على
08-22-2005, 10:46 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرة خاصة الى بلاد المغرب العربي
تأليف / د/ عوض خليفات
أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية
تعود نشأة الفرق والأحزاب الإسلامية إلى فترة مبكرة من عمر الدولة الإسلامية ، وترتبط باختلاف المسلمين حول منصب الخليفة ، رئيس الدولة ونسبه والكفايات التي يجب أن تتوافر في الشخص المرشح لهذا المنصب الرفيع ، ولم يكد القرن الأول الهجري يشارف على نهايته حتى تبلورت ثلاثة تيارات سياسية فكرية تمحور حولها ما دعى في التاريخ باسم الفرق الإسلامية . وهذه التيارات هي :
1- التيار الأول : وهو ما يمكن أن نسميه بالتيار الوراثي المقدس . ومثله الحزب الشيعي الذي قال بأحقية آل البيت بالخلافة ونادى أتباعه بمبدأ النص والوصية لرئيس الدولة الإمام ، و اعتبروه معصوماً من الخطأ منزهاً عن الشبهات ، طاعته واجبة ، والانقياد له ركن من أركان الدين وأصل ثابت من أصوله . وخالفوا بذلك مبدأ الشورى في انتخاب الخليفة ، رئيس الدولة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وفي اختيار رئيسها ومحاسبته أن أخطأ أو حاد عن الطريق القويم .
2- التيار الثاني :وهو ما يمكن أن نسميه التيار الوراثي القبلي . ومثل هذا التيار الخلفاء الأمويون الذين اغتصبوا السلطة وجعلوها امتياز خاصاً بالبيت الأموي دون سواه. وخالفوا التيار الأول في النص والوصية والعصمة . ولكنهم اتفقوا معه في حرمان الأمة من حقها في انتخاب خليفتها . وحاولوا تبرير سلوكهم السياسي بعقائد دينية فسروها طبقاً لهواهم وحسب مصالحهم و اتخذوا من مبدأ الجبر درعاً يحمي سلطانهم ويبرر سطوتهم وجعلوا طاعة الخليفة من طاعة الله حتى أن بعضهم أتخذ لقب خليفة الله تعبيراً عن نظرتهم لمدى سلطتهم وسيادتهم على جماهير المسلمين .
3- أما التيار الثالث : فهو يعارض التيارين السابقين وينادى بالشورى في الحكم . وهو أقدم زمناً في التيارين السابقين وأقرب المبادئ لروح الإسلام وتعاليمه . وقد مثل هذا المبدأ في البداية الصحابة الأوائل الذين نادوا بانتخاب الخليفة بالشورى من قبل أهل الحل والعقد. واستنادا إلى الظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية فقد جعلوا الخلافة في المهاجرين الأوائل من قريش طبقاً لما أسفرت عنه مناقشات السقيفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولم يمض زمن طويل حتى مرت الدولة الإسلامية بتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية أدت إلى إعادة النظر في الشورى الخاصة. ونادى فريق من المسلمين بوجوب انتخاب الخليفة الكفء من بين جميع المسلمين دون اعتبار للنسب القبلي أو العرقي . ومثل هذا المبدأ جماعة المحكمة الذين انشقوا على علي بن أبي طالب بعد قبوله فكرة التحكيم مع معاوية بن أبي سفيان .
سمى المحكمة بهذا الاسم نسبة إلى الشعار الذي رفعوه ضد التحكيم وهو " لا حكم إلا الله " وقد فسر مخالفوهم هذه العبارة على أنها دعوة لعدم تنصيب إمام أو رئيس للدولة . ووافق الكتاب المحدثون أسلافهم القدامى في هذا التفسير ولكنهم جميعاً قد جانبوا الصواب . فالمحكمة الذين رفعوا هذا الشعار لم يجعلوه شعاراً مطلقا في كل الأحوال بل قصدوا منه تبيان رأيهم في حدث معين في زمن معين وهو إنكار التحكيم بين علي ومعاوية مادام حكم الله فيه واضحاً صريحا طبقاً للآية الكريمة التي تقول :
" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين ".
تبعاً لذلك فإن المحكمة أوجبوا نصب إمام و اعتبروا إنكار الإمامة تعطيلاً لحدود الله وتضييعا لحقوق المسلمين . وقد اثبت المحكمة بالفعل صدق هذا القول وحرصوا على انتخاب إمام لهم في كل الظروف. ولم يكادوا يعلمون بنتيجة التحكيم حتى انتخبوا واحد منهم إماما عليهم وهو عبدالله بن وهب الراسبي ودعوا بقية المسلمين للانضمام إليهم. وهذه أول مرة في التاريخ الإسلامي ينتخب جماعة من المسلمين إماماً لهم من غير قريش، وبذلك حققوا حلم كثير من القبائل العربية التي نظرت إلى قريش نظرة حسد لأنها- حسب اعتقادهم- احتكرت السلطة دون بقية المسلمين . وبهذا الانتخاب أصبح هناك ثلاثة خلفاء في دار الإسلام : علي بن أبي طالب ومركزه الكوفة ، ومعاوية بن أبى سفيان في الشام ، وعبدالله بن وهب الراسبي إمام المحكمة الذين انعزلوا وعسكروا في النهروان . وأصبح كل إمام عدوا للاثنين الآخرين ، واعتبروا كل واحد منهم نفسه الإمام الشرعي للمسلمين ورأى أن من واجبة إعادة توحيد الأمة تحت زعامته .
