المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل كان محمد على باشا حاكما عظيما ام دكتاتورا ؟



Osama
08-21-2005, 09:28 AM
سلوى اللوباني


http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/8/thumbnails/T_f3e219b7-6322-40ad-97a7-4c359bf92fc0.JPG

في التاسع من يوليو عام 1805 م، تم تعيين محمد علي والياً على مصر مع منحه لقب باشا، وبمناسبة مرور قرنين من الزمان على توليه الحكم، تتم التحضيرات في القاهرة وفرنسا للاحتفال بالمئوية الثانية على حكمه، فستقام ندوة دولية في مكتبة الاسكندرية يشارك فيها العديد من الكتاب والمؤرخين والصحفيين من مصر وفرنسا، والجدير بالذكر أن الاسرة العلوية التي ينتمي لها محمد علي انتهى حكمها ونفي آخر ملوكها وهو الملك فاروق بقيام ثورة يوليو عام 52.

اختلفت الآراء حول محمد علي باشا وحكمه، فهناك من وصفه بالديكتاتور، والبعض اعتبره أنانياُ فكان همه فقط اعداد مصر لتكون مملكة له ولاسرته من بعده، والبعض اعتبره مؤسس مصر الحديثة، اصدر المؤرخين والكتاب العديد من الكتب والمقالات والدراسات عن محمد علي باشا وفترة حكمه لمصر، ومن بين هذه الاصدارات أحدثها وهو كتاب " قِسمة القدر العجيب لمحمد علي باشا الكبير مؤسس مصر الحديثة" لنيفين يسري، رواية تاريخية مؤثرة لشخصية تركت بصمتها على مصر والعالم أجمع، يحتوي الكتاب على 200 صورة والعديد من الخرائط، تميز اسلوب الكاتبة بالسلاسة فلا تمل من قراءة الاحداث التي نقلت محمد علي من بلدته قَولَة الى مصر، وتجذبك الرواية الى آخر صفحاتها لتتعرف على نهاية محمد علي مؤسس مصر الحديثة، أظهرت الكاتبة العديد من اللحظات والمواقف في حياة محمد علي والتي تقدم للقارئ فكرة عن شخصيته وروح الشجاعة والمبادرة التي تحلى بهم ليحقق غايته في نقل مصر من مجرد ولاية تابعة الى الامبراطورية العثمانية الى دولة يحسب لها الحساب، كما ورد في الكتاب العديد من الكلمات والأسماء التركية/ العثمانية التي لا يزال بعضها مستخدم في مصر حالياً مثل الحرملك، مولاي، باشا، سيدي، هانم، طوسون، نازلي، قادن، افندي، سرايا، بك وغيرها. وسنقدم صورة مختصرة للقارئ من كتاب " قِسمة محمد علي" ليتعرف على بداية ونهاية مؤسس مصر الحديثة بمناسبة مرور 200 عام على حكمه لمصر.


http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/8/thumbnails/T_4524f77b-4f34-416b-baf3-9dfad6163fe2.JPG

البداية من قَولَة:

أجداد محمد على من مقدونيا في تركيا و استقروا في مدينة قولة الواقعة على بحر ايجه بين تركيا واليونان، ولد في قولة عام 1769 م، والده ابراهيم آغا رئيس الحرس المختص بحراسة الطرق ببلده، ووالدته السيدة زينب، كان اكبر اخوانه واخوته، توفيت والدته بعد فترة من طفولته، وايضاً توفي والده بعد فترة وجيزة لينتقل هو واخوته للعيش مع عمهم الذي لم يكن لديه الوقت او الدراية في تربية الاطفال، فوصل محمد علي لسن الرابعة عشر وهو لا يعرف الالف من الباء.

كان شخصية قيادية منذ صغره، شجاع يتميز بروح المبادرة، قرر ان يدخل في مجال الشرطة، وكانت مهمته القيام بدوريات ما بين قولة والقرى المجاورة للحفاظ على القانون والامن، وشاعت سمعته بسرعة بين القرى لما تميز به من الشجاعة والجرأة في كل المنطقة.

تزوج من "أمينة" ورزق بخمسة اطفال، ثلاثة أولاد ( ابراهيم، اسماعيل، طوسون) وبنتين، وبعد زواجه استقر في مدينة نصرتلي، وكانت تصفه زوجته بانه شخصية ساحرة يجد الكلمة المناسبة دائماً التي تؤثر في القلب، ازداد نفوذه مع مرور الوقت وكانت سمعته تسبقه بين القرى، فكان مشهوراً بالقوة والقيادة، ونال احترام الناس كافة، ولم يكن يتراجع عن واجبه ابداً فلا يتوانى عن الدفاع عن الناس وعن القرى في اي موقف، وكان طموحه لا حدود له مما بدأ يزعج عمه خوفاً على مكانته.

