مقام الإمام في كل الأمور التي تهم الجماعة الأباضية وهم أهل الحل والعقد في كل قضية .

ولا يمكن لأي شخص مهما علت منزلته وبلغ علمه أن يصبح عضواً في هيئة العزابة إلا إذا توافرت فيه شروط معينة أهمها :-



1- أن يكون أباضياً علماً متفانياً في خدمة مذهبه وأتباعه حريصاً على حفظ .

2- أن يكون حافظاً للقرآن الكريم عن ظهر قلب .

3- أن يكون زاهداً في الدنيا وملذاتها وأن يكون حقوداً أو حسوداً أو متكبراً وبعد أن يتأكد أعضاء مجلس العزابة القدامى من توافر هذه الشروط في الشخص الذي وقع عليه الاختيار فإنهم يعينون له واحداً منهم ليراقبه بطريقة سرية حتى يتأكد من سلامة سلوكه في القول والعمل . وإذا تأكد المراقب من حسن سرة الشخص وصلاحيته لأشغال عضوية مجلس العزابة فإنه يخبر زملائه في المجلس . ثم يعقد المجلس إجتماعاً للنظر في قبوله بشكل نهائي وإذا أجمع كل الأعضاء على قبوله فإنه يلتحق بهيئة العزابة ويصبح أحد الأعضاء العاملين في مجلس العزابة . أما إذا رفض الاستجابة لطلب أعضاء مجلس العزابة دون عذر مقنع مقبول لدى جميع الأعضاء فإنه يعرض نفسه للعقاب ويتبرأ منه ويصبح شخصاً مذموماً مطروداً من الجماعة الأباضية. أما إذا قبل الشخص بقرار مجلس العزابة فإنه يستدعى إلى المقر الرسمي ، ويقوم شيخ العزابة بتعريفه المهمات والواجبات التي عليه أن يقوم بها . كما يملي عليه بعض النصائح والإرشادات ويخبره بأنه أصغر أعضاء المجلس رتبة . وبالتالي فإن عليه – طبقاً لنظام العزابة وتقاليدها – أن يقوم بخدمة من هم أقدم منه وأيظهر لهم الطاعة والاحترام ثم يطلب شيخ العزابة من سلفه في الرتبة – أي أصغر أعضاء المجلس رتبة قبل انضمام العضو الجديد – أن يلازمه ثلاثة أيام متتالية يدربه فيها على وسائل خدمة العزابة ويعلمه الآداب وأنواع السلوك التي يجب ان يمارسها ويلتزم بها دون تردد.

ويعتبر مجلس العزابة أعلى سلطة في المكان الذي يوجد فيه . وهو يمثل سلطة الإمام ، رئيس الدولة ويقوم مقامه في جميع مهامه باستثناء إقامة الحدود التي يعطلها الإباضية في طور الكتمان حتى لا يستعدوا السلطات الحاكمة ضدهم .

وكعادة الإباضية دوماً فإنهم يطورون تنظيماتهم لتنسجم مع الظروف والأحوال التي يمرون بها . فقد رأى مشايخهم في بداية القرن التاسع الهجري أن مجالس العزابة فقد كثرت في المدن والمناطق الإباضية ، وخوفاً من التنافس والتنازع فقد أنشأوا مجلساً خاصاً ينظم العلاقة بين مختلف المدن الإباضية وسموه المجلس الأعلى للعزابة .لا تتحدث المصادر المتوافرة عن تاريخ محدد لنشاة هذا المجلس . ولكن الوثائق الخاصة به والتي لا تزال مخطوطة تشير إلى أن أول وثيقة خاصة بقرارات هذا المجلس تعود إلى أول رجب 807هـ / 1405م .

يتألف مجلس العزابة الأعلى من كبار أعضاء العزابة في المدن الأباضية بحيث يمثل كل مدينة ثلاثة علماء هم شيخ العزابة في المدينة والإمام وشخص ثالث ينتخبه مجلس عزابة المدينة من بين أعضاء المجلس نفسه ومن العلماء الأباضيين الآخرين المشهورين بعمق المعرفة بالمذهب الإباضي للنظر فيما يرفع إلى المجلس من قضايا خلافية بين أبناء الجماعة الأباضية في المدن المختلفة. كما يستعين المجلس برؤساء القبائل وسراتها في الملمات والمصاعب وخاصة عندما يتعرض الإباضية لعدوان خارجي.

