yasmeen
08-22-2005, 07:32 AM
د. خالد يونس خالد
ثورة الشعوب الإيرانية عام 1979
عندما كان يعيش آية الله الخميني في منفاه بجنوب العراق بين كربلاء والنجف الأشرف في ظل حماية النظام العراقي المنهار، كان مثال الهدوء والسلام والوئام إلى درجة أن النظام العراقي البائد كان يتركه في صومعته الهادئة بينما كان صدام حسين يحصد رؤوس رجال الدين الشيعة من المعارضين العراقيين. ولم يكن آية الله الخميني يتحرك ساكنا لأنه كان يفكر تفكيرا كان يتجاوز حدود العراق. كانت إيران همه الأول، لينطلق فيثأر من العراق بعد تصفية شاه إيران وتصفية الكرد واللليبراليين الإيرانيين تحت مظلة الديمقراطية الشيعية الإيرانية.
عمت إيران الشاه في أوائل عام 1979 مظاهرات عارمة من قبل كافة القوى الإيرانية من فرس وكرد وأذربيجانيين وتركمان وبلوج وعرب وأرمن. وضغط النظام الشاهنشاهي آنذاك على النظام العراقي البائد بطرد آية الله الخميني من العراق، حيث كان يربط النظام الإيراني البائد علاقات جيدة مع نظام البعث العراقي طبقا لإتفاقية الجزائر لعام 1975 والتي بموجبها إنهارت الثورة الكردية بين 1961-1975 والتي كان يقودها الراحل مصطفى البرزاني.
طُرد آية الله الخميني من العراق إلى فرنسا، ومن هناك كان آية الله الخميني يصدر الأوامر بتنظيم المظاهرات وقرع طبول الحرب ضد الشاه محمد رضا بهلوي وسلطته الفردية. وكان آية الله الخميني يبعث بأشرطة مسجلة بصوته لتحريض الجماهير الإيرانية بكل طوائفها وإتجاهاتها السياسية لعزل الشاه وإسقاط نظامه. واستخدم الخميني أسلوب ناجع لجذب الجماهير إلى خيمته الدينية، وهو أسلوب الإقناع بأن الحرية قادمة وأن الشعوب الإيرانية ستعيش في أجواء ديمقراطية. كما وعد الخميني كافة الشعوب الإيرانية بحقها في التمتع بحقوقها.
واتذكر جيدا وانا اسمع كاسيت من هذه الكاسيتات المسجلة وهي منظمة وموجهة بشكل مبرمج للتأثير الديماجوجي الفعال على الجماهير التي كانت ترزح تحت نير الإستبداد الشاهنشاهي. فوعد الخميني الشعب الكردي بحقه في الحرية والحقوق القومية (خود موختاري) أي الحكم الذاتي. كما وعد الليبراليين بالمشاركة في السلطة الديمقراطية المرتقبة بعد سقوط الشاه، ووعد الراديكاليين بحكم الإيران، ووعد الشعوب الإيرانية كلها بمجئ عهد ديمقراطي بعيد عن السلطوية الوحيدة الجانب.
إستطاع آية الله الخميني بعقله الديني الوحيد الجانب أن يدفع العقول التي تفكر تفكيرا متعددة الجوانب أن تنخرط تحت لوائه الديني الشمولي. وكانت الجماهير تواقة للحرية والديمقراطية، ويبدو بأنها كانت تفكر بالخلاص من سلطة الشاه كخطوة أولى، لبناء إيران ديمقراطي. بينما كان آية الله الخميني يفكر بتنظيم الجماهير لإسقاط الشاه كخطوة أولى، ومواجهة الكرد والليبراليين والشيوعيين والراديكاليين في المراحل التالية. وكانت النتيجة أن انتصر العقل الديني الذي لا يفهم لغة الديمقراطية لأنه عقل يريد احتكار الحقيقة لنفسها، وتكفير الآخرين في حالة عصيانهم، تحت مظلة الديمقراطية.
الولايات المتحدة الأمريكية ساند الخميني بإسقاط الشاه الإيراني
كان الرئيس جيمي كارتر يراقب الأحداث في إيران عن كثب، وكانت توجد قاعدة عسكرية أمريكية في إيران الشاه قوامها أربعين ألف جندي أمريكي مزودين بأرقى أنواع الاسلحة والرادارات وأجهزة التجسس على الدول العربية والإتحاد السوفيتي السابق. كما كانت لإسرائيل علاقات جيدة مع نظام الشاه، ولكل من إيران وإسرائيل سفارة في البلد الآخر.
وكان بريجنسكي العقل المفكر لجيمي كاتر، وهو في الاصل بولوني كان يشغل منصب مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، جاء بنظرية جديدة ملخصها "تبديل العساكر برجال الدين". كان بريجنسكي ينظر إلى الأنظمة التي تحكمها توجهات دينية أنظمة حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية، إلى درجة أن السعودية لم تكن لها علاقات دبلوماسية وإقتصادية مع الإتحاد السوفيتي آنذاك. أما المثال الثاني فكان باكستان المسلمة في الوقت الذي كان للهند علاقات جيدة مع الإتحاد السوفيتي. أما المثال الثالث فهو أفغانستان، ودعم الولايات المتحدة لطالبان ضد الوجود السوفيتي هناك، حتى تمكن طالبان من السيطرة على أفغانستان، قبل أن ينقلب طالبان على أمريكا. وعلى هذا الأساس اعتبر بريجنسكي بأنه من مصلحة أمريكا نهاية حكم العساكر في إيران وتبديله برجال الدين، لذلك أصدرت الأوامر للقاعدة العسكرية الأمريكية بعدم التدخل لصالح شاه إيران.
كما وقفت فرنسا موقف التأييد لإيصال تلك الأصوات الخمينية من خلال الإذاعات وأشرطة الكاسيت وما شابه إلى الجماهير الإيرانية. فكانت الثورة. إنها كانت ثورة الشعوب الإيرانية، وليست الثورة الإسلامية كما يحلو للبعض أن يقول. كانت ثورة الفرس والكرد والأذر والتركمان والأرمن والعرب بمساندة ودعم أمريكيين لدك حصون النظام الشاهنشاهي. حاول الشاه الإيراني أن يقوم ببعض الإصلاحات وذلك بتعيين رئيس وزراء جديد يتمتع بسلطات واسعة بينما سافر الشاه إلى الخارج. لكن الثورة استمرت، وشملت كل مرافق الحياة، وسيطرت على الأوضاع نسبيا في شباط عام 1979.