وحدث الاشتباك بين علي والمحكمة في النهروان سنة 38م و انتهى بهزيمة المحكمة . ولكن النصر الذي أحرزه على لم يكن حاسماً إذ أنه لم يقض على المحكمة كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام . وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة ، كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام. وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة تشبه إلى حد كبير حادثة كربلاء ومقتل الحسين بن علي بالنسبة للشيعة . فقد أعتبر المحكمة ما حل بهم في النهروان أمرا جللا لا يجوز نسيانه ولا السكوت عليه وجعلوا من تلك المعركة ذكرى أليمة تحفزهم للثأر من معارضيهم وتجدد فيهم العزم لتحقيق الهدف الذي ثاروا من أجله وهو محاربة مغتصبي السلطة وإعادة حق الأمة في انتخاب رئيسها عن طريق الاختيار والشورى لا طريق النص والتعيين . ولكن المحكمة لم يسلكوا طريقاً واحدا لبلوغ هذا الهدف ، فقد تطرف فريق منهم ورأى وجوب الثورة في كل الأحوال بغض النظر عن عددهم وعدتهم ودون اعتبار الحرمة دماء المسلمين وأرواحهم. واعتبروا مخالفيهم مشركين تحل دماؤهم ويجوز سبي نسائهم وقتل أطفالهم وسلب أموالهم . وبهذا التصرف أفسدوا معقتدهم وضاعوا الهدف الذي ثاروا من أجله والذي بدأ في الظاهر نبيلا براقً يتوق لتحقيقه معظم المسلمين.
بالمقابل تكون فريق آخر معتدل صمم على تحقيق الهدف بطرق أكثر اتزانا وأقل نعتاً وعنفا من تلك التي تبناها المتطرفون . وتزعم هذا الفريق المعتدل أبو بلال مرداس بن أدية ( بن حدير ) التميمي الذي أعتزل مع بعض أصحابه ويمم شطر البصرة حيث اتخذها مقرا له ولدعوته .
وتحول هذا الفريق من حزب علني معارض إلى حزب سري يتطلع إلى الوصول إلى السلطة لأن أتباعه هم وحدهم – حسب اعتقادهم – الذين يمثلون تعاليم الإسلام الصحيحة ومبادئه السمحة . ودعا أبو بلال أصحابه إلى عدم استعراض بقية المسلمين لأنهم موحدون لا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا بعدوان . ولكنه في الوقت نفسه اعتبرهم كفارا بنعمة الله ، غير جديرين بتولي أمور المسلمين . وقد سلك دعوته أسلوباً جذابا يتجاوب مع رغبات كثير من المسلمين مركزاً في ذلك على مبدأ الشورى في اختيار الخليفة ومطالباً المسلمين بالوقوف في وجه الحكام الأمويين الذين اغتصبوا السلطة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وانتخاب رئيسها، وقد سمى الخوارج المتطرفون هذه الجماعة باسم " القعدة " أي الذين قعدوا عن الجهاد ومحاربة المخالفين . ولكن أبا بلال وأصحابه أنكروا هذه التسمية بهذا المعنى ولم يعترفوا بها وأطلقوا على أنفسهم اسم " جماعة المسلمين ".
وقد نشط أبو بلال في البصرة لنشر هذه الأفكار وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه ، فانضم إليه عدد كبير من الناس من بينهم الفقيه المعروف جابر بن زيد الأزدي الذي أنضم إلى " القعدة " في بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري ولم يلبث أن أصبح رئيس الجماعة والمؤسس الحقيقي للحركة وانضوى الجميع تحت أمرته . ولكن أصحابه آثروا أن لا يبوحوا باسمه حتى لا يبطش به الولاة الأمويون . ومنذ ذلك الوقت اصبح للمحكمة القعدة زعيمان أحدهما جابر بن زيد وهو الإمام غير المعلن أو إمام الكتمان ، وأبو بلال مرداس بن ادية وهو الزعيم المعروف الذي كان يناظر الأعداء باسم الحركة حتى نقم عليه الولاة وهموا بالتنكيل به. وتبعاً لذلك آثر أبو بلال الشراء وترك البصرة مرتحلاً إلى مكان آخر أملاً أن يأمن من شر ابن زياد والي العراق آنذاك ( 56 هـ - 64هـ ) وأعلن الثورة في منطقة آسك فندب إليه ابن زياد جيوش وقتل مع جميع أصحابه في عام 61هـ وتولى المناظرة بعده بإسم الحركة شخص آخر ينتمي إلى قبيلة تميم هو عبدالله بن إباض الذي سميت الفرقة نسبة إليه .
