سيف مجرب
09-03-2021, 12:07 PM
عن «كل عام وانت بخير بو ناصر»
موسى السادة - الأخبار
الجمعة 3 أيلول 2021
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/20219223376934637662226269344217.jpg
تدهور التمظهر الرأسمالي الخليجي ليتّخذ تركي آل الشيخ وجهاً (أ ف ب )
من القصور الحاصل في فهم دول الخليج العربي ومجتمعاته، هو الوقوع في فخّ تقسيم تاريخه إلى حقَب منفصلة ومنقطعة عمّا سبقها، لعلّ أهمّها حقبتا ما قبل اكتشاف النفط وما بعده، أو ما يُطلق عليه، الآن، الانفتاح الاقتصادي في مقابل انغلاق مفترض سبقه.
ولعلّ هذا القصور السائد يعود إلى منظور مغلوط لآلية عمل العولمة، والتي تُصوَّر كأداة تتوسّع لتُدخل المجال المحلّي في الإطار العالمي الأكبر، حيث تقسم العالم جغرافياً إلى مناطق محدّدة داخل عملية التحديث الرأسمالي وخارجها، ليعمل ذلك التقسيم المختزل على غرس تصوّرات نمطية، ليس من منظور خارجي فقط، بل يتم تبنّيها بشكل ذاتي من قِبَل العرب في الخليج أنفسهم.
انعكس هذا المنظور على عملية تكوّن الهوية الوطنية في الخليج، والتي شكّلت الوعاء الذي يحتوي حزمة تصوّرات لشكل علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية جامدة، وذات طابع تقليدي وتتمايز، ليس عن باقي العالم فقط، بل حتى عن باقي العرب، وعلى هيئة خصوصيات لها علاقة بالدين والقبلية والعلاقة بالحاكم والتنظيم الاقتصادي الريعي. ولا تشكّل هذه الخصوصيات شكلاً من أشكال اغتراب المجتمعات عن ذاتها وتاريخها ضمن فقاعة بنى مصطنعة أنتجتها مراكز القوى الاستعمارية، لتشكّل البنية التحتية المادية للاستشراق الذاتي - بل إن شيوخ الطبقة الحاكمة الخليجية وأمراءها اعتاشوا على ذلك التصوّر وغرسه، كشكل من أشكال حرّاس الأصالة تارة، وتارة أخرى كرؤيويين يقودون عجلة الحداثة والقطيعة مع الماضي التقليدي ليكونوا المجدّدين وروّاد التنوير -، ولتساهم في رسم تصوّر في المخيال الشعبي العربي عن ثنائية الفوضى والحروب في المشرق مقابل الوفرة والترف في الخليج، كتحذير من مآلات رفض «منافع» العولمة.
والمسألة هنا ليست عملية مراجعة تصحيحية للسياق التاريخي للخليج، بقدر وقوعها في صلب عملية فهم حاضره وبالتالي استشراف مستقبله.
فقد خوّل الموقع الجغرافي للخليج هذه المنطقة لعب دور رابط تجاري محوري، وعلى مدار قرون، بين الهند وأوروبا وشرق أفريقيا. وإن كان هذا الأمر من البديهيات، إلا أنه قلّ ما يقود إلى مقتضاه الذي ينعكس على التكوّن التاريخي لما هو «خليجي»، والذي لم ينتج من عزلة في الصحراء، بقدر ما هو نتاج شبكات تواصل وروابط عابرة للجغرافيا أثّرت على التمظهرات الثقافية، من غناء وطعام وغيرهما، وأيضاً على التنوّع الديمغرافي الشعبي للمنطقة.
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/202192233720534637662226405344217.jpg
هذه الشبكات والطرق التجارية هي بالذات التي عبّرت عن المصالح الاستعمارية، خصوصاً البريطانية، في مراحل ما قبل اكتشاف النفط. وحتى بعد اكتشاف النفط، فإن أحد آثار طفراته وصول التواصل الرابط بين آسيا والخليج إلى أكبر مراحله التاريخية، عبر إزاحة سكانية هائلة للعمّال نحو الخليج، والذين، كإحدى دلائل قهر هؤلاء الطبقي، ونزع دورهم كفاعل بشري، يظلّون في الظلّ، ويبقى وسم الانغلاق سمة على الوضع الخليجي. فمفاعيل الانغلاق والانفتاح مرهونة بنسبية حرية تحرّك رؤوس الأموال، أو بتجسّدها المادي بحرية مرور الإنسان الأبيض وعمله في أرجاء المعمورة.