يجتمع المجلس مرة كل ثلاثة شهور ، ويجوز أن يعقد اجتماعا طارئاً إذا أستدعى الضرورة ذلك . ويجتمع المجلس عادة بجانب قبر واحد من العلماء الأباضيين المشهورين . وكانوا يجتمعون في مقبرة الشيخ أبي مهدي عيسى بن إسماعيل أو في مقبرة أبي عبدالرحمن الكرثي وكلاهما في مدينة مليكة. ومنذ أكثر من قرنين أخذوا يجتمعون باستمرار في مقبرة الشيخ سعيد بن علي الجربي في غرداية .وأتخذ مجلس العزابة العلى روضته مقراً دائماً الاجتماعية بحيث أصبح المجلس يعرف باسم " مجلس عمى سعيد " نسبة إليه .



ويجتمع مجلس العزابة الأعلى على هيئة حلقة كما هو حال مجالس العزابة المحلية في المدن . ويرأس الاجتماع ويدير المناقشات رئيس المجلس الذي ينتخبه الأعضاء من بينهم لمدة ثلاث سنوات . وفي بعض الأحيان فإن الرئيس يحتفظ بمنصبه مدى الحياة إذا كان قوي الشخصية ، شديد الورع والتقوى ، يبرز زملاءه في العلم والمعرفة ويتمتع بكفاءة إدارية ممتازة . وعندما يتم انتخاب الرئيس فإنه يعمم دلالة على أنه أصبح شيخ الإباضية ورئيس مجلس العزابة الأعلى .

أما مهام مجلس العزابة الأعلى فيمكن تقسيمها إلى وظائف دينية وأخرى عامة الوظائف الدينية وتتعلق بسن التشريعات واختيار الآراء الفقهية التي يحكم بها القضاة. كما يقوم المجلس بالنظر في الأمور القضائية التي يتعذر حلها من قبل مجالس العزابة في المدن . ويكون قراره ملزماً ونهائياً ولا يحق الطعن فيه أو التنصل منه سواء كان الحكم خاصاً بأفراد أو جماعات ويشرف المجلس الأعلى للعزابة على الأوقاف العامة للأباضية كما يقوم برعاية شؤون الحجج الأباضيين والسهر على راحتهم وتأمين السكن اللازم لهم في الأماكن المقدسة . وبناء على ذلك فقد قام المجلس ببناء دور لسكن هؤلاء الحجاج في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنى وفي جدة .

أما الوظائف العامة التي يتولاها المجلس فتشمل كل مناحي الحياة في المنطقة الإباضية ، إذ يقوم بحل أي خلاف أو نزاع قد ينشب بين المدن الأباضية ويشرف على العلاقات بين المدن الأباضية وجيرانها . وللمجلس وحده حق عقد الاتفاق والمعاهدات مع الأطراف الخارجية . كما يقود المجلس أتباعه في زمن الحرب ويمكن القول أن مجلس العزابة الأعلى يقوم مقام الحكومات في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع الأباضي باستثناء إقامة الحدود التي لا يجيزها الإباضية في مرحلة الكتمان .

وقد بقى مجلس العزابة الأعلى يقوم بجميع مهامه حتى الاحتلال الفرنسي للمنطقة في منتصف القرن التاسع عشر حيث شل المستعمر الفرنسي عمل المجلس وعطل معظم مهامه .



أما بعد استقلال الجزائر فقد سعت الحكومة الجزائرية لبسط سيطرتها على جميع الأراضي الجزائرية ، ولكنها كانت حذرة في فرض قوانينها على المجتمع الأباضي في منطقة ميزاب . وقد سمحت الحكومة للأباضيين بالاحتفاظ بنظمهم الخاصة – التي لا تتعارض مع سلطة الدولة الجزائرية – لا سيما ما يتعلق منها بحلقات التعليم ، وتركت لهم تصريف شؤونهم الداخلية في المدن الأباضية المسورة التي تسمى " القصور ".



وقبل أن انهي حديثي يحسن أن نلخص دور الإباضية في المغرب العربي بالنقاط التالية :-

1- ساهم الأباضية في نشر اللغة العربية بين بعض القبائل البربرية الضاربة في جوف الصحراء في بلاد المغرب وخاصة بين قبائل زناته وبنى مصعب . وكان المشايخ يحضون اتباعهم على الترحال إلى مراكز العلم لتعلم العربية وفنونها كما كانوا يطلبون من تلاميذ الحلقة حفظ الاستعمار الفرنسي يفرض لغته وثقافته في الشمال الجزائري كانت مدارس العزابة قلاعاً حصينة لنشر اللغة العربية والدين الإسلامي .

2- ساهم الأباضية في نشر الإسلام لدى كثير من القبائل البربرية وكذلك في بعض أنحاء إفريقية جنوب الصحراء . وكان لهم فضل كبير في نشر الإسلام في جنوب موريتانيا وفي الجنوب الشرقي منها ، كما ساهم دعاتهم وتجارهم في نشر الإسلام في كثير من مناطق حوض السنغال والنيجر . وعندما زار المستشرق شاخت تلك المناطق في أوائل الخمسينات وجد كثيراً من المسلمين هناك يقلدون أباضية الجزائر في كثير من عاداتهم وتقاليدهم وحتى في طريقة بناء مساجدهم وخاصة ما يتعلق بالمئذنة المدرجة والمحراب المثلث وغياب المنبر .