الولايات المتحدة الأمريكية رفضت إيواء الشاه
من الغريب أن الولايات المتحدة التي كانت تربطها بإيران أقوى العلاقات الإستراتيجية ترفض إستقبال الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي بعد خروجه من إيران لأسباب، قيل أنها "تضر بالأمن القومي الأمريكي". فليس لأمريكا صديق دائم ولا عدو دائم إنما مصلحة دائمة، مستثنيا منها إسرائيل التي تمثل إحدى أقطاب المصلحة الأمريكية الدائمة في الشرق الأوسط لإمتصاص القوة السياسية والعسكرية والفكرية العربية الإسلامية.
كان الراحل أنور السادات رجل الأزمات، وكان له الجرأة الكافية أن يستقبل الشاه الإيراني البهلوي في القاهرة، تكريما منه لذلك اليوم الذي وقف الشاه إلى جانبه بتصدير النفط إلى مصر في حرب رمضان/ أكتوبر 1973. كان الرئيس السادات أكثر أخلاقية في السياسة من بريجنسكي. فالطبيعة العربية طبيعة الكرم والوفاء حتى في السياسة مستثنيا منها طبعا طبيعة صدام حسين الذي كان عدوانيا وساديا، وهي حالة نفسية فردية لدكتاتور لا يعرف القيم الإنسانية. في حين نجد أن الشاه الإيراني المقبور كان قد خان والده رضا خان، وانقلب عليه وعزله لينفرد بالسلطة، فانقلب عليه الشعب ليعزله. فالكراسي السياسية في دولنا الشرق أوسطية ككرسي الحلاق، إذا ما إنتهى مفعول دور زبون يأتي دور الزبون الآخر، لذلك فإن قياداتنا عربا وكردا وتركا وفرسا قيادات تجيد فن سرقة أموال الشعب وتحتكر السلطة أطول فترة ممكنة، وتخشى من الديمقراطية.
إيران الخميني حققت إستراتيجية إسرائيل بإسقاط كارتر
الخطوة الأولى للخميني في مرحلة ما بعد الثورة هي كسب ثقة الجماهير، فأعطى الأوامر لإبنه بقيادة الطلبة لإحتلال السفارة الأمريكية في طهران وإسقاط نظرية بريجنسكي، فوضع الرئيس كارتر في موقف حرج جعله يفقد الانتخابات الرئاسية في الولاية الثانية لصالح منافسه جورج بوش الأب. ومن المعروف أن كارتر كان يعتبر أقرب الرؤساء الأمريكيين للعرب نسبيا، كما كان متحمسا لإيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي. والمعروف إستراتيجيته بإضعاف قوة اللوبي الصهيوني في إسرائيل لو نجح في الإنتخابات الأمريكية في ولايته الثانية. لكن إحتلال جنود الخميني من الطلبة للسفارة الأمريكية، وفشل خطة جيمي كارتر لإنقاذ موظفي السفارة الأمركية بعد إرسال أول طائرة وقعت إثر عاصفة ، جعل موقف كارتر ضعيفا أمام الرأي العام الأمريكي، مما أعطى للوبي الصهيوني دفعة جديدة بشن الدعاية المضادة له وفشله في الأنتخابات الثانية، وبذلك كانت لإيران الخميني الفضل في تقوية النفوذ الصهيوني في أمريكا من جديد. وليس من المستغرب أن تقابل إسرائيل إيران بالإحسان بإرسال الإمدادات والسلاح للنظام الإيراني الجديد في حربه مع نظام صدام حسين. ورغم أن نظام صدام هو الذي بدأ بالحرب إلاّ أن كلا النظامين كانا في مستنقع واحد وهو مستنقع دعم إسرائيل من خلال حرب شرسة بين دولتين مسلمتين لم تربح أي منهما إلاّ إسرائيل.
حفيد آية الله الخميني في أمريكا
بعد سقوط صنم ساحة الفردوس في بغداد يوم 9 نيسان 2003، ودخول القوات الأمريكية بغداد، بدأت التهديدات الأمريكية لإيران بعدم التدخل في العراق، والمطالبة بفتح المنشآت العسكرية الإيرانية للتفتيش، وإتهام إيران بصنع أسلحة الدمار الشامل، سافر حفيد آية الله الخميني إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أهم تصريح له من أمريكا هو، أنه من مصلحة إيران أن تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتسمح للأمم المتحدة بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية. وأكد بأن جده آية الله الخميني قد أخطأ في سياسته المعادية للولايات المتحدة بعد أن سيطر على السلطة.
ليتعلم العراقيون من التاريخ: النموذج (الديمقراطي) الإيراني
كانت الخطوة الثانية لآية الله الخميني بعد ثورة الشعوب الإيرانية، فتح الأبواب أمام كافة العناصر الإيرانية بالمشاركة في السلطة الجديدة لكشف أقنعتها لغرض تصفيتها لاحقا. أُجريت انتخابات بلدية وبرلمانية ساهم فيها جميع القوى الإيرانية. كما أُجريت انتخابات لرئيس الجمهورية تحت مظلة الديمقراطية. والغريب في الأمر لم يفكر أي إيراني بأن هذه الانتخابات في أثواب الديمقراطية خطوة نحو تثبيت الحكم المذهبي في إيران تدريجيا بسحب البساط من تحت أقدام العلمانيين والراديكالينن والليبراليين الإيرانيين، وتجريد الكرد من مطاليبهم بتهيئة الإيرانيين بالوقوف في وجههم.
وعد آية الله الخميني الشعب الكردي بحقوقه القومية، وبدأت المفاوضات مع القيادات الكردية ولاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني بزعامة الراحل عبد الرحمن قاسملو. وأصبح الدكتور قاسملو عضوا في لجنة الدستور الإيراني الجديد، أو نائبا لرئيس لجنة الدستور. وفسح آية الله الخميني المجال أمام الراديكاليين واللبراليين الإيرانيين بممارسة السلطة، فانتُخب السيد بني صدر وهو من الليبراليين أول رئيس للجمهورية، وحصل على حوالي ثمانية ملايين صوت بدعم من الخميني شخصيا كخطوة تكتيكية للتوهيم. كما أصبح الراديكالي السيد بازركان أول رئيس للوزراء بينما أصبح الليبرالي قطب زادة أول وزير للخارجية. وأعطى فرصة للقوى السياسية أن تتحرك وتزيح الستار عن جميع أسرارها في الوقت الذي كان النظام الجديد يعبأ القوة للمرحلة الثالثة بتصفية المعارضة الكردية والفرس العلمانيين، ولا سيما حزب تودة اليساري.