في عام 1798 قام نابليون بونابرت بغزو مصر، فصدرت الاوامر لجميع انحاء الامبراطورية العثمانية بتجنيد القوات وارسالها الى مصر، لذلك طلب عمه من السلطة العليا في تركيا ارسال محمد علي مع الحملة المتوجهة الى مصر ليتخلص منه، وكان متأكداً بأن محمد علي لن يرفض بسبب ايمانه وتمسكه بالواجب الوطني، ولم يكن عمه يعلم بأنه قدم لمحمد علي الولاية والمجد بارساله الى مصر، ولعب القدر العجيب لعبته في حياة محمد علي.

حلم المجد والولاية الذي تحقق:

وقبل الانتقال الى حكم محمد علي في مصر يجب ان نذكر هنا الحلم الغريب الذي رأته والدته زينب بابنها محمد علي والطريف انها رأت هذا الحلم ولم تكن بعد قد رزقت هي وزوجها باطفال، "رأيت ابننا يعتلي فرسا ابيض مزينا بغطاء من الفضة، على سرجه وركابه الفضية تبرق في الشمس مع كل خطوة، وهو يصعد بصعوبة طريقا وعرا شديد الانحدار، وعندما وصل الى القمة نزل من على فرسه ليصعد اعلى منصة مغطاة بسجاد أعجمي رائع، ثم جلس واضعا احدى ساقيه تحته في كرسي ضخم مطلي بالذهب ومبطن بقطيفة قرمزية وممسكا بسيفه بين ركبيته".


http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/8/thumbnails/T_da9f8b06-0ee1-429e-9bd0-452508551054.JPG

وصل محمد علي بالقوات العثمانية على شبه جزيرة ابي قير في الاسكندرية، واصطدم مع الجيوش الفرنسية في موقعة ابي قير، انهزم فيها الجيش العثماني، ولكن بعد عامين كانت الجيوش الفرنسية تغادر الاراضي المصرية، كان محمد علي يزداد شجاعة بالاضافة الى روح المبادرة وفي المقابل كانت تزداد شعبيته ونفوذه مما جعله يرتقي الرتب، وكان لديه القدرة على قيادة الرجال فرشح لمنصب رئيس القيادة العامة وقائد حرس القصر لدى الحاكم العام، هذا المنصب اعطى محمد علي سلطة كبيرة في القاهرة مما سمح له بالتعامل مع القيادات المصرية والدينية وعلماء الشريعة الاسلامية، والمدرسين ورؤساء الشركات اي مع جميع الفئات المؤثرة في سياسة مصر، وكان مصمما على اعادة التنظيم والادارة في مصر. محمد علي والي على مصر:

كانت تلك الفترة في تاريخ مصر مليئة بالفوضى والبطش والتنافس على السلطة، فحاكم مصر كان غير قادر على السيطرة على زمام الامور، والمماليك بطشهم يزداد، بالاضافة الى اطماع بريطانيا وفرنسا لنهب خيرات مصر، فاحتج العلماء والمشايخ والجنود في المجتمع المصري على تدهور الحالة وكان محمد علي الداعم الاكبر لاهل مصر بأخذ حقوقهم والوقوف الى جانبهم، فأعلنت الثورة في مصر ضد المماليك ولعزل حاكم مصر وتم تعيين محمد علي مكانه، ورحب الشعب المصري بمحمد علي، واصبح تعييته رسميا بعد ان ارسل السلطان من تركيا مرسوماً بتعيين محمد علي والي على مصر عام 1805 مع منحه لقب باشا، وتذكر محمد علي حلم والدته التي كانت تحدثه عنه دائماً وهو يعتلي منصة العرش عند القلعة بعد ان سار به موكب عظيم في القاهرة، ذلك الحلم الذي رأته والدته قبل ولادته.

http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphLiterature/2005/8/thumbnails/T_ef5418ec-6886-414b-94e2-5e09cdf9057c.JPG

مسجد محمد على



انجازات محمد علي في مصر:

