المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا تصر الأحزاب الشيعية على الهوية الإسلامية...للدولة العراقية؟



yasmeen
08-15-2005, 07:50 AM
حسين كركوش


"إذا كان الأمر يتطلب تسمية للجمهورية العراقية المقبلة، فالأحرى أن تكون جمهورية العراق الإسلامية الفدرالية." عمار الحكيم
" الأكراد لن يقبلوا بأن تكون هوية العراق إسلامية." مسعود البرزاني
" إن هيئة علماء المسلمين ترغب في حكومة وطنية مدنية... وترفض حكومة دينية " د.عصام الراوي
"أن علماء الدين لن يتدخلوا في الأعمال الرسمية للدولة ولن يكونوا موظفين رسميين بل سيكون لهم دور إرشادي فوق هذه الدولة ". الشيخ همام حمودي، رئيس لجنة كتابة الدستور.

لماذا تصر الأحزاب العراقية الدينية الشيعية ومن يؤيدها من رجال الدين الشيعة، على إضفاء هوية إسلامية على الدولة العراقية، وأن يكون الإسلام المصدر الأساسي للتشريع؟
هل أن هولاء الزعماء السياسيين الشيعة أكثر حرصا وأكثر تمسكا بالإسلام من مواطنيهم وأشقائهم العراقيين المسلمين السنة؟

هل أن ما تطالب به هذه الأحزاب السياسية الشيعية يمثل وجهة نظرها الخاصة، أم هو مطلب جميع العراقيين الشيعة؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة. وسنستعين ببعض المواد التي وردت في مسودة الدستور التي نشرتها صحيفة الصباح البغدادية بتاريخ 6 تموز الماضي.

الشعب مصدر السلطات ولكن...

ورد في مقدمة المسودة أن هناك أربعة أهداف كبرى يرمي الدستور إلى تحقيقها منها/ الهدف الرابع/ "تأكيد سيادة الشعب التي تقوم على أساس أنه مصدر السلطات في الدولة ومصدر شرعيتها ولا يجوز لفرد أو لجماعة ادعاء تمثيل الشعب تحت أي مسمى." هذا الهدف تعود فتثبته مسودة الدستور، لاحقا، بمادة خاصة هي المادة السادسة من الباب الأول التي تقول: "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات، يمارسها بالاقتراح العام السري المباشر ) أو بالانتخاب والاستفتاء السري والمباشر ( وعبر مؤسساته الدستورية".

قلنا توا أن الهدف المذكور أعلاه هو أحد الأهداف الرئيسية الكبرى التي يراد للدستور أن يحققها. وهذا يعني، بداهة، أن جميع مواد وفقرات الدستور التالية يجب أن تصب باتجاه هذا الهدف. لكن هذا الذي نقوله هو، مجرد افتراض. إذ، سنرى، بعد قراءة المواد الأخرى، أن كاتب مسودة الدستور/ شخصا كان أو عدة أشخاص أو جهة، أو عدة جهات/ يقوم بأكثر من حركة التفافية، يفرغ من خلالها، هذه المادة، أو هذا الهدف من محتواه، ويجعله أشبة بنص ديكوري، لا ينفع ولا يضر.

فالمادة الأولى من الباب الأول في المسودة تنص على أسلمة الدولة: "الجمهورية العراقية ) الإسلامية الاتحادية ( دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري ديمقراطي اتحادي (فيدرالي ).
أما المادة الثالثة من نفس الباب فتنص على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو المصدر الأساسي للتشريع ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته وأحكامه (ثوابته المجمع عليها) ويصون هذه الدستور الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي (بأكثريته الشيعية وسنته) ويحترم جميع حقوق الديانات الأخرى." وتنص المادة الخامسة عشر من الباب الأول على أن "للمرجعية الدينية استقلالها ومقامها الإرشادي كونها رمزا وطنيا ودينيا رفيعا".

وفي باب الحقوق الأساسية والحريات العامة، تنص م/1 على ما يلي: "العراقيون كافة متساوون أمام القانون بصرف النظر من الجنس..../ النقاط من عندنا/ ويمنع التمييز بينهم بناء على ذلك".
أما م/6 فتنص على ما يلي " تكفل الدولة الحقوق الأساسية للمرأة ومساواتها مع الرجل في الميادين كافة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية..."/ النقاط من عندنا/.