هل يتعظ العراقيون اليوم من النموذج (الديمقراطي) الإيراني وسياسة التصفيات الجسدية؟
بدأت الحرب العراقية الإيرانية بدخول القوات العراقية إيران وإحتلال عشرات الكيلومترات من الأراضي الإيرانية في 22 أيلول/ سبتمبر عام 1980، وبهذه الحرب تمكن آية الله الخميني أن يوحد كافة القوى الإيرانية خلف قيادته لمواجهة العدوان العراقي. ونجح إلى حد كبير في ذلك، ووقفت سوريا الدولة العربية الجارة للعراق إلى جانب إيران بإعتبار أن قادة سوريا من العلويين الشيعة، وهو مذهب أو مدرسة من المدارس الشيعية التي تلتقي مع المدرسة الإيرانية الإمامية الإثناعشرية، وإن كانت تختلف معها في الجزئيات.
أصبح آية الله الخميني رمز من رموز ثورة الشعوب الإيرانية، ولا سيما بعد ابتكار فكرة (ولاية الفقيه) التي تقول أن الإمام الحالي يمثل الإمام المهدي، وأن طاعته واجبة، وأن عصيانه تحرم المسلم من الجنة. وبذلك أصبح الإمام الحاكم الديني والسياسي والعسكري. ومن هذا المنطلق نجح آية الله الخميني في خطته المحكمة التي تكمن إستراتيجيتها بتصفية كافة الأطراف تدريجيا طبقا لعقلية ستالين حين كان يقول بضرورة التعاون مع الفئة الرابعة لتصفية الثالثة، ومع الفئة الثانية لتصفية الرابعة فتنفرد لك الفئة الثانية لتصفيتها. فقام بضرب مجاهدي خلق، والعمل على تصفية أعوان رئيس الجمهورية بني صدر إلا أن طيارا إيرانيا نجح بإنقاذه وتهريبه بطائرته إلى فرنسا بعد أن قص الرجل شواربه ليموه سلطات الأمن، لأنه كان معروفا بشواربه الأنيقة.
وتم تصفية رئيس الوزراء بازركان، وكذلك تصفية وزير الخارجية قطب زادة، وضرب كافة القوى الراديكالية والليبرالية لاحقا بحجة معاداتها للثورة. وتحولت ثورة الشعوب الإيرانية تدريجيا إلى حركة إسلامية مذهبية شيعية أُطلقت عليها (الثورة الإسلامية).
جاءت المرحلة التالية وهي مرحلة ضرب الحركة التحررية الكردية في كردستان إيران. والمعروف أن االكرد الذين يشكلون حوالي ثمانية ملايين نسمة في إيران مسلمون ينتمون للمذهب السني. وتشكلت محكمة خاصة ترأسها آية الله الخلخالي، وأصدرت أوامر بتكفير الكرد وإعدام المعارضين، وشملت الإعدامات عددا كبيرا من الأطفال والشباب دون سن البلوغ بسبب حملهم السلاح من أجل حقوقهم القومية والديمقراطية. وأصدرت القيادة الإيرانية الدينية في ظل مظلة الديمقراطية تحت العمامة خطة جديدة مفادها إعطاء الكرد حق الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما. إما الحكم الذاتي وإما الإسلام.
فإذا اختار الكرد الحكم الذاتي فذلك يعني أنهم خارجون عن الإسلام ويجب تصفيتهم. وإذا ما اختاروا الإسلام فذلك يعني أن الكل مسلم، ولا حقوق قومية وديمقراطية للكرد. طريقان إثنان للتصفية، وهما ينبعان من الفكر الإسلامي المذهبي الذي جعل الإسلام أداة سياسية ومطية لتحقيق أغراض دنيوية، والإسلام براء من كل ذلك. إنها الديمقراطية من طراز جديد، ديمقراطية الاجراءات والتصفيات الفكرية والجسدية.
الخطوة اللاحقة كانت ملاحقة المعارضين الكرد خارج إيران فقُتل السيد عبد الرحمن قاسملو زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وأحد أبرز المثقفين الكرد في الاشتراكية الدولية، في فينا عاصمة النمسا مع ثلاثة من رفاقه عام 1989 على أيدي المخابرات الإيرانية الدينية. كما قُتل السيد صادق شرف الدين كندي الذي أُنتُخب سكرتيرا عاما للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني خلفا للشهيد قاسملو في برلين عام 1994، والحبل على الجرار. في هذه الأجواء استمرت العملية الديمقراطية الإجرائية تحت العمامة، حيت الانتخابات البرلمانية حسب الأصول، وانتخاب رئيس الجمهورية في مسرحيات على أن السيد خاتمي مثلا شبه ليبرالي وأن فلان كذا وكذا، بينما لايملك رئيس الجمهورية، اصلاحيا كان أو محافظا بأية سلطة استراتيجية لأن المرشد الأعلى خامنئي، خليفة الخميني يملك السلطة العليا في البلاد باعتباره وكيل الإمام الثاني عشر المهدي الذي اختفى.
وبعد أن تفرغت المذهبية الإسلامية المطلى بالقومية الفارسية للحكم، جاءت الانتخابات الايرانية بالسيد أحمدي نجاد المتشدد الشيعي وقاتل الزعيم الوطني الكردستاني عبد الرحمن قاسملو إلى دفة الحكم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
العراق قد يصبح عمقا استراتيجيا لإيران
قد يصبح العراق عمقا استراتيجيا لإيران من الناحية العملية، والعراق ينتظر تنفيذ خطوات التجربة الإيرانية على مراحل مخططة طبقا لخطة محكمة. فالقادة الشيعة لهم تجربة في إيران، كما أنهم يتمتعون بدهاء في الخداع والتمويه. والأرضية العراقية رغم صعوبتها وتعقيدها، تتمتع بعوامل مساعدة من الناحية التكتيكية والاستراتيجية، مع قناعتنا أن الشعب العراقي شعب جبار لا يخضع للأجنبي بغض النظر عن المذهبية والقومية. فنفسية الإنسان العراقي أنها تواقة للحرية، وأن العراقي مستعد أن يضحي بحياته من أجل كرامته.