وتعتبره المصادر غير الإباضية مؤسس الفرقة أما العلماء الأباضيون فينسبون إلى عبدالله بن إباض دوراً ثانوياً بالمقارنة مع جابر بن زيد الذي يعتبرونه امامهم الحقيقي ومؤسس ذهبهم . ولما كان جابر قد أخفى معتقده وأستعمل التقية الدينية فلم يخطر على بال أحد أنه زعيم الأباضية . لذلك نسبوا الفرقة إلى إبن أباض وهو الشخص الذي قدمه أتباعه ليناظر أعداءهم ويتكلم باسمهم علنا. وكان بذلك هو المعروف لدى عامة الناس فغلب أسمه على من أتفق معه في الرأي ولكن الأباضية ظلوا يقاومون هذه التسمية التي سموا بها من قبل مخالفيهم وكانوا بدلا من ذلك يسمون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين أو أهل الاستقامة والحق . وإذا تصفح الباحث المؤلفات التي كتبها مشايخ الأباضية الأوائل فإنه لا يعثر فيها على كلمة أباضية ويبدوا أنهم مع مرور الزمن – وإصرار مخالفيهم على تسميتهم بهذا الاسم قد قبلوا به وخاصة أنهم لم يجدوا فيه ما يؤذيهم أو يسيء إلى سمعتهم . وقد ظهر لأول مرة في المؤلفات الأباضية المغربية في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري .
بعد اختفاء ابن أباض في الربع الأخير من القرن الأول الهجري أقلع الأباضية عن المناقشة العلنية والجدل الكلامي مع مخالفيهم ولجأوا إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم . وكان لجابر بن زيد دور كبير في هذا الشأن . ولما كان جابر بن زيد ينتمي إلى قبيلة الأزد العُمانية فقد وجد عنايته إلى قبيلته وأنضم عدد كبير من أفرادها وأصبح بعضهم من دعاة الفرقة المتحمسين وحماتها البارزين . كما أنضم إليه أعداد كبيرة من عرب الجنوب ومن الموالى . ولم يمت جابر بن زيد عام 93هـ إلا وقد غدت الدعوة الإباضية حركة سياسية شاملة اجتذبت عناصر من قبائل وأجناس متعددة.
وكان عمله في هذا الشان أرهاصا لما قام به خليفته أبو عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي تزعم الحركة بعد خروجه من سجن الحجاج عام 95هـ أي بعد وفاة جابر بن زيد بعامين .
استمر أبو عبيده في أداء المهمة التي أضطلع بها سلفة وأوجد مجتمعا أباضيا سريا متماسكاً تسوده الألفة والمحبة والتعاون . وخلق حكومة ثورية سرية في البصرة كان هو زعيمها ومنظم عملها ، ومستعيناً في ذلك بكبار مشايخ دعوته وعلمائها البارزين .
قام أبو عبيده بتطوير تنظيمات المجالس السرية وأعمالها. وعلى الرغم من أن بعض هذه المجالس كان موجوداً منذ الأيام الأولى لقيام حركة القعدة فإن الفضل يعود إلى الإمام أبي عبيده في توضيح معالم هذه المجالس وتصنيف وظائفها وترتيب طبقاتها. ويمكن أن نميز بين ثلاثة أنواع من المجالس السرية الإباضي كانت موجودة زمن أبي عبيده التميمي .
النوع الأول : المجالس العامة وهي التي لم تكن مقتصرة على جماعة معينة بل أن دخولها مباح لأي شخص من أهل الدعوة الإباضية . وكانت هذه المجالس تعقد سراً في بيت أحد المشايخ وفي سراديب أرضية خاصة أعدت لهذا الغرض . وفي بعض الأحيان كانوا يعقدون المجالس في بيوت العجائز أو في بيوت الكرائين تجنباً للشبهات وإمعاناً في الحيطة والحذر. وكان الأعضاء يتنكرون وهم في طريقهم إلى مكان الاجتماع، فنراهم أحياناً يتشبهون بالنساء في اللباس ، كما ينتحل بعضهم صفة الباعة المتجولين حتى يصلوا مقصدهم .
ويجتمع الأباضيون في هذه المجالس على شكل حلقة يتلقون فيها دروساً في العقيدة كما يستمعون إلى نصائح من كبار المشايخ الذين كانوا يقومون بإلقاء الخطب الواحد منهم تلو الآخر حول موضوع معين. وقد يتلقى المجتمعون من امامهم ومشايخ دعوتهم أوامر يجب التقيد بها . وكان المتحدثون يتكلمون بصوت منخفض حتى لا يسمعهم أحد من الجيران أو المارة ، وكانوا يعينون أشخاصاً منهم لمراقبة الأحياء والطرق المؤدية إلى مكان الاجتماع حتى لا تداهمهم الشرطة على غفلة أو يعلم باجتماعهم أحد من المخالفين المناوئين لدعوتهم. وكان مشايخ الأباضية يحذرون أتباعهم من العيون والجواسيس ويوصونهم بطرد أي شخص يشكون في أمره ، أما إذا قام أحد منهم بترك الجماعة وطعن في دعوتهم وكشف أسرارهم فإنهم يهدرون دمه ويغتالونه . وبذلك أصبح الاغتيال السري لكل من يؤذيهم أمرا معمولا به منذ بداية حركتهم.
النوع الثاني : مجالس المشايخ ويحضرها زعماء الدعوة فقط .وفي هذا المجلس تقرر السياسة التي يجب على إتباعهم الالتزام بها . وكان هذا المجلس أشبه ما يكون بمجلس تخطيط وتنظيم لحركة ثورية سرية ، ويشبه ما يعرفه اليوم باسم اللجنة التنفيذية أو اللجنة المركزية التي ترسم سياسة بعض الأحزاب أو الحركات الثورية.