هل تستقيم هذه المواد التي ذكرناها مع الهدف الرئيسي" الشعب مصدر السلطات" الذي قالت المقدمة أن الدستور يسعى لتثبيته؟
وهل تستقيم هذه المواد مع الديمقراطية، كفلسفة يقوم عليها نظام الحكم، مثلما نصت المادة الأولى في مسودة الدستور ؟
إن من يتمعن في قراءة المواد السابقة، يراوده الظن بأن من كتبها كان وكأنه يتعوذ ألف مرة من الشيطان الرجيم ويكثر من البسملة والحوقلة كلما وردت أمامه مفردتان هما: المرأة، والديمقراطية.
وفي ظننا أن من كتب تلك المواد كان، أيضا، يلعن تلك الساعة التي عرف فيها عراق ما بعد صدام، "بدعتين" هما، تخصيص ربع المقاعد في البرلمان العراقي للنساء، وهوس العراقيين، هذه الأيام، بالديمقراطية ومعها الحريات العامة والفردية.

كذلك، يخيل لنا أن من كتب مسودة الدستور كان يلعن، حالما يحمل قلمه لمواصلة كتابة المواد، تلك الساعة السوداء التي وجد فيها أخرين يشاركونه في كتابة الدستور، ولا يتركونه طليق اليدين، يكتب وفق ما يريد ويشتهي، ويرغمونه على كتابة نصوص لا يؤمن بها، لكنه يضطر لذكرها لإرضاء هولاء الأخرين.

أسئلة تثيرها تناقضات
وألا، فما معنى "الشعب مصدر السلطات"، إذا كان الإسلام هو"المصدر الأساسي للتشريع" ؟ وكيف تتم "كفالة الحقوق الأساسية للمراة ومساواتها مع الرجل"، مع تطبيق "أحكام الشريعة الإسلامية" ؟ وكيف يتيقن العراقي السني من مساواته مع مواطنه العراقي الشيعي، إذا كان الدستور الدائم يفرد مادة خاصة للمرجعية الشيعية، ولا يفرد مادة مثلها للمرجعية السنية ؟ وكيف يقتنع العرقيون بأنهم على قدم المساواة، إذا كان دستورهم يخصص مادة خاصة للعتبات المقدسة عند الشيعة، ولا يخصص مادة مثلها لمراقد السنة، أو لكنائس العراقيين المسيحيين، أو لمعابد الصابئة واليزيديين؟

وهل ظل معنى، بعد ذلك، للفقرة التي تقول أن العراقيين متساوون "بصرف النظر عن الدين والمذهب أو المعتقد أو الرأي"؟

ضمان حقوق عموم الشيعة، أم رجال الدين الشيعة؟

لا أظن أن الواحد منا بحاجة لذكاء خارق حتى يستنتج أن مسودة الدستور المذكورة، أو على الأقل المواد التي ذكرناها توا، كتبت من قبل رجل شيعي. وهذا الرجل هو رجل دين، وليس غير ذلك.
والانطباع الذي تتركه المسودة عند القارئ أنها كتبت تحت تأثير المستجدات السياسية التي عرفها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين. وهي تهدف، في ظاهرها،

إلى ضمان حقوق العراقيين الشيعة بعد الظلم الذي لحقهم منذ قرون، وهو ظلم لا يستطيع أي عراقي أن ينكره. ولكن يبدو أن الهدف الأكبر المضمر التي تسعى مسودة الدستور إلى تحقيقه، وخصوصا المواد التي ذكرناها سابقا، هو فرض وصاية الأحزاب ورجال الدين الشيعة/ أقول رجال الدين، ولا أقول المرجعية/ على العراقيين الشيعة، حصرا، دون غيرهم من مكونات الشعب العراقي. فالذي وضع تلك المواد يعرف جيدا أن "استقلال المرجعية الدينية ومقامها الإرشادي" لا يعني، لا من قريب ولا من بعيد، العراقيين السنة، ولا العراقيين المسيحيين، ولا العراقيين الصابئة، ولا العراقيين العلمانيين بجميع طوائفهم. والشيء نفسه يقال عن المادة المتعلقة بالعتبات المقدسة.

هل تحتاج المرجعية لمادة دستورية حتى تحصل على استقلالها؟
إن المرجعية الشيعية ليست بحاجة إلى مادة في الدستور العراقي لكي تحصل على "استقلالها". والمرجعية، أيضا، ليست بحاجة إلى مادة في الدستور حتى يتم الاعتراف ب"مقامها الإرشادي وكونها رمزا دينيا".

