المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وكلاء الدين .....أحمد شهاب



جمال
08-15-2005, 09:00 AM
أحمد شهاب


تاريخيا يتلخص دور وعاظ السلاطين ووكلاء الدين في تبرير التجاوزات الاخلاقية والشرعية والقانونية التي يختار السلطان ان يرتكبها ضد الآخرين، ويسعون نحو ايجاد التسويغات الشرعية للاعمال التي يقوم بها ليضفوا عليها مسحة القبول الديني والقانوني، ويكون هذا الاعلام موجها بالدرجة الاولى الى العامة، فهم المستهدفون اولا واخيرا بعمليات التضليل الاعلامي والعمل الدعائي باسم الدين ومباركة السماء.

وتعود مهنة «واعظ السلطان» الى ازمان سالفة القدم، وفي تاريخ العرب قبل الميلاد.. ينقل المؤرخون حجم التضليل الذي كان يمارسه وعاظ السلاطين ايام الفراعنة، وكيف تسبب هذا الدور في اقناع العامة بألوهية وقداسة الفرعون، بل واستعداد فئة كبيرة منهم لتحمل كل صنوف العذاب والتنكيل لأنه نابع من الرب الذي قرر ان يعذبهم، فعذابه عذوبة يستحق الشكر والثناء على تفضله بالانعام بها عليهم، وهو الامر الذي فعله اخناتون حينما بكى بحرقة وألم وتفجع على الفرعون «امفسيس» بعد موته، رغم ان الاخير قام بتشويه جسده وتقطيع بعض اعضائه، لكن اخناتون اختار ان يصدق قول الكهنة بعدالة ونزاهة الراحل امفسيس وتكذيب اعضائه المقطعة وجسده المشوه.

وفي عهد العرب بعد الاسلام نماذج عديدة لواعظ السلطان، الذي يبدأ دوره كواعظ ومبلغ لخدمة الدين الحنيف، وينتهي الى السعي نحو تحصيل اكبر قدر من المكاسب الدنيوية، من خلال التقرب من السلطان وتبرير انتهاكاته لحقوق الناس والعباد، بل واضفاء الالقاب والصفات الالهية على ذات السلطان مهما بلغ من جبروت واستبداد فهو وكيل الله في الارض، ومنه ان الوليد بن عبدالملك استفسر يوما وباندهاش «وهل يمكن ان يحاسب الخليفة على افعاله؟ وهذه القناعة لا غرابة فيها اذا علمنا ان «يزيد بن عبدالملك» كان قد اتى بأربعين شيخا شهدوا جميعا انه ما على الخلفاء من حساب أو عذاب.

وفي مشاهد لا تخلو من انتهاك سافر لأرواح الابرياء، تتكرر صور ونماذج التعملق على الابرياء والتسلق على جدران الحق، وربما اكثرها ألما التبريرات التي استندت الى العلم والدين لتسويغ قتل المصلحين في الارض، كما حدث عند قتل «الحسين بن علي» مع ثلة من اهل بيته واصحابه في واقعة كربلاء الشهيرة، ومحاولة البعض تعزيز موقف القتلة عبر اتهام الشهيد بالخروج على امام زمانه، وخرقه لوحدة الصف، في محاولة جريئة لنمذجة الاطار الاسلامي بالمثال المسترزق على الحق، وفي الكتاب الكريم آيات صريحة تحذر من القيام بهذا الدور، منها ما ورد في سورة البقرة الآية 79 «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا».

والامر لا يختلف في الدول العربية والاسلامية الحديثة، والتي دشنت استقلالها بوضع وزارات وهيئات وجمعيات شرعية اضافة الى وظيفة المفتي الرسمي.. تصب جميعها في ترصيص الاسوار حول النظام القائم، وحمايته بعنوان الدين والدفاع عن الشريعة، وتبرير تصرفات الحاكم مهما تجاوز الحدود وتطاول على حقوق المواطنين، ولا يتردد المفتي الرسمي عادة من التصريح بخلاف ما يراه حقا وواجبا اذا احتمل ان يكون للتصريح بالحق آثار سلبية على ولي امره، أو ان يعود عن رأي فقهي اتخذه اذا اقتضت الحاجة منه ذلك، فهو فقيه تحت الطلب، ويعتبر نظام البعث البائد في العراق احد ابرز الانظمة المعاصرة التي استغلت الدين ورجاله لتبرير الانتهاكات اليومية لحقوق الناس، وتجاوزاته المتكررة ضد القيم الاخلاقية والانسانية تحت غطاء ديني اشهر من ان تذكر.