النوع الثالث : وهو مجالس أو مدارس حملة العلم وكانت تقام في سراديب أرضية عميقة لها منافذ عديدة لا يعرفها الا الإمام وشيوخ الإباضية البارزون الموثوقون .وفي هذه المدارس كان الدعاة يتلقون العلم وأصول الدعوة وتعاليمها مباشرة من الإمام أبي عبيده . وكان أبو عبيده يتظاهر صنع القفاف حتى لايخطر ببال أحد أنه زعيم حركة مناهضة للحكم وأشتهر تبعا لذلك بلقب القفاف ، وبينما كان يلقى دروسه على تلاميذه كان هناك حارس يجلس عند الباب الخارجي للسرداب يصنع القفاف أيضاً ويمسك بسلسلة حديدية أولها عنده وآخره عند الإمام وتلاميذه فإذ مر أحد حرك الحارس السلسلة فيتوقف أبو عبيده عن إلقاء دروسه ومحاضراته ويخفى أوراقه وكتبه ويشتغل بصنع القفاف . وإذا أمن الحارس وأيقن عدم وجود خطر حرك السلسلة مرة أخرى فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدروس والتحصيل . ومن السرداب المدرسة تخرج فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدرس والتحصيل . ومن هذا السرادب المدرسة تخرج دعاة الأباضية في الأمصار الذين عرفوا باسم حملة العلم .
وكانت بلاد المغرب من بين الأمصار التي أتجه إليها حملة العلم منذ فترة مبكرة وفي عهد الإمام أبي عبيده أرسل بعض الدعاة لاستطلاع أحوال الناس في المغرب ومعرفة اتجاهاتهم ودراسة عاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم ومقدار تطورهم الفكري والحضاري ودرجة ولائهم للسلطة الحاكمة حتى يسهل على الإمام اختيار الأشخاص المناسبين القادرين على مخاطبة الناس طبقاً لاستعدادهم الفكري وتبعاً لطموحاتهم وآمالهم في تحقيق العدل والمساواة بين الناس دون اعتبار للنسب أو الدين حسب فهمهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ".
واستطاع الدعاة الأوائل إقناع بعض الأشخاص ممن اعتنقوا المذهب الأباضي بالذهاب إلى المشرق ليأخذوا العلم ويتفقهوا في أصول الدعوة الأباضية على يد زعيم الحركة في البصرة – الإمام أبو عبيدة التميمي – وفي عام 135هـ أتجهت صوب البصرة أول بعثة علمية منظمة ، اختير رجالها من قبائل ومناطق مختلفة حتى يسهل عليهم بعد عودتهم الدعوة في مناطقهم وبين قبائلهم وتألفت البعثة من أربعة أشخاص هم : أبو درار إسماعيل بن درار الغدامس بن غدامس جنوب طرابلس ، وعبدالرحمن بن رستم من القيروان ، وعاصم السدراتي من سدراته غربي أوراس ، وابو درار القبلي النفزاوي من نفزاوة جنوب تونس . وأنضم إليهم في البصرة أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ،وهو عربي من اليمن . ودعى هؤلاء في المصادر الأباضية " حملة العلم إلى المغرب " . ومكثوا في البصرة خمس سنوات يأخذون العلم ومبادئ الدعوة في مدرسة أبو عبيده السرية .
وبعد أن اطمأن الإمام أبو عبيده إلى تمكن تلاميذه من مبادئ الدعوة الأباضية وقدرتهم على نقل أفكارهم إلى مواطنيهم ، أمرهم بالعودة إلى بلادهم ليبشروا بمذهبهم . وزودهم بنصائحه وإرشاداته والرجوع إليه فيما يشكل عليهم من أمور تكون وليدة الظروف التي قد تصادفهم في أماكن استقرارهم . وقد نشط هؤلاء الدعاة لتحقيق أهدافهم مستغلين معرفتهم بأبناء مناطقهم وخبرتهم التامة بعاداتهم وتقاليدهم وبالتالي بالأساليب التي تؤثر في إقناعهم وكسبهم إلى حركتهم . وقاموا بتأسيس المدارس السرية على غرار مدرسة البصرة ، وتخرج على أيديهم عدد من الدعاة الأباضية المغاربة تسميهم المصادر تلاميذ حملة العلم وجدّ الأساتذة والتلاميذ في تنظيم أنفسهم ونشر مبادئهم وركزوا في دعوتهم على المبادئ العامة البسيطة التي يفهمها عامة الناس وتتجاوب مع آمالهم ومشاعرهم مثل المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وأحقية كل مسلم في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة وإن هذا الأمر ليس مقصورا على قريش ولا على العرب. كما أعلنوا أنهم سيطبقون العدل والحق و أهابوا بالناس للانضمام إليهم يثوروا ضد الولاة والأمراء الذين ساموهم الخسف والعذاب وأنهكوهم بالضرائب غير المشروعة ولقيت هذه الشعارات تجاوباً سريعاً لدى البربر الذين اشتكوا طويلاً من ظلم الولاة ومن فقدان العدالة والمساواة مع أقرانهم من العرب المسلمين .