تكمن أهمية طرح هذه الخلفية في المساهمة في سبغ امتداد تاريخي وجغرافي على أثر الخليج ضمن صيرورة المنطقة ككل، وصولاً إلى رؤوس الأموال الخليجية ودورها في سياقنا الحالي. فحين الحديث عن آليات عمل التراكم الرأسمالي، تخضع طريقة تكييف المكان والزمان لمتغيّرات متعلّقة بعملية جني الأرباح، بأكبر وأسرع شكل ممكن. هذه المتغيّرات هي التي صاغت الشكل الحالي من النيوليبرالية في الوطن العربي، وبشكل ساهم فيه النفط في نقل الثقل المادي العربي من الحواضر التاريخية للخليج، ليلعب الأخير الدور الاستعماري ذاته لقرون، ولكن ضمن شروط تراكم مختلفة، وبشكل أوصلنا إلى نموذج تاريخي للرأسمالية العربية تلعب فيه دول الخليج، عبر رافعة الريوع النفطية، دور المركز أمام أطراف عربية في المشرق العربي ومصر، بالدرجة الأولى، والمغرب العربي بالدرجة ثانية، وبشكل يكاد تحال عليه جميع أشكال تحرّك التاريخ العربي من تمظهرات ثقافية واقتصادية وحروب وانقسامات هوياتية.
فالتشكيل الطبقي العربي وجدلياته، هو نتاج لشروط تاريخية لعب فيها النفط العربي الدور الرئيس، ومن المهم التأكيد هنا أن المسألة ليست تحت عنوان لعنة الموارد (Curse Resource)، بل إن اللعنة الحقيقة هي لعب هذا النفط دوراً في لعنة الهجوم والمصالح الإمبريالية الأميركية في المنطقة، كما يكرّر علي القادري.
رأس المال الخليجي
يبيّن آدم هنية أن استخدامه لتعبير رأس المال الخليجي (Khaleeji Capital) لا يقتضي انتفاء وجود مجموعات رؤوس أموال تُعرَّف وطنياً بالسعودية أو الكويتية مثلاً، بل ويلاحظ أن هذه الهويات الوطنية قد تصبح أكثر وضوحاً مع عملية تدويلها وتدويرها خارج الحدود. إلّا أن المسألة تكمن في أن حزمة العلاقات الاجتماعية، والتي تمثّلها هذه الرؤوس، تتشارك في طبيعتها وتمحورها حول فرص تراكم متشابهة.
ويشير هنية إلى أن عملية مأسسة الروابط بين رؤوس الأموال، من خلال الإصلاحات البنيوية والقانونية، تحت مظلّة «مجلس التعاون الخليجي»، بلغت ذروتها نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ليضيف أن هذه «الإصلاحات» الاقتصادية أقامت نقلة في طبيعة حركة رؤوس الأموال، وليس في الإطار الخليجي فقط، بل العربي ككل، وصولاً إلى العالمي، وأن هذه التشريعات لاقت ترحيباً وحماسة من النخب الليبرالية والمالية الخليجية والتي وجدت فيها إذعاناً لبدء عملية لبرلة من الأعلى.
تشكّل الخصال الشخصية لتركي آل الشيخ نموذجاً فريداً لفهم العلاقة الطبقية العربية وآلية عمل رؤوس أموالها
يدرج هنية هذه التغييرات الجوهرية في إطار التغييرات الرأسمالية في المشهد العالمي، منذ نهاية حرب الخليج الأولى وسقوط الكتلة الاشتراكية وبدء ما أَطلق عليه جورج بوش الابن «النظام العالمي الجديد». وهذا الإلحاق مهمّ بدوره لفهم التفاعل الخليجي - الغربي كسمة تاريخية تمتدّ لقرون. ويضيف أن صعود رأس المال الخليجي يخفّف من دور تلك السمة في شكل الرأسمالية الحالي، خصوصاً في حجم الأسهم المملوكة خليجياً في الغرب، حيث يشير مثلاً إلى أن السفارة الأميركية في لندن تدفع إيجار عقارها لمستثمر خليجي.