إن هذا تحصيل حاصل، سواء نص الدستور على ذلك أو لم ينص. المرجعية هي، بالفعل، رمز ديني، وهي كانت وما تزال تحتفظ باستقلالها، ولم تفقده في يوم من الأيام. هكذا كانت المرجعية، وهكذا هي الآن.

وعلى حد علمنا، فأن المرجعية لم تتعرض، على امتداد تاريخ العراق، أقله الحديث، إلى سوء على يد الدولة ومؤسساتها. وإذا حدث بعض غمز ولمز ضد المرجعية فانه لم يحدث على لسان الدولة أو "السياسية"، وإنما جاء على لسان رجال الدين الشيعة أنفسهم. فتسميات مثل "الحوزة الناطقة" و"الحوزة الصامتة" هي، تسميات بتنا نسمع بها عندما نشب الصراع الشيعي/ الشيعي.

والحق أن المرجعية الشيعية أثبتت أنها، قولا وفعلا، رمز وطني لكل العراقيين، وليست للعراقيين الشيعة، فحسب. والعراقيون، جميع العراقيين، محظوظون حقا، أن يكون على زعامة المرجعية، في هذه الظروف العصيبة، رجل مثل السيستاني. ولولا حكمة السيستاني الفريدة من نوعها، ولولا شعوره بمسؤولية عراقية وطنية غير متحيزة لفئة دون أخرى، لغرق العراق بأنهار من الدم، ربما أكثر غزارة بكثير من انهار الدم الجارية ألان. ونحن يساورنا الشك أن يكون السيستاني هو من طلب وضع هذه المادة في الدستور العراقي. فقد أعلن السيستاني مرارا وتكرارا ترفعه عن الخوض في القضايا السياسية الآنية الطارئة، وكرر أكثر من مرة ان هدفه وغايته الأكثر إلحاحا هما، استتباب السلم المدني، وحقن دماء العراقيين.

وبعد هذا، فأن هذه المادة الدستورية ستفتح بابا للتساؤلات أو حتى للاعتراضات. فقد لا يعدم من سيقول، محتجا: حسنا لتكن هذه الفقرة في الدستور لكن شرط أن تضاف إليها فقرة استدراكية تقول: « شرط أن لا تتدخل المرجعية في شؤون الدولة". تماما، مثلما قد يقال، فيما يخص الاعتراف بالقومية الفارسية: نعم، ليكن ذلك، لكن شرط أن تطالب وتلح القوى التي اقترحت هذه المادة، بأن تقوم الدولة الإيرانية بمنح الجنسية الإيرانية لآلاف العراقيين الذين هاجروا إليها، والذين ترفض إيران حتى الآن منحهم جنسيتها.
العتبات المقدسة لحقها الأذى على يد المسلمين أنفسهم

أما العتبات المقدسة وكونها "كيان ديني وحضاري"، فهو الأخر من بديهات الأمور. ولسنا بحاجة لمادة دستورية تذكرنا بهذه الحقيقة. ولم تتعرض العتبات المقدسة، على مر العصور للأذى. وحتى عندما تعرضت له فأن ذاك الأذى لم يأت من الدولة العلمانية، أو "السياسية"، وإنما لحقها الأذى بأيادي المسلمين أنفسهم، أي أبناء المذاهب الإسلامية المتناحرة. فعندما تعرض، على سبيل المثال، مشهد الجوادين في الكاظمية في عام 4333 ه 1051- م إلى النهب والحرق، فإنما حدث ذلك بسبب الخلافات المذهبية داخل الدين الإسلامي الواحد.