نظرة خاصة الى بلاد المغرب العربي
تأليف / د/ عوض خليفات
أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية
تعود نشأة الفرق والأحزاب الإسلامية إلى فترة مبكرة من عمر الدولة الإسلامية ، وترتبط باختلاف المسلمين حول منصب الخليفة ، رئيس الدولة ونسبه والكفايات التي يجب أن تتوافر في الشخص المرشح لهذا المنصب الرفيع ، ولم يكد القرن الأول الهجري يشارف على نهايته حتى تبلورت ثلاثة تيارات سياسية فكرية تمحور حولها ما دعى في التاريخ باسم الفرق الإسلامية . وهذه التيارات هي :
1- التيار الأول : وهو ما يمكن أن نسميه بالتيار الوراثي المقدس . ومثله الحزب الشيعي الذي قال بأحقية آل البيت بالخلافة ونادى أتباعه بمبدأ النص والوصية لرئيس الدولة الإمام ، و اعتبروه معصوماً من الخطأ منزهاً عن الشبهات ، طاعته واجبة ، والانقياد له ركن من أركان الدين وأصل ثابت من أصوله . وخالفوا بذلك مبدأ الشورى في انتخاب الخليفة ، رئيس الدولة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وفي اختيار رئيسها ومحاسبته أن أخطأ أو حاد عن الطريق القويم .
2- التيار الثاني :وهو ما يمكن أن نسميه التيار الوراثي القبلي . ومثل هذا التيار الخلفاء الأمويون الذين اغتصبوا السلطة وجعلوها امتياز خاصاً بالبيت الأموي دون سواه. وخالفوا التيار الأول في النص والوصية والعصمة . ولكنهم اتفقوا معه في حرمان الأمة من حقها في انتخاب خليفتها . وحاولوا تبرير سلوكهم السياسي بعقائد دينية فسروها طبقاً لهواهم وحسب مصالحهم و اتخذوا من مبدأ الجبر درعاً يحمي سلطانهم ويبرر سطوتهم وجعلوا طاعة الخليفة من طاعة الله حتى أن بعضهم أتخذ لقب خليفة الله تعبيراً عن نظرتهم لمدى سلطتهم وسيادتهم على جماهير المسلمين .
3- أما التيار الثالث : فهو يعارض التيارين السابقين وينادى بالشورى في الحكم . وهو أقدم زمناً في التيارين السابقين وأقرب المبادئ لروح الإسلام وتعاليمه . وقد مثل هذا المبدأ في البداية الصحابة الأوائل الذين نادوا بانتخاب الخليفة بالشورى من قبل أهل الحل والعقد. واستنادا إلى الظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية فقد جعلوا الخلافة في المهاجرين الأوائل من قريش طبقاً لما أسفرت عنه مناقشات السقيفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولم يمض زمن طويل حتى مرت الدولة الإسلامية بتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية أدت إلى إعادة النظر في الشورى الخاصة. ونادى فريق من المسلمين بوجوب انتخاب الخليفة الكفء من بين جميع المسلمين دون اعتبار للنسب القبلي أو العرقي . ومثل هذا المبدأ جماعة المحكمة الذين انشقوا على علي بن أبي طالب بعد قبوله فكرة التحكيم مع معاوية بن أبي سفيان .
سمى المحكمة بهذا الاسم نسبة إلى الشعار الذي رفعوه ضد التحكيم وهو " لا حكم إلا الله " وقد فسر مخالفوهم هذه العبارة على أنها دعوة لعدم تنصيب إمام أو رئيس للدولة . ووافق الكتاب المحدثون أسلافهم القدامى في هذا التفسير ولكنهم جميعاً قد جانبوا الصواب . فالمحكمة الذين رفعوا هذا الشعار لم يجعلوه شعاراً مطلقا في كل الأحوال بل قصدوا منه تبيان رأيهم في حدث معين في زمن معين وهو إنكار التحكيم بين علي ومعاوية مادام حكم الله فيه واضحاً صريحا طبقاً للآية الكريمة التي تقول :
" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين ".
تبعاً لذلك فإن المحكمة أوجبوا نصب إمام و اعتبروا إنكار الإمامة تعطيلاً لحدود الله وتضييعا لحقوق المسلمين . وقد اثبت المحكمة بالفعل صدق هذا القول وحرصوا على انتخاب إمام لهم في كل الظروف. ولم يكادوا يعلمون بنتيجة التحكيم حتى انتخبوا واحد منهم إماما عليهم وهو عبدالله بن وهب الراسبي ودعوا بقية المسلمين للانضمام إليهم. وهذه أول مرة في التاريخ الإسلامي ينتخب جماعة من المسلمين إماماً لهم من غير قريش، وبذلك حققوا حلم كثير من القبائل العربية التي نظرت إلى قريش نظرة حسد لأنها- حسب اعتقادهم- احتكرت السلطة دون بقية المسلمين . وبهذا الانتخاب أصبح هناك ثلاثة خلفاء في دار الإسلام : علي بن أبي طالب ومركزه الكوفة ، ومعاوية بن أبى سفيان في الشام ، وعبدالله بن وهب الراسبي إمام المحكمة الذين انعزلوا وعسكروا في النهروان . وأصبح كل إمام عدوا للاثنين الآخرين ، واعتبروا كل واحد منهم نفسه الإمام الشرعي للمسلمين ورأى أن من واجبة إعادة توحيد الأمة تحت زعامته .