تمظهر الفائض الذي تشكَّل على هيئة «رأس مال خليجي» على امتداد خريطة الوطن العربي، وخصوصاً في كلّ من مصر والمشرق العربي، وهيمنة الاستثمارات الخليجية المباشرة على الأسواق العربية، يشكّل أثراً وفقاً له على أنماط التنمية الحضرية والمدنية للمدينة العربية، وبالتالي على طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تتمخّض عنها. تتبَّع هنية حركة رؤوس الأموال الخليجية في الإطار العربي، ليرسم خريطة متكاملة للشركات الخليجية وأدوارها في كلّ بلد عربي، من قطاعات العقارات والقطاعات الغذائية والزراعية، إلى شركات الاتصال، وصولاً إلى القطاعات المالية والبنكية.
يهدف هنية من هذا الاستعراض إلى الاستدلال على دور الريوع النفطية الخليجية وعملية إعادة تدويرها في التشكيل الطبقي العربي. والمسألة هنا ليست فقط في شبكة العلاقات الطبقية البرجوازية وعلاقة البرجوازيات العربية بالمركز الرأسمالي العربي في الخليج، بل إن عملية اختلاق طبقات مالية تقتضي بالضرورة اختلاق نقيضها الذي تعتاش عليه من طبقات مسحوقة. ويشير هنية إلى أن هذه العلاقة تقتضي بالضرورة أن المتظاهرين في القاهرة أو بيروت ضدّ سياسات نيوليبرالية، لا يمثلون تناقضاً مع البرجوازيات المحلية فقط، بل مع المصالح الخليجية على امتداد الخريطة العربية.
وتلك المصالح كانت، خلال العقدين الأخيرين، مسؤولة عن إعادة تشكيل علاقات الملكية وتحرير الأسواق عربياً. وفي حين يندرج الحديث عن النيوليبرالية في السياق العربي، فإن عملية تجسيرها تقف الرأسمالية الخليجية بكلّ تمظهراتها مسؤولة عنها، بل شرطاً لها، فلا يكاد هناك تراكم رأس مالي عربي ليس للنفط رابطة فيه.
ولا تقف المسألة عند هذا الحدّ بطبيعة الحال، فالجدلية الطبقية العربية بمعناها الواسع لا تعترف بالحدود الوطنية المرسومة، بل هي تناقضات ضدّ شبكات ما فوق وطنية تحت عنوان علاقة المواطن العربي على اختلاف الجغرافيا بعائدات النفط. وذلك تحديداً أحد الإفصاحات المادية عند حديث الأدبيات العروبية على المصير العربي المشترك.
في فهم «كلّ عام وأنت بخير أبو ناصر»
إن دور الريوع النفطية في تكوين التشكيل الطبقي العربي، لا يمكن حصره بالعلاقة التي تربط البرجوازيات العربية بعضها ببعض وخلقها لشرائح عربية عابرة للجغرافيا ذات سمات متشابهة ونمط استهلاك هو ذاته، بشكل أقرب إلى النسَخ الكربونية من العلاقة الوجدانية الصنمية ببرج خليفة ودبي، والصور والآراء على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الإنتاج «الفنّي» الغنائي. ففي نظري أن الإنتاج الغنائي العربي هو أوضح الوسائل التي تعبّر فيها الطبقة الحاكمة عن ذاتها، وضمن اختلافاتها البينية. فعند مشاهدة الأغاني المصرية أنت ترى طبقة «كامب ديفيد» أمامك وإيديولوجيّتها، وعند مشاهدة الإنتاج السعودي مثلاً، تتجلّى لك ديناميكيات العلاقة مع الأمراء والشيوخ، فترى مثلاً ما يُطلق عليه شعراً لتركي آل الشيخ يتحوّل إلى أغنية استنزف إنتاجها عشرات آلاف الدولارات. وعدم الحصر هنا، يعود إلى أهمية فهم أن الريوع النفطية لا تكتفي بتشكيل الهوية الطبقية للأثرياء، بل إن هذه الموارد تلعب دوراً رئيساً في تعجيز باقي الطبقات عن تمثيل نفسها سياسياً، وعبر أدوات مستقلة. فمسائل كبثّ الخطاب التقسيمي الاجتماعي على أسس هوياتية، والإيديولوجيات الدينية الأصولية، أو حتى تلك الليبرالية التي تستهلك من الشرائح الشعبية العربية، هي بدورها تمظهرٌ رأسمالي خليجي.