غير ان الازمنة الحديثة طورت من مهنة الواعظ بصورة غير مسبوقة، ودخل المثقف والكاتب والصحافي الى هذه الساحة بجدارة، بل وبصورة تضاهي دور اكبر الفقهاء مكانة، كما ان الجهات التي اخذت تستعين بهم لم تعد متوقفة عند حدود السلطة السياسية، وانما تمددت الى مساحات اجتماعية اوسع، واصبح دور «المبرر» والواجد للحلول والمخارج الشرعية امام المتصدين والطامحين في الحياة السياسية والاجتماعية، دورا اساسيا لا يمكن الاستغناء عنه أو تعطيله في أي حال.

ويمكن للاعلامي اليوم ان يضلل فئة كبيرة من الناس باسم الحقيقة، كما يمكن له ان يخفي الكثير من الحقائق أو يقبلها لصالح جماعة أو فئة معينة اذا طلب منه ذلك دون شعور بوخز ضمير، وعند تقليب بعض الكتابات المنشورة يصدم القارئ بمحاولة بعض المثقفين تعكير صفو الحقيقة انتصارا لخاطر طائفة أو جماعة محددة، أو مما يبذله بعض الكتاب من مساعي حثيثة لوضع مقولات تبرر الحاجة الماسة للانتصار للطائفة أو الجماعة بأساليب ملتوية لا تصمد امام الاثباتات الدامغة.

ويتضاعف دور واهمية الوعاظ الجدد - عند الجماعات والكيانات الجديدة - في قدرتهم الفائقة على تحريك الناس ضد المفكرين والنقاد واهل الرأي، وباسم دفاعهم عن الحرية يكثفون هجومهم ضد كل من يختلف معهم في طريقة التفكير، أو يعارضهم في الرأي، كما انهم يلعبون دورا اساسيا في تخفيض قيمة التغيير في حياة الناس، وتعطيل مساهمات اهل الاصلاح ورواده، فالتغيير في عرفهم لا يعني سوى التوقف عند اسلوب تفكير وطريقة عمل الزعيم السياسي أو الديني أو الاجتماعي، فالخروج عن المألوف هو تغريد خارج السرب، والابداع الفكري هو سير ضد التيار، والحديث عن التعددية الثقافية بتطبيقاتها الواقعية هو ضلال فكري وهوس ثقافي نظري لا معنى له.

على ان تعيين هذه الفئة في زمن سالف من اسهل الامور وابسطها، كما ان حصر تأثيرهم بالعامة من الناس دون الخاصة أمر مفروغ منه، فيمكن القول ان اهل الصنعة من الفقهاء ونخبة المجتمع، كانوا في حصانة من التأثر باعلاميات ودعائيات هذا الفريق بصورة عامة، لكن يبدو لي ان تشخيص هذه الفئة بعد توسعها اصبح من المهام الصعبة نوعا ما، فإن امكننا تشخيص شيوخ الفتاوى الجاهزة في بعض المواقع بسهولة ويسر، فمن المؤكد ان تشخيص الاقلام الداعية الى الحرية لضرب دعاة الحرية، أو تشخيص الاصوات الاعلامية المتحدثة باسم التعددية لخنق التنوع والتعدد، اضحى بحاجة الى الكثير من الدقة واللياقة الفكرية.. وهو ما اعتقد ان الكثيرين يفتقدونه اليوم.

من جهة اخرى، فإن تأثير هذه الفئة مع توسعهم لم يعد مقتصرا على عوام الناس وجهالهم، بل اصبح العديد ممن يحسبون على النخبة الفكرية والثقافية والعلمية يقادون طوعا من قبل هؤلاء، لا سيما بعد ان تحولوا من لعب دور المساند والمنافح عن القادة والافكار، الى قادة فعلا لبعض المفكرين واهل الرأي في بعض المواقع السياسية والثقافية والدينية، ويمكن النظر الى واقع الاحزاب المحلية، وخارطة الاسماء المعلنة والمخفية، لتحديد حجم المشكلة التي نعرض لها في هذا المقال، فهي ادق من أي وصف وابلغ من أي مثال.

alshehab4@yahoo.com