تفهم إيران أنها ستقدم الكثير من الضحايا حتى تستطيع أن تقهر الإنسان العراقي أو تنهزم. ولكن الاشكالية هي وجود رتل خامس إيراني منظم في العراق، وهم في غالبيتهم أناس سُذَج ومغفلين يحملون (مفتاح الجنة) وهم لا يعلمون أن العراقيين قد بدلوا (أقفال أبواب الجنة) وأن (المفاتيح) التي يحملها انتحاريو الرتل الخامس لا تلائم تلك (الأقفال الجديدة). هذه الأساطير التي ذكرتها قد صُبّت في عقول المذهبيين والمتشنجين من الإسلامويين السياسيين من أجل بناء دولة دينية، في الوقت الذي لم يفكر رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام بمثل هذه الدولة. فالخلافة الإسلامية لم تمثل الدولة الدينية المذهبية بأي شكل من الأشكال، لأنه لم تكن هناك أحزاب سياسية لأن الأحزاب السياسية الدينية، بالمفهوم الكلاسيكي التقليدي كفكر، ظهرت لأول مرة في الإسلام من قبل المعتزلة. لكن المعتزلة كانوا أكثر وعيا من الإسلامويين السياسيين اليوم لأنهم كانوا من المسلمين الأوائل الذين أخذوا بالجانب العقلي، كما كانوا سببا في ظهور العلمانية في الوقت الذي يرفض إسلامويو اليوم العلمانية.
لم تظهر الحركة السياسية الإسلاموية بمفهوم التحزب السياسي المعاصر إلاّ على يد المفكر الإسلامي (سيد قطب) حين حول حركة الاخوان المسلمين وهي تمثل الدعوة الإسلامية السلمية التي أسسها الشهيد حسن البنا، إلى حزب سياسي. في حين رفض (الشهيد البنا) الحزبية في الإسلام حين قال "وبعد هذا كله أعتقد ايها السادة ان الإسلام وهو دين الوحدة في كل شئ ، وهو دين سلامة الصدور ، ونقاء القلوب ، والإخاء الصحيح ، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لايقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه . والقرأن الكريم يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) . ويقول رسول الله عليه السلام، ألا لأدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا بلى يارسول الله: قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ". ( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ ).
أما عن وجهة نظر علماء الشيعة، فأكتفي هنا بالإشارة الى رأي أحد أبرزهم، وهو الإمام محمد مهدي شمس الدين الزعيم الروحي للشيعة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. يقول بصدد دخول الحركات الإسلامية في السياسة ما يلي: إنه " يشدد على عدم جواز دخول الحركات الإسلامية الأصولية في لعبة السياسة والسلطة، وبالتالي عدم لجؤوئها إلى العنف كتعبير عن معارضتها لأي سبب من الأسباب ، مشددا على أن إستراتيجية الصهيونية ، وأدوات النظام العالمي الجديد هي زرع التفرقة والإقتتال في العالم الإسلامي". ( مجلة الوطن العربي، العدد 1029 ، 22 نوفمبر 1996، ص 4 ).
الرتل الخامس الإيراني في عراق اليوم يتغلغل في عمق السياسة العراقية، وهو يقبض على السلطة في بغداد والنجف، ويجعل من العراق بلدا مهددا، ومحمية إيرانية تحكمها العلاقات الاستعمارية.
وإستعمار الجار للجار أقسى أنواع الاستعمار وأكثرها تخلفا لأن هذه العلاقات تصدر من جهة متخلفة تحتكر الحقيقة لنفسها، ولا تفهم لغة الديمقراطية والحرية، إنما تمارس لغة العنف، وترفض الآخر. فالسيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى يترأس الرتل الخامس، وهو في الوقت نفسه قائدا لميليشيا (بدر) الممولة من قبل إيران ماديا ومعنويا وإستراتيجيا. والمعروف عنه أنه صرح بضرورة تعويض العراق لإيران بمبلغ ماءة مليار دولار بسبب غزو القوات العراقية لإيران. في حين نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل العراق أكثر رحمة من الرتل الخامس، لأنها تعمل من أجل إلغاء الديون العراقية.
وإيران تخطط لبناء مطار جوي إستراتيجي على نفقتها الخاصة، تربط إيران بالنجف الأشرف، وقد يتحول لا حقا إلى مطار عسكري لتمويل الرتل الخامس بالسلاح والمعدات العسكرية والاستخباراتية تحت غطاء زيارة الإيرانيين للعتبات المقدسة.
وهناك أيضا حوالي عشرة آلاف شيعي هندي متمركزون في جنوب العراق الشيعي، وهم أيضا إحتياطي الرتل الخامس. وعندنا قوات مقتدى الصدر التي تقوم بمهمة أخرى تختلف كليا عن مهمة قوات بدر، وهي تعاونها مع بقايا قوات ومرتزقة صدام حسين.
من جانب آخر هناك نوع من الصراع بين الشيعة أنفسهم. فالسيد إبراهيم الجعفري لا ينتمي لإيران، وهو يمثل حزب الدعوة الإسلامي، واستطاع أن يفرض نفسه، لكن دوره سيتقلص طبقا للإستراتيجية الإيرانية بإعطاء الأدوار للآخرين أولا، ثم إبعادهم في المرحلة التالية.
في ظل هذه الأوضاع، والعراق يحتضن آلاف الاستخباراتيين الإيرانيين في العراق، مهمتهم تصفية المعارضين العراقيين لسياستها واستراتيجيتها في العراق، ومقرهم الرئيس في وزارة الداخلية العراقية. فإلى أين يسير العراق في ظل الهيمنة الإيرانية الأمريكية؟ هل تنتظر إيران إلى تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا قواتها لتنقض على العراق بأسلحة الديمقراطية، طبقا لنظرية الديمقراطية الإيرانية أو أن العراقيين أكثر دهاءا وأعمق وعيا في الدفاع عن أرضهم وحريتهم؟ هل يصبح عراق الرافدين وجوهرة الشرق الأوسط بلد الحضارة والديمقراطية أو ينقسم إلى ثلاث دول لوضع خارطة جغرافية وسياسية واستراتيجية جديدة والدخول في صراع أقليمي جديد في المنطقة طبقا للمصالح الدولية؟
القسم الثاني: هل يسير آية الله السيستاني في العراق على خطى آية الله الخميني في إيران؟
كاتب المقال باحث أكاديمي وكاتب صحفي مستقل
khalid_k2009@yahoo.se
ثورة الشعوب الإيرانية عام 1979
عندما كان يعيش آية الله الخميني في منفاه بجنوب العراق بين كربلاء والنجف الأشرف في ظل حماية النظام العراقي المنهار، كان مثال الهدوء والسلام والوئام إلى درجة أن النظام العراقي البائد كان يتركه في صومعته الهادئة بينما كان صدام حسين يحصد رؤوس رجال الدين الشيعة من المعارضين العراقيين. ولم يكن آية الله الخميني يتحرك ساكنا لأنه كان يفكر تفكيرا كان يتجاوز حدود العراق. كانت إيران همه الأول، لينطلق فيثأر من العراق بعد تصفية شاه إيران وتصفية الكرد واللليبراليين الإيرانيين تحت مظلة الديمقراطية الشيعية الإيرانية.