وعندما تعرض الصحنان الحسيني والعباسي في كربلاء إلى التخريب والنهب في عام 1216 ه - 1801 م، على أثر هجوم الوهابيين، فأن ذلك حدث، أيضا، بسبب دوافع مذهبية قادمة من خارج الحدود. وقد تعرضت الأماكن الإسلامية الشيعية والسنية في العراق، للأذى نتيجة الصراع المذهبي الصفوي العثماني. وقد أضطر السلطان مراد، في القرن الحادي عشر الهجري، لتوطين بعض أفراد العشائر العراقية في منطقة الأعظمية، خصيصا لحماية قبر الإمام أبو حنيفة، من "تعدي الفرس، ومن لف لفهم"، على حد تعبير المؤرخ عبد الرزاق الحسني في كتابه "العراق قديما وحديثا". وحتى عندما تعرضت العتبات المقدسة "قبر الحسين" إلى الأذى على يد الدولة أيام الخليفة المتوكل في عام 236 هجرية 850 – ميلادية، فأن ذاك الأذى لم يتم من قبل دولة علمانية، إنما حدث من قبل خليفة المسلمين، و لأسباب مذهبية، بدليل أن المنتصر أبن المتوكل أصلح، عندما قام له الأمر، فعلة أبيه. أما إذا كنا نتحدث عن ما فعله صدام حسين بالعتبات المقدسة إثناء الانتفاضة، فأن صدام كان مستعدا أن يبيد العراق كله من أجل أن يبقى في السلطة.

أغراض سياسية

لماذا، إذن، تفرد مسودة الدستور مواد خاصة بالمرجعية وبالعتبات المقدسة؟
ألا توجد أغراض سياسية بعيدة المدى تتعلق بأحكام قبضة رجال الدين الشيعة/ ثانية، أقول رجال دين ولا أقول المرجعية/ على عموم العراقيين الشيعة، ومنح رجال الدين، وحدهم، حق احتكار تمثيل العراقيين الشيعة، وسد الطريق أمام الملايين من العراقيين الشيعة أمام أي طموحات ديمقراطية علمانية، وأمام أي محاولات تحديثية مستقبلية، لا تتفق مع ما يراه رجال الدين؟

يقول الشيخ همام حمودي، عضو قائمة الإتلاف ورئيس لجنة كتابة الدستور في البرلمان العراقي، وهو يعلق على بعض فقرات مسودة الدستور التي ذكرناها: "إن الشارع العراقي الآن مع أعطاء دور مناسب ومهم للدين في الدولة ولذلك نحن ملزمون بأن نتعاطف مع رأي الأغلبية العامة." وعندما تحدث عن المادة الخاصة بالمرجعية، فأن الشيخ حمودي لم يذكر أسم المرجعية، وإنما ذكر "علماء الدين"، فقال: "أن علماء الدين لن يتدخلوا في الأعمال الرسمية للدولة ولن يكونوا موظفين رسميين بل سيكون لهم دور إرشادي فوق هذه الدولة"./ تصريحات له نشرتها الصحافة بتاريخ 28 تموز الماضي./

نسأل: ألم يكن هذا "الدور الإرشادي" هو دور علماء الدين دائما وأبدا، فلماذا يراد تقنين هذا الدور الآن؟ لماذا يراد أن ينص الدستور على أن لعلماء الدين مكانة "فوق" الدولة؟

إذا أصدرت الدولة غدا أو بعد غد، قانونا يوافق عليه البرلمان ولا يوافق عليه علماء الدين "المرشدون"، فهل سيتم قبول القانون أم سيرفض؟ وإذا كان الشق الأول هو الصحيح، فما جدوى أن ينص الدستور على "الدور الإرشادي" لعلماء الدين؟ وإذا كان الشق الثاني هو الصحيح، فما جدوى وجود مجلس انتخابي، بل ما جدوى الانتخابات التشريعية، أصلا؟ هل سيكون دور علماء الدين "الإرشادي فوق الدولة" بمثابة "خبراء الدستور" أو "لجنة صيانة الدستور"، مثلا؟ أم سيكون دورهم بمثابة "المرشد الأعلى" للدولة؟

يتبع

yasmeen
08-15-2005, 07:56 AM
لماذا تصر الأحزاب الشيعية على الهوية الإسلامية للدولة العراقية؟ (2)

حسين كركوش


هل تريد الأحزاب والجهات السياسية الدينية الشيعية تكرار تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية ؟ وهل الظروف العراقية الداخلية والدولية هي نفسها التي كانت عند قيام الثورة الإيرانية؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نورد تصريحا أدلى به مؤخرا سماحة السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وقال فيه "أن الشعب العراقي هو الذي أسقط نظام صدام حسين".