من هذه الخلفية تفهم ظاهرة «أبو ناصر»، فما يحدث بشكل مثير للشفقة على وسائل التواصل الاجتماعي من علاقة النخب العربية بشخصية كتركي آل الشيخ هو التجلّي المادي للعلاقة المالية النفعية التي تربط النخب والطبقات الثرية العربية بالنفط. وإن كان للأمر خصوصية هنا - ولعلّها من حظّنا - فهي أن الدور الذي تلعبه الخصال الذاتية النرجسية لآل الشيخ كشخصية اعتبارية تمثّل هذه المصالح، يعمل على كشف وسدّ هوّة اغتراب الجماهير عن جوهر العلاقة النفطية بين الأطراف العربية والمركز.
وهي أيضاً تأخذ تجلّيات فجّة مع خطابات الشكر على الإقامات الذهبية في الإمارات، فما الإقامة الذهبية سوى تذكرة امتياز ضمن سلم الامتياز الطبقي العربي، والأمر ذاته مع سِمات السفر والعمل في الخليج. لأحد ممثلي المصالح السعودية في واشنطن يُدعى علي الشهابي تعليق دقيق، ففي تبريره لسكوت السعوديين عن الإهانات المتكرّرة لدونالد ترامب للسعوديين والملك، يقول الشهابي بما معناه إن العلاقات السعودية - الأميركية أكبر من الشخصيات، فلو وضعت قرداً في البيت الأبيض لما تغيّرت العلاقة. وهذا الأمر ذاته يحكم علاقة النخب العربية بالشخصيات الخليجية.
والأمر هنا لا يستثني العلاقة التي تربط طبقات عربية واسعة مع قطر، بل إن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من الفجاجة في الحالتين السعودية والإماراتية، وإن كان لا يتعدّى مسألة التسليع والاستهلاك. ففي حين أن نمط الاستهلاك الإماراتي والسعودي يكاد ينحصر في الاستهلاك المادي للسلع، قام القطريون بتسليع الثقافة والخيارات السياسية، حيث يمكنك الحديث عن سلع تتمحور حول الديمقراطية والحرية والثورة والتغيير، وتمتاز بالنمط الاستهلاكي الذي تعرضه الإمارات والسعودية، وبطبيعة الحال تستثني التغيير في قطر والخليج. والأدهى أنك تظنّ أنك، بشكل ما، في مكان أخلاقي أعلى من المنتفعين بالأموال الإماراتية والسعودية، لكن بمنطق العلاقات الطبقية أنتما سيان.
تشكّل الخصال الشخصية لتركي آل الشيخ نموذجاً فريداً لفهم العلاقة الطبقية العربية وآلية عمل رؤوس أموالها، فهو يملك نادي «ألميريا» في أوروبا وله استثمارات في مصر، وفي الثقافة يكتب «الشعر»، وله رواية بعنوان «تشيللو». ويصوغ علاقات عابرة للحدود مع النخب العربية والعالمية على أساس المصالح وفروض التزلّف، ليكون الاحتفال بيوم عيد مولده حدثاً عابراً للحدود.
ولعلّ من المفارقة التاريخية، أن التمظهر الرأسمالي الخليجي تدهور ليتّخذ آل الشيخ وجهاً، ولهو أمر على اتصال بتدهور الأفق المستقبلي مع دور رأس المال الخليجي، انعكاساً لأزمة أسعار النفط ونضوب دوره في الأفق المستقبلي، بشكل استدعى من دول الخليج أن تحاول إعادة صياغة بناها الاقتصادية، عبر خفض الإنفاق والتقشّف والخصخصة، تحت عناوين رؤى يسمّيها هنية «رؤى رأس المال»، حيث تعيد شبكات رؤوس الأموال الخليجية تنظيم نفسها، بشكل سيؤثّر على مستقبل المنطقة بأكملها وبنيتها الاقتصادية والسياسية، وليُدخلنا في زمن آخر.