عمت إيران الشاه في أوائل عام 1979 مظاهرات عارمة من قبل كافة القوى الإيرانية من فرس وكرد وأذربيجانيين وتركمان وبلوج وعرب وأرمن. وضغط النظام الشاهنشاهي آنذاك على النظام العراقي البائد بطرد آية الله الخميني من العراق، حيث كان يربط النظام الإيراني البائد علاقات جيدة مع نظام البعث العراقي طبقا لإتفاقية الجزائر لعام 1975 والتي بموجبها إنهارت الثورة الكردية بين 1961-1975 والتي كان يقودها الراحل مصطفى البرزاني.
طُرد آية الله الخميني من العراق إلى فرنسا، ومن هناك كان آية الله الخميني يصدر الأوامر بتنظيم المظاهرات وقرع طبول الحرب ضد الشاه محمد رضا بهلوي وسلطته الفردية. وكان آية الله الخميني يبعث بأشرطة مسجلة بصوته لتحريض الجماهير الإيرانية بكل طوائفها وإتجاهاتها السياسية لعزل الشاه وإسقاط نظامه. واستخدم الخميني أسلوب ناجع لجذب الجماهير إلى خيمته الدينية، وهو أسلوب الإقناع بأن الحرية قادمة وأن الشعوب الإيرانية ستعيش في أجواء ديمقراطية. كما وعد الخميني كافة الشعوب الإيرانية بحقها في التمتع بحقوقها.
واتذكر جيدا وانا اسمع كاسيت من هذه الكاسيتات المسجلة وهي منظمة وموجهة بشكل مبرمج للتأثير الديماجوجي الفعال على الجماهير التي كانت ترزح تحت نير الإستبداد الشاهنشاهي. فوعد الخميني الشعب الكردي بحقه في الحرية والحقوق القومية (خود موختاري) أي الحكم الذاتي. كما وعد الليبراليين بالمشاركة في السلطة الديمقراطية المرتقبة بعد سقوط الشاه، ووعد الراديكاليين بحكم الإيران، ووعد الشعوب الإيرانية كلها بمجئ عهد ديمقراطي بعيد عن السلطوية الوحيدة الجانب.
إستطاع آية الله الخميني بعقله الديني الوحيد الجانب أن يدفع العقول التي تفكر تفكيرا متعددة الجوانب أن تنخرط تحت لوائه الديني الشمولي. وكانت الجماهير تواقة للحرية والديمقراطية، ويبدو بأنها كانت تفكر بالخلاص من سلطة الشاه كخطوة أولى، لبناء إيران ديمقراطي. بينما كان آية الله الخميني يفكر بتنظيم الجماهير لإسقاط الشاه كخطوة أولى، ومواجهة الكرد والليبراليين والشيوعيين والراديكاليين في المراحل التالية. وكانت النتيجة أن انتصر العقل الديني الذي لا يفهم لغة الديمقراطية لأنه عقل يريد احتكار الحقيقة لنفسها، وتكفير الآخرين في حالة عصيانهم، تحت مظلة الديمقراطية.
الولايات المتحدة الأمريكية ساند الخميني بإسقاط الشاه الإيراني
كان الرئيس جيمي كارتر يراقب الأحداث في إيران عن كثب، وكانت توجد قاعدة عسكرية أمريكية في إيران الشاه قوامها أربعين ألف جندي أمريكي مزودين بأرقى أنواع الاسلحة والرادارات وأجهزة التجسس على الدول العربية والإتحاد السوفيتي السابق. كما كانت لإسرائيل علاقات جيدة مع نظام الشاه، ولكل من إيران وإسرائيل سفارة في البلد الآخر.
وكان بريجنسكي العقل المفكر لجيمي كاتر، وهو في الاصل بولوني كان يشغل منصب مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، جاء بنظرية جديدة ملخصها "تبديل العساكر برجال الدين". كان بريجنسكي ينظر إلى الأنظمة التي تحكمها توجهات دينية أنظمة حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية، إلى درجة أن السعودية لم تكن لها علاقات دبلوماسية وإقتصادية مع الإتحاد السوفيتي آنذاك. أما المثال الثاني فكان باكستان المسلمة في الوقت الذي كان للهند علاقات جيدة مع الإتحاد السوفيتي. أما المثال الثالث فهو أفغانستان، ودعم الولايات المتحدة لطالبان ضد الوجود السوفيتي هناك، حتى تمكن طالبان من السيطرة على أفغانستان، قبل أن ينقلب طالبان على أمريكا. وعلى هذا الأساس اعتبر بريجنسكي بأنه من مصلحة أمريكا نهاية حكم العساكر في إيران وتبديله برجال الدين، لذلك أصدرت الأوامر للقاعدة العسكرية الأمريكية بعدم التدخل لصالح شاه إيران.
كما وقفت فرنسا موقف التأييد لإيصال تلك الأصوات الخمينية من خلال الإذاعات وأشرطة الكاسيت وما شابه إلى الجماهير الإيرانية. فكانت الثورة. إنها كانت ثورة الشعوب الإيرانية، وليست الثورة الإسلامية كما يحلو للبعض أن يقول. كانت ثورة الفرس والكرد والأذر والتركمان والأرمن والعرب بمساندة ودعم أمريكيين لدك حصون النظام الشاهنشاهي. حاول الشاه الإيراني أن يقوم ببعض الإصلاحات وذلك بتعيين رئيس وزراء جديد يتمتع بسلطات واسعة بينما سافر الشاه إلى الخارج. لكن الثورة استمرت، وشملت كل مرافق الحياة، وسيطرت على الأوضاع نسبيا في شباط عام 1979.