ما الذي كان يعنيه السيد عبد العزيز الحكيم، عندما أطلق تصريحه المذكور، علما بأن أي فرد في العالم يعرف جيدا أن الولايات المتحدة، وليست أي جهة أخرى، هي التي أطاحت بنظام صدام؟

ما هي زبدة الزبدة في تصريح الحكيم؟
نعتقد أن ما أراد أن يقوله الحكيم هو، أن القوى العراقية السياسية الشيعية هي التي أسقطت صدام ونظامه، وأن هذه القوى ليست بدون قيادات أو زعامات عراقية، وأن هذه الزعامات مفوضة من قبل جميع العراقيين الشيعة، وليس الإسلاميين الشيعة فقط، وبالتالي فأن هذه القيادات السياسية الشيعية تملك حق التحدث باسم جميع العراقيين الشيعة، وقادرة على حسم الأمور كما تقرر هي، تماما مثل ما حدث بعد الثورة الإيرانية. فهل هذا صحيح؟

إن من يستعيد أحداث الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه، يلاحظ أن الشارع الإيراني عشية الثورة كان خليطا من رؤى وأفكار وتيارات سياسية مختلفة، بل متناقضة. وعندما كان الأمام الخميني يحرض، من منفاه العراقي، أولا، والفرنسي، لاحقا، الإيرانيين فأنه كان يجد استجابة ليس من القوى الإسلامية، فحسب، وإنما من قوى سياسية علمانية، ليبرالية، ماركسية، ديمقراطية، تتعارض رؤاها السياسية والأيدلوجية مع الفكر الإسلامي. ما كان يوحد جميع تلك الأطراف هو، كراهيتها ورفضها لحكم الشاه. وكانت كل واحدة من تلك القوى العلمانية، وهي قوى مختلفة، تجد في خطاب الأمام الخميني، ما تستطيع تفسيره لصالح أطروحتها هي، ولصالح مشروعها السياسي. كانت هناك الجبهة الوطنية وحزب تودة وفدائيي خلق ومجاهدي خلق، وفئات واسعة من نساء ورجال الطبقة الوسطى من ذوي الأفكار الليبرالية. ومع هولاء كانت هناك الحركة العمالية التي نفذت إضراب النفط عام 1978، والذي يعتبره البعض احد العوامل التي عجلت في سقوط الشاه.

وعندما كان الأمام الخميني ينظر إلى الجموع الحاشدة التي كانت في استقباله لحظة عودته من منفاه، فأنه كان على يقين أن تلك الجموع تمثل تيارات سياسية مختلفة، لا تتطابق مع أرائه وفلسفته في الحكم. وكان أمامه ومعه رجال الدين الذين يشطارونه أرائه، احتمالان: أما أشراك تلك القوى السياسية في السلطة وإقامة نظام ديمقراطي، أو الإقدام على إقصائها والتفرد بالسلطة. ونعرف أن الاحتمال الثاني هو الذي حدث لاحقا، وتوج بإعلان نظام ولاية الفقيه الحالي. وقد تم التمهيد لذلك بأسلمة كاملة للخطاب السياسي الخميني وغياب مفردة الديمقراطية. ثم بدأت أسلمة المجتمع وقيام "الثورة الثقافية". و ترافق ذلك مع تشكيل الباسدران في شهر مايس 1979، والمحاكم الثورية، وحرق بعض دور السينما ومهاجمة محلات بيع الخمور من قبل "الجماهير"، والتشديد على ارتداء الحجاب الإسلامي، وإغلاق جامعة طهران، لتطهيرها من العناصر "الفاسدة".

وعلى أي حال، فأن الثورة الإسلامية في إيران كانت من صنع الإيرانيين وحدهم، دون مساعدة أجنبية من أي جهة. وحتى عندما كان الأمام الخميني منفيا خارج إيران، فأنه كان حاضرا، بخطاباته وتوجيهاته، في شوارع المدن الإيرانية التي تحولت، بفضل توجيهاته، إلى غابات من البشر، تنادي بإسقاط الشاه ونظام حكمه.