https://www.al-akhbar.com/Arab_Island/316121/%D8%B9%D9%86-%D9%83%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%A8%D8%AE%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D9%88-%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1
موسى السادة - الأخبار
الجمعة 3 أيلول 2021
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/20219223376934637662226269344217.jpg
تدهور التمظهر الرأسمالي الخليجي ليتّخذ تركي آل الشيخ وجهاً (أ ف ب )
من القصور الحاصل في فهم دول الخليج العربي ومجتمعاته، هو الوقوع في فخّ تقسيم تاريخه إلى حقَب منفصلة ومنقطعة عمّا سبقها، لعلّ أهمّها حقبتا ما قبل اكتشاف النفط وما بعده، أو ما يُطلق عليه، الآن، الانفتاح الاقتصادي في مقابل انغلاق مفترض سبقه.
ولعلّ هذا القصور السائد يعود إلى منظور مغلوط لآلية عمل العولمة، والتي تُصوَّر كأداة تتوسّع لتُدخل المجال المحلّي في الإطار العالمي الأكبر، حيث تقسم العالم جغرافياً إلى مناطق محدّدة داخل عملية التحديث الرأسمالي وخارجها، ليعمل ذلك التقسيم المختزل على غرس تصوّرات نمطية، ليس من منظور خارجي فقط، بل يتم تبنّيها بشكل ذاتي من قِبَل العرب في الخليج أنفسهم.
انعكس هذا المنظور على عملية تكوّن الهوية الوطنية في الخليج، والتي شكّلت الوعاء الذي يحتوي حزمة تصوّرات لشكل علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية جامدة، وذات طابع تقليدي وتتمايز، ليس عن باقي العالم فقط، بل حتى عن باقي العرب، وعلى هيئة خصوصيات لها علاقة بالدين والقبلية والعلاقة بالحاكم والتنظيم الاقتصادي الريعي. ولا تشكّل هذه الخصوصيات شكلاً من أشكال اغتراب المجتمعات عن ذاتها وتاريخها ضمن فقاعة بنى مصطنعة أنتجتها مراكز القوى الاستعمارية، لتشكّل البنية التحتية المادية للاستشراق الذاتي - بل إن شيوخ الطبقة الحاكمة الخليجية وأمراءها اعتاشوا على ذلك التصوّر وغرسه، كشكل من أشكال حرّاس الأصالة تارة، وتارة أخرى كرؤيويين يقودون عجلة الحداثة والقطيعة مع الماضي التقليدي ليكونوا المجدّدين وروّاد التنوير -، ولتساهم في رسم تصوّر في المخيال الشعبي العربي عن ثنائية الفوضى والحروب في المشرق مقابل الوفرة والترف في الخليج، كتحذير من مآلات رفض «منافع» العولمة.
والمسألة هنا ليست عملية مراجعة تصحيحية للسياق التاريخي للخليج، بقدر وقوعها في صلب عملية فهم حاضره وبالتالي استشراف مستقبله.
فقد خوّل الموقع الجغرافي للخليج هذه المنطقة لعب دور رابط تجاري محوري، وعلى مدار قرون، بين الهند وأوروبا وشرق أفريقيا. وإن كان هذا الأمر من البديهيات، إلا أنه قلّ ما يقود إلى مقتضاه الذي ينعكس على التكوّن التاريخي لما هو «خليجي»، والذي لم ينتج من عزلة في الصحراء، بقدر ما هو نتاج شبكات تواصل وروابط عابرة للجغرافيا أثّرت على التمظهرات الثقافية، من غناء وطعام وغيرهما، وأيضاً على التنوّع الديمغرافي الشعبي للمنطقة.
https://al-akhbar.com/Images/ArticleImages/202192233720534637662226405344217.jpg
هذه الشبكات والطرق التجارية هي بالذات التي عبّرت عن المصالح الاستعمارية، خصوصاً البريطانية، في مراحل ما قبل اكتشاف النفط. وحتى بعد اكتشاف النفط، فإن أحد آثار طفراته وصول التواصل الرابط بين آسيا والخليج إلى أكبر مراحله التاريخية، عبر إزاحة سكانية هائلة للعمّال نحو الخليج، والذين، كإحدى دلائل قهر هؤلاء الطبقي، ونزع دورهم كفاعل بشري، يظلّون في الظلّ، ويبقى وسم الانغلاق سمة على الوضع الخليجي. فمفاعيل الانغلاق والانفتاح مرهونة بنسبية حرية تحرّك رؤوس الأموال، أو بتجسّدها المادي بحرية مرور الإنسان الأبيض وعمله في أرجاء المعمورة.