وحدث الاشتباك بين علي والمحكمة في النهروان سنة 38م و انتهى بهزيمة المحكمة . ولكن النصر الذي أحرزه على لم يكن حاسماً إذ أنه لم يقض على المحكمة كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام . وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة ، كما أنه لم يستطع إعادة توحيد دار الإسلام. وفي الوقت نفسه كانت معركة النهروان نقطة تحول هامة في تاريخ المحكمة تشبه إلى حد كبير حادثة كربلاء ومقتل الحسين بن علي بالنسبة للشيعة . فقد أعتبر المحكمة ما حل بهم في النهروان أمرا جللا لا يجوز نسيانه ولا السكوت عليه وجعلوا من تلك المعركة ذكرى أليمة تحفزهم للثأر من معارضيهم وتجدد فيهم العزم لتحقيق الهدف الذي ثاروا من أجله وهو محاربة مغتصبي السلطة وإعادة حق الأمة في انتخاب رئيسها عن طريق الاختيار والشورى لا طريق النص والتعيين . ولكن المحكمة لم يسلكوا طريقاً واحدا لبلوغ هذا الهدف ، فقد تطرف فريق منهم ورأى وجوب الثورة في كل الأحوال بغض النظر عن عددهم وعدتهم ودون اعتبار الحرمة دماء المسلمين وأرواحهم. واعتبروا مخالفيهم مشركين تحل دماؤهم ويجوز سبي نسائهم وقتل أطفالهم وسلب أموالهم . وبهذا التصرف أفسدوا معقتدهم وضاعوا الهدف الذي ثاروا من أجله والذي بدأ في الظاهر نبيلا براقً يتوق لتحقيقه معظم المسلمين.
بالمقابل تكون فريق آخر معتدل صمم على تحقيق الهدف بطرق أكثر اتزانا وأقل نعتاً وعنفا من تلك التي تبناها المتطرفون . وتزعم هذا الفريق المعتدل أبو بلال مرداس بن أدية ( بن حدير ) التميمي الذي أعتزل مع بعض أصحابه ويمم شطر البصرة حيث اتخذها مقرا له ولدعوته .
وتحول هذا الفريق من حزب علني معارض إلى حزب سري يتطلع إلى الوصول إلى السلطة لأن أتباعه هم وحدهم – حسب اعتقادهم – الذين يمثلون تعاليم الإسلام الصحيحة ومبادئه السمحة . ودعا أبو بلال أصحابه إلى عدم استعراض بقية المسلمين لأنهم موحدون لا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا بعدوان . ولكنه في الوقت نفسه اعتبرهم كفارا بنعمة الله ، غير جديرين بتولي أمور المسلمين . وقد سلك دعوته أسلوباً جذابا يتجاوب مع رغبات كثير من المسلمين مركزاً في ذلك على مبدأ الشورى في اختيار الخليفة ومطالباً المسلمين بالوقوف في وجه الحكام الأمويين الذين اغتصبوا السلطة وسلبوا الأمة حقها في تقرير مصيرها وانتخاب رئيسها، وقد سمى الخوارج المتطرفون هذه الجماعة باسم " القعدة " أي الذين قعدوا عن الجهاد ومحاربة المخالفين . ولكن أبا بلال وأصحابه أنكروا هذه التسمية بهذا المعنى ولم يعترفوا بها وأطلقوا على أنفسهم اسم " جماعة المسلمين ".
وقد نشط أبو بلال في البصرة لنشر هذه الأفكار وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه ، فانضم إليه عدد كبير من الناس من بينهم الفقيه المعروف جابر بن زيد الأزدي الذي أنضم إلى " القعدة " في بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري ولم يلبث أن أصبح رئيس الجماعة والمؤسس الحقيقي للحركة وانضوى الجميع تحت أمرته . ولكن أصحابه آثروا أن لا يبوحوا باسمه حتى لا يبطش به الولاة الأمويون . ومنذ ذلك الوقت اصبح للمحكمة القعدة زعيمان أحدهما جابر بن زيد وهو الإمام غير المعلن أو إمام الكتمان ، وأبو بلال مرداس بن ادية وهو الزعيم المعروف الذي كان يناظر الأعداء باسم الحركة حتى نقم عليه الولاة وهموا بالتنكيل به. وتبعاً لذلك آثر أبو بلال الشراء وترك البصرة مرتحلاً إلى مكان آخر أملاً أن يأمن من شر ابن زياد والي العراق آنذاك ( 56 هـ - 64هـ ) وأعلن الثورة في منطقة آسك فندب إليه ابن زياد جيوش وقتل مع جميع أصحابه في عام 61هـ وتولى المناظرة بعده بإسم الحركة شخص آخر ينتمي إلى قبيلة تميم هو عبدالله بن إباض الذي سميت الفرقة نسبة إليه .