الولايات المتحدة الأمريكية رفضت إيواء الشاه
من الغريب أن الولايات المتحدة التي كانت تربطها بإيران أقوى العلاقات الإستراتيجية ترفض إستقبال الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي بعد خروجه من إيران لأسباب، قيل أنها "تضر بالأمن القومي الأمريكي". فليس لأمريكا صديق دائم ولا عدو دائم إنما مصلحة دائمة، مستثنيا منها إسرائيل التي تمثل إحدى أقطاب المصلحة الأمريكية الدائمة في الشرق الأوسط لإمتصاص القوة السياسية والعسكرية والفكرية العربية الإسلامية.
كان الراحل أنور السادات رجل الأزمات، وكان له الجرأة الكافية أن يستقبل الشاه الإيراني البهلوي في القاهرة، تكريما منه لذلك اليوم الذي وقف الشاه إلى جانبه بتصدير النفط إلى مصر في حرب رمضان/ أكتوبر 1973. كان الرئيس السادات أكثر أخلاقية في السياسة من بريجنسكي. فالطبيعة العربية طبيعة الكرم والوفاء حتى في السياسة مستثنيا منها طبعا طبيعة صدام حسين الذي كان عدوانيا وساديا، وهي حالة نفسية فردية لدكتاتور لا يعرف القيم الإنسانية. في حين نجد أن الشاه الإيراني المقبور كان قد خان والده رضا خان، وانقلب عليه وعزله لينفرد بالسلطة، فانقلب عليه الشعب ليعزله. فالكراسي السياسية في دولنا الشرق أوسطية ككرسي الحلاق، إذا ما إنتهى مفعول دور زبون يأتي دور الزبون الآخر، لذلك فإن قياداتنا عربا وكردا وتركا وفرسا قيادات تجيد فن سرقة أموال الشعب وتحتكر السلطة أطول فترة ممكنة، وتخشى من الديمقراطية.
إيران الخميني حققت إستراتيجية إسرائيل بإسقاط كارتر
الخطوة الأولى للخميني في مرحلة ما بعد الثورة هي كسب ثقة الجماهير، فأعطى الأوامر لإبنه بقيادة الطلبة لإحتلال السفارة الأمريكية في طهران وإسقاط نظرية بريجنسكي، فوضع الرئيس كارتر في موقف حرج جعله يفقد الانتخابات الرئاسية في الولاية الثانية لصالح منافسه جورج بوش الأب. ومن المعروف أن كارتر كان يعتبر أقرب الرؤساء الأمريكيين للعرب نسبيا، كما كان متحمسا لإيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي. والمعروف إستراتيجيته بإضعاف قوة اللوبي الصهيوني في إسرائيل لو نجح في الإنتخابات الأمريكية في ولايته الثانية. لكن إحتلال جنود الخميني من الطلبة للسفارة الأمريكية، وفشل خطة جيمي كارتر لإنقاذ موظفي السفارة الأمركية بعد إرسال أول طائرة وقعت إثر عاصفة ، جعل موقف كارتر ضعيفا أمام الرأي العام الأمريكي، مما أعطى للوبي الصهيوني دفعة جديدة بشن الدعاية المضادة له وفشله في الأنتخابات الثانية، وبذلك كانت لإيران الخميني الفضل في تقوية النفوذ الصهيوني في أمريكا من جديد. وليس من المستغرب أن تقابل إسرائيل إيران بالإحسان بإرسال الإمدادات والسلاح للنظام الإيراني الجديد في حربه مع نظام صدام حسين. ورغم أن نظام صدام هو الذي بدأ بالحرب إلاّ أن كلا النظامين كانا في مستنقع واحد وهو مستنقع دعم إسرائيل من خلال حرب شرسة بين دولتين مسلمتين لم تربح أي منهما إلاّ إسرائيل.
حفيد آية الله الخميني في أمريكا
بعد سقوط صنم ساحة الفردوس في بغداد يوم 9 نيسان 2003، ودخول القوات الأمريكية بغداد، بدأت التهديدات الأمريكية لإيران بعدم التدخل في العراق، والمطالبة بفتح المنشآت العسكرية الإيرانية للتفتيش، وإتهام إيران بصنع أسلحة الدمار الشامل، سافر حفيد آية الله الخميني إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أهم تصريح له من أمريكا هو، أنه من مصلحة إيران أن تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتسمح للأمم المتحدة بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية. وأكد بأن جده آية الله الخميني قد أخطأ في سياسته المعادية للولايات المتحدة بعد أن سيطر على السلطة.
ليتعلم العراقيون من التاريخ: النموذج (الديمقراطي) الإيراني
كانت الخطوة الثانية لآية الله الخميني بعد ثورة الشعوب الإيرانية، فتح الأبواب أمام كافة العناصر الإيرانية بالمشاركة في السلطة الجديدة لكشف أقنعتها لغرض تصفيتها لاحقا. أُجريت انتخابات بلدية وبرلمانية ساهم فيها جميع القوى الإيرانية. كما أُجريت انتخابات لرئيس الجمهورية تحت مظلة الديمقراطية. والغريب في الأمر لم يفكر أي إيراني بأن هذه الانتخابات في أثواب الديمقراطية خطوة نحو تثبيت الحكم المذهبي في إيران تدريجيا بسحب البساط من تحت أقدام العلمانيين والراديكالينن والليبراليين الإيرانيين، وتجريد الكرد من مطاليبهم بتهيئة الإيرانيين بالوقوف في وجههم.
وعد آية الله الخميني الشعب الكردي بحقوقه القومية، وبدأت المفاوضات مع القيادات الكردية ولاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني بزعامة الراحل عبد الرحمن قاسملو. وأصبح الدكتور قاسملو عضوا في لجنة الدستور الإيراني الجديد، أو نائبا لرئيس لجنة الدستور. وفسح آية الله الخميني المجال أمام الراديكاليين واللبراليين الإيرانيين بممارسة السلطة، فانتُخب السيد بني صدر وهو من الليبراليين أول رئيس للجمهورية، وحصل على حوالي ثمانية ملايين صوت بدعم من الخميني شخصيا كخطوة تكتيكية للتوهيم. كما أصبح الراديكالي السيد بازركان أول رئيس للوزراء بينما أصبح الليبرالي قطب زادة أول وزير للخارجية. وأعطى فرصة للقوى السياسية أن تتحرك وتزيح الستار عن جميع أسرارها في الوقت الذي كان النظام الجديد يعبأ القوة للمرحلة الثالثة بتصفية المعارضة الكردية والفرس العلمانيين، ولا سيما حزب تودة اليساري.