قدم محمد علي الكثير لمصر، فعندما تولى حكم مصر كانت لا تزال تابعة للدولة العثمانية قرابة 3 قرون، وتتنازع عليها الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، كما كان المماليك ينشرون فيها الفساد ويبطشون بأهلها، وعند توليه الحكم استطاع التخلص من كل هؤلاء وقضى على أعدائه في مذبحة المماليك المشهورة، وحصل لمصر على كيانها واستقلالها. اولويات الحكم عند محمد علي كانت السيطرة على زمام الامور في مصر، فقام بتكوين جهاز مباحث سرية مكنه من التحكم في مجريات الامور وضبط البلد، وكان يتمتع كما ذكرنا بالروح الوطنية والقومية التي وجدها عند اهل مصر، لذلك بدل تدريجيا اللغة التركية التي كانت سائدة في مصر الى اللغة العربية واصبحت اللغة الرسمية في الحكومة والادارة.
وقد عانى محمد علي من الامية فقد تعلم القراءة عندما بلغ سن الاربعين، فكان ذلك حافزا له ليدرك مدى اهمية التعليم فأمر بانشاء عدد كبير من المدارس، وأنشأ وزارة التربية والتعليم وتدريجيا كانت المدارس الجديدة تفتح يوم بعد يوم، بالاضافة الى مبادرته لتعليم الفتيات التي تحسب له في تلك الفترة، فلقد واجه معارضة شديدة من الجميع بسبب العادات والتقاليد، كما أنه كان يرسل المتفوقين في بعثات الى اوروبا لاستكمال علومهم، وعند عودتهم كان عليهم ترجمة ما تعلموه الى اللغة العربية ثم تدريسه في المدارس.
ثم أنشأ كليات الزراعة والطب البشري والبيطري، والفنون الجميلة، وكان فخورا بمستشفى ابو زعبل التي أنشأها، ثم امر بالتوسع في زراعة القطن، وادخال زراعة القنب والكتان، واشجار الزيتون، أنشأ اول مصنع نسيج، كما اسس عدد من الكليات الحربية وطور الجيش المصري، و أمر المهندسين بتاسيس نظام عبقري للري عن طريق انشاء شبكة قنوات وسدود وقناطر خيرية تقوم بحجز مياه النيل ثم توزيعها الى كل الاتجاهات، وامر بتنظيف الطرق وتجميل الشوارع فتمت زراعة الاشجار، بالاضافة الى بناء مسجده الرائع في القلعة، الذي قام بتصميمه المهندس التركي يوسف بوشناق، وكان تحفة معمارية، لم تكن مصر موطنه الاصلي ولكن مع مرور الزمن اصبحت مصر طفلته بالتبني كما وصفته الكاتبة.

نهاية مؤسس مصر الحديثة:

عندما بدأت بوادر الشيخوخة تظهر على محمد علي باشا كان قد بدأ يعاني من حالات توهان جعلته غير قادر على اتخاذ القرار وادارة مصر، فبدأ ابنه ابراهيم بادارة مصر، وكان يدير الحكم دون ان يجرح مشاعر والده، فكان حريصا ان يشعره انه هو الحاكم الناهي، بدأت حالته الصحية تسوء عندما فقد زوجته أمينة، ومن ثم ابنين هما طوسون واسماعيل، وكانت الصدمة الكبرى في وفاة ابنته توحيدة بسبب مرض الدرن، واختلفت الاراء في تشخيص حالته، فكان البعض يرى ان حالته سببها الديزنطاريا، والبعض قال سببها عامل السن وسوء تغذية المخ بالدم، او بسبب دواء مهدئ الاعصاب الذي كان يتناوله، واكثر من مرة كانت حالة محمد علي الصحية تسوء ويعتقد من حوله انها النهاية ولكنه يستمر ويقاوم، ومن مفارقات حياة محمد علي باشا ايضا ان ابنه ابراهيم توفي في حياته، ولكنه كان في شبه عزلة عن العالم من حوله فلم يجرؤ احدا على اعلامه بخبر وفاة ابنه، ولكنه شعر بذلك بعد فترة وقال لمن حوله " ابننا ابراهيم باشا قد توفى، انهم يدفنونه الان"، ونصح الاطباء باقامته في الاسكندرية ليتمتع بهوائها النقي، وبعد ست سنوات اصيب قلب محمد علي بخلل وسبب اضطرابا في الدورة الدموية مما ارهق عضلة القلب واصبح التنفس صعباً، وفي الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس في الثاني من اغسطس عام 1848 م ، الموافق الثالث عشر من رمضان عام 1265 هـ توفي محمد علي باشا الكبير، ونقل الجثمان الى المركب الذي سينقله الى القاهرة وتجمع اهالي الاسكندرية لتوديعه، لف الجثمان بشالات اعجمية ووضع على عربة مدفع يسبقها كتيبة من المشاة يتبعهم ضباط يحملون وسادات من القطيفة الحمراء عليها اوسمة والي مصر، اقيمت صلاة الجنازة في مسجد السيدة زينب ثم سار الموكب الى ان وصل الى مسجد محمد علي بالقلعة، ودفن في المقبرة التي اعدها لنفسه داخل الجامع.

امتد عصر محمد علي من 1805- 1848 م، وبالرغم من اختلاف الاراء حوله ولكن لا يستطيع احد ان ينكر انه حفر اسمه وانجازاته لمصر على الساحة العالمية ، ولا يمكن لاي مؤرخ او كاتب ان ينكر دوره في مجال تقدم مصر، والمفارقة هنا ان حلم والدته قد تحقق لان اسمه وانجازاته محفورة للابد في سجلات التاريخ، رحل محمد علي باشا عن مصر بعد ان وصل اليها قبل 51 عاما وهي ولاية عثمانية انهكتها الحروب والفوضى وتركها وهي ارقى موانئ البحر المتوسط.

salwalubani@hotmail.com