عراق اليوم وإيران الأمس
ألان، لو نظرنا لما حدث ويحدث في العراق، لوجدنا أن كثيرا من أجزاء السيناريو الإيراني قد أعيد تكرارها من قبل القوى السياسية الشيعية. فعندما كانت هذه القوى تعمل سوية مع أطراف المعارضة، قبل سقوط صدام، كانت تضع الخيار الديمقراطي في مقدمة أهدافها، كبديل عن نظام صدام. وقد كان المبرر الوحيد لنشاط المعارضة العراقية ضد صدام ونظامه، بما في ذلك، بالطبع، القوى السياسية الدينية الشيعية، هو، أن صدام حاكم ديكتاتوري، يعتمد الديكتاتورية كفلسفة في الحياة، وكمنهج للحكم. وعندما يتم العمل ضد الديكتاتورية، فمن أجل أيجاد بديل لها. وما من بديل عن الديكتاتورية سوى الديمقراطية.
وقد ظلت القوى السياسية الدينية الشيعية تلح على الخيار الديمقراطي حتى عشية الانتخابات البرلمانية. ولكن هذه القوى تعاملت مع الانتخابات، ليست باعتبارها خطوة أولى باتجاه أقامة نظام ديمقراطي متكامل، وإنما كوسيلة حملتها إلى السلطة، وحصلت بفضلها على شرعية دستورية وجماهيرية، كانت مفتقدة. فقد رأينا أن الديمقراطية اختفت من خطاب هذه القوى. وبدلا من الممارسات الديمقراطية، بدأت هذه القوى تطرح أراء ومواقف وحلول طائفية، يمكن تلخيصها بجملة واحدة هي "مظلومية الشيعة، أو رفع الظلم عن العراقيين الشيعة".

ولكن، أي مظلومية، وأي شيعة، ووفق أي نظام سياسي ترفع هذه المظلومية؟
لو تمعنا في الفترة التي أعقبت سقوط نظام صدام وحتى الآن، فأننا لم نجد أن القوى السياسية الدينية الشيعية كانت حريصة على إشاعة الديمقراطية، كفلسفة للحياة وكمنهج للحكم. فنحن نعرف أن الديمقراطية مثلث له ثلاثة أضلاع، أولها الانتخابات الديمقراطية، وثانيها العملية الديمقراطية، وثالثها الثقافة الديمقراطية.

وفي عراق ما بعد صدام حسين، فأن الضلع الأول من المثلث الديمقراطي" الانتخابات" تحقق بشكل مدهش. فقد كانت الانتخابات ديمقراطية بكل المقاييس، وجرت في ظل دولة القانون والمؤسسات. أي ، أنها جرت دون تدخل الدولة، وفي ظل حياد أجهزة الدولة الحكومية، كالجيش والشرطة، وبدون عمليات تخويف. ولكن، ما قلل/ لكنه لم يلغ/ من أهمية تلك الانتخابات هو، أنها جرت، في الغالب الأعم، ليس وفقا لقناعات الناخب، كمواطن فرد، ولكن وفق "قناعات" جماعية. أي أن الكتل البشرية، وليس الأفراد، هي التي صوتت: شيعة، أكراد، تركمان، مسيحيون... الخ.

والأمر الآخر الذي "جرح" ديمقراطية الانتخابات هو، عدم مشاركة جميع العراقيين فيها. أما الأمر الثالث الذي "عكر" ديمقراطية الانتخابات هو، استعانة قائمة الإتلاف بقوة المرجعية الشيعية، عن طريق رفع صورة السيد السيستاني. فقد كانت استعانة قائمة الإتلاف بالمرجعية، تشبه أن يدخل ملاكم بقفازات حديدية، ليتبارى مع خصم له يرتدي قفازات جلدية.

وإذا كانت طريقة التصويت بهذه الصورة الجماعية، أمرا متوقعا، وربما طبيعيا في ظرف الاستحقاقات الكبرى التي يواجهها العراقيون حاليا، فأن من غير الطبيعي أن لا تستمر القوى/ وحديثنا، هنا، دائما عن القوى السياسية الدينية الشيعية/ في ممارسة اللعبة الديمقراطية حتى النهاية.

فقد رأينا، قبل الانتخابات وبعدها، كيف أن القوى السياسية الدينية الشيعية بذلت وما تزال تبذل محاولات مستمية، بالترغيب وبالترهيب، للتفرد بالشارع الشيعي، وفرض سيطرة هذه القوى، ليس باتجاه تكريس وتثبيت "الأمر الواقع الديمقراطي"، وتحويله إلى معطى استراتيجي، ولكن باتجاه الالتفاف على هذا الواقع، من أجل إقامة نظام سياسي ديني، على غرار ما حدث في إيران بعد انتصار الثورة.

لكن، هل أن هذه الرغبة الذاتية تتلاءم مع الظروف الموضوعية الداخلية والدولية، أم تصطدم معها؟

يتبع