هل يتعظ العراقيون اليوم من النموذج (الديمقراطي) الإيراني وسياسة التصفيات الجسدية؟
بدأت الحرب العراقية الإيرانية بدخول القوات العراقية إيران وإحتلال عشرات الكيلومترات من الأراضي الإيرانية في 22 أيلول/ سبتمبر عام 1980، وبهذه الحرب تمكن آية الله الخميني أن يوحد كافة القوى الإيرانية خلف قيادته لمواجهة العدوان العراقي. ونجح إلى حد كبير في ذلك، ووقفت سوريا الدولة العربية الجارة للعراق إلى جانب إيران بإعتبار أن قادة سوريا من العلويين الشيعة، وهو مذهب أو مدرسة من المدارس الشيعية التي تلتقي مع المدرسة الإيرانية الإمامية الإثناعشرية، وإن كانت تختلف معها في الجزئيات.
أصبح آية الله الخميني رمز من رموز ثورة الشعوب الإيرانية، ولا سيما بعد ابتكار فكرة (ولاية الفقيه) التي تقول أن الإمام الحالي يمثل الإمام المهدي، وأن طاعته واجبة، وأن عصيانه تحرم المسلم من الجنة. وبذلك أصبح الإمام الحاكم الديني والسياسي والعسكري. ومن هذا المنطلق نجح آية الله الخميني في خطته المحكمة التي تكمن إستراتيجيتها بتصفية كافة الأطراف تدريجيا طبقا لعقلية ستالين حين كان يقول بضرورة التعاون مع الفئة الرابعة لتصفية الثالثة، ومع الفئة الثانية لتصفية الرابعة فتنفرد لك الفئة الثانية لتصفيتها. فقام بضرب مجاهدي خلق، والعمل على تصفية أعوان رئيس الجمهورية بني صدر إلا أن طيارا إيرانيا نجح بإنقاذه وتهريبه بطائرته إلى فرنسا بعد أن قص الرجل شواربه ليموه سلطات الأمن، لأنه كان معروفا بشواربه الأنيقة.
وتم تصفية رئيس الوزراء بازركان، وكذلك تصفية وزير الخارجية قطب زادة، وضرب كافة القوى الراديكالية والليبرالية لاحقا بحجة معاداتها للثورة. وتحولت ثورة الشعوب الإيرانية تدريجيا إلى حركة إسلامية مذهبية شيعية أُطلقت عليها (الثورة الإسلامية).
جاءت المرحلة التالية وهي مرحلة ضرب الحركة التحررية الكردية في كردستان إيران. والمعروف أن االكرد الذين يشكلون حوالي ثمانية ملايين نسمة في إيران مسلمون ينتمون للمذهب السني. وتشكلت محكمة خاصة ترأسها آية الله الخلخالي، وأصدرت أوامر بتكفير الكرد وإعدام المعارضين، وشملت الإعدامات عددا كبيرا من الأطفال والشباب دون سن البلوغ بسبب حملهم السلاح من أجل حقوقهم القومية والديمقراطية. وأصدرت القيادة الإيرانية الدينية في ظل مظلة الديمقراطية تحت العمامة خطة جديدة مفادها إعطاء الكرد حق الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما. إما الحكم الذاتي وإما الإسلام.
فإذا اختار الكرد الحكم الذاتي فذلك يعني أنهم خارجون عن الإسلام ويجب تصفيتهم. وإذا ما اختاروا الإسلام فذلك يعني أن الكل مسلم، ولا حقوق قومية وديمقراطية للكرد. طريقان إثنان للتصفية، وهما ينبعان من الفكر الإسلامي المذهبي الذي جعل الإسلام أداة سياسية ومطية لتحقيق أغراض دنيوية، والإسلام براء من كل ذلك. إنها الديمقراطية من طراز جديد، ديمقراطية الاجراءات والتصفيات الفكرية والجسدية.
الخطوة اللاحقة كانت ملاحقة المعارضين الكرد خارج إيران فقُتل السيد عبد الرحمن قاسملو زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وأحد أبرز المثقفين الكرد في الاشتراكية الدولية، في فينا عاصمة النمسا مع ثلاثة من رفاقه عام 1989 على أيدي المخابرات الإيرانية الدينية. كما قُتل السيد صادق شرف الدين كندي الذي أُنتُخب سكرتيرا عاما للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني خلفا للشهيد قاسملو في برلين عام 1994، والحبل على الجرار. في هذه الأجواء استمرت العملية الديمقراطية الإجرائية تحت العمامة، حيت الانتخابات البرلمانية حسب الأصول، وانتخاب رئيس الجمهورية في مسرحيات على أن السيد خاتمي مثلا شبه ليبرالي وأن فلان كذا وكذا، بينما لايملك رئيس الجمهورية، اصلاحيا كان أو محافظا بأية سلطة استراتيجية لأن المرشد الأعلى خامنئي، خليفة الخميني يملك السلطة العليا في البلاد باعتباره وكيل الإمام الثاني عشر المهدي الذي اختفى.
وبعد أن تفرغت المذهبية الإسلامية المطلى بالقومية الفارسية للحكم، جاءت الانتخابات الايرانية بالسيد أحمدي نجاد المتشدد الشيعي وقاتل الزعيم الوطني الكردستاني عبد الرحمن قاسملو إلى دفة الحكم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
العراق قد يصبح عمقا استراتيجيا لإيران
قد يصبح العراق عمقا استراتيجيا لإيران من الناحية العملية، والعراق ينتظر تنفيذ خطوات التجربة الإيرانية على مراحل مخططة طبقا لخطة محكمة. فالقادة الشيعة لهم تجربة في إيران، كما أنهم يتمتعون بدهاء في الخداع والتمويه. والأرضية العراقية رغم صعوبتها وتعقيدها، تتمتع بعوامل مساعدة من الناحية التكتيكية والاستراتيجية، مع قناعتنا أن الشعب العراقي شعب جبار لا يخضع للأجنبي بغض النظر عن المذهبية والقومية. فنفسية الإنسان العراقي أنها تواقة للحرية، وأن العراقي مستعد أن يضحي بحياته من أجل كرامته.