وتعتبره المصادر غير الإباضية مؤسس الفرقة أما العلماء الأباضيون فينسبون إلى عبدالله بن إباض دوراً ثانوياً بالمقارنة مع جابر بن زيد الذي يعتبرونه امامهم الحقيقي ومؤسس ذهبهم . ولما كان جابر قد أخفى معتقده وأستعمل التقية الدينية فلم يخطر على بال أحد أنه زعيم الأباضية . لذلك نسبوا الفرقة إلى إبن أباض وهو الشخص الذي قدمه أتباعه ليناظر أعداءهم ويتكلم باسمهم علنا. وكان بذلك هو المعروف لدى عامة الناس فغلب أسمه على من أتفق معه في الرأي ولكن الأباضية ظلوا يقاومون هذه التسمية التي سموا بها من قبل مخالفيهم وكانوا بدلا من ذلك يسمون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين أو أهل الاستقامة والحق . وإذا تصفح الباحث المؤلفات التي كتبها مشايخ الأباضية الأوائل فإنه لا يعثر فيها على كلمة أباضية ويبدوا أنهم مع مرور الزمن – وإصرار مخالفيهم على تسميتهم بهذا الاسم قد قبلوا به وخاصة أنهم لم يجدوا فيه ما يؤذيهم أو يسيء إلى سمعتهم . وقد ظهر لأول مرة في المؤلفات الأباضية المغربية في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري .
بعد اختفاء ابن أباض في الربع الأخير من القرن الأول الهجري أقلع الأباضية عن المناقشة العلنية والجدل الكلامي مع مخالفيهم ولجأوا إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم . وكان لجابر بن زيد دور كبير في هذا الشأن . ولما كان جابر بن زيد ينتمي إلى قبيلة الأزد العُمانية فقد وجد عنايته إلى قبيلته وأنضم عدد كبير من أفرادها وأصبح بعضهم من دعاة الفرقة المتحمسين وحماتها البارزين . كما أنضم إليه أعداد كبيرة من عرب الجنوب ومن الموالى . ولم يمت جابر بن زيد عام 93هـ إلا وقد غدت الدعوة الإباضية حركة سياسية شاملة اجتذبت عناصر من قبائل وأجناس متعددة.
وكان عمله في هذا الشان أرهاصا لما قام به خليفته أبو عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي تزعم الحركة بعد خروجه من سجن الحجاج عام 95هـ أي بعد وفاة جابر بن زيد بعامين .
استمر أبو عبيده في أداء المهمة التي أضطلع بها سلفة وأوجد مجتمعا أباضيا سريا متماسكاً تسوده الألفة والمحبة والتعاون . وخلق حكومة ثورية سرية في البصرة كان هو زعيمها ومنظم عملها ، ومستعيناً في ذلك بكبار مشايخ دعوته وعلمائها البارزين .
قام أبو عبيده بتطوير تنظيمات المجالس السرية وأعمالها. وعلى الرغم من أن بعض هذه المجالس كان موجوداً منذ الأيام الأولى لقيام حركة القعدة فإن الفضل يعود إلى الإمام أبي عبيده في توضيح معالم هذه المجالس وتصنيف وظائفها وترتيب طبقاتها. ويمكن أن نميز بين ثلاثة أنواع من المجالس السرية الإباضي كانت موجودة زمن أبي عبيده التميمي .
النوع الأول : المجالس العامة وهي التي لم تكن مقتصرة على جماعة معينة بل أن دخولها مباح لأي شخص من أهل الدعوة الإباضية . وكانت هذه المجالس تعقد سراً في بيت أحد المشايخ وفي سراديب أرضية خاصة أعدت لهذا الغرض . وفي بعض الأحيان كانوا يعقدون المجالس في بيوت العجائز أو في بيوت الكرائين تجنباً للشبهات وإمعاناً في الحيطة والحذر. وكان الأعضاء يتنكرون وهم في طريقهم إلى مكان الاجتماع، فنراهم أحياناً يتشبهون بالنساء في اللباس ، كما ينتحل بعضهم صفة الباعة المتجولين حتى يصلوا مقصدهم .
ويجتمع الأباضيون في هذه المجالس على شكل حلقة يتلقون فيها دروساً في العقيدة كما يستمعون إلى نصائح من كبار المشايخ الذين كانوا يقومون بإلقاء الخطب الواحد منهم تلو الآخر حول موضوع معين. وقد يتلقى المجتمعون من امامهم ومشايخ دعوتهم أوامر يجب التقيد بها . وكان المتحدثون يتكلمون بصوت منخفض حتى لا يسمعهم أحد من الجيران أو المارة ، وكانوا يعينون أشخاصاً منهم لمراقبة الأحياء والطرق المؤدية إلى مكان الاجتماع حتى لا تداهمهم الشرطة على غفلة أو يعلم باجتماعهم أحد من المخالفين المناوئين لدعوتهم. وكان مشايخ الأباضية يحذرون أتباعهم من العيون والجواسيس ويوصونهم بطرد أي شخص يشكون في أمره ، أما إذا قام أحد منهم بترك الجماعة وطعن في دعوتهم وكشف أسرارهم فإنهم يهدرون دمه ويغتالونه . وبذلك أصبح الاغتيال السري لكل من يؤذيهم أمرا معمولا به منذ بداية حركتهم.
النوع الثاني : مجالس المشايخ ويحضرها زعماء الدعوة فقط .وفي هذا المجلس تقرر السياسة التي يجب على إتباعهم الالتزام بها . وكان هذا المجلس أشبه ما يكون بمجلس تخطيط وتنظيم لحركة ثورية سرية ، ويشبه ما يعرفه اليوم باسم اللجنة التنفيذية أو اللجنة المركزية التي ترسم سياسة بعض الأحزاب أو الحركات الثورية.