3- ساهم الإباضية في إثراء المكتبة العربية والإسلامية بمؤلفاتهم الكثيرة التي تبحث في مختلف العلوم الإسلامية . ولكن على الرغم من هذه المزايا التي لا ينكرها أحد فإن الإباضية في شمال أفريقية قد عزلوا أنفسهم عن بقية إخوانهم من أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى بدعوى السرية والمحافظة على تراثهم وعدم كشف أسرارهم لمخالفيهم خوفاً من تعرضهم للأذى والعدوان ، وتذكر بعض المصادر الأباضية أن شيوخ العزابة كانوا يمنعون أصحابهم من مطالعة بقية المسلمين حتى لا " يضلوا ". وعلى الرغم من أن المشايخ المتأخرين قد أقلعوا عن هذه العادة إلا أن تطاول الزمن أوجد فجوة بين الإباضية وأخوانهم في الدين من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى . مما يجعل كل فريق ينظر إلى الفريق الآخر بعين الشك والحذر .

ونأمل أن يقوم الإباضية في شمال إفريقية بالانفتاح على بقية المسلمين وفتح مكتباتهم للباحثين العرب والمسلمين حتى يفهم الآخرون مذهبهم ومبادئهم وبالتالي يزول الشك ويختفي الحذر وتضيق الفجوة بينهم وبين أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى .



المصادر :



- أبو الربيع سليمان المزاتي : سير العزابة ، مخطوط ، طور مصورة ملك قاسم العزابي .
- أبو زكريا ، يحيى بن أبى بكر : السيرة وأخبار الأئمة ، دار الكتب المصرية رقم 9030ح.
- أبو عبيدة ، مسمل بن أبي كريمة التميمي : رسالة في أحكام الزكاة ، دار الكتب المصرية رقم 21582ب ضمن مجموع.
- أبو عمار عبد الكافي ، : رسالة العزابة ، مخطوط مصورة عن مخطوطة كراكوف / بولندا .
- الأزدي ، جابر بن زيد ، جوابات : الخزانة البارونية في جزيرة جربة في تونس.
- البرادي ، أبو القاسم : رسالة فيها تقييد كتب أصحابنا ، مخطوط ضمن مجموع دار الكتب المصرية رقم 21791ب .
- الحضرمي ، أبو إسحق إبراهيم بن قيس : خنصر الخصال ، دار الكتب المصرية رقم 21951ب.

- الدرجيني ، أبو العباس أحمد بن سعيد : كتاب طبقات المشايخ ، مخطوط دار الكتب المصرية رقم 2116تيمورية .
- الرقيشي ، أحمد بن عبدالله : صباح الظلام ، دار الكتب المصرية رقم20549ب .
- الشماخي ، أبو العباس احمد بن سعيد : شرح مقدمة التوحيد ، دار الكتب المصرية رقم 22572ب .
كتاب السين طبعة حجرية ، القاهرة 1884م .

- الصائغي ، سالم بن سعيد : كنز الأديب وسلاقة اللبيب ، مخطوط جامعة كمبردج رقم1896.
- العوتبي ، مسلمة بن الصحاري : أنساب العرب العرب ، دار الكتب المصرية رقم2461 تاريخ .
- الفرهودي ، الربيع بن حبيب ، مسند الربيع : دار الكتب المصرية رقم 21582ب .
- القلهاتي ، أبو عبيد الله محمد بن سعيد الأزدي : الكشف والبيان المكتبة البريطانية رقم 2606.

- الوارجلاني ، أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم : الدليل لأهل العقول ، المكتبة البريطانية رقم 6504 .

- الوسباني ، أبو الربيع : سين دار الكتب المصرية رقم 9113ح .

المراجع :

- خليفتا ، عوض محمد : نشأة الحركة الأباضية ، عمان 1978
خليفات ، عوض محمد : النظم الإجتماعية والتربوية عند الإباضية في شمال أفريقية في مرحلة الكتمان ، عمان 1928م
خليفات ، عوض محمد : الولاية والبراءة والوقوف – دراسات في النظم والعقائد الأباضية مجلة ممع اللغة العربية الأردني ، عدد مزدوج ،( 5 – 6 ) 1979 .

-------------------------------------------------------------

التفكك الأسري آداب الإستئذان العلاقات الإسرية في الإسلام النبراس في أحكام الحيض والنفاس

اللمعة المرضية من أشعة الإباضية التنظيمات السياسيةعند الإباضية كرسي الفرائض الحج المبرور