تفهم إيران أنها ستقدم الكثير من الضحايا حتى تستطيع أن تقهر الإنسان العراقي أو تنهزم. ولكن الاشكالية هي وجود رتل خامس إيراني منظم في العراق، وهم في غالبيتهم أناس سُذَج ومغفلين يحملون (مفتاح الجنة) وهم لا يعلمون أن العراقيين قد بدلوا (أقفال أبواب الجنة) وأن (المفاتيح) التي يحملها انتحاريو الرتل الخامس لا تلائم تلك (الأقفال الجديدة). هذه الأساطير التي ذكرتها قد صُبّت في عقول المذهبيين والمتشنجين من الإسلامويين السياسيين من أجل بناء دولة دينية، في الوقت الذي لم يفكر رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام بمثل هذه الدولة. فالخلافة الإسلامية لم تمثل الدولة الدينية المذهبية بأي شكل من الأشكال، لأنه لم تكن هناك أحزاب سياسية لأن الأحزاب السياسية الدينية، بالمفهوم الكلاسيكي التقليدي كفكر، ظهرت لأول مرة في الإسلام من قبل المعتزلة. لكن المعتزلة كانوا أكثر وعيا من الإسلامويين السياسيين اليوم لأنهم كانوا من المسلمين الأوائل الذين أخذوا بالجانب العقلي، كما كانوا سببا في ظهور العلمانية في الوقت الذي يرفض إسلامويو اليوم العلمانية.
لم تظهر الحركة السياسية الإسلاموية بمفهوم التحزب السياسي المعاصر إلاّ على يد المفكر الإسلامي (سيد قطب) حين حول حركة الاخوان المسلمين وهي تمثل الدعوة الإسلامية السلمية التي أسسها الشهيد حسن البنا، إلى حزب سياسي. في حين رفض (الشهيد البنا) الحزبية في الإسلام حين قال "وبعد هذا كله أعتقد ايها السادة ان الإسلام وهو دين الوحدة في كل شئ ، وهو دين سلامة الصدور ، ونقاء القلوب ، والإخاء الصحيح ، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لايقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه . والقرأن الكريم يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) . ويقول رسول الله عليه السلام، ألا لأدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا بلى يارسول الله: قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ". ( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ ).
أما عن وجهة نظر علماء الشيعة، فأكتفي هنا بالإشارة الى رأي أحد أبرزهم، وهو الإمام محمد مهدي شمس الدين الزعيم الروحي للشيعة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. يقول بصدد دخول الحركات الإسلامية في السياسة ما يلي: إنه " يشدد على عدم جواز دخول الحركات الإسلامية الأصولية في لعبة السياسة والسلطة، وبالتالي عدم لجؤوئها إلى العنف كتعبير عن معارضتها لأي سبب من الأسباب ، مشددا على أن إستراتيجية الصهيونية ، وأدوات النظام العالمي الجديد هي زرع التفرقة والإقتتال في العالم الإسلامي". ( مجلة الوطن العربي، العدد 1029 ، 22 نوفمبر 1996، ص 4 ).
الرتل الخامس الإيراني في عراق اليوم يتغلغل في عمق السياسة العراقية، وهو يقبض على السلطة في بغداد والنجف، ويجعل من العراق بلدا مهددا، ومحمية إيرانية تحكمها العلاقات الاستعمارية.
وإستعمار الجار للجار أقسى أنواع الاستعمار وأكثرها تخلفا لأن هذه العلاقات تصدر من جهة متخلفة تحتكر الحقيقة لنفسها، ولا تفهم لغة الديمقراطية والحرية، إنما تمارس لغة العنف، وترفض الآخر. فالسيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى يترأس الرتل الخامس، وهو في الوقت نفسه قائدا لميليشيا (بدر) الممولة من قبل إيران ماديا ومعنويا وإستراتيجيا. والمعروف عنه أنه صرح بضرورة تعويض العراق لإيران بمبلغ ماءة مليار دولار بسبب غزو القوات العراقية لإيران. في حين نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل العراق أكثر رحمة من الرتل الخامس، لأنها تعمل من أجل إلغاء الديون العراقية.
وإيران تخطط لبناء مطار جوي إستراتيجي على نفقتها الخاصة، تربط إيران بالنجف الأشرف، وقد يتحول لا حقا إلى مطار عسكري لتمويل الرتل الخامس بالسلاح والمعدات العسكرية والاستخباراتية تحت غطاء زيارة الإيرانيين للعتبات المقدسة.
وهناك أيضا حوالي عشرة آلاف شيعي هندي متمركزون في جنوب العراق الشيعي، وهم أيضا إحتياطي الرتل الخامس. وعندنا قوات مقتدى الصدر التي تقوم بمهمة أخرى تختلف كليا عن مهمة قوات بدر، وهي تعاونها مع بقايا قوات ومرتزقة صدام حسين.
من جانب آخر هناك نوع من الصراع بين الشيعة أنفسهم. فالسيد إبراهيم الجعفري لا ينتمي لإيران، وهو يمثل حزب الدعوة الإسلامي، واستطاع أن يفرض نفسه، لكن دوره سيتقلص طبقا للإستراتيجية الإيرانية بإعطاء الأدوار للآخرين أولا، ثم إبعادهم في المرحلة التالية.
في ظل هذه الأوضاع، والعراق يحتضن آلاف الاستخباراتيين الإيرانيين في العراق، مهمتهم تصفية المعارضين العراقيين لسياستها واستراتيجيتها في العراق، ومقرهم الرئيس في وزارة الداخلية العراقية. فإلى أين يسير العراق في ظل الهيمنة الإيرانية الأمريكية؟ هل تنتظر إيران إلى تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا قواتها لتنقض على العراق بأسلحة الديمقراطية، طبقا لنظرية الديمقراطية الإيرانية أو أن العراقيين أكثر دهاءا وأعمق وعيا في الدفاع عن أرضهم وحريتهم؟ هل يصبح عراق الرافدين وجوهرة الشرق الأوسط بلد الحضارة والديمقراطية أو ينقسم إلى ثلاث دول لوضع خارطة جغرافية وسياسية واستراتيجية جديدة والدخول في صراع أقليمي جديد في المنطقة طبقا للمصالح الدولية؟
القسم الثاني: هل يسير آية الله السيستاني في العراق على خطى آية الله الخميني في إيران؟
كاتب المقال باحث أكاديمي وكاتب صحفي مستقل
khalid_k2009@yahoo.se