تكمن أهمية طرح هذه الخلفية في المساهمة في سبغ امتداد تاريخي وجغرافي على أثر الخليج ضمن صيرورة المنطقة ككل، وصولاً إلى رؤوس الأموال الخليجية ودورها في سياقنا الحالي. فحين الحديث عن آليات عمل التراكم الرأسمالي، تخضع طريقة تكييف المكان والزمان لمتغيّرات متعلّقة بعملية جني الأرباح، بأكبر وأسرع شكل ممكن. هذه المتغيّرات هي التي صاغت الشكل الحالي من النيوليبرالية في الوطن العربي، وبشكل ساهم فيه النفط في نقل الثقل المادي العربي من الحواضر التاريخية للخليج، ليلعب الأخير الدور الاستعماري ذاته لقرون، ولكن ضمن شروط تراكم مختلفة، وبشكل أوصلنا إلى نموذج تاريخي للرأسمالية العربية تلعب فيه دول الخليج، عبر رافعة الريوع النفطية، دور المركز أمام أطراف عربية في المشرق العربي ومصر، بالدرجة الأولى، والمغرب العربي بالدرجة ثانية، وبشكل يكاد تحال عليه جميع أشكال تحرّك التاريخ العربي من تمظهرات ثقافية واقتصادية وحروب وانقسامات هوياتية.
فالتشكيل الطبقي العربي وجدلياته، هو نتاج لشروط تاريخية لعب فيها النفط العربي الدور الرئيس، ومن المهم التأكيد هنا أن المسألة ليست تحت عنوان لعنة الموارد (Curse Resource)، بل إن اللعنة الحقيقة هي لعب هذا النفط دوراً في لعنة الهجوم والمصالح الإمبريالية الأميركية في المنطقة، كما يكرّر علي القادري.
رأس المال الخليجي
يبيّن آدم هنية أن استخدامه لتعبير رأس المال الخليجي (Khaleeji Capital) لا يقتضي انتفاء وجود مجموعات رؤوس أموال تُعرَّف وطنياً بالسعودية أو الكويتية مثلاً، بل ويلاحظ أن هذه الهويات الوطنية قد تصبح أكثر وضوحاً مع عملية تدويلها وتدويرها خارج الحدود. إلّا أن المسألة تكمن في أن حزمة العلاقات الاجتماعية، والتي تمثّلها هذه الرؤوس، تتشارك في طبيعتها وتمحورها حول فرص تراكم متشابهة.
ويشير هنية إلى أن عملية مأسسة الروابط بين رؤوس الأموال، من خلال الإصلاحات البنيوية والقانونية، تحت مظلّة «مجلس التعاون الخليجي»، بلغت ذروتها نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ليضيف أن هذه «الإصلاحات» الاقتصادية أقامت نقلة في طبيعة حركة رؤوس الأموال، وليس في الإطار الخليجي فقط، بل العربي ككل، وصولاً إلى العالمي، وأن هذه التشريعات لاقت ترحيباً وحماسة من النخب الليبرالية والمالية الخليجية والتي وجدت فيها إذعاناً لبدء عملية لبرلة من الأعلى.
تشكّل الخصال الشخصية لتركي آل الشيخ نموذجاً فريداً لفهم العلاقة الطبقية العربية وآلية عمل رؤوس أموالها
يدرج هنية هذه التغييرات الجوهرية في إطار التغييرات الرأسمالية في المشهد العالمي، منذ نهاية حرب الخليج الأولى وسقوط الكتلة الاشتراكية وبدء ما أَطلق عليه جورج بوش الابن «النظام العالمي الجديد». وهذا الإلحاق مهمّ بدوره لفهم التفاعل الخليجي - الغربي كسمة تاريخية تمتدّ لقرون. ويضيف أن صعود رأس المال الخليجي يخفّف من دور تلك السمة في شكل الرأسمالية الحالي، خصوصاً في حجم الأسهم المملوكة خليجياً في الغرب، حيث يشير مثلاً إلى أن السفارة الأميركية في لندن تدفع إيجار عقارها لمستثمر خليجي.