النوع الثالث : وهو مجالس أو مدارس حملة العلم وكانت تقام في سراديب أرضية عميقة لها منافذ عديدة لا يعرفها الا الإمام وشيوخ الإباضية البارزون الموثوقون .وفي هذه المدارس كان الدعاة يتلقون العلم وأصول الدعوة وتعاليمها مباشرة من الإمام أبي عبيده . وكان أبو عبيده يتظاهر صنع القفاف حتى لايخطر ببال أحد أنه زعيم حركة مناهضة للحكم وأشتهر تبعا لذلك بلقب القفاف ، وبينما كان يلقى دروسه على تلاميذه كان هناك حارس يجلس عند الباب الخارجي للسرداب يصنع القفاف أيضاً ويمسك بسلسلة حديدية أولها عنده وآخره عند الإمام وتلاميذه فإذ مر أحد حرك الحارس السلسلة فيتوقف أبو عبيده عن إلقاء دروسه ومحاضراته ويخفى أوراقه وكتبه ويشتغل بصنع القفاف . وإذا أمن الحارس وأيقن عدم وجود خطر حرك السلسلة مرة أخرى فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدروس والتحصيل . ومن السرداب المدرسة تخرج فيعود أبو عبيده وتلاميذه للدرس والتحصيل . ومن هذا السرادب المدرسة تخرج دعاة الأباضية في الأمصار الذين عرفوا باسم حملة العلم .
وكانت بلاد المغرب من بين الأمصار التي أتجه إليها حملة العلم منذ فترة مبكرة وفي عهد الإمام أبي عبيده أرسل بعض الدعاة لاستطلاع أحوال الناس في المغرب ومعرفة اتجاهاتهم ودراسة عاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم ومقدار تطورهم الفكري والحضاري ودرجة ولائهم للسلطة الحاكمة حتى يسهل على الإمام اختيار الأشخاص المناسبين القادرين على مخاطبة الناس طبقاً لاستعدادهم الفكري وتبعاً لطموحاتهم وآمالهم في تحقيق العدل والمساواة بين الناس دون اعتبار للنسب أو الدين حسب فهمهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ".
واستطاع الدعاة الأوائل إقناع بعض الأشخاص ممن اعتنقوا المذهب الأباضي بالذهاب إلى المشرق ليأخذوا العلم ويتفقهوا في أصول الدعوة الأباضية على يد زعيم الحركة في البصرة – الإمام أبو عبيدة التميمي – وفي عام 135هـ أتجهت صوب البصرة أول بعثة علمية منظمة ، اختير رجالها من قبائل ومناطق مختلفة حتى يسهل عليهم بعد عودتهم الدعوة في مناطقهم وبين قبائلهم وتألفت البعثة من أربعة أشخاص هم : أبو درار إسماعيل بن درار الغدامس بن غدامس جنوب طرابلس ، وعبدالرحمن بن رستم من القيروان ، وعاصم السدراتي من سدراته غربي أوراس ، وابو درار القبلي النفزاوي من نفزاوة جنوب تونس . وأنضم إليهم في البصرة أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ،وهو عربي من اليمن . ودعى هؤلاء في المصادر الأباضية " حملة العلم إلى المغرب " . ومكثوا في البصرة خمس سنوات يأخذون العلم ومبادئ الدعوة في مدرسة أبو عبيده السرية .
وبعد أن اطمأن الإمام أبو عبيده إلى تمكن تلاميذه من مبادئ الدعوة الأباضية وقدرتهم على نقل أفكارهم إلى مواطنيهم ، أمرهم بالعودة إلى بلادهم ليبشروا بمذهبهم . وزودهم بنصائحه وإرشاداته والرجوع إليه فيما يشكل عليهم من أمور تكون وليدة الظروف التي قد تصادفهم في أماكن استقرارهم . وقد نشط هؤلاء الدعاة لتحقيق أهدافهم مستغلين معرفتهم بأبناء مناطقهم وخبرتهم التامة بعاداتهم وتقاليدهم وبالتالي بالأساليب التي تؤثر في إقناعهم وكسبهم إلى حركتهم . وقاموا بتأسيس المدارس السرية على غرار مدرسة البصرة ، وتخرج على أيديهم عدد من الدعاة الأباضية المغاربة تسميهم المصادر تلاميذ حملة العلم وجدّ الأساتذة والتلاميذ في تنظيم أنفسهم ونشر مبادئهم وركزوا في دعوتهم على المبادئ العامة البسيطة التي يفهمها عامة الناس وتتجاوب مع آمالهم ومشاعرهم مثل المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وأحقية كل مسلم في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة وإن هذا الأمر ليس مقصورا على قريش ولا على العرب. كما أعلنوا أنهم سيطبقون العدل والحق و أهابوا بالناس للانضمام إليهم يثوروا ضد الولاة والأمراء الذين ساموهم الخسف والعذاب وأنهكوهم بالضرائب غير المشروعة ولقيت هذه الشعارات تجاوباً سريعاً لدى البربر الذين اشتكوا طويلاً من ظلم الولاة ومن فقدان العدالة والمساواة مع أقرانهم من العرب المسلمين .