تمظهر الفائض الذي تشكَّل على هيئة «رأس مال خليجي» على امتداد خريطة الوطن العربي، وخصوصاً في كلّ من مصر والمشرق العربي، وهيمنة الاستثمارات الخليجية المباشرة على الأسواق العربية، يشكّل أثراً وفقاً له على أنماط التنمية الحضرية والمدنية للمدينة العربية، وبالتالي على طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تتمخّض عنها. تتبَّع هنية حركة رؤوس الأموال الخليجية في الإطار العربي، ليرسم خريطة متكاملة للشركات الخليجية وأدوارها في كلّ بلد عربي، من قطاعات العقارات والقطاعات الغذائية والزراعية، إلى شركات الاتصال، وصولاً إلى القطاعات المالية والبنكية.
يهدف هنية من هذا الاستعراض إلى الاستدلال على دور الريوع النفطية الخليجية وعملية إعادة تدويرها في التشكيل الطبقي العربي. والمسألة هنا ليست فقط في شبكة العلاقات الطبقية البرجوازية وعلاقة البرجوازيات العربية بالمركز الرأسمالي العربي في الخليج، بل إن عملية اختلاق طبقات مالية تقتضي بالضرورة اختلاق نقيضها الذي تعتاش عليه من طبقات مسحوقة. ويشير هنية إلى أن هذه العلاقة تقتضي بالضرورة أن المتظاهرين في القاهرة أو بيروت ضدّ سياسات نيوليبرالية، لا يمثلون تناقضاً مع البرجوازيات المحلية فقط، بل مع المصالح الخليجية على امتداد الخريطة العربية.
وتلك المصالح كانت، خلال العقدين الأخيرين، مسؤولة عن إعادة تشكيل علاقات الملكية وتحرير الأسواق عربياً. وفي حين يندرج الحديث عن النيوليبرالية في السياق العربي، فإن عملية تجسيرها تقف الرأسمالية الخليجية بكلّ تمظهراتها مسؤولة عنها، بل شرطاً لها، فلا يكاد هناك تراكم رأس مالي عربي ليس للنفط رابطة فيه.
ولا تقف المسألة عند هذا الحدّ بطبيعة الحال، فالجدلية الطبقية العربية بمعناها الواسع لا تعترف بالحدود الوطنية المرسومة، بل هي تناقضات ضدّ شبكات ما فوق وطنية تحت عنوان علاقة المواطن العربي على اختلاف الجغرافيا بعائدات النفط. وذلك تحديداً أحد الإفصاحات المادية عند حديث الأدبيات العروبية على المصير العربي المشترك.
في فهم «كلّ عام وأنت بخير أبو ناصر»
إن دور الريوع النفطية في تكوين التشكيل الطبقي العربي، لا يمكن حصره بالعلاقة التي تربط البرجوازيات العربية بعضها ببعض وخلقها لشرائح عربية عابرة للجغرافيا ذات سمات متشابهة ونمط استهلاك هو ذاته، بشكل أقرب إلى النسَخ الكربونية من العلاقة الوجدانية الصنمية ببرج خليفة ودبي، والصور والآراء على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الإنتاج «الفنّي» الغنائي. ففي نظري أن الإنتاج الغنائي العربي هو أوضح الوسائل التي تعبّر فيها الطبقة الحاكمة عن ذاتها، وضمن اختلافاتها البينية. فعند مشاهدة الأغاني المصرية أنت ترى طبقة «كامب ديفيد» أمامك وإيديولوجيّتها، وعند مشاهدة الإنتاج السعودي مثلاً، تتجلّى لك ديناميكيات العلاقة مع الأمراء والشيوخ، فترى مثلاً ما يُطلق عليه شعراً لتركي آل الشيخ يتحوّل إلى أغنية استنزف إنتاجها عشرات آلاف الدولارات. وعدم الحصر هنا، يعود إلى أهمية فهم أن الريوع النفطية لا تكتفي بتشكيل الهوية الطبقية للأثرياء، بل إن هذه الموارد تلعب دوراً رئيساً في تعجيز باقي الطبقات عن تمثيل نفسها سياسياً، وعبر أدوات مستقلة. فمسائل كبثّ الخطاب التقسيمي الاجتماعي على أسس هوياتية، والإيديولوجيات الدينية الأصولية، أو حتى تلك الليبرالية التي تستهلك من الشرائح الشعبية العربية، هي بدورها تمظهرٌ رأسمالي خليجي.
من هذه الخلفية تفهم ظاهرة «أبو ناصر»، فما يحدث بشكل مثير للشفقة على وسائل التواصل الاجتماعي من علاقة النخب العربية بشخصية كتركي آل الشيخ هو التجلّي المادي للعلاقة المالية النفعية التي تربط النخب والطبقات الثرية العربية بالنفط. وإن كان للأمر خصوصية هنا - ولعلّها من حظّنا - فهي أن الدور الذي تلعبه الخصال الذاتية النرجسية لآل الشيخ كشخصية اعتبارية تمثّل هذه المصالح، يعمل على كشف وسدّ هوّة اغتراب الجماهير عن جوهر العلاقة النفطية بين الأطراف العربية والمركز.
وهي أيضاً تأخذ تجلّيات فجّة مع خطابات الشكر على الإقامات الذهبية في الإمارات، فما الإقامة الذهبية سوى تذكرة امتياز ضمن سلم الامتياز الطبقي العربي، والأمر ذاته مع سِمات السفر والعمل في الخليج. لأحد ممثلي المصالح السعودية في واشنطن يُدعى علي الشهابي تعليق دقيق، ففي تبريره لسكوت السعوديين عن الإهانات المتكرّرة لدونالد ترامب للسعوديين والملك، يقول الشهابي بما معناه إن العلاقات السعودية - الأميركية أكبر من الشخصيات، فلو وضعت قرداً في البيت الأبيض لما تغيّرت العلاقة. وهذا الأمر ذاته يحكم علاقة النخب العربية بالشخصيات الخليجية.
والأمر هنا لا يستثني العلاقة التي تربط طبقات عربية واسعة مع قطر، بل إن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من الفجاجة في الحالتين السعودية والإماراتية، وإن كان لا يتعدّى مسألة التسليع والاستهلاك. ففي حين أن نمط الاستهلاك الإماراتي والسعودي يكاد ينحصر في الاستهلاك المادي للسلع، قام القطريون بتسليع الثقافة والخيارات السياسية، حيث يمكنك الحديث عن سلع تتمحور حول الديمقراطية والحرية والثورة والتغيير، وتمتاز بالنمط الاستهلاكي الذي تعرضه الإمارات والسعودية، وبطبيعة الحال تستثني التغيير في قطر والخليج. والأدهى أنك تظنّ أنك، بشكل ما، في مكان أخلاقي أعلى من المنتفعين بالأموال الإماراتية والسعودية، لكن بمنطق العلاقات الطبقية أنتما سيان.
تشكّل الخصال الشخصية لتركي آل الشيخ نموذجاً فريداً لفهم العلاقة الطبقية العربية وآلية عمل رؤوس أموالها، فهو يملك نادي «ألميريا» في أوروبا وله استثمارات في مصر، وفي الثقافة يكتب «الشعر»، وله رواية بعنوان «تشيللو». ويصوغ علاقات عابرة للحدود مع النخب العربية والعالمية على أساس المصالح وفروض التزلّف، ليكون الاحتفال بيوم عيد مولده حدثاً عابراً للحدود.
ولعلّ من المفارقة التاريخية، أن التمظهر الرأسمالي الخليجي تدهور ليتّخذ آل الشيخ وجهاً، ولهو أمر على اتصال بتدهور الأفق المستقبلي مع دور رأس المال الخليجي، انعكاساً لأزمة أسعار النفط ونضوب دوره في الأفق المستقبلي، بشكل استدعى من دول الخليج أن تحاول إعادة صياغة بناها الاقتصادية، عبر خفض الإنفاق والتقشّف والخصخصة، تحت عناوين رؤى يسمّيها هنية «رؤى رأس المال»، حيث تعيد شبكات رؤوس الأموال الخليجية تنظيم نفسها، بشكل سيؤثّر على مستقبل المنطقة بأكملها وبنيتها الاقتصادية والسياسية، وليُدخلنا في زمن آخر.
https://www.al-akhbar.com/Arab_Island/316121/%D8%B9%D9%86-%D9%83%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%A8%D8%AE%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D9